وإني لعلى تلك الحالة إذا شعرت كمن مسه سلك كهربائي، فهببت واقفا على أقدامي وجعلت أنظر كالمعتوه إذ شاهدت بغتة فاتنتي مقبلة مع خادمتها. نعم، نعم، رأيت ثانية تلك التي عانيت من أجلها أمر العذاب، نعم رأيتها وهي لم تزل كما كانت آية الجمال والكمال، فمن يصف حالتي في تلك الساعة التي انتقلت بها من الغم والقنوط إلى السعادة والأمل! أما هما فظلتا سائرتين إلى الجهة الأخرى وأنا أتبعهما النظر، إلى أن ابتعدتا عني قليلا، ثم سرت على أثرهما متأخرا عنهما نحو مئة خطوة، وعند ذلك عرجتا على شارع «ريجنت»، ولم تسيرا طويلا حتى عطفتا في شارع آخر ودخلتا نزل «مايدا»، فعلمت أنهما غريبتان عن البلاد وقاطنتان في ذلك النزل، فلبثت برهة واقفا وإذا بنافذة فتحت في الطابق العلوي، وبانت منها الفتاة وكانت منهمكة بوضع بعض الأزهار في إناء خزفي، وبعد أن أنهت عملها ألقت نظرا هادئا على الطريق، ثم توارت داخل الغرفة.
وحينئذ شعرت أن قوة غير منظورة دفعتني لباب ذاك النزل، فقرعته، ولم يكن إلا القليل حتى فتحته امرأة قصيرة القامة غليظة الجسم، فسألتها: هل يوجد غرفة للأجرة؟ أجابت: نعم يا سيدي. وقبل أن تنهي كلامها صعدت السلم فتبعتني وشرعنا بالتطواف في النزل غرفة فغرفة حتى انتهينا إلى أحسنها، فأسلفتها الأجرة وعدت للإتيان بما أحتاج إليه من الملابس مدة إقامتي هناك. وهكذا في اليوم الثاني كنت من جملة سكان ذلك النزل، وقد شعرت بسرور عظيم من هذا الاتفاق؛ لأنني كنت في الأمس آيسا من وجودها حزينا لبعدها، واليوم هي على مقربة مني لا يسومني التمتع بمشاهدة طلعتها البهية كثير عناء.
الفصل الرابع
ليست أهلا للمحبة والزواج
فمضى علي أسبوع في تلك الغرفة وأنا أرى في كل يوم تلك الغانية، واسمها بولينا - هكذا كنت أسمع الخادمة تناديها - وكانت عاطفة الشوق تزداد بي يوما فيوما لمحادثتها، وقد ظهر لي من مراقبتها أنها من السذاجة بمكان عظيم لا تتكلف حركة تشف عن كبرياء وخيلاء، وهي ملازمة الصمت إلا فيما ندر، وذلك عندما تحتاج إلى الخادمة فتلقي إليها بعض كلمات مقتضبة ثم تعود إلى حالتها الأولى من الجمود والسكينة.
وقد انتظرت فرصة تخولني التقرب منها، فذهبت أتعابي ضياعا، وما كنت قط لأسمع صوتها العذب لو لم أقف لها بالمرصاد وقت ذهابها وإيابها، فأشير إليها مسلما فتجيبني ولكن بدون اهتمام.
هذا وقد ضقت ذرعا عن كتمان أمري وإخفاء سري، فعزمت أن أنبذ الخوف والجبن ظهريا وأذهب إليها شاكيا حالتي، ولكني لما رأيتها في اليوم الثاني لم أتجرأ على إتمام عزمي؛ فإن سطوة جمالها أذهلتني ونظرها الحاد الجامد لعثم لساني، فأحجمت وأنا أندب سوء حظي، ولم أذق طعاما ذلك النهار بطوله، وعندما خيم الظلام ألقيت بنفسي على سريري حيث ضاق صدري وخنقتني العبرات، فبكيت كالطفل. وإني لكذلك إذ سمعت رنة وتحطم إناء خزفي في باحة الدار عقبه صراخ وعويل، فأسرعت إلى الخارج وإذا بتيريزا خادمة بولينا ممددة على الأرض تشكو من صدع ألم برجلها، وقد انتثر حولها قطع صغيرة من الخزف، وتندت أثوابها بما كان من المرق في ذلك الإناء، فخاطبتها برقة مقدما لها يد المساعدة، فشكرتني بكلمات إنكليزية استنتجت من لهجتها أنها غير لغتها. فسألتها بالإيتاليانية عما إذا كانت تريد أن أحملها إلى غرفتها، فبرقت أسرتها لاستماع لغتها، ونظرت إلي بعين الامتنان ثم تحفزت للقيام، فرأيتها غير قادرة على ذلك، فأسندتها إلى ذراعي وأعنتها على الوقوف، ولكنها لم تقو على المسير، فحملتها إلى غرفتها ووضعتها على السرير وعدت لأرسل من يأتي بطبيب، فصادفت بولينا خارجا مسندة إلى الجدار وهي على حالها من الهدو، فلما صرت على مقربة منها هشت لي وشكرتني على ما أبديته من المعروف، ثم مدت لي يدها البيضاء فهززتها بلهفة، وبعد ذلك انسحبت إلى غرفة خادمتها وخلفتني جامدا كالصنم أنظر إلى الباب الذي حجبها عن عيني مفكرا في ذاك المحيا الذي خطت عليه يد الحدثان آيات من الحزن يكتنفها رسم من الأسرار العميقة على جبينها الوضاح كما يتبين من هيئتها الذابلة.
وفي صباح اليوم الثاني من هذه الحادثة رأيت بولينا ذاهبة للنزهة دون رفيق، فتناولت قبعتي وتأثرتها مسرعا، وبعد مطارحة السلام افتتحت الحديث بهذه الكلمات: هل لك مدة طويلة في إنكلترا أيتها الآنسة؟ - لا. - لقد أسعدني الحظ بمشاهدتك في دير الكاثوليك «بتورين» منذ ثلاثة أشهر.
فرفعت عينيها وحدجتني بنظرة طويلة، فتممت قولي: وقد كنت مصحوبة بقهرمانتك. - نعم لقد ذهبنا مرارا إلى هناك. - أظنك إنكليزية الأصل كما يتبين من اسمك؟ - نعم. - أعازمة على البقاء في إنكلترا طويلا أم ستبارحينها إلى إيطاليا؟ - لست أعلم.
ثم بادرتها بحديث طويل أستطلع به أميالها وأدرس طباعها ذاكرا لها ما يهم النساء معرفة كالموسيقى والرقص والتصوير والأزهار، ولكن كل هذا لم يكن يستلفت منها الأفكار، فقلما كانت تطرب أذني باستماع ألفاظها الرقيقة، بل كان دأبها الإصغاء لحديثي، ولم أحظ منها إلا بكلمة: لا، ونعم. وذلك عندما تضطر إلى إجابتي. وقد تبين لي أنها لا تفهم كلامي، فكانت تارة تشخص بي ذاهلة مندهشة وطورا تنكس رأسها وتعود إلى الافتكار دون أن تبدي بكلمة، ولو كنت منتظرا الجواب.
نامعلوم صفحہ