وفي تلك الساعة عادت إلي الأفكار وصرت أردد في ذاكرتي حوادث الليل الغابر، وحينئذ دخلت خادمتي الأمينة وكأني سمعتها تشرق بدمعها، فسألتها: كم هي الساعة الآن؟ فأجابت بصوت حزين: قريبا يصير الظهر يا سيدي. - الظهر! ماذا ألم بي؟!
فبكت بصوت منخفض ولم تجبني. فكررت السؤال عليها، إلى أن قالت بصوت متقطع: يا سيدي جلبرت ... ماذا اعتراك؟ ... وكيف ... أقدمت على هذه ... الفعلة ... الشنعاء؟ ... آه لو تعلم ما حل بي حينما أتيت الغرفة صباحا ووجدت الفراش فارغا و... - وهل وجدت الفراش فارغا؟ إذن أنا في يقظة ولست في حلم، فاجلسي يا بريسلا وأخبريني بالتدقيق ماذا جرى بعد ذلك؟ - سيدي، لي الحق أن أعاملك كولدي، وطالما سمعتني أكرر كلمات والدتك الأخيرة وهي على فراش الموت، فقد أوصتني أن أعتني بك، وقد أقسمت لها بذلك، وها أني ناصحة لك بألا تعود لإدمان الخمرة التي اتخذتها عادة جديدة فأكثرت منها الليلة الماضية، وإذا كان لا بد لك منها فلا تخرج من البيت وتطوف في شوارع المدينة وأنت لا تبصر شيئا و... - لقد جننت يا بريسلا، فخلي عنك الهذيان وأخبريني ماذا حل بي أثناء الليل الغابر؟ - عندما استيقظت صباحا دنوت من باب الغرفة كالمعتاد لأرى إذا كنت نهضت من الرقاد فأسعفك بخدمة، فلم أسمع حركة تؤذن بوجودك، ثم انتبهت للباب فإذا به مفتوحا فعجبت لذلك، وبعد أن ولجته وجدت الغرفة خالية خاوية فجمدت برهة، وكان معظم خوفي من أن تكون قد سعيت إلى حتفك لأني كثيرا ما سمعتك تردد ذلك لقنوطك من الشفاء. فأسرعت توا إلى الزقاق أسأل عنك كل من أصادفه في طريقي، حتى إذا وجدت نفرا من الشرطة أعلمتهم بفقدك ورجوتهم أن يساعدوني بالتفتيش عليك، فأخبرني أحدهم أنه على مسافة ميلين من شارع ويل بول قد وجد شابا ملقى على قارعة الطريق لا حراك به، فأحضره إلى محل الشرطة للبحث في أمره، وقد تحقق كونه سكرانا، فانطلقت إلى حيث كنت موجودا فرأيتك ملقى على الأرض محاطا بالحرس، وهم يتباحثون في أمرك، وكنت فاقد الرشد وثيابك ممزقة وملوثة بالأوحال، فحاولت عبثا إمساك دموعي لما رأيتك على تلك الحالة المحزنة، وفكرت في أقرب الطرق التي أقدر أن أنقذك بها من نظرات الاحتقار. فسألت الشرطي أن يسمح لي بأخذك إلى المنزل بعد أن أفصحت له عن اسمك ومحل سكنك، ثم اكتريت عربة وصحبتك بها، وكنت إذ ذاك بين حي وميت، وبقيت على تلك الحالة نحوا من ست ساعات، ولا تسل عما خامرني من الجزع وأنا واقفة بجانبك منتظرة انتباهك بذاهب الصبر. وفي أثناء ذلك استدعيت لك الطبيب فأنشقك بالحال بعض المنعشات، ولم يمض إلا القليل حتى عادت إلي الطمأنية وذلك عندما سمعت كلماتك المتقطعة التي أعادت إلي الأمل بسلامتك. - أشكرك يا بريسلا، فإنك قد أخلصت لي الخدمة، وعسى ألا أكلفك هذه المتاعب ثانية، أما الآن فأحضري لي شيئا من الطعام لأني جائع.
فذهبت لإتمام ما أمرتها به، ولم يكن قصدي بذلك إلا إبعادها كي أختلي بنفسي لحل ما أشكل علي فهمه، فجعلت أدير في خلدي تصورات حوادث الليل الغابر، وأتذكر انفصالي عن البيت وشرودي عن الطريق، ثم مصادفتي للسكير ودخولي غير منزلي واستماعي تلك النغمة الشجية التي لم تزل إلى الآن ترن في أذني، وبعد ذلك دخولي بغتة تلك الغرفة وسقوطي فوق ذلك الجسم الممدد، وإذ ذاك تنبه فكري لتلك المادة السائلة التي بلا شك كانت قد تلوثت منها أصابعي، فخفق قلبي بشدة، وللحال ناديت خادمتي وأريتها يدي ثم سألتها بلجاجة إذا كان عليهما أثر الدماء، فقالت: لا يا سيدي فإني غسلتهما حالا حين أتيت إلى المنزل؛ لأنهما كانتا ملطختين بالأوحال والأقذار. - ألم تري شيئا من ذلك على أكمامي؟ - لقد كانت أكمامك مقطوعة ويداك عاريتين.
