1 - هدايا الأب الثلاث
2 - إهانة وتحد
3 - ميلادي تقابل الرجل المجهول وتتلقى التعليمات
4 - بحث دارتانيان عبثا عن خطاب التوصية يوحي لصاحب الفندق بفكرة
5 - إعجاب دارتانيان بطرق استخدام السيف فوق السلم، وإعجابه بحمالة سيف
6 - استقبال دارتانيان استقبالا رسميا وسماعه أكثر مما كان متوقعا أن يسمع
7 - دارتانيان يتلقى نصيحة طيبة من السيد دي تريفي لكنه لا يعيرها كثير التفات
8 - كتف آثوس وحمالة بورثوس
9 - منديل أراميس
10 - الساعة الثانية عشرة خلف قصر لوكسمبورغ
11 - دارتانيان يتخذ قرارا سريعا
12 - ميلادي
13 - آثوس يحافظ على كلمته ودارتانيان ينجح في خطته
14 - ميلادي تستقبل دارتانيان
15 - دارتانيان يسترق السمع
16 - سر ميلادي
17 - دارتانيان يطلق العنان لقدميه
18 - مهمة خطرة تأتي بنتائج غير عادية
19 - عصير أنجو
20 - فندق برج الحمام الأحمر
21 - ميلادي تستقبل زائرا غير متوقع
22 - عقد رهان سخيف على عمل خطير
23 - انعقاد مجلس الأربعة في ظل ظروف صعبة
24 - خاتم يحل مشكلة خطيرة
25 - دارتانيان يحقق أعظم رغباته وأراميس يخط خطابا صعبا
26 - العدالة
27 - فخامته يتعرف على خط يده ويصدر قرارا حكيما
1 - هدايا الأب الثلاث
2 - إهانة وتحد
3 - ميلادي تقابل الرجل المجهول وتتلقى التعليمات
4 - بحث دارتانيان عبثا عن خطاب التوصية يوحي لصاحب الفندق بفكرة
5 - إعجاب دارتانيان بطرق استخدام السيف فوق السلم، وإعجابه بحمالة سيف
6 - استقبال دارتانيان استقبالا رسميا وسماعه أكثر مما كان متوقعا أن يسمع
7 - دارتانيان يتلقى نصيحة طيبة من السيد دي تريفي لكنه لا يعيرها كثير التفات
8 - كتف آثوس وحمالة بورثوس
9 - منديل أراميس
10 - الساعة الثانية عشرة خلف قصر لوكسمبورغ
11 - دارتانيان يتخذ قرارا سريعا
12 - ميلادي
13 - آثوس يحافظ على كلمته ودارتانيان ينجح في خطته
14 - ميلادي تستقبل دارتانيان
15 - دارتانيان يسترق السمع
16 - سر ميلادي
17 - دارتانيان يطلق العنان لقدميه
18 - مهمة خطرة تأتي بنتائج غير عادية
19 - عصير أنجو
20 - فندق برج الحمام الأحمر
21 - ميلادي تستقبل زائرا غير متوقع
22 - عقد رهان سخيف على عمل خطير
23 - انعقاد مجلس الأربعة في ظل ظروف صعبة
24 - خاتم يحل مشكلة خطيرة
25 - دارتانيان يحقق أعظم رغباته وأراميس يخط خطابا صعبا
26 - العدالة
27 - فخامته يتعرف على خط يده ويصدر قرارا حكيما
الفرسان الثلاثة
الفرسان الثلاثة
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
أمين سلامة
الفصل الأول
هدايا الأب الثلاث
كان لويس الثالث عشر، ملك فرنسا، من أبرع من استخدموا السيف في مملكته، ومع ذلك، فكثيرا ما سمع يردد: «لو كان لي صديق يريد المبارزة، ويحتاج إلى من يبارزه، فإني أنصحه بأن يختارني أنا أولا، ثم تريفي من بعدي، أو ربما تريفي أولا.»
وكان السيد دي تريفي من أوفى الأوفياء، ومن أعظمهم إخلاصا للملك. وكان من الضروري في تلك الأيام، أن يحاط المرء بالأوفياء أمثال تريفي، ولذلك انتهز الملك لويس الثالث عشر، أول فرصة، فجعله قائدا لحرسه الملكي، الفرسان.
لم يكن الكاردينال ريشلييه، الذي هو رئيس وزراء الملك، والمرهوب الجانب أكثر من الملك، بأقل جدارة بالاحترام. ولما رأى المجموعة القوية من الرجال المختارين، الذين أحاط بهم السيد دي تريفي الملك، قرر أن يكون له حرسه، هو أيضا، مثلما للملك فرسانه. وقد تنافس كل من الرجلين، في أن يضيف إلى مجموعته أمهر الرجال وأشجعهم في استخدام السيف.
وكانت المشاجرات والمعارك وأعمال الشغب من الأحداث اليومية في تلك الأيام. وكان النبلاء المزهوون يتعاركون معا، أو يحيك كل منهم المكائد للآخر. وكان هناك اللصوص والمتسولون المحترفون والمغامرون والأوغاد الذين دأبوا على تعكير صفو حياة كل فرد. وكان المواطنون يتصدون دائما لأولئك المتجولين للشر، وكثيرا ما قاتلوا النبلاء، ولكنهم لم يقاتلوا الكاردينال قط.
إذن، فمن الطبيعي أن يثور فضول شعب ميونغ، حين يسمعون ضجيجا عاليا بقرب فندق «جولي ميلر»، وأن يتسلحوا بكل ما يمكنهم استخدامه من أسلحة، ويندفعوا نحو الفندق، حيث تتزايد حشود الناس سريعا، يصيحون جميعا ويصخبون. ولم يكن من الصعب اكتشاف سبب الاضطراب.
كان سبب تلك المتاعب رجلا في الحلقة الثالثة من عمره، ولا شك في أنه كان من أهالي غسقونيا، فمن السهل معرفته من عينيه الذكيتين الواسعتين، وأنفه الدقيق. وقد يظنه ذو العين المجربة ابن مزارع يقوم برحلة، لولا السيف الطويل المتدلي إلى جانبه.
وقد لفت حصانه أنظار كل من رآه. كانت سنه تتراوح بين اثنتي عشرة أو أربع عشرة سنة، وكان مغطى بشعر أصفر اللون، وذيله خاليا تماما من الشعر، وكان يسير مطأطئ الرأس لأسفل من مستوى ركبتيه. ورغم ذلك، أفلح في أن يسير المسافات المقررة عليه في كل يوم.
لم يستطع دارتانيان، وهذا هو اسم الشاب، أن يخفي منظره المضحك وهو ممتط صهوة مثل ذلك الحصان، رغم كونه فارسا ماهرا؛ لذا فقد تنهد عميقا عندما قبله هدية من أبيه في ذلك الصباح.
قال السيد الغسقوني: «أي بني، ولد هذا الحصان في إسطبلي منذ حوالي ثلاثة عشر عاما، وخدمني بإخلاص منذ ذلك الحين. وهذه الحقيقة يجب أن تكون مدعاة لسرورك أن يكون ملكا لك.»
استطرد والد دارتانيان قائلا: «وحيث إنك، يا ولدي، ستشق طريقك في الحياة، فضع نصب عينيك أن تحافظ على مكانتك، ولا تتقبل النقد من أي شخص، باستثناء الكاردينال والملك. ولا تخش المعارك أبدا، وابحث عن المغامرة. وقد علمتك كيف تستخدم السيف. وعليك بالقتال في جميع المناسبات.»
وأضاف الرجل العجوز: «بمجرد أن تبلغ باريس، اذهب بهذا الخطاب وسلمه بنفسك للسيد تريفي؛ إذ كان هذا السيد، فيما مضى، جاري، وحظي بشرف اختياره رفيقا لملكنا قبل اعتلائه العرش. إنه الآن قائد الفرسان؛ أي قائد حرس الملك الشخصي.
علاوة على هذا، فالسيد دي تريفي يربح عشرة آلاف كارون راتبا سنويا له، ولذا فهو يعد من النبلاء العظماء. لقد بدأ حياته مثلما تبدؤها أنت. اذهب إليه بهذا الخطاب، واتخذه قدوتك حتى تنجح مثله. ليس لدي ما أعطيكه، يا بني، سوى خمسة عشر كراونا، وحصاني، والنصيحة التي سمعتها الآن. انتهز كل فرصة سانحة، وعش سعيدا وطويلا.»
