سر ميلادي
وعزمت كاتي على أن تدخل به إلى حجرتها، فأبى وسار يفكر كيف يفعل، وجال في فكره أن يكتب لها بالقصة وأنه هو الذي تلبس بالكونت دي ويرد وخدعها، ثم عرض له فرغب في مقابلتها مرة أخرى، فسار إلى منزلها وجعل يدور حوله حتى حان الوقت ونظر من الباب فإذا بالنور قد انطفأ، فتذكر ليلته البارحة، فصعد إلى غرفة كاتي فحاولت أن تمنعه من الدخول إلى غرفة مولاتها فأبى وجعل يناوصها، فأحست به ميلادي ففتحت الباب وقالت له: ادخل. فدخل وأقفلت الباب، فثارت الغيرة في قلب كاتي وحاولت الدخول وراءه، ولكنها خافت سوء العقبى، فتربصت وفي قلبها حزازات.
ودخل دارتانيان وفي نفسه قائل يقول له إنها لا تحبه وإنه آلة نقمة في يدها، ولكن الحب أعمى بصيرته، فأقام وإياها ساعتين والسكوت شامل والغرفة هادئة، ثم سألته: هل هيأت أسباب القتال مع الكونت؟ وهل أنت عازم على قتله؟ فأجابها - وهو مشرد الفكر تائه العقل: لا وقت لي للقتال. فقالت - وقد ملكها الجزع والندم: أتخاف منه؟ قال: لا، ولكن لعل له عذرا لو أن ذنبه لا يستحق الموت. قالت: إنه خدعني فوجب عليه الهلاك. قال: إذن أفعل. وكان الفجر قد لاح ودخل الغرفة بعض النور، فهم دارتانيان بالذهاب وقال لها: إني صائر فيما رسمته لي، ولكن ينقصني شيء. قالت: وما ذاك؟ قال: برهان على أنك تحبينني. قالت: وهل بعد ليلتنا هذه برهان؟ قال: صدقت، ولكن إذا كنت تحبينني كما تزعمين، أفما تخشين علي مما أنا ماض فيه؟ قالت: وما عسيت أخاف؟ قال: أن أجرح أو أقتل. قالت: لا سمح الله، فإني أعهدك بطلا حاذقا في الحرب تصيب ولا تصاب. قال: ولكن ما تقولين في طريقة ننتقم بها ونكتفي مئونة القتال. قالت: وما هي؟ قال: أرى أن هجرك إياه قد كفاه وحسبه بهجرك عقابا. قالت: ومن قال لك أني أحبه؟ قال: إذا لم تكوني تحبينه فأنت تحبين غيره، وإني لتهمني حياة الكونت وأراه غير مذنب، وأنا على يقين في ظني. قالت: بالله وكيف ذلك؟ قال: سأضرب لك مثلا، أفما تحبينني؟ قالت: بلى. قال: فلو أخطأت لك خطأ الكونت أتسعين في قتلي؟ قالت: لا أدري، فما تقصد في ذلك؟ قال: ألم يأتك الكونت ليلة الخميس الماضي في هذه الغرفة. قالت: لا والله، وكذب من قال. قال: لا تخاتلي، فأنا صاحب الخاتم وأنا الكونت دي ويرد يوم الخميس، وأنا دارتانيان اليوم. وكأن الصاعقة وقعت على ميلادي لدى سماعها هذا الكلام، فاصفر وجهها وامتقع لونها واضطربت أعضاؤها وارتعدت فرائصها ووثبت إلى خارج السرير، فأمسكها الفتى بطوقها فاتقد ثوبها وظهر كتفها، وكان النهار قد تعالى فرأى دارتانيان على كتفها زهرة الزنبق، فتذكر قول أتوس ولبث جامدا لا يتحرك من سر وقف عليه لا يعلمه إلا الله، وصاح: الله أكبر، ماذا أرى؟ فصاحت في وجهه صيحة اللبؤة وقالت: تبا لك يا غادر، لقد خدعتني فحق عليك الموت. ثم وثبت إلى خزانة فأخرجت منها مدية صغيرة وهجمت عليه، وكانت هيئتها هائلة حتى ارتاع لها الفتى على شجاعته، فسل سيفه وجعل يدفعها به عن نفسه غير متعمد قتلها وهي تهجم فيصدها ويقول لها: مكانك يا غادرة أو أسمك بزهرة أخرى على خدك. وما زال يجاولها بالسيف ويطلب الباب حتى بلغه، وكانت كاتي قد سمعت الصراخ، ففتحته فولجه وأقفله وراءه بالمفتاح، وجعلت ميلادي تضرب الباب بالمدية ضربات تحاكي ضربات الرجال وهي تهدر كالسعلاة، فقال دارتانيان لكاتي: أخرجيني من القصر حالا وإلا جمعت علي الخدم فقتلتني. فقالت له: وكيف تخرج وأنت عار لا يسترك إلا القميص. قال: إذن فألبسيني ما عندك، فإن من وراء ذلك الموت. فألبسته الفتاة جلبابها وقبعتها وحذاءها، فخرج وميلادي تصيح في القصر بالخدم: لا تفتحوا الباب، ولكن دارتانيان كان قد خرج وغاب عن نظرها، فسقطت مغشيا عليها.
الفصل الثاني والثلاثون
لا ييأسن نائم أن يغنما
وظل دارتانيان يركض في سكك باريز على هيئته تلك حتى بلغ باب أتوس، فقرعه ففتح له الخادم، فدخل من غير أن يتكلم، فصاح به الخادم وهو يظنه امرأة: ماذا تريدين أيتها المرأة؟ أفي مثل هذه الساعة يغشون البيوت؟ فقال له دارتانيان: صه يا غلام أنا دارتانيان، فأين مولاك؟ قال: كذبت يا لكاع، فإن دارتانيان رجل ولست بدارتانيان. وكان أتوس قد سمع صياح الخادم فخرج من غرفته، ولما نظر إلى دارتانيان ضحك حتى استلقى على قفاه، فقال له دارتانيان: أقصر المزاح فالأمر أعظم من ذلك. فقال له: أجريح أنت؟ وإلا فمالي أراك أصفر الوجه؟ قال: لا، ولكني قطعت هولا عظيما، فهل أنت وحدك؟ قال: نعم. فوثب دارتانيان إلى الغرفة وأقفل الباب، فقال له أتوس: أخبرني هل مات الملك أم قتل الكردينال؟ أم ماذا فعلت؟ فقال: رويدك أقص عليك الأمر، ولكن حتى أخلع ثيابي هذه. ثم خلع ثيابه ولبس غيرها من ثياب أتوس ودنا منه، وقال له: إن ميلادي موسومة بزهرة زنبق على كتفها. فأجفل أتوس إجفال الحمل كأن صاعقة هبطت عليه، فقال له الفتى: عساها التي أخبرتني عنها؟ قال: أليست بيضاء اللون زرقاء العينين سوداء الحاجبين لا تبلغ الثلاثين من العمر؟ قال: هي تلك، والزهرة على كتفها تكاد تزول، وما أظنها إلا فرنسوية. قال: لا بد من أن أردها. قال: إياك وإياها لئلا تكيد لك كيدا ونحن مسافرون عن قريب إلى روشل، فدع غضبها علي وحدي، ثم قص عليه القصة من أولها إلى آخرها، فقال له: احذر على نفسك منها، فإني أظن أن لها يدا مع الكردينال، ولكن ما فعلت بنفقة سفرك؟ وما أراك إلا قليل الاعتداد بها لأن معك هذا الخاتم؟ قال: ذكرت لي أنه خاتم عائلة، فما شأنه؟ قال: نعم، اشتراه أبي بألفي قطعة من الفضة وأهداه إلى أمي، فأخذته منها وأهديته لهذه الغادرة. قال: إذن فخذه. قال: كيف آخذه وقد دنسته الفاجرة بكفها؟ قال: ألا تبيعه؟ قال: معاذ الله أن أبيع هدية من أمي. قال: إذن فارهنه وتجهز بثمنه ثم استرده. قال: أفعل، ولكن على شرط أن نقتسم المال. قال: ذلك فوق الحاجة وأنا في غنى عنه، ومعي خاتم آخر. قال: ما لنا ولذلك، فإما أن تقاسمني ثمنه أو أرميه في النهر. قال: إني إذن أقبل. ثم خرجا إلى بيت دارتانيان فلاقاهما صاحب الفندق. وقال للفتى: إن عندك في الدار فتاة حسناء وهي في انتظارك، فقال: هي كاتي والله، ثم وثب إلى البيت فوجدها جالسة كاسفة اللون ترتعد فرقا، فقالت: لقد أمنتني على حياتي فلا تحنث. قال: لا تخافي، فما جرى بعد ذهابي. قالت: لا أعلم سوى أنها دعت بخدمها وهي ترغي وتزبد، فخشيت أن يصيبني منها مكروه أو تظن بي شيئا فهربت إلى هنا. قال: وما أصنع بك وأنا مسافر بعد غد؟ قالت: تخرجني من باريز أو من فرنسا أو تضعني عند أحد أصحابك بحيث لا يدري بي أحد. ففكر دارتانيان قليلا ثم دعا بخادمه فقال له: اذهب إلى أراميس وادعه لي في الحال. فخرج ولم يمض قليل حتى دخل أراميس فقص عليه القصة. قال: نعم أرسلها إلى إحدى النساء الأشراف في فرنسا، فإنها طلبت مني فتاة مثلها. ثم جلس فكتب لها كتابا بذلك، وودعت الفتى وخرجت، وعاد أراميس إلى منزله، ونزل دارتانيان وأتوس إلى السوق فرهنا الخاتم على ألفي دينار اقتسماها، وذهب أتوس وهو يقول: لا ييأسن نائم أن يغنما.
الفصل الثالث والثلاثون
مرور الخيال
ولما كانت الساعة الرابعة اجتمع الأصحاب الأربعة وفي قلب كل منهم حادث سر، وجعلوا يقتطفون أفنان الحديث. وإذا ببلانشت خادم دارتانيان قد دخل وفي يده كتابان باسم مولاه، فأخذهما الفتى. وكان أحدهما صغيرا لطيفا مختوما بالشمع الأحمر وعليه صورة حمامة في منقارها غصن زيتون، والآخر ضخما كبيرا مرسوما عليه سلاح الحرب. وهذا نص الكتاب الأول:
تنزه عن طريق كالوت بين الساعة السادسة والسابعة، وتنظر جيدا في كل ما يمر بك من العجلات، وإياك والكلام إذا كنت تحرص على حياتك وحياة من تحبهم، أو أن تشير إشارة تدل على أنك عارف بمن عرضت نفسها للخطر لكي تراك.
نامعلوم صفحہ