فنظر إليه الأخ الأكبر بعين الهزء، وأخرج من جيب بنطلونه ورقة وقلما، وقال له: إليك ما تريد.
وزاد اهتمام سوسن؛ فاقتربت خطوة منه، وقالت: إن كنت شاطرا حقا فارسم كلبا.
فبسط الصبي الورقة أمامه بثقة واطمئنان، وجرت يده بالقلم في ثبات وخفة ومهارة، فصورت كلبا لا بأس به. ولما انتهى منه نظر إليهم نظرة فوز وظفر، ونظر إليه الأخوان باحتقار وغيظ، أما سوسن فقالت وعلى فمها ابتسامة رقيقة: الكلب موضوع سهل .. إن كنت شاطرا حقا فارسم إوزة.
ولكنه لم يقهر أيضا، وذاق لذة الفوز مرة أخرى، فقال الأخ الأصغر: الرسم مادة تافهة. - ولكني الأول في جميع العلوم. - وهذا أمر تافه.
فقال يوسف بحدة: إذن فما المهم؟
فوضع الصبي الآخر يديه في جيبي البنطلون، وقال وهو ينظر إليه من عل: المهم أن تكون ابن بك .. وأن يكون لك مثل هذا القصر.
هذا ما يذكره من تلك المنافرة الصبيانية، ويذكر فوق هذا أنه عاد إلى بيته ذاك اليوم ينتفض من الغضب والحقد ويمتلئ كراهية للصبيين. أما سوسن فلم يكره منها قولا أو فعلا؛ إذ كانت حبيبة عزيزة جميلة، وكان حبيبا عزيزا جميلا كلله الحب بتاجه.
وكان مستعدا في أعماقه أن يكره منذ صغره إن وجد منها كرها له أو احتقارا، ولا يحب الشر ويعظمه إن آنس منها له حبا وتعظيما؛ إذ كانت تتبوأ من نفسه مكانة المثل الأعلى في كل شيء، فالخير خير بالإضافة إلى أفعالها، والجميل جميل على قدر مشابهته لصورتها.
إنه يذكر تلك اللوثة الهيامية كالمستفيق الذي يتذكر فعاله حين السكر الشديد. ولم يتصل الحديث بينه وبين الأخوين بعد تلك المعركة الكلامية، ولم يرهما إلا قليلا، وكانا إذا مرا به مرا مقتحمين كأنهما لا يريانه، أما سوسن فكان يراها كثيرا .. ولم تكن متكبرة قاسية كأخويها فكانت إذا التقت عيناها بعينيه ابتسمت إليه أو بادلته كلمة تافهة كانت لديه ألذ من الصحة والعافية.
وكان مرة جالسا القرفصاء، وكانت تلعب في الحديقة على بعد قريب منه، قافزة على حبل تديره خادمتان من طرفيه، فلبث يراقبها بعينين مشتاقتين، وبعد قفزاتها على دقات قلبه الولهان. وحدث أن ذهبت إحدى الخادمتين لبعض الشئون، فنادته أن يحل محل الخادمة، ولبى مسرعا سعيدا مغتبطا ظافرا، وود من قلبه لو لم تنته تلك الساعة السعيدة أبدا، ولكن الصغيرة تعبت فتوقفت تستريح، وخشي يوسف أن تنتهي سعادته ويعود إلى مكانه، وكان شديد الرغبة في أن يحادثها، وأن يستمع إلى صوتها العذب الذي يفعل به فعل التعويذة بالمسحور فسألها: هل تذهبين إلى المدرسة؟
نامعلوم صفحہ