بعد ذلك، علق السيد دارتانيان سيفه على حمالة ابنه، وقبله في وجنتيه وباركه.
الفصل الثاني
إهانة وتحد
حين وصل دارتانيان إلى ميونغ، ترجل عند باب فندق جولي ميلر. ولاحظ أثناء ترجله، رجلا رزين المنظر، يقف عند نافذة نصف مفتوحة بالطابق الأرضي، ويتكلم إلى شخصين آخرين خلفه بالحجرة، ويصغيان إليه باحترام غير عادي. وبطبيعة الحال، ظن دارتانيان أنه موضوع الحديث، خاصة وأن الرجل كان يتطلع إليه بين الفينة والأخرى؛ لذا أصاخ دارتانيان السمع إلى ما يقال.
والواقع أنه كان مخطئا بعض الشيء؛ إذ إن الرجل كان يتحدث عن صفات الحصان، وكثيرا ما كان الرجلان اللذان يصغيان إليه يضحكان بين آونة وأخرى. وإذا كانت نصف ابتسامة تكفي لإثارة طباع ذلك الرجل السريع الغضب، فمن السهل أن نتصور مدى الأثر الذي نشأ عن ذلك الأمر.
في تلك اللحظة عينها، أبدى الرجل ملاحظة دعابية ساخرة عن الحصان، فقهقه الاثنان الآخران بصوت يعلو على صوت ضحكهما السابق. غير أنه، هو نفسه، لم يظهر أكثر من ابتسامة بسيطة على وجهه. وهنا أحس دارتانيان، في هذه المرة، أنه قد أهين. وإذ اقتنع بهذا، تقدم وقد وضع إحدى يديه على مقبض سيفه، وأسند الأخرى على خاصرته، وصاح قائلا: «اسمع، يا سيدي، يا من تخفي نفسك وراء ذلك المصراع. أخبرني عما يضحكك، فنضحك معا.»
أدار الرجل عينيه ببطء، من الحصان إلى صاحبه، وكأنه يحتاج إلى بعض الوقت ليتأكد مما إذا كانت هذه الملاحظات موجهة إليه. وبعد ذلك، عندما لم يصبح لديه شك في هذه الحقيقة، قطب جبينه، ورد على دارتانيان بغير اكتراث، قائلا: «لم أكن أتحدث عنك!»
غضب دارتانيان أكثر من ذي قبل، من هذه السخرية، وقال: «ولكني أتحدث إليك.»
نظر إليه الرجل مرة أخرى، وعلى شفتيه شبح ابتسامة باهتة، وغادر النافذة. ولما غادر الفندق، تقدم نحو الحصان، وبينه وبين دارتانيان خطوتان.
واستأنف الرجل المجهول كلامه، قائلا: «من المؤكد، أو من المرجح أن هذا الحصان كان في شبابه أقحوانة برية صفراء!» وتوجه بكلامه إلى الرجلين اللذين كانا لا يزالان عند النافذة، متجاهلا دارتانيان تماما: «إنه لون معروف جيدا بين الزهور، غير أنه حتى الآن، نادر جدا بين الخيول.»
صاح الشاب: «هناك من يضحكون من حصان، ولكنهم لا يتجاسرون على الضحك من صاحبه!»
قال الرجل المجهول: «أنا لا أضحك كثيرا، يا سيدي، وربما تكون قد لاحظت ذلك، ورغم ذلك، فأنا أضحك عندما يحلو لي أن أضحك.»
صاح دارتانيان: «وأنا، عندما يحلو لي، لن أسمح لأي رجل بأن يضحك!»
واصل الرجل الوقور كلامه في هدوء: «أهو ذاك ، يا سيدي؟» واستدار ليدخل الفندق. «استدر! استدر أيها المهرج، وإلا ضربتك من الخلف!»
قال الآخر وهو يستدير وينظر إلى ذلك الشاب بدهشة وسخرية: «تضربني! لماذا، يا زميلي العزيز؟ لا بد أنك مجنون!» ثم أضاف بصوت خفيض، وكأنه يحادث نفسه: «هذه إساءة بالغة!»
ما كاد الرجل ينتهي من قوله هذا، حتى هجم عليه دارتانيان ثائرا، ولو لم يرتد الرجل إلى الخلف سريعا، لكانت هذه آخر مرة يمزح فيها. ولما رأى أن ذلك الشاب كان جادا حقيقة، استل سيفه ووقف في موقف استعداد. غير أنه، في هذه اللحظة عينها، خرج الرجلان اللذان كانا في الفندق، ومعهما صاحب الفندق، وانهالوا على دارتانيان ضربا بالهراوات. ولما استدار دارتانيان ليواجه وابل الضربات هذا، أعاد الرجل المجهول سيفه إلى غمده بهدوء. وبدلا من أن يشارك في القتال بحماس، وقف متفرجا.
ظل الرجل المجهول هادئا غير منزعج، وردد لنفسه: «اللعنة على هؤلاء الغسقونيين! ضعوه على حصانه الأصفر، وأرسلوه إلى حال سبيله.»
صاح دارتانيان بشجاعة: «ليس قبل أن أقتلك أيها الجبان!»
ووقف راسخا أمام مهاجميه الذين ظلوا يمطرونه بالضربات.
قال الرجل الوقور: «بشرفي، إن هؤلاء الغسقونيين يتصرفون بدون وعي! إذن استمروا فيما تفعلون، ما دام يريد هذا، فإذا ما كل، فسيصرخ معلنا بأنه نال كفايته.»
بيد أن الرجل المجهول لم يعرف ذلك الشخص العنيد، الذي كان عليه أن يتعامل معه؛ فلم يكن دارتانيان هو ذلك الرجل الذي يستسلم أو يطلب الرحمة. وعلى ذلك استمر القتال حتى سقط سيفه مكسورا بضربة عصا هائلة، وطرحته ضربة أخرى على رأسه أرضا مضرجا بالدم، فاقدا الوعي.
في تلك اللحظة، أقبل الناس من كل حدب وصوب إلى مسرح القتال؛ وإذ خشي صاحب الفندق العواقب، حمل الرجل الجريح إلى المطبخ، حيث أمر بغسل جراحه وتضميدها.
الفصل الثالث
ميلادي تقابل الرجل المجهول وتتلقى التعليمات
عاد السيد إلى حجرته، وأخذ يراقب الجموع من النافذة بقلق؛ إذ كان من الجلي أن عدم انصرافهم ضايقه.
سأل الرجل المجهول صاحب الفندق، الذي جاء ليستفسر عما إذا كان ضيفه قد لحقه أذى: «كيف حال هذا المجنون؟»
أجاب: «أرجو أن تكون فخامتكم سليما وفي مأمن!» «نعم! أنا بخير تماما، وسليم تماما. ماذا صارت إليه حال ذلك المتهور الأرعن؟»
أجاب صاحب الفندق: «إنه أحسن حالا. أغمي عليه فقط.»
قال السيد: «أصحيح ما تقول؟» «ولكنه استجمع كل قواه، قبل أن يفقد وعيه مباشرة، معلنا نزالك وتحديك، قائلا إنه لو حدث مثل ذلك الشيء في باريس، لجعلك تندم عليه أشد الندم.»
قال السيد: «إذن، فلا بد أن يكون أميرا متنكرا. ألم يذكر اسم أحد أثناء غضبه؟» «بلى. تحسس جيبه وقال سنرى ماذا يكون رد فعل السيد دي تريفي عن هذه الإهانة التي لحقت شخصا في حمايته.»
ردد الرجل المجهول باهتمام: «السيد دي تريفي!» ووضع يده على جيبه وهو ينطق باسم السيد دي تريفي، ثم أضاف: «والآن، يا عزيزي، ما دام هذا الرجل الصغير فاقدا الإحساس، فمن المؤكد أنك لم تفشل في معرفة ما في جيبه. ماذا كان به؟» «خطاب موجه إلى السيد دي تريفي قائد الفرسان.»
