فقصدت عند ذلك صديقا لي مقربا من الرجال العظام وأصحاب المراكز السامية، فأظهرت له شدة احتياجي للسفر وافتقاري لمساعدته، فأتحفني بكتاب إلى سفير إنكلتره في بطرسبرج يطلب منه أن ينظر إلي بعين الالتفات ويساعدني في قضاء حاجتي. ثم أوصيت خادمتي بريسلا أن تسهر على راحة بولينا وتعتني بها كثيرا حتى إذا نقهت من المرض لا تفتر عن الذهاب بها إلى أماكن النزهة، وأوصيتها أيضا بألا تذكر اسمي لديها البتة، وإذا أكثرت من السؤال عني فلا تقول لها سوى أنني أحد أنسبائها، وقد أتيت بها من مدة وجيزة وسأعود إليها قريبا فعسى أن تقتنع منها بهذا الكلام، وتلبث مطمئنة لحين رجوعي. وقد طلبت إليها أن تكتب لي عنها دائما، وبت تلك الليلة قلق البال، وفي عزمي أن أسافر في صباح اليوم التالي.
وعند الساعة السادسة صباحا كنت قد هيأت أمتعتي وكل احتياجاتي أثناء السفر ولم يبق علي سوى وداع بولينا ومشاهدة وجهها المحبوب، فدخلت حجرتها بقلب خافق ونظرت إليها بأعين ملأى بالدموع، فإذا هي ملقاة على السرير ورأسها مائل فوق وسادة تقل بياضا عن بشرتها الناصعة يفصل بينهما حلقات شعرها الحريري مسترسلة على كتفيها وصدرها الخافق بأنفاس هادئة. وكأني بها تقول وهي بتلك الهيئة الملائكية إنني لست شاعرة بثقل الذنوب التي اتهمت بها، ولذا تراني لا أعبأ بأقوال المنافقين، ولقد ترديت من الطهارة دروعا تدفع عني سهام الماكرين. أجل لم يتراءى لي سوى تلك الكلمات مسطورة بين شفتيها، فلو قام الناس بأجمعهم يشهدون بصحة دعوى ماكيري لما أمكن أحد منهم أن يحل مني مكانا للشك ببراءتها، ومع ذلك فلا بد لي من الذهاب إلى سبيريا، وهكذا عولت على الخروج دون أن أوقظها وأتزود نظرة أخيرة من تلك العينين النجلاويين؛ لأني لم أحسب نفسي إذ ذاك سوى رجل غريب عنها.
ولقد أدركت من نفسي خطأ عظيما بدخولي حجرتها وامتثالي لديها، فلذلك وجب علي الرضوخ لحكم الآداب، فلا تقع أنظارنا على بعضها قبل أن يماط عن وجه الحقيقة النقاب.
وحينئذ حولت بوجهي نحو الباب وقصدت مزايلة المكان، فلم أخط خطوة حتى سقطت جاثيا بجانب سريرها وانحنيت على يدها أقبلها باحترام، فتململت قليلا وارتعش جفناها. أما أنا فأسرعت بالفرار من الغرفة خوف أن تستيقظ فتراني على تلك الحال ، وكنت إذ ذاك كمذنب قد شعر بخطئه.
وفي اليوم الثاني كنت بعيدا عن الوطن محروما استنشاق هواء عطرته بولينا بأنفاسها، لا تعزية لي سوى التعلل بالآمال ولا شاغل إلا التفكر بما ستئول إليه الحال، فكنت تارة أتوهم وصولي لسبيريا ومشاهدتي سنيري مسجونا مهانا ينظر إلي بانكسار وكأنه يصادق على كلام ماكيري بقوله: «لقد خدعتك فانتقم مني.» وتارة كنت أراه بحالة الغضب الشديد يتوعد ماكيري بالقصاص الرهيب مقابلة لكذبه الفظيع ثم يقول: «لا تيأس فستتضح لك الآن براءة بولينا حين أطلعك على هذه الأسرار.» ومن ثم أرجع إلى حيث تركت امرأتي المحبوبة، وأي سرور يشمل قلبي إذا وجدتها متمتعة بصحة الجسم والعقل معا.