فلم يعد عندي شك بحقيقة ما كنت أحسبه وهما، ووقعت في حيرة من جراء ذلك، حتى إنه لم يبق لي صبر عن إظهار ما يكنه صدري من الغرائب، وما ازدحم في مخيلتي من تذكار تلك الحوادث. فاستدعيت من أثق به من أصدقائي وقصصت عليه ما صادفته في ليلتي حرفيا، وكنت كلما أتوغل في الحديث أجده أشد هولا وأكثر غرابة من ذي قبل. وقد انتظرت عبثا أن أسمع من جليسي حركة تعجب أو اندهاش، ولكنه قد اقتصر على السكوت كمن يصغي لأقاويل لا طائل تحتها. فتأثرت لذلك ولم يفتني أن بريسلا قد سبقت فأطلعته على ما علمته هي من أمري. وأخيرا قلت له: كيف رأيت يا عزيزي إدوار؟ فأجاب ضاحكا: إن أحلام الخمرة قد تجسم الوهم أحيانا إلى حد أن تجعله حقيقة. - أنت تهزأ بي. - معاذ الله يا صديقي. - ثق إذن بما أرويه لك فترى أهمية ما أدعيه. - إني على يقين تام من أنك تتكلم عما تظن حدوثه، ولكني لا أراه أكثر من حلم تخايل في ذهنك أو تخيلات وهمية.
فلزمت الصمت لما رأيت نفسي عاجزا عن الإتيان ببراهين ثابتة تؤيد صحة قولي. ثم اجتمعت بصديق لي آخر، فكان منه ما كان من ذاك. فيئست من معرفة المجرمين، وقصدت أن أتناسى هذا الأمر إذ رأيت أن أعز أصدقائي ومن عرفتهم من سن الطفولية قد هزأوا بحديثي ونبذوه ظهريا، فماذا أنتظر من الغرباء أو إذا لجأت إلى المحاكم فعلى من أرفع دعواي؟ وكيف أقدر أثبت حدوث تلك الجناية؟ وفوق ذلك أعرض حياتي لأخطار مخالفة إنذار الرقباء وقولهم: «إننا رأيناك وعرفناك، وأما أنت فلم ترنا.»
ولم يمض زمن طويل حتى تناسيت هذه الحوادث المزعجة وصرفت فكري لما هو أهم، فإن العالم تراءى لي مضيئا للمرة الثانية، وقد تبلج صبحه من خلال الظلام المدلهم، فبدد عن عيني تلك الغشاوة، وبرق بارق الأمل بحياة جديدة، فمحا من ذاكرتي ما كنت فيه من التعاسة، وعاد إلي الأمل بالسعادة. فتداركني الباري برحمته إذ أعاد إلي حاسة البصر، فصرت أبصر وقلبي مفعم حبورا ولساني ناطق بشكر مولاي القادر، فقد تم لي الشفاء بمشيئة الله بعد أن أجرى الطبيب عملية جراحية وأمرني عند نهايتها بالاحتجاب عن النور بضعة أشهر. وليتصور القارئ اللبيب بأي قلق صرفت تلك المدة التي حسبتها دهرا وحجبت عن مشاهدة العالم ثانية، فتارة كان يتراءى لي الفوز بمبتغاي، وأن السعادة قد أصبحت في قبضة يدي، وتارة يخال لي استحالة ذلك الأمر وأراه فوق طاقة البشر، فأسأل نفسي: هل يمكن يا ترى لأعمى أن يبصر؟ فيجيبني صوت من أعماق قلبي مرددا في ذهني كلمات الطبيب: «لا تيأس من الشفاء.» فألبث حاسر الرأس راضيا بقليل من الأمل. فيا لها من ساعة بهجة اهتز لها فؤادي طربا وطابت بها نفسي انتعاشا، ساعة سمح لي بها أن أحل تلك الرباطات الحاجبة عن بصري النور. ولكني أمرت باستعمال النظارات وقاية لعيني الضعيفتين اللتين ما لبثتا أن تداركتهما الصحة رويدا، وبعد زهاء سنتين كاملتين تمت لي أسباب السعادة فأبصرت كل شيء واضحا جليا، وتمتعت بجمال الطبيعة وبهجتها وزهاء الكون ورونقه، فظهر لي العالم باسما يهنئني بحصولي على كامل الملذات.
وكم من مرة نهضت من فراشي ليلا، وخرجت إلى الحديقة أمتع نظري بمرأى أشجارها المثمرة وأزهارها المعطرة التي وشحها الربيع بحلله السندسية وزينها الندى بقطراته اللؤلؤية، والقمر يلقي عليها أنواره الفضية فيحدث منه ظل خفيف يتماوج من خلال أوراقها، بينما النسيم يلثم خدود الورد فتنحني له الأوراق استحياء، وتتمايل الأغصان منه طربا وإعجابا. فيا لله كم كان يفوتني من مثل هذه المناظر التي تدفع عني الهموم وتجلي الغموم. وحينئذ كنت أرفع عيني إلى السماء ممجدا المبدع الوهاب، فأرى فوقي النجوم الساطعة تتلألأ في السماء وترقص في الفضاء، فيرقص لها قلبي طربا ويدفعني السرور إلى الركض في الروضة كالطفل الصغير مندهشا لكل ما تقع عليه عيني.
وكنت أحسب نفسي أسعد البشر، وما كان يقلقني سوى تذكار سماع ذلك الأنين المؤلم الذي سمعته في تلك الليلة المرعبة، وما كنت أنساه مع ما مر بي من الأيام، وما كان من اختلاف الأحوال.
الفصل الثالث
أجمل المناظر
نامعلوم صفحہ