تمتم الرجل قائلا: «من يدري، ربما أرسل تريفي هذا الغسقوني الصغير ليعتدي علي! إنه أصغر من أن يفعل هذا، ولكن ضربة السيف هي ضربة السيف، مهما تكن سن الضارب! وعلاوة على هذا، فإن الشاب أقل عرضة لأن يشتبه فيه من الرجل الكبير.»
بعد ذلك، بقي يفكر مليا لبضع لحظات، ثم قال: «ألا يمكنك أن تتخلص من هذا الفتى المجنون؟ الحقيقة أنني لا أستطيع أن أقتله، ولكنه يضايقني. أين هو؟» «في حجرة بالدور الأول، حيث تضمد جراحه.» «هل معه أشياؤه وحقيبته؟ هل خلع صداره؟» «كل شيء في المطبخ. ولكن إذا كان يضايقك هذا الفتى الأرعن ...!» «من المؤكد جدا أنه يضايقني؛ فقد أحدث اضطرابا في فندقك، والناس المحترمون لا يحبون ذلك. اذهب، وأعد فاتورتي، وأخبر بها خادمي.» «ماذا، يا صاحب الفخامة؟ هل ستتركنا هكذا سريعا؟» «كنت تعلم أنني سأنصرف؛ إذ أعطيت الأوامر بإسراج حصاني، ألم تنفذ؟» «نفذت أوامرك حرفيا، كما قد تكون فخامتك قد لاحظت، وحصانك في الممر أمام الباب ، وعليه السرج.» «إذن، أحضر فاتورتي.»
انحنى صاحب الفندق بتواضع إثر لمحة آمرة من السيد، وغادر الحجرة.
تمتم الغريب لنفسه قائلا: «ليس من الضروري أن يرى هذا الشخص ميلادي؛ إذ سرعان ما ستكون هنا. لقد تأخرت فعلا. من الأفضل أن أمتطي الحصان وأسرع لملاقاتها، ولكني أود أن أعرف ماذا يحويه الخطاب الموجه إلى السيد دي تريفي.» ثم سار ببطء نحو المطبخ.
في الوقت نفسه، صعد صاحب الفندق إلى دارتانيان، فوجده قد استعاد وعيه لتوه، فأخبره بأن الشرطة ستعامله بقسوة لعراكه مع لورد عظيم - إذ يبدو من هيئة الرجل أنه لا يمكن أن يكون سوى لورد عظيم - وأصر على وجوب انصراف دارتانيان بأسرع ما يمكن. ونزل دارتانيان وهو لا يزال شبه فاقد للوعي، ورأسه مضمد، إلى الطابق الأرضي. ولما أطل من النافذة، أبصر السيد المجهول يتحدث بهدوء إلى شخص ما في عربة يجرها حصانان جميلان.
وأمكنه أن يرى الشخص الذي كان يتحدث إليه الرجل المجهول، رآه بوضوح من خلال نافذة العربة. كانت امرأة من الطبقة الراقية، في حوالي الثانية والعشرين من عمرها. رأى دارتانيان، في لحظة، أن هذه المرأة شديدة الحسن؛ بيضاء البشرة، تتدلى على كتفيها خصلات شعر مسترسلة، ذات عينين نجلاوين زرقاوين حالمتين، وشفتاها ورديتان، ويداها بضتان ناعمتان. كانت تتحدث إلى الرجل المجهول بطريقة عصبية.
قالت السيدة: «إذن، فإن فخامته يأمرني ...» «بأن تعودي فورا إلى إنجلترا، يا ميلادي، وتخطريه مباشرة بأن يغادر دوق بكنجهام لندن.»
سألت المرتحلة الحسناء: «وفيما يختص بتعليماتي الأخرى؟» «يضمها هذا الصندوق، الذي يجب ألا تفتحيه حتى تصلي إلى إنجلترا.» «حسن جدا. وأنت ماذا ستفعل؟» «سأعود إلى باريس.»
سألت السيدة: «ماذا؟ ألن تعاقب أولا هذا الغلام الوقح؟»
في اللحظة نفسها، التي كان الرجل المجهول سيجيب عليها، اندفع دارتانيان خارجا، وقد سمع ما قالته، فصاح قائلا: «هذا الغلام الوقح هو الذي يعاقب غيره، وآمل في هذه المرة، ألا يفلت مثلما أفلت من قبل.»
ردد الرجل المجهول عابسا: «لن يفلت منه؟» «لن يفلت؛ إذ أعتقد أنه لن يجرؤ على الفرار أمام امرأة!»
قالت ميلادي للرجل المجهول، وهو يضع يده على مقبض سيفه: «تذكر أن أقل تأخير سيفسد كل شيء.»
صاح الرجل: «أنت على حق. انصرفي الآن في طريقك، وسأذهب أنا في طريقي بأسرع ما يمكنني.» وانحنى للسيدة، ثم قفز إلى سرجه، فانصرفت عربتها على الفور.
وهكذا افترق المتكلمان متخذين جهتين متضادتين بأسرع ما في مكنتهما.
صاح صاحب الفندق، الذي تغير رأيه في ذلك المرتحل عندما أبصره ينصرف دون أن يسدد حسابه، قائلا: «الحساب!»
قال الرجل المجهول لخادمه: «ادفع له!»
وألقى الخادم بعدة قطع من النقود الفضية إلى صاحب الفندق، وأسرع يركض بحصانه خلف سيده.
صاح دارتانيان وهو يقفز إلى الأمام: «أيها الجبان! أيها السيد الزائف!» وعند ذلك أنهكه جرحه، فما كاد يسير عشر خطوات حتى أغمي عليه مرة أخرى، وسقط في الشارع وهو لا يزال يصيح: «أيها الجبان! أيها الجبان!»
عقب صاحب الفندق قائلا: «الحق معك؛ فهو في الحقيقة جبان!» ظانا أن قليلا من التملق لن يضيره شيئا.
وهمس دارتانيان: «نعم، إنه لجبان، ولكنها هي جميلة جدا!»
سأله صاحب الفندق: «من تكون هي؟»
قال دارتانيان وهو يغمى عليه: «ميلادي.»
الفصل الرابع
بحث دارتانيان عبثا عن خطاب التوصية يوحي لصاحب الفندق بفكرة
في الصباح التالي، وضعت ضمادات جديدة لجراح دارتانيان. ولا شك أنه بفضل شبابه، وربما أيضا لعدم وجود طبيب، أخذ يتجول في ذلك المساء، واسترد عافيته في اليوم التالي. وعندما حان وقت سداد فاتورته، كان المبلغ الوحيد المدين به للفندق، هو أجر حجرته، مع وجبة واحدة، بالإضافة إلى أجر الضمادات. ومن ناحية أخرى، تبعا لقول صاحب الفندق، أكل حصانه ثلاثة أضعاف ما يستطيع حصان آخر من نفس حجمه أن يأكل عادة. ولم يجد دارتانيان شيئا في جيوبه، باستثناء نقوده. أما الخطاب الموجه للسيد دي تريفي، فقد اختفى!
وراح يبحث عن الخطاب بصبر عظيم، وأفرغ جيوبه وبحث في حقيبته مرارا. ولما أدرك أخيرا أنه لن يعثر على الخطاب، استشاط غضبا وثار. وعندما رأى صاحب الفندق أن ذلك الشاب المتسرع الأرعن سيحطم كل شيء في الفندق، إن لم يجد خطابه، أمسك بقضيب حديدي، وأمسكت زوجته بيد مكنسة، وأمسك الخدم بالعصي التي استخدموها في اليوم السابق.
صاح دارتانيان قائلا: «خطاب التوصية الخاص بي! خطاب التوصية، وإلا فإنني أقسم أنني سأمزقكم جميعا إربا إربا!»
ولسوء الحظ، كانت ثمة عقبة كئود تحول دون تنفيذ هذا التهديد؛ فإن سيف دارتانيان قد كسر نصفين، ونسي هو هذه الحقيقة؛ ولذلك، فعندما استله وجد نفسه مسلحا بقطعة من سيف طولها حوالي عشرين سنتيمترا، كان صاحب الفندق قد وضعها بعناية في غمد السيف. وما كان لهذا الأمر أن يوقف ذلك الشاب المتهور، لولا ما أعلنه صاحب الفندق، بأن طلب الخطاب منهم ليس عادلا تماما.
