وتراكض أهل البلد من حمل شنتاتي، وانطلق الفتيان بالحداء، وضرب الدربكة، وتحمس يوسف ابن عمنا فتناول مسدسه وأطلق رصاصاته في الفضاء، وبعد قليل علت الضجة بينه وبين بعض البوليس، فنظموا به ضبطا وأخذوا منه الفرد. وخرجنا فطفنا بيروت، فوجدتها مكتظة، ضيقة الشوارع، ولاحظت كأن بيوتها كانت في قبضة جبار رمى بها في عجل على الرمال؛ فانتشرت وتراكمت فوق بعضها غوغاء من حجارة وحديد.
ربما تستغرب بلاغتي يا شمدص، ولكن الناس هنا كلهم بلغاء وفصحاء، بل إنني في الثلاثة الأشهر الأولى فتنت ببلاغة المواطنين كلهم؛ مثلا جاء بيروتي إلى الضيعة فقالوا لي إنه جاء يستجم، هذه على أيامنا كانت أبسط بكثير، كنا نقول ليرتاح، أو ليشم الهواء.
بلى، صرت أفهم البلاغة، بل أتقنها. ذكرني أن أرسل إليك قصائدي الزجلية (الزجل في أيامنا كان اسمه قرادي).
ورحنا نمشي في أسواق بيروت، ووجدت أن النساء صرن يتجولن بحرية، والحق يقال إن شعبنا يحترم النساء في الأسواق احتراما عجيبا؛ فلا تصفير، ولا غمز، ولا تسميع كلام. ثم اقتربت من بائع كعك بسمسم، وأخذت كعكعة، وكان يدغدغها بيديه، وحالا سألني متى رجعت من أميركا يا خواجه؟ الله ما أذكى أفراد شعبنا! ثم جمع أصابعه على زعتر وقال «صحتين»، مثل الأيام القديمة بالتمام. واكتشفت أنه ليس معي عملة لبنانية؛ فدفع عني يوسف ابن عمنا، وأبى أن أعيد له الربع ليرا بعد أن بدلت ورقة العشرين دولار بالعملة الوطنية. ثم ركبنا البوسطتين وانطلقنا، فلما وصلنا إلى فرن الشباك أوقفنا كومسير البوليس هناك، وأرجع الفرد ليوسف ابن عمنا، وأعطاه الضبط قائلا: «مسح به جزمتك، ولعيون أسعد بك.» وقيل لي بعدئذ إنه كان لهذه الحادثة أهمية كبرى في أنحاء البلاد.
كذلك كان لنا في «المديلبه»- قريتنا - لقاء حافل، وسمعت الخطب والقصائد ، وبقيت أكثر من أسبوع أودع جمهورا، واستقبل جمهورا، وأرسلت مع يوسف ابن عمنا حوالة بمئتي دولار ليصرفها لي في بيروت، فتأخر بالعودة، ثم رجع بعد أيام ومعه قصص. كيف أن الصيارفة منتظرون وصول علم من بنك نيويورك، كذلك قطع يوسف ابن عمنا رجله عن دارنا، وسمعت أنه يلعن أميركا ومن أتى منها، ويقول إنني قليل الشئمة؛ إذ إن يوسف ابن عمنا نظم لي استقبالا في بيروت، ووقع بسببنا في «مشكل» - وهذه لفظة جديدة عليك سأشرحها لك في فرصة ثانية - وإن كعب صرمايته العتيقة يقطر دولارات.
وحقا شعرت بزهو كثير لمظاهر الاحترام والخشوع والتعظيم التي تحيط العائد إلى لبنان؛ فهو شبه بطل راجع من معركة ظافرة، والناس يظنون أننا كلنا عباقرة في المهجر، متفوقون، وتراهم يعتذرون لي عن بعض العادات والأخلاق والإدارات البلدية.
بل ولكن - هذا التعبير من أدوات البلاغة - حضرت حفلة خطابية، وصلت إليها متأخرا، فدخلت قاعة مكتظة بأصناف البشر، وقد وقف على المسرح أستاذ يخطب عن أحد أنواع البشر، وينعتهم بالنبوغ، والوطنية المثالية، والسخاء المدهش، والجد، والقيام بالمعجزات، وكان الأستاذ ينفعل والناس تصفق والكلمات البليغة والحمم والبخار تموج في بلعوم الأستاذ، ثم تنفجر، وتنطلق فتلهب القاعة، فسألت جاري بمن يتغنى الأستاذ؟ فأجاب: بالمغتربين طبعا، فوضعت يدي على فمي، وركضت من القاعة إلى الخارج أضحك لأنه خطر على بالي ... و... و... و... سلم عليهم جميعا.
بل ولكن، هل تذكر يوم فار حماسنا قبيل حرب فلسطين، وجمعنا ألفا وخمسمائة دولار أرسلناها تبرعا؟ وحياة شرفك صار لي ستة أشهر أفتش عمن قبضها، ومن أنفقها، ولم أهتد، ثم هل تذكر ... الذي زارنا في
Villa grande ، وأقمنا له حفلة كبرى، وألقى علينا محاضرة طويلة عريضة؟ التقيت به صدفة، وسألت عنه فإذا هو أستاذ فقط لا غير.
قل لفارس أن يستحي فيرسل إلى أبيه كم دولار، ليس من الضروري أن يرسل الواحد منكم حوالة ضخمة، مسكين أبو فارس فهو في أيام الصحو، وحين يبتسم له الحظ يشتغل على حماره بنقل البحص من النهر إلى الضيعة - سفرة كيلومترين - والنقلة بثمانين قرشا، إلا تزال «هوانيتا» زبونة فارس أم هو رجع إلى «أنيتا»؟
نامعلوم صفحہ