وقطع علي خطبتي أحد الفرسان، واسمه هايل النبواني، بقوله: «أتريد أن ترسلنا إلى القتال أم أنك مرافقنا؟»
أجبت: «بالطبع أنا معكم.»
فقال هايل: «إذن لم طول الحديث؟ لا عقلنا أكبر من عقلك، ولا أرواحنا أعز من روحك.» فأغناني هذا الجواب عن المقدمات والفلسفات التي كنت قد أعددتها، وانحرفنا عن الطريق إلى أجمة دفنا فيها أوراقنا وأغراضنا التي تحمل علامات فارقة ، وكومنا فوق الحفرة ركاما من حجارة، وتعاهدنا على أن يعود إلى ذلك المكان من منا بقي حيا فيسترد ما دفناه، ويسلمه إلى عائلاتنا. وقمنا بهذا العمل بين النخوات والأهازيج، ثم شددنا على الخيول متأهبين للقتال، وسرنا وأناشيدنا نفير قتال، ونحن في طرب ونشوة ما عرفت لهما مثيلا، وصرت أسمع لوقع حوافر الخيل موسيقى تواكب الغزاة الفاتحين.
ودخلنا في المساء قرية في الغوطة أظن اسمها «جوبر»، فرأينا فلاحين يشتغلون في الليل على ضوء سراج، وكنت أعلم أن الفرنسيين قد أقاموا في كل قرية حامية من مسلحين، فرحت أتكلم بالفرنسية لحضرة القومندان، وكان معلقا فوق زناره من الأمام خنجرا شأن الشراكسة، وسألت عن فوزي «فوزي القاوقجي»، فحلف الفلاحون أنهم لا يعرفون أين هو، وأنه لم يأت إلى الغوطة منذ زمن بعيد، فأرسلتهم في طلب الحرس، فجاءني بعضهم، ورحت أوبخهم - كل هذا باللغة الفرنسية والدكتور رويحة يترجم - وأعنفهم على تراخيهم وغفلتهم صائحا زاعقا مهددا مصرا عليهم أن يخبروني عن فوزي، فكانوا يجيبون بأنهم لا يعرفون أين هو، ولعله في الأزرق، والأرجح أنه مات، فأخذت منهم أسلحتهم، وأهنتهم، وفرضت عليهم غرامة مائة ليرة ذهبية على أن يأتوا بها في اليوم الثاني، ويجتمعوا بي عند المستشار الفرنسي في «دوما» حيث تجري محاكمتهم.
واستأنفنا السير حتى وصلنا إلى قرية «يرزا»، وأطلقنا بواريدنا صوب دمشق حتى «نثبت وجودنا»، ونخلق ذعرا، ثم انتقلنا إلى جسر «طورا»، وفتحنا على دمشق نارا قوية، وأسرعنا إلى معمل الزجاج في دمشق نفسها، وأمطرناه رصاصا هطالا، وتعالى صياحنا وهزيجنا؛ فقامت القيامة في المدينة، واستنفروا الجيش، وعلا صفير الخطر، وتراكضت المصفحات والسيارات؛ فانسحبنا فرحين، وكان المرج تحت الماء والفيضانات تملأ السهول، ووجدنا حقلا مزروعا بالملفوف فأكلنا وأطعمنا خيولنا، وصابحنا الفجر عبر المرج، وسرنا فنظرنا طائرات الفرنسيين تحوم فوق ضياع الغوطة مستكشفة؛ فشعرنا بلذة غريبة، واستمر سيرنا حتى رجعنا إلى الركام حيث دفنا أوراقنا، فاسترحنا هناك، ثم نبشنا الحفرة واستعدنا أوراقنا وكلنا أحياء ليس في جسد أحدنا خدش.
