أي ذكرى وأي أيام!
وكان كل مكان فيه يحفظ لقلبه ذكرى تنعش النفس وتشرح الصدر، سواء أكان ما تحمل نوعا من مسرات الصبا أو لونا من متاعبه وهمومه. وكثير من آلام الصغر التي يضيق بها الأطفال يجدونها إذا كروا إليها في الكبر متعة ولذة وتفكهة، فكان لهذا يطوف بحجرات البيت حالما متذكرا كأنما يطوف بضريح ولي من أولياء الله، ثم يستقر مدة إقامته في أعزها عليه وأحبها إلى قلبه: في الحجرة التي عاش فيها من عمره اثنين وعشرين عاما بين عبث الطفولة وأحلام الصبا وآمال الشباب.
والذي يقيم فيها الآن أخوه سامي، وهو ابن عشر ويختم في هذا العام دراسته الابتدائية. ويخيل إليه - أي إلى يوسف - كما شاهده أنه يعيد تمثيل الحياة التي حييها مرة أخرى، وأن الحجرة تشهد للمرة الثانية نفس فصول الرواية، ولعلها بدأت تبسم وتسخر وتسأم .. وكان سامي يتخلى عن حجرته سعيدا مغتبطا لأخيه الأكبر الذي ينزل من نفسه منزلة الأب، ويتولى من بعده جميع أموره ويتعهده بالتربية والمحبة.
وقد لاحظ يوسف أن أخاه غير من نظام الحجرة، وأنه نقل المكتب القديم إلى غير موضعه الأصلي، وكان يحب أن تبقى الحجرة محتفظة بصورتها القديمة، فسأله عن هذا، وأجابه الغلام: إني جعلت المكتب بحيث إذا جلست للمذاكرة جاء نور النافذة من الجهة اليسرى كما أوصانا مدرس علم الصحة.
فابتسم يوسف، وقال: «ما أسعد حظكم يا تلاميذ اليوم؛ فإن لكم من مدرسيكم آباء رحماء يودون لكم الصحة والعافية ويشفقون عليكم من الأذى، أما على أيامنا فكان الحال غير الحال والمدرسون غير المدرسين. وإني لأذكر العنت الذي كان يصيبنا - في نفس مدرستك خليل أغا - وما كانوا يلزموننا من حفظ البلدان والثغور والجزر والحاصلات. وكم من مرة مددنا على الأرض وألهبت العصي القاسية ظهورنا وبطون أقدامنا .. تلك أيام خلت .. أما أيامكم ...!»
ثم استلقى الأستاذ على كنبة، واستسلم لتيار التذكر العذب التسلسل، تاركا زوجه وأمه تتحادثان ما شاء لهما الحديث، وسامي يجالس ميمي وفيفي الصغيرتين ويلاعبهما.
ولم تنس أمه أن تأتي بمدفأة وتضعها في ركن من الحجرة؛ لأن الشهر كان ديسمبر والجو شديد البرودة يزيد من شدة قساوته الصيام، وكأن السماء أشفقت من البرد فتلفعت بأردية من السحب، أضاء بعضها عن لون أبيض ناصع بهيج، وأظلم البعض عن كتل دكناء كالجبال عند الغروب؛ فانكمش جسده، وتحفزت روحه للوثوب وحلقت على رأسه الأحلام. وسرعان ما كرت نفسه راجعة عشرين عاما في خط الزمن غير المتنامي، وذكر عهد هذه الحجرة أيام كانت رفيقة صباه وشبابه وشريكة أحلامه وأهوائه، وشاهدة أفراحه وأحزانه، ومستسرة خباياه ومرجع نجواه. رباه! .. إنه ليدير عينيه في أنحائها طمعا أن ينفذ إلى تضاعيف جوها الخفي، ويقرأ ما خط من حياته، وما سجل من نوازع قلبه وعقله ووجدانه .. ولقد تأتي عليه أوقات يغمره تيار الحياة وتكتنفه متاعبها فينسى ذكريات الماضي في هموم الحاضر، ويخيل إليه أن ذاك الصبي الذي عاش وفرح وتأمل وأمل ويئس شخص غريب عنه لا تربطه به رابطة ألم أو أمل. وقد تأتي عليه ساعات أخر يتوب فيها إلى نفسه فينسى حاضره هارعا إلى الماضي البعيد، وتقدم إليه حافظته الثائرة أزاهر الذكريات واحدة فواحدة حتى يخال أنه لم يعبر الماضي إلا منذ ساعات قلائل، وأنه لم يحي إلا به وله .
وها هو ذا الآن تغشاه ساعة من تلك الساعات الحالمة فتحلق روحه في آفاق بعيدة كالذاهل في غيبوبة مغناطيسية، وتتدفق عليه الصور الحالمة في غير ترتيب زماني، فيذكر كيف كان يستيقظ - في نفس الحجرة - منذ الفجر، ويدلف إلى النافذة يشاهد بهاء الفجر المشتمل الكون بثوبه الأزرق، والنجوم من فيض الحياة بها تكاد أن تتكلم بأحاديث الأزل، ويرى البيوت كالأشباح القائمة، ومئذنة سيدنا الحسين في المكان الأوسط منها كالحارس الحفيظ، ويستمع إلى صياح الديكة المنتشية ببشائر النور وقطر الندى، حتى يشق الفضاء صوت المؤذن داعيا «الله أكبر»، فيهبط على القلوب هبوط الصحة والطمأنينة فيملأها نشوة وبهجة وحنينا، ثم يصلي الفجر، فإذا انتهى أشعل المصباح وقعد يذاكر ويحل تمرينات الحساب ومسائل الهندسة.
وإنه ليذكر لهذه المناسبة عهد التلمذة الغريب، الذي كان يرسف في أغلاله كالسجين، أو الأسير المعذب، يجهد عبثا أن يقوم بما يفرضه عليه البرنامج الثقيل المرهق، وتضطرب أعصابه خوفا ورعبا من المدرسين وعصيهم الذين كان يكفي تذكرهم لتجميد الدم في العروق أو قطع الأنفاس في الصدور. ولا عجب فقد كانت القسوة هي السياسة المرسومة لتربية التلاميذ، وكان يظن أنها الطريقة المثلى لخلق الرجال الفضلاء، فكان عهد التلمذة عهد رعب وإرهاب وعنت. وإنه إذا جاز له الآن أن يشبه المعلم بالفنان يحاول أن يبدع من مادته أجمل الآيات وأمتعها فلا يستطيع أن يشبه مدرسيه القدماء إلا بمحصلي الضرائب الأتراك .. ولكنه بالرغم من هذا لا يذكر ذاك العهد حتى يعلوه الابتسام ويغمره الفرح، كأن ما فيه من مسرة فهو له وما فيه من ألم فهو لغيره، يراه كما يرى المشاهد الرواية التمثيلية الحزينة فيتمتع بأثرها الجميل.
وفيما هو سابح في بحر أحلامه، انتبه فجأة على يد ابنته الصغرى ميمي وهي تهزه، فالتفت إليها متبرما، وصاح بها منتهرا: «إيه يا بنت؟»
نامعلوم صفحہ