وفي ذات يوم انزوى مخيبر بصحن تعالى فيه اللحم والرز المسلوق، فدعاني إلى مشاركته ففعلت، وبينما أنا منصرف سألني مخيبر: «سعيد! هل سبق لك أن أكلت لحم كلاب؟»
قلت: «لا، معاذ الله.»
أجاب مخيبر: «أنت غلطان يا ابن عمي، غلطان.» وقهقه ضاحكا متطلعا إلى الصحن الذي شاركته بالتهامه.
قد يعتقد قارئ هذه السطور أن حياتنا كانت مرحا ودعابا. هذا صحيح؛ فلم يمر بنا يوم لم نواجه به الموت، كذلك لم يمر بنا يوم لم نملأه ضحكا وسخرية وقهقهة.
وكان حسني يصر أبدا على أنه الخبير العسكري، واستنتج من ملاحظاته أن طائرة برغشية صغيرة تأتي منفردة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، فلا ترمي القنابل، بل تتمهل في طيرانها وتجولها على ارتفاع من الأرض قليل، وكان يعقب مجيئها قصف المدفعية، أو زيارة الطائرات المغيرة.
وفي ذات يوم جاءت تلك الطائرة فحومت فوقنا وفوق المدرسة الزراعية المهدومة ساعات وانصرفت.
وعبس حسني وتشاءم.
وفي الواقع جاءت في اليوم الثاني أربع طائرات فحومت فوق المدرسة الزراعية، وهي لا تبعد عنا أكثر من مئتي متر، وألقت بقنابل كثيرة على المدرسة وجوارها، وعند انصرافها أمطرتنا إحداها بضع ألوف من رصاصها أصاب الأشجار والكوخ، وحائط الملجأ الأمامي، ولكنه لم يصب أحدا منا.
في صباح اليوم الثاني إذ كنا في «صالون مخيبر» نوشك أن نمتص آخر نقطة من ويسكي إيليا الأخرس، سمعنا أزيز الطائرات فأسرعنا نحو الملجأ على عادتنا، وبقي مخيبر في صالونه يراقب.
ولم يمض بضع دقائق حتى كان مخيبر يرتمي بجسده الهائل على باب الملجأ، وإذا بهدير الطائرات يتفجر من داخل آذاننا. - كم طائرة يا مخيبر؟
نامعلوم صفحہ