وكانت أمينة قادرة على قراءة العيون فتولتها الدهشة، ونظرت للباشا نظرة ملؤها الشك والارتياب، ففتنته النظرة؛ فمد يده - كما تعود وكما ألف - فعبث بذقنها الصغير، فقطبت جبينها وجفلت منه. فلم يدركه اليأس، وما كان يدركه اليأس أبدا، وقال لها برقة: كلانا له رجاء عند صاحبه، فاقض رجائي أقض رجاءك. وعادت المرأة إلى زوجها، وقصت عليه ما لقيت من الباشا، فانزعج الشاب انزعاجا كبيرا. وأرادت أمينة أن تشاركه عواطفه، فبكت وإن لم تخل من زهو وفخار، وأزمع الشاب يأسا وقال لنفسه: «ليكن سفر، والأمر لله.» ولكن في صباح اليوم الثاني استدعاه مدير الأرشيف، فذهب إليه مبلبل النفس مضطرب القلب، يظن أنه مبلغه أمر النقل لينفذه، ولكن الرجل قال له: «مبارك يا سعيد أفندي، لقد ألغي أمر نقلك.» فشكره الرجل متحيرا وهم بالرجوع، ولكن المدير قال له: «ومبارك أيضا؛ فقد رشحت لوظيفة من الدرجة السابعة بمكتب السكرتير العام.» آه! كم رنت الدرجة السابعة في أذنيه رنينا بديعا! .. لقد اضطرب وغضب وسخط وتحير وتردد وقارن ووازن، لكن رنين الدرجة ابتلع كل صوت حتى صوت ضميره وعفته، وتيقظت أطماعه، وجمح طموحه، فاستسلم، وكانت أمينة التركية الجميلة ذات غرور وطموح أيضا، فاتفقا على أن السوءة شيء يدارى، أما الفرصة المواتية فشيء لا يعوض .. وهويا معا.
وعزم على ألا تكون تضحيته عبثا؛ فدرس في بيته حتى حصل على ليسانس الحقوق ورقي سكرتيرا للسكرتير العام. وما زال يصعد مدارج الرقي مستعينا بهمته وذكائه وجمال زوجه. فلما اختير سليمان باشا سليمان وزيرا جعله مدير مكتبه، وقامت زوجه بنشر الدعوة له في الأوساط العالية، وقدمته إلى كبار الرجال، فتبوأ بفضلها مركز السكرتير العام، وصار سعيد باشا كامل، وصارت هي حرم الباشا المصون .. وكان قد تعود المهانة كما يتعود الأنف الرائحة النتنة .
وفي يوم من الأيام أعلن الباشا أنه مسافر إلى بورسعيد في رحلة تفتيشية تستغرق عشرة أيام. وبلغ المدينة، وشرع في العمل بما عرف عنه من النشاط وعلو الهمة، ولكن اعتوره تعب فجائي اضطر معه إلى قطع رحلته والعودة إلى القاهرة، وانتهى إلى قصره مع المساء وكانت عودة غير متوقعة، فاستقبله البواب بدهشة لم تخف عن عينيه على ندرة اندهاش النوبيين، والتقى الباشا بالسفرجي في الردهة التحتانية، فتولى الرجل الانزعاج، ولم يستطع أن يخفي تأثره، فغضب الباشا وسأله: «أين الهانم؟» ولم يجب الرجل كأنه لم يسمع، فقال له بحدة: أين الهانم يا أحمق؟! فارتعب الخادم، وقال بتلعثم: «فوق يا سعادة الباشا .. فوق.» فصعد السلم الخشبي المفروش بالبساط الأحمر المخملي وهو يتساءل: ماذا هنالك؟! وبلغ الصالون في ثوان، فرأى وصيفة زوجه تنسق باقة زهر ناضرة .. فلما رأته حملقت في وجهه بذهول وجمدت عن الحركة لحظة كأنها فأرة جذبت عيناها إلى عيني هر .. ثم هزعت إلى حجرة النوم ونقرت على بابها المغلق وهي تقول: سيدي .. الباشا هنا .. فساوره القلق والاضطراب، ودنا من الباب ووضع يده على الأكرة، وهو يعجب كيف لم تسارع الهانم إلى فتح الباب واستقباله، ثم أدارها فلم ينفتح الباب، فالتفت ناحية الوصيفة فلم ير لها أثرا، فنقر الباب وهو يقول بصوت متهدج: يا هانم .. لماذا تغلقين الباب؟
فلم ترد جوابا، فأدنى رأسه من الباب فسمع حركة صوت اصطدام شيء صلب بالأرض .. فاهتاجه الغضب .. فضرب الباب بعصاه، وصاح بحدة قائلا: يا هانم .. ألا تسمعينني؟ .. أمينة هانم.
ثم مضى يدفع الباب بعنف، فسمع صوت الهانم تقول: انتظر من فضلك في المكتبة حتى ألحق بك!
فقال بحدة: افتحي الباب.
فردت عليه بهدوء وإصرار: انتظرني في المكتبة من فضلك. - هذا سلوك غريب .. ما هذه الحركة بداخل الحجرة؟ - اذهب إلى المكتبة من فضلك. - لن أتنحى عن الباب حتى يفتح لي. فسكتت المرأة هنيهة، ثم قالت بحدة وغضب: معي شخص ينبغي أن يخرج بسلام.
وخذلته أعضاؤه المنهوكة فأحس خورا وذهولا، وجمودا ثقيلا ران على قلبه وتنفسه ، ولبث دقائق لا يبدي حراكا، ثم مضى بخطى ثقيلة إلى المكتبة وارتمى على مقعد ترتعش يداه من الانفعال والحنق، وقال بصوت كالمختنق: «يا عجبا! .. إنها لا تكلف نفسها مئونة التستر على فضيحتها؛ فالخدم يعلمون بغير ريب ...» واهتاجه الغضب، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا، وما كانت إرادته تقدر على أن تصطدم بإرادتها بحال، فتصاعد غضبه دخانا كتم أنفاسه وسد مسالك صدره .. وقال بلهجة هستيرية: «هل يكون هذا المنتهك حرمة فراشي إلا تلميذا شريرا أو متعطلا متسكعا؟!» وانتظر أن تلحق به فلم تفعل؛ فقام مرة أخرى وقصد إلى حجرة النوم يسير بخطى مضطربة، فوجدها جالسة على الشيزلنج منكسة الرأس، فلما أحست به بادرته قائلة: إني أغادر البيت في الحال إذا كان هذا يروقك.
فلوح بعصاه غاضبا وقال بحنق: ما هذه الفضائح؟ .. ما هذه القذارة؟
وأصابت العصا ساقها دون قصد منه. فرفعت إليه بصرها وحدجته بنظرة باردة قاسية كان لها في نفسه وقع شديد، وقالت له: أتضرب الساق التي رفعتك إلى أعلى المناصب؟!
نامعلوم صفحہ