ثم وصلت إلى بطرسبرج ووضعت أمتعتي في أحد الفنادق وذهبت توا إلى ذلك السفير، وبعد أن عرفته بنفسي قدمت له كتاب صديقي، فلم يتم قراءته حتى نظر إلي بابتسام، وأظهر رغبة عظيمة في مساعدتي، ولكنه حتم علي بوجوب الانتظار بضعة أيام ريثما ترتاح البلاد وتخمد منها نيران الفتن.
فشكرته من صميم قلبي ثم ودعته وقصدت الانصراف، فاستوقفني قائلا: من هو هذا السجين، وماذا تقصد من لقائه؟ - سيدي لا أعرف شيئا عن هذا الرجل سوى أنه طبيب إيتالياني من رجال السياسة يعرف باسم سنيري، وليس قصدي من لقائه إلا أن يجيبني على بعض أسئلة مهمة لدي سأقترحها عليه. - سنيري، ما من أحد من الذين سجنوا مؤخرا يدعى بهذا الاسم؟ - إلهي، هل يمكن أن أخدع ثانية. - ألا تعرفه بالنظر يا مستر فوكهان؟ - نعم إني أعرفه جيدا. - إذن لا تيأس من وجدانه لأنه إذا أمكنه إبدال اسمه فلا يمكنه تغيير هيئته، أما الآن فبقي علي أن أوصيك بالمحافظة على شرائع هذه البلاد التي تختلف كثيرا عن شرائعنا نحن الإنكليز، فإنك إذا نطقت بأقل كلمة دون ترو تكون قد سعيت إلى حتفك بظلفك.
فوعدته بذلك بعد أن أبديت له شكري وامتناني لإرشاداته، وودعته وذهبت إلى النزل حيث لبثت مدة أسبوعين أعلل النفس بالأماني، وأخيرا حصلت على رقعة يدعوني بها إليه، فأسرعت بالذهاب وبعد أن تبادلنا التحية، قال: لقد أسعدك الحظ يا مستر فوكهان، فكل شيء قد تم ويمكنك منذ الآن أن تسافر إلى سبيريا مصحوبا بتوصية تجعل الكبير والصغير ينظر إليك باحترام.
ففاض لساني بشكره وشعرت من نفسي بالعجز عن إظهار فضله، ثم قال لي: إن القيصر يدعوك إليه فهو يود مشاهدة الرجل الذي قصد هذا السفر الطويل بقصد إلقاء بعض الأسئلة على أحد المسجونين.
فساءني هذا التعاكس لما أنا عليه من الاجتهاد بسرعة السفر، وكنت أتمنى كثيرا أن أرفض هذا الشرف، ولكن عندما رأيت أن لا مناص لي من ذلك ذهبت مع السفير وفي نيتي أن أبذل الجهد في تقصير الزيارة، وبدقائق قليلة وصلت بنا العربة إلى باب كبير تحف بجانبيه الحرس ويليه باحة الدار الخارجية المزدانه بتماثيل بديعة الإتقان محكمة الوضع تحيط بها حديقة غناء قد حوت من الأزهار أجملها ومن الأشجار المثمرة أشهاها، ثم صعدنا سلما قد كسيت درجاته بالطنافس الثمينة وجانباه مغشيان بالذهب الخاص. فاستوقفتني هذه المناظر برهة، ولم أنتبه لنفسي حتى أومأ لي قائدي بالدخول إلى القصر، فتبعته وإذا بي واقف في دار فسيحة الجوانب مزينة بالنقوش البديعة والصور الجميلة قد رصعت جدرانها بأنواع الحجارة الكريمة وغشيت أرضها بأصناف المعادن الثمينة، أما ما فيها من حسن الرياش فحدث عنه ولا حرج. فأخذني العجب والاندهاش مما رأيت وعاينت من تلك المناظر التي لم أتصور نظيرها قبلا.
نامعلوم صفحہ