قال الرجل وهو يخفض القضيب الحديدي: «دعنا نفكر معا أين هذا الخطاب.»
صاح دارتانيان معقبا: «نعم، أين هو؟ إني أحذركم بأن ذلك الخطاب موجه للسيد دي تريفي، ويجب العثور عليه، فإن لم يعثر عليه، فسيعرف هو كيف يعثر عليه. أعدكم بذلك!»
حفز هذا التهديد صاحب الفندق للتحرك إلى العمل، فألقى بالقضيب الحديدي من يده، وأمر زوجته بأن تفعل نفس الشيء بيد المكنسة، والخدم بعصيهم، وبدأ يبحث بجدية عن الخطاب. ورغم ذلك، فلم يمض وقت طويل، حتى تذكر شيئا هاما، فصاح فجأة: «الخطاب لم يضع.»
قال دارتانيان دهشا: «ماذا؟» «نعم، بل سرق منك.» «سرق؟ ومن سرقه؟» «سرقه ذلك السيد الذي كان هنا بالأمس. نزل إلى هذه الحجرة التي تركت فيها صدارك، ومكث فيها بعض الوقت. ولا بد أنه سرقه.»
قال دارتانيان وهو لا يزال غير مقتنع: «أتظن ذلك؟»
استطرد صاحب الفندق قائلا: «أقول لك إنني متأكد من هذا تماما؛ فعندما أخبرته بأن سيادتكم في حماية السيد دي تريفي، وأنك تحمل لذلك الشخص النبيل خطابا، بدا عليه القلق الشديد؛ وسأل عن مكان الخطاب. وبعدها مباشرة نزل إلى حيث تركت صدارك وأشياءك.»
قال دارتانيان: «إذن فلا شك في أنه هو اللص. سأشكو إلى السيد دي تريفي، وسيشكو هو بدوره إلى الملك.» ثم أخرج كراونين، بعظمة، من كيس نقوده، وأعطاهما لصاحب الفندق، الذي رافقه إلى باب الفندق والقبعة في يده.
امتطى دارتانيان، من جديد، صهوة جواده الأصفر اللون، الذي حمله بدوره إلى باريس، وهناك باع حصانه بثلاثة كراونات. وهذا يعتبر ثمنا طيبا للغاية. وهكذا دخل هذا المغامر الشاب باريس على قدميه، حاملا متعلقاته القليلة في حقيبة تحت إبطه.
وبعد بحث غير طويل، وجد شقة للإيجار بسعر يناسب ماليته المحدودة. بعد ذلك، ذهب ليصنع نصلا جديدا لسيفه. وفي طريق عودته، سأل أول فارس أبصره عن مقر السيد دي تريفي الرئيسي، والذي اتضح أنه قريب من المسكن الذي استأجره.
وإذ كان مقتنعا بعد ذلك بالطريقة التي سلكها إلى ميونغ، دون أسف على ما مضى، وواثقا بالحاضر، ومفعما بالأمل في المستقبل؛ فقد أوى إلى فراشه، ونام نومة المقدام.
الفصل الخامس
إعجاب دارتانيان بطرق استخدام السيف فوق السلم، وإعجابه بحمالة سيف
كان فرسان الملك جماعة من الرجال البواسل المستهترين غير المهذبين تماما، وعلى استعداد لمواجهة أي شخص، فيما عدا رئيسهم السيد دي تريفي. كانوا يشاهدون في كل مكان يضحكون ويتكلمون بأصوات صاخبة، ويفتلون شواربهم، ويصلون بسيوفهم. وفوق كل شيء، كان يحلو لهم أكثر من أي شيء آخر أن يتحرشوا بحرس الكاردينال، حين يلتقونهم بمحض الصدفة. ولم يهتم أولئك الرجال بالقانون في قليل أو كثير، وكانوا دائما في قتال ونزال؛ يقتلون أحيانا، ولكنهم في أغلب الأحيان يقتلون. وكانوا على يقين من عدم بقائهم في السجن؛ إذ إن هناك السيد دي تريفي الذي يعمل على إطلاق سراحهم في الحال.
كان هؤلاء الرجال يقدسون السيد دي تريفي، ويمدحونه مديحا يكاد يصل إلى عنان السماء. ورغم كونهم لا يهابون أحدا، فإنهم كانوا يطيعون أي أمر يتفوه به السيد دي تريفي، وعلى استعداد تام للتضحية بالنفس والنفيس لغسل أقل إهانة تلحق به أو بالفرسان تحت إمرته. وكان مقر السيد دي تريفي في باريس يشبه معسكرا مسلحا في جميع الأوقات. كان به على الدوام خمسون أو ستون فارسا مجتمعين في الفناء وفي الممرات. وكانوا يتناوبون الحراسة فيما بينهم أثناء فترة راحتهم في القصر؛ ليظهروا قواهم في استعراض عظيم قدر الإمكان. يسيرون في كبرياء وخيلاء، مدججين بالسلاح، ومستعدين لأي شيء.
لما قدم دارتانيان نفسه، كان المجلس مهيأ بعظمة غير عادية، كأن شخصية عظيمة ستزور السيد دي تريفي، فلما اجتاز دارتانيان المدخل الضخم ذا الأبواب الكبيرة المغطاة بالمسامير المربعة الرءوس، وجد نفسه وسط عدد من السيافين، يمزحون ويتشاجرون بمرح، كل واحد مع الآخر، وهم لا يفسحون الطريق لأي شخص إلا إذا كان ضابطا أو نبيلا أو سيدة.
تقدم الشاب وسط هذه الضوضاء والفوضى الواضحة، وقلبه يخفق. وكلما اجتاز جماعة تنفس الصعداء. ولكن لم يسعه إلا أن يلاحظ أنهم كانوا يرمقونه بمتعة، فأحس دارتانيان المزهو، لأول مرة في حياته، بشيء من القلق. وعندما بلغ أول السلم الرحب الضخم زاد قلقه. كان ثمة أربعة فرسان يتسلون بألعاب السيوف، وعشرة فرسان، أو اثنا عشر فارسا، كانوا عند بداية السلم، ليأخذوا دورهم. وقف أحد هؤلاء الأربعة عند درجة سلم عليا مشهرا سيفه، ليمنع أو ليحاول منع الثلاثة الآخرين من الصعود، فانقض عليه الثلاثة الآخرون بسيوفهم المشرعة، إلا أن الفارس الواقف على درجة السلم العليا، أبعد عنه خصومه الثلاثة، بمهارة فائقة.
ويبدو أن القاعدة عندهم تنص على أنه إذا أصيب رجل، خطا جانبا، وحل محله آخر. وخلال خمس دقائق، جرح ثلاثة فرسان جروحا بسيطة، أحدهم في يده، وآخر في ذقنه، وثالث في أذنه، بواسطة الفارس المدافع عن السلم، على حين ظل هو نفسه دون أن يمسه أذى. لم يسبق لدارتانيان أن شاهد مثل هذه المهارة، ولا مثل هذه الجرأة.
وأخيرا لاحظوه، فجاءه رسول وسأله عما يريد، فذكر اسمه باحتشام، والتمس مقابلة قصيرة مع السيد دي تريفي، فوعده الرسول بتوصيل هذه الرسالة إلى القائد، وعند ذاك، غدا دارتانيان حرا في أن يتطلع إلى ما حوله. وكان في وسط هذه الجماعة البالغة النشاط والحيوية، فارس يبدو عليه الغرور، فارع الطول، يرتدي ثيابه بطريقة تختلف عن طرق الآخرين؛ لجذب الانتباه العام. لم يلبس هذا الفارس الزي الرسمي الذي يرتديه الآخرون ، وإنما كان يلبس صدارا أزرق بلون السماء، باهتا وباليا بعض الشيء، وفوقه حمالة سيف رائعة المنظر، مطرزة بخيوط ذهبية تتألق كما يتألق الماء تحت أشعة الشمس، ويتدلى من كتفيه العريضتين معطف طويل من القطيفة القرمزية اللون، مفتوح من الأمام ليبين الحمالة التي يتدلى منها أضخم سيف رآه دارتانيان في حياته.