وتمهلنا بالعودة إلى مضارب البدو متخفين حتى كان رجوعنا إليهم في عصاري اليوم الثالث من مغادرتنا، فأعجبنا أن أنباء مغامرتنا قد سبقتنا مضخمة منفوخة بالغلو والأكاذيب، فتوهموا أننا نسفنا الجسور، وهاجمنا مخافر المدينة، وقتلنا بعض قادة الحامية الفرنسية، وبالطبع لم أفه أنا بكلمة تنزع هذه الأوهام من مخيلتهم؛ إذ إن بعض الغاية من تلك الغزوة كانت أن أترسمل أمام البدو بعمل ينهض بهم إلى الثورة. وخلال السهرة جاء البدو فملئوا الخيمة الكبرى يتوسطها الشيخ خلف النعير وشيوخ القبيلة، وبعض رجالها يكيلون لنا المديح، ويتغنون بأساطير ما حسبوا أننا فعلنا. وكان أحد الرعيان جالسا في طرف الجمهور يجهش بالبكاء قلقا متوترا يتململ يريد الكلام، وهو يتطلع إلي ودموعه تذرف، ويكثر الإشارات نحوي، وكلما هم بالنطق ينتهره الشيخ، ولما طال الأمر قلت للشيخ خلف النعير اتركه يتكلم، أخاله يريد أن يوجه إلي كلاما، وكنت في السر أتوقع أنه ثارت به النخوة فهو متطوع للانضمام إلينا، وقد يأتي تطوعه شرارة تشعل الحماسة في سائر أفراد القبيلة؛ لذلك أصررت على الشيخ أن يأذن له، فسمح له الشيخ بقوله: «احشي لعين أبوك.» (تكلم لعن الله أباك) فانفجر الراعي بالتفجع يقول لي: «والله إني أحبك، أحبك أحبك.» سألت: «ليش؟» أجاب: «والله كان عندي قعود - جمل أشكح أشقر - والله يشبهك، والله مات، وأنا كلما شفتك تتكلم أتذكر القعود وأبكي.»
فندمت على توسطي للسماح له بالكلام.
وشعرت أن أسهمي ارتفعت، وأحسست أن حب القتال بدأ يتوثب بين أولئك البدو. وفي اليوم الثاني أذعت أنني سأغزو قافلة السيارات التي تسير بين دمشق وبغداد، فنفر إلى مرافقتي خمسة وعشرون من شيوخ القبيلة.
فتأهبنا وركبنا، واخترت مكانا خبأت فيه خيولنا، ثم ابتعدنا فرابطنا حوالي الطريق منتظرين القافلة، وجاءت القافلة سيارات «نرن» تتقدمها مصفحة، فتركتها تستمر في السير، وتركت سيارة ثانية تفلت خلفها، وأوقفنا السيارات الباقية، وكنت أعلم أن مصفحة مسلحة ثانية تأتي في مؤخرة القافلة، فصحت بسائق إحدى السيارات أن ينطلق نحو الجنوب، وكانت القافلة تسير شرقا بغرب، وهددت السائق أنه إن لم يسرع فيجنح نحو الجنوب حيث أشرت فهو قتيل، فدار السائق مذعورا، وانطلق بالسيارة جنوبا؛ فرأت المصفحة في المؤخرة السيارة هاربة فتبعتها متوهمة أنها السيارة التي أغارت على القافلة، هكذا بقي سائر القافلة بين أيدينا غنيمة غير باردة. ووقفنا على البريد السياسي من البعثة العسكرية في الشام إلى السفير الفرنسي في بغداد يطلبون منه أن يتدخل مع السلطات البريطانية في العراق لتسليمهم الدكتور عبد الرحمن شهبندر، وكان فيها لاجئا سياسيا، ووزعنا حمولة السيارات، وكانت حرائر صنع دمشق مختلفة الألوان، وقنابيز، وعباءات، وأذكر أن كل فارس أصابته عشرون قطعة. أما أنا والدكتور أمين رويحة فقد احتفظنا بقطعتين من الحرير المقلم على أن نخيطها بيجامتين، وأمرنا السواقين فدخلوا بالسيارات في أرض «الحراء»، وهي أرض بركانية، وتركوها هناك، ورجعنا إلى الخيول فامتطيناها، وقفلنا نحو خيام «الغياث»، فلما أقبلنا في ضحى اليوم الثاني والفرسان يلبسون الحرائر الزرقاء والخضراء والحمراء والعباءات على السروج كأننا في تلك البادية موكب من ربيع.
وحين أطللنا على المضارب تكهربت القبيلة، وجنت، وهاجت من مرأى المكاسب، فخلت أن الحرائر الملونة أصبحت أعلام الثورة التي كان كل همي أن تعصف زوبعة قتال في الغوطة وأطراف دمشق.
نامعلوم صفحہ