ويبدو أن هذا الفارس انفصل حديثا من حرس القصر. وكان يعاني من نزلة برد، ويسعل من آن لآخر ليبرهن على إصابته بالبرد. وأخبر من حوله بأنه ارتدى المعطف ليدرأ هذا البرد عنه. وبينما هو يتكلم هكذا بلهجة ازدراء، ويفتل شاربه في خيلاء، أبدى الجميع إعجابهم بحمالة سيفه المزخرفة في إفراط، كما أعجب بها دارتانيان أكثر من غيره.
قال المدعو بورثوس: «أقسم بشرفي أنني اشتريتها بنفسي، بكل ما كان في كيس نقودي!»
عقب أحد الفرسان متهكما: «ربما؛ فقد اشتريت أنا كيس النقود هذا بنفس الطريقة، بكل النقود التي وضعها شخص آخر في كيس نقودي القديم!»
قال بورثوس: «هذا حقيقي، والدليل على ذلك أنني دفعت فيه اثني عشر بستولا،
1
أليس كذلك، يا أراميس؟» واستدار، وهو يتكلم، نحو فارس آخر. وكان هذا الفارس الذي استشهد به ليصدق على قوله، على نقيض بورثوس تماما؛ فهو شاب في حوالي الثالثة والعشرين من عمره، قلما يتكلم، وإذا تكلم فببطء وفي هدوء، وكثيرا ما كان ينحني احتراما لغيره بطريقة نبيلة تدل على حسن التربية. أجاب على استشهاد صديقه به، بإيماءة من رأسه، رغم أنه من المشكوك فيه أنه قد أصغى أساسا إلى كلام بورثوس.
وعلى ما يبدو فإن هذا التصديق قد أزال جميع الشكوك عن أصل حمالة السيف الفاخرة. ورغم أن الفرسان لم يزالوا يعجبون بها، فقد انتقل الحديث إلى موضوعات أخرى.
بعد ذلك بوقت قصير، خرج رسول من مكتب السيد دي تريفي، وصاح قائلا: «السيد دي تريفي ينتظر السيد دارتانيان.»
عند هذا الإعلان، الذي في أثنائه بقي باب المكتب مفتوحا، وقف الجميع صامتين. وفي وسط هذا السكون، عبر ذلك الرجل البهو بطوله، ودخل مكتب قائد الفرسان .
الفصل السادس
استقبال دارتانيان استقبالا رسميا وسماعه أكثر مما كان متوقعا أن يسمع
في تلك اللحظة، كان السيد دي تريفي عصبي المزاج، إلا أنه رحب بالشاب دارتانيان في أدب، على حين انحنى له دارتانيان انحناءة شديدة. وابتسم السيد دي تريفي عند سماعه أولى كلمات دارتانيان؛ فقد ذكرته طريقة الكلام الغسقونية بأيام صباه، وبموطنه، ولكنه أشار إليه بأن ينتظر لحظة، وخطا نحو الباب، ونادى بصوت آمر مرتفع: «آثوس! بورثوس! أراميس!»
ولبى فارسان النداء في الحال، وتركا زملاءهما، وأسرعا إلى المكتب.
أخذ السيد دي تريفي يذرع أرض الحجرة جيئة وذهابا في صمت، وقد قطب ما بين جبينه. وكان في كل مرة يمر في صمت أمام بورثوس وأراميس اللذين وقفا منتصبي القامة صامتين، وكأنهما تمثالان. ثم وقف فجأة أمامهما تماما، وشرع ينظر إليهما من رأسيهما إلى أخمص أقدامهما، نظرة شزراء غاضبة.
صاح قائلا: «أتعرفان ماذا قال لي الملك مساء أمس فقط؟ أتعرفان، يا سادة؟»
أجاب الاثنان بعد لحظة سكوت: «لا، يا سيدي، لا نعرف.» «أخبرني بأنه سيختار فرسانه، في المستقبل، من بين حرس الكاردينال.»
شرق وجه الفارسين غضبا من هذه الإهانة. وأحس دارتانيان بالقلق الشديد، وتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته.
استطرد السيد دي تريفي كلامه بغضب وحدة، فقال: «كان جلالته على حق! فبينما كنت ألعب الشطرنج معه، بالأمس، روى الكاردينال كيف أحدثتم اضطرابا، أيها الفرسان المستهترون! أنتم أيها الثرثارون! وظننته سيلحق بي إهانة، ويضطر حرسه إلى القبض عليكم. يا لرحمة السماء! لا بد أنكم تعرفون شيئا عن هذا الموضوع. يقبضون على فرساني! ألم تكونا هناك ضمنهم. لا تنكرا أنكما كنتما هناك، لقد تعرفوا عليكما، وذكر الكاردينال اسميكما.
وأنت، يا أراميس، لماذا ارتديت الحلة الرسمية وأنت لا تصلح إلا لأن تدرس في مدرسة للصغار؟ وأنت، يا بورثوس، أتعلق في حمالتك الجميلة سيفا من القش؟ وآثوس، لست أرى آثوس؟ أين هو؟»
أجاب أراميس بصوت حزين: «إنه جد مريض يا سيدي. مريض للغاية.» «مريض؟ أتقول مريض للغاية؟»
أجاب بورثوس: «يخشى أن يكون كذلك، يا سيدي.» قال هذا وهو لا يرغب في أن يفوته الحديث. «مريض! لا أصدق هذا. من المحتمل جدا أنه جرح، أو ربما قتل. آه لو عرفت! «لا أريدكم، أيها السادة، أن تذهبوا كثيرا إلى الحانات، ولا أن تحدثوا ذلك العراك في الشوارع، ولا أن تستخدموا السيف وسط جموع الشعب. وأخيرا، لن أسمح بأن تهيئوا لحرس الكاردينال فرصة السخرية منكم! ادفعوا عن أنفسكم وصمة الهروب والفرار؛ فهذا شيء جميل يقال عن فرسان الملك، فرساني.»
ارتجف بورثوس وأراميس غضبا لهذه الإهانة. كان بوسعهما أن يقتلا السيد دي تريفي، لو لم يعرفا محبته العظمى لهم؛ لفرسانه، ولما سمحا له بأن يكلمهم بهذه الطريقة.
استأنف السيد دي تريفي كلامه وهو ثائر مثل جنوده، فقال: «فكروا في هذا الأمر. ماذا يعني أن يقبض ستة من حرس الكاردينال على ستة من فرساني؟ يا لرحمة السماء! سأذهب رأسا إلى القصر وأقدم استقالتي للملك، ثم أنضم إلى حرس الكاردينال (قالها وهو ينظر مباشرة إلى أراميس) وإذا رفضها، فسأعتزل!»
قال بورثوس، وهو لا يكاد يتمالك نفسه: «حسن يا سيدي. حقيقة، كنا ستة ضد ستة، ولكن لم يقبض علينا بوسائل عادلة! لقد باغتونا قبل أن نستل سيوفنا، فقتل اثنان من فريقنا، وجرح آثوس جرحا بليغا. وإنك لتعرف آثوس، يا سيدي، فهو ليس جبانا. ولكننا لم نستسلم، وإنما جرونا بالقوة في الطريق، ورغم ذلك، أمكننا أن نهرب. وقد اعتقدوا أن آثوس قتل، فتركوه ظانين أنه لا يستحق مشقة حمله. هذه هي القصة كلها. وأنت تدرك، يا سيدي، أن ليس بوسع المرء أن يكسب كل معاركه!»
قال أراميس: «بمقدوري أن أؤكد لك أنني قتلت واحدا منهم، بسيفه هو، إذ كسر سيفي من أول ضربة.»
قال السيد دي تريفي بلهجة أقل حدة: «لم أكن أعرف ذلك. أعتقد أن الكاردينال قد بالغ كما يفعل دائما.»
قال أراميس: «ولكني أرجوك، يا سيدي، ألا تذكر شيئا عن جرح آثوس؛ فقد يتطرق إليه اليأس إن سمع الملك بذلك، فالجرح بليغ ويخشى ...»
في تلك اللحظة، رفع الستار الذي يحجب الباب، وظهر وجه نبيل وأنيق، ولكنه شاحب اللون بصورة لافتة.
صاح الفارسان: «آثوس!»
صاح السيد دي تريفي: «آثوس!»
قال آثوس للسيد دي تريفي، بصوت واهن، ولكنه كامل الهدوء: «أأرسلت في طلبي، يا سيدي؟ لقد أخبرني رفقائي بذلك، فهرعت لأتلقى أوامرك.» وكان مرتديا ملابسه بصورة صحيحة، ودخل الغرفة بخطى وئيدة.
وإذ تأثر السيد دي تريفي بدليل الشجاعة والإقدام هذا، تقدم نحوه وقال: «كنت أوشك على إخبار هذين السيدين بأنني أحظر على فرساني تعريض حياتهم للخطر بغير داع؛ فالرجال الشجعان لديهم مكانة خاصة عند الملك، وهو يعلم أن فرسانه أشجع رجال على الأرض.»
كان تأثير مجيء آثوس قويا على الحضور، لدرجة أن اجتمع حشد خارج الباب نصف المفتوح. ورغم أن جميع الفرسان يعلمون بجرحه، فقد احتفظ به سرا على الآخرين، قدر المستطاع. فلما سمعوا كلمات قائد الفرسان الأخيرة، لم يستطيعوا كبت تعبيرهم عن الرضا. ولاحت عدة رءوس من خلف الستار. وكان السيد دي تريفي موشكا على أن يتحدث إليهم بغلظة، لافتقارهم إلى الأدب والنظام، لولا أن آثوس سقط على الأرض مغشيا عليه.
صاح السيد دي تريفي: «طبيب! طبيبي! طبيب الملك! أمهر طبيب يمكن الحصول عليه!»
واندفع عدد من الفرسان إلى داخل الغرفة، واحتشدوا حول الرجل الجريح. ولحسن الحظ، كان الطبيب المطلوب موجودا في ذلك المبنى، فشق طريقه وسط الجمع، وطلب نقل الفارس إلى حجرة أخرى، ففتح السيد دي تريفي بابا جانبيا، وأشار إلى بورثوس وأراميس اللذين حملا زميلهما في الحال.
عاد بورثوس وأراميس مباشرة، تاركين الطبيب والسيد دي تريفي، وحدهما مع آثوس.
بعد فترة وجيزة، عاد السيد دي تريفي نفسه، وأخبرهم جميعا بأن حالة الفارس مطمئنة وليس فيها ما يدعو إلى القلق، وأن ضعفه، يرجع ببساطة، إلى ما فقده من دم.
أشار السيد دي تريفي، بعد ذلك بيده، فغادر الجميع المكتب، ما عدا دارتانيان الذي لم ينس أن لديه مقابلة رسمية، وهكذا بقي في مكانه بعزيمة الرجل الغسقوني.
الفصل السابع
دارتانيان يتلقى نصيحة طيبة من السيد دي تريفي لكنه لا يعيرها كثير التفات
عندما خرج الجميع، وأقفل الباب، استدار السيد دي تريفي، فوجد نفسه وحيدا مع دارتانيان.
قال وهو يبتسم: «عفوا! عفوا، فقد نسيتك تماما. ماذا بوسعي أن أفعل؟ ليس القائد بأقل من رب أسرة، يحمل مسئولية ربما أكثر من مسئولية أي أسرة عادية.»
ابتسم دارتانيان، فحكم السيد دي تريفي، من هذه الابتسامة، على أن زائره ليس غبيا. وعلى ذلك غير مجرى الحديث، ودخل في الموضوع مباشرة.
قال: «إنني أحترم أباك كثيرا، فماذا بوسعي أن أفعل للابن؟ أرجوك أن تتكلم سريعا، فوقتي ليس ملكا لي.»
قال دارتانيان: «أتيت إلى هنا، يا سيدي، كي أكون في زمرة الفرسان. ولكن بعد كل ما رأيت في هذا الصباح، فإنني أرتجف خشية ألا أكون جديرا بها.»
قال السيد دي تريفي: «حسن، أيها الشاب. إنها في الحقيقة حظوة، ولكنها قد تكون أبعد من آمالك، على عكس ما يبدو لك. وبالطبع، فإن قرار جلالته ضروري دائما، ولكن يجب أن تبرهن أولا على جدارتك في عدة معارك، أو بالخدمة المقبولة لمدة سنتين في كتيبة ما، أقل درجة من كتيبتنا.»
واستطرد قائلا: «ولكن، إكراما لرفيقي السابق، أبيك، سأفعل لك شيئا؛ فإني أعتقد أنك لم تحضر معك نقودا كثيرة.»
استجمع دارتانيان نفسه وتكلم بلهجة الفخور، قائلا في وضوح: «إنني لم آت لأطلب صدقة من أي إنسان.»
قال السيد دي تريفي: «هذا كله حسن جدا، يا عزيزي الشاب! هذا كله حسن. أعرف شيمة أولئك الغسقونيين، فأنا نفسي جئت إلى باريس وفي كيس نقودي أربعة كراونات ليس غير. وكنت على استعداد لمواجهة أي شخص يتجاسر على أن يقول إنني لست في موقف يمكنني من شراء متحف اللوفر!»
وأضاف قائلا: «يجب أن تحافظ على ما معك من نقود مهما يكن المبلغ الذي بحوزتك ضخما. وسأكتب خطابا لمدير الأكاديمية الملكية، وسيقبلك غدا دون أية نفقات أو أعباء. لا ترفض هذه الخدمة البسيطة؛ فأحيانا يطلبها رجال نبلاء المولد، كما يطلبها أغنى الرجال دون استطاعتهم الحصول عليها! ستتعلم ركوب الخيل، واستخدام السيف، وكيف تسلك وسط المجتمع، وستتخذ أصدقاء تحتاج إليهم وترغب فيهم. ويمكنك أن تأتي لزيارتي بين الفينة والفينة، لتخبرني كيف تسير، ولتعلمني ما إذا كان بوسعي أن أكون ذا فائدة لك.»
قال دارتانيان: «يؤسفني، يا سيدي، أن أقول كم يحزنني ضياع خطاب التوصية الذي أعطانيه أبي لأقدمه لك.»
قال السيد دي تريفي: «يدهشني كثيرا أنك تتكبد مثل هذه الرحلة الطويلة بدون مثل ذلك الخطاب الضروري لنا، نحن الغسقونيين المساكين.» «كان معي، يا سيدي، ولكنه سرق مني.»
وحكى دارتانيان بعد ذلك ما حدث له في ميونغ، ووصف الرجل المجهول بدقة وصدق أمتعا السيد دي تريفي.
قال السيد دي تريفي بعد تفكير عميق: «هذا كله غريب جدا. أقلت إنك ذكرت اسمي؟» «أجل، يا سيدي، يقينا اقترفت ذلك الخطأ، ولكن لم لا أفعل ذلك؟ فاسم مثل اسمك حماية لي في طريقي.»
قال السيد دي تريفي: «أخبرني، هل بوجنة ذلك الرجل أثر لجرح صغير؟» «أجل.» «وهل هو قبيح الطلعة؟» «أجل.» «وفارع الطول؟» «نعم.» «ذو بشرة باهتة، وشعر بني اللون؟» «نعم، نعم، هو ذاك. كيف عرفت ذلك الرجل، يا سيدي؟ أقسم إن عثرت عليه مرة أخرى، وسأعثر عليه، أن ...»
قاطعه السيد دي تريفي بقوله: «هل كان ينتظر سيدة؟» «أجل، وانصرف مباشرة بعد أن تحدث معها.» «أتعرف موضوع حديثهما؟» «أعطاها صندوقا وأخبرها بأنه يحتوي على التعليمات، وأنها يجب ألا تفتحه حتى تصل إلى إنجلترا.» «هل كانت سيدة إنجليزية؟» «كان يخاطبها بقوله ميلادي.»
ردد السيد دي تريفي: «إنه هو، لا بد أنه هو. ظننته في بلجيكا.»
صاح دارتانيان قائلا: «أي سيدي، إن كنت تعرف من هو ذلك الرجل فأخبرني؛ إذ إن ما أريده، قبل كل شيء، هو أن أعاقبه.»
قال السيد دي تريفي: «احذر، أيها الشاب! وإن رأيته قادما على أحد جوانب الطريق، فاذهب إلى الجانب الآخر. لا تلق بنفسك على مثل هذه الصخرة الوعرة!»
عقب دارتانيان بقوله: «لن توقفني فكرة قوته إن عثرت عليه.»
قال السيد دي تريفي بلهجة صارمة: «في هذا الوقت، خذ بنصيحتي ولا تبحث عنه. والآن، أيها الشاب، لا أستطيع في هذه اللحظة أن أفعل لك إلا ما قدمته لك الآن. سيكون مكتبي مفتوحا لك. ويسعدني أن تطلبني في أي وقت، واعمل على أن تنتهز جميع الفرص، فربما تحصل على بغيتك.»
قال دارتانيان: «هذا يعني أنك ستنتظر حتى أبرهن على جدارتي.» ثم انحنى لكي ينصرف، فاستوقفه السيد دي تريفي قائلا: «انتظر دقيقة. لقد وعدتك بخطاب لمدير الأكاديمية الملكية، فهل ستقبله أم ستتعالى عليه؟»
قال: «لا، يا سيدي، وأعدك بألا يسرق مني مثلما سرق الآخر.»
ابتسم السيد دي تريفي لهذا التباهي، وتركه عند النافذة حيث كانا يتحدثان، وجلس إلى مكتبه ليكتب خطاب التوصية، على حين أخذ دارتانيان ينظر من النافذة إلى الفرسان وهم يذهبون ويجيئون في الشارع.
نهض السيد دي تريفي بعد أن كتب الخطاب وختمه، وتقدم إلى الشاب ليعطيه إياه، ولكن في تلك اللحظة التي مد دارتانيان فيها يده ليتسلم الخطاب، فوجئ السيد دي تريفي بدارتانيان يقفز فجأة، وقد استشاط غضبا، ويندفع خارجا من الغرفة، وهو يصيح بقوله: «لن يفلت مني في هذه المرة!»
سأله السيد دي تريفي: «من هو؟»
فصاح دارتانيان: «إنه سارقي. يا له من وغد!»
الفصل الثامن
كتف آثوس وحمالة بورثوس
اندفع دارتانيان في حالة هياج شديدة نحو السلم، محاولا أن يهبط أربع درجات في كل مرة. ولسوء حظه اصطدم - في عجلته - بأحد الفرسان وهو يغادر إحدى حجرات السيد دي تريفي الخاصة، وصدمه صدمة عنيفة في كتفه، جعلته يطلق صرخة عالية.
قال دارتانيان معتذرا، وهو يحاول الاستمرار في طريقه: «عفوا! عفوا! ولكني متعجل.»
وما كاد يهبط أولى درجات السلم، حتى أمسكت بحزامه يد حديدية وأوقفته.
قال الفارس وهو يكاد يتميز غيظا: «إذن، فأنت في عجلة من أمرك! أتقول عفوا، وتعتقد أن هذا يكفي؟ لا، أيها الشاب! أتتصور، لأنك سمعت اليوم السيد دي تريفي يكلمنا بخشونة، أن يعاملنا الآخرون مثلما يعاملنا هو؟ لا تجر نفسك إلى الغلط فلست أنت السيد دي تريفي!»
أجاب دارتانيان، وقد عرف أنه آثوس، الذي ضمد الطبيب جراحه منذ لحظة: «بشرفي ... بشرفي ... لم أفعل هذا عمدا. ولكوني لم أفعله عمدا، قلت عفوا. ويبدو لي أن هذا كاف جدا. ارفع يدك عن حزامي، ودعني أذهب إلى حيث يناديني عملي.»
قال آثوس وقد ترك الحزام: «أنت لست مؤدبا، يا سيدي! ومن السهل أن ندرك أنك قادم من الريف، وتفتقر إلى أخلاق المدينة الحميدة.»
كان دارتانيان قد هبط ثلاث درجات أو أربعة، غير أنه توقف حين سمع ملاحظة آثوس، وقال: «يا لرحمة السماء! مهما أكن قد أتيت من بعيد، فلست أنت بالذي يلقنني درسا في الأخلاق الحميدة! ولذا فإني أحذرك!»
قال آثوس: «ربما!»
قال دارتانيان: «آه لو لم أكن متعجلا، ولو لم أكن أتعقب شخصا.» «أيها المتعجل، يمكنك أن تجدني دون أن تجري ورائي! أفهمت؟» «وأين؟» «خلف قصر لوكسمبورغ.» «في أي وقت؟» «ظهرا.» «هذا يكفي، سأكون هناك.» «حاول ألا تجعلني أنتظر؛ لأنه في الساعة الثانية عشرة والربع، سأقطع أذنيك وأنت تجري!»
صاح دارتانيان بقوله: «سأكون هناك.» واندفع إلى أسفل السلم، آملا في أن يجد الرجل المجهول، الذي لا تستطيع خطواته البطيئة أن تبتعد به.
ومن سوء حظ الشاب المتعجل أنه تصادف أن كان بورثوس يتحدث إلى جندي الحراسة الواقف عند مدخل الشارع. وكانت بينهما مسافة تسمح بمرور شخص، وبطبيعة الحال، لم يتردد دارتانيان في أن يمر مندفعا بينهما. ولما هم بأن يفعل، أطارت قوة اندفاعه معطف بورثوس الطويل المصنوع من القطيفة. وبدلا من أن يكون دارتانيان حرا طليقا في الشارع، وجد نفسه مشتبكا في أطواء المعطف الطويلة. وكان بورثوس ممسكا به بشدة، وجذبه نحوه جذبة قوية، فكانت نتيجة هذه الجذبة المفاجئة، أن أدارت دارتانيان وطوته أكثر داخل المعطف.
وطفق بورثوس يسبه غاضبا، ورغم ذلك، فما برح يقبض بقوة على المعطف، على حين يحاول الشاب الغسقوني الغاضب مثله، والمشتبك في الأطواء، تخليص نفسه.
تذكر دارتانيان حمالة السيف الجميلة، وكان يتوق بنوع خاص إلى عدم إتلاف بريق الذهب المتألق، إلا أن مفاجأة كانت في انتظاره؛ فعندما فتح عينيه وجد نفسه ينظر إلى نقطة بين كتفي بورثوس الضخمتين؛ أي إلى الحمالة ، على مسافة سنتيمترات من أنفه، فوجد عجبا.
يا للهول! إن الحمالة التي تتألق بالذهب من الأمام، لم تكن سوى جلد بسيط من الخلف. لم يستطع بورثوس ذو المجد الزائف، أن يشتري حمالة سيف مطرزة كلها بالذهب، فحصل على حمالة مطرز نصفها من الأمام ليظهره للعالم المعجب. وهكذا انكشفت حقيقة الاعتذار بالبرد، مع الحاجة المزعومة إلى المعطف.
وإذ كان بورثوس في حالة غضب عارم، قام بحركة ليندفع خلف دارتانيان، الذي كان يعدو بسرعة.
صاح الأخير، قائلا: «حالا، حالا عندما لا تكون مرتديا معطفك!» «إذن، فموعدنا الساعة الواحدة خلف قصر لوكسمبورغ.»
صاح دارتانيان وهو يدور عند ناصية الشارع: «حسن جدا، في الساعة الواحدة.»
رغم ذلك لم يتمكن دارتانيان من رؤية الرجل المجهول، في أية جهة. وسأل دارتانيان كل مار ولكن دون جدوى.
الفصل التاسع
منديل أراميس
فكر دارتانيان مليا في أحداث الصباح؛ فقد كانت ساعات عصيبة، وربما يكون قد لحقه الخزي من جراء سلوكه عند السيد دي تريفي، الذي لا بد أن نظرته إليه قد تغيرت.
وعلاوة على ذلك، زج بنفسه في مبارزتين مع رجلين، كل منهما قادر على قتل ثلاثة رجال مثله. لقد ارتبط بمقاتلة اثنين من أقوى الفرسان، اثنين لهما مكانة خاصة عنده، حتى إنه ليقدرهما فوق كل من عداهما من الناس. كانت نظرته غير سعيدة؛ إذ كان على يقين من أن آثوس سيقتله؛ ومن ثم فهو لم يعد يشغل نفسه كثيرا ببورثوس. ورغم هذا، فالأمل هو آخر شيء يخبو في قلب الإنسان؛ لذا لم يفقد دارتانيان بعض الأمل، في أنه سيعيش بعد هاتين المبارزتين، ولو بجراح بالغة. قال لنفسه: «يا صديقي دارتانيان، إن أفلت، فإني أنصحك بأن يكون الأدب الكامل مسلكك مستقبلا، فلن يصم فعل الخير والأدب المرء، بالضرورة، بالجبن!»
سار وئيدا، وهو على هذه الحال، يفكر جديا في حاله، فرأى أراميس يتحدث في مرح مع ثلاثة رجال من حرس الملك. وكذلك لاحظه أراميس، ولكنه لم ينس أن هذا الشاب، قد سمع السيد دي تريفي يزجره في ذلك الصباح .
امتلأ دارتانيان عزيمة على أن يكون أكثر احتراما للناس، وتأدبا معهم، فتقدم نحو أولئك الرجال بانحناءة شديدة، وابتسامة ودية عريضة، فأحنى أراميس رأسه قليلا، ردا على انحناءته، ولكنه لم يبادله الابتسام.
توقف الأربعة عن الكلام فورا، فأدرك دارتانيان أنهم راغبون عنه. وإذ لم يكن ماهرا في أدب السلوك، قرر في ذهنه أن يتخذ أقل وسائل الاستئذان إحراجا. ولاحظ أن أراميس، قد أوقع، في ذلك الوقت، منديلا، وداس عليه بقدمه، دون أن يتنبه لذلك، فرأى أن الفرصة قد سنحت لإبداء الاعتذار عن تطفله أثناء حديثهم؛ فانحنى وسحب المنديل من تحت قدم ذلك الفارس، رغم جهد هذا الأخير للاحتفاظ به تحت قدمه، ثم قال وهو يقدمه إليه: «أعتقد، يا سيدي، أن هذا منديل لا تود أن تفقده.»
كان المنديل، في الحقيقة، مطرزا بطريقة تدعو إلى الإعجاب، وعلى أحد أركانه الأحرف الأولى لاسم ما؛ فشرق وجه أراميس بشدة، وخطف المنديل من الغسقوني الصغير، بدلا من أن يتناوله منه.
صاح أحد الحرس قائلا: «ألا تزال مصرا على قولك بأنك لست صديقا حميما للسيدة دي بوا-تراسي، وقد أعارتك هذه السيدة الخيرة أحد مناديلها؟»
نظر أراميس شزرا إلى دارتانيان، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه، وقال بطريقته المألوفة الهادئة: «أنتم مخطئون، يا سادة. ليس هذا منديلي، ولا أستطيع أن أتصور لماذا فكر هذا الشاب في أن يقدمه لي، بدلا من أن يقدمه لواحد منكم؟ ولكي أثبت لكم صدق كلامي، فها هو منديلي في جيبي.»
وبينما كان يقول هذا، أخرج منديله، وهو أيضا من النسيج الرقيق الفخم، ولكنه بدون تطريز ولا أحرف أولى.
لم يتسرع دارتانيان، في هذه المرة؛ فقال: «الحقيقة أنني لم أبصر المنديل يقع فعلا من جيب السيد أراميس، بل كانت قدمه فوق المنديل، فظننته منديله.»
قال أراميس ببرود: «ومن الطبيعي أنك مخطئ.» واستدار نحو أحد الحراس، وكان يعتقد أنه صديق السيدة دي بوا-تراسي، واستطرد يقول: «وفضلا عن هذا، يا مونتاران، وحيث إنك أنت أيضا صديق حميم للسيدة دي بوا-تراسي، فقد يكون المنديل قد وقع من جيبك أنت أيضا.»
صاح الفارس قائلا: «كلا، بشرفي!» «أنت تقسم بشرفك، وأنا أقسم بشرفي، إذن فمن الجلي أن أحدنا كاذب. والآن، يا مونتاران، دعنا نصنع أفضل من ذلك. ليأخذ كل واحد منا نصفه.» «نصف المنديل؟» «نعم.»
صاح الحارس الآخر، بقوله: «هذا عدل، إنه حكم سليمان! يقينا، أنت واسع الحكمة، يا أراميس.»
انفجر الرجال ضاحكين، ويبدو أنه بهذا قد انتهت مشكلة المنديل.
بعد لحظة أو اثنتين، تصافح الأربعة، وتفرقوا. ذهب الثلاثة في طريق، وأراميس في طريق آخر.
وقف دارتانيان جانبا أثناء الجزء الأخير من الحديث، فلما رأى أراميس ينصرف دون أي اهتمام به، تقدم إليه قائلا: «معذرة، يا سيدي، آمل ...»
قاطعه أراميس بحدة: «اسمح لي، يا سيدي، بأن أقول لك إنك لم تسلك مسلك رجل حسن التريبة!»
صاح دارتانيان: «ماذا، يا سيد؟ أتظن ...؟» «أظنك لست غبيا؛ فرغم كونك قادما من غسقونيا، فأنت تعرف جيدا، أن الناس لا يدوسون على المناديل، لغير ما سبب.»
قال دارتانيان، الذي سيطرت طبيعته الحادة المحبة للعراك على مشاعره: «لست عادلا، يا سيدي. أنا حقيقة من غسقونيا، وحيث إنك تعرفها، فليس ثمة ما يدعو لأن أذكرك بأن الغسقونيين ليسوا جد صبورين؛ فإن طلبوا المعذرة عن ذنب اقترفوه، فإنهم يكونون قد فعلوا أكثر مما يجب فعله.»
قال أراميس: «أنا لا أسعى إلى العراك، يا سيدي، ولست محبا للضوضاء. أنا فارس فحسب، ولا أقاتل إلا إذا اضطررت إلى القتال. والأمر في هذه المرة خطير؛ إذ يتعرض فيها شرف سيدة من الطبقة الراقية، للخطر.»
صاح دارتانيان: «أتقصد بواسطتنا؟» «لماذا أعدت المنديل إلي بغباء؟» «لماذا أوقعته أنت بغباء؟» «يبدو أنه ينبغي علي أن ألقنك درسا.» «وأنا سأعيدك إلى دراساتك. امتشق سيفك في الحال.» «ليس هكذا، ليس هنا على الأقل. أود أن أقتلك في زاوية ما، هادئة. سيسرني وجودك في الساعة الثانية بمكتب السيد دي تريفي.»
انحنى الشابان وافترقا؛ فلما رأى دارتانيان أن الساعة تقترب من الثانية عشرة، أسرع إلى خلف قصر لوكسمبورغ.
فكر دارتانيان في نفسه، قائلا: «يقينا ، لا يمكن التراجع الآن. ولكني إذا قتلت، فعلى الأقل يكون الذي قتلني فارسا.»
الفصل العاشر
الساعة الثانية عشرة خلف قصر لوكسمبورغ
ذهب دارتانيان إلى حيث موعده مع آثوس، لا يرافقه أي صديق؛ إذ لم يكن يعرف أحدا في باريس.
لم يكن هذا الغسقوني الصغير، كما سنعرف الآن، رجلا عاديا؛ فعلى حين كان يؤكد لنفسه أنه مقتول لا محالة، لم يفكر قط في أن يموت هادئا مثلما يفعل أي شخص أقل جرأة. وهنا تذكر نصيحة والده التي تقول: «لا تتقبل النقد من أي شخص دون الملك والكاردينال.» فهرول، بدلا من أن يسير، نحو قصر لوكسمبورغ.
حين وصل على مرأى من مكان اللقاء، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة، وكان آثوس ينتظر هناك منذ خمس دقائق، جالسا فوق جذع شجرة متداعية؛ إذ كان لا يزال متأثرا بجرحه. ولما أبصر دارتانيان، نهض وسار في أدب بضع خطوات ليقابله، فخلع دارتانيان قبعته وانحنى له.
قال آثوس: «لقد ارتبطت، يا سيدي، مع اثنين من أصدقائي ليكونا في صحبتي، ولكنهما، على نقيض عادتهما، ولدهشتي العظمى، لم يحضرا بعد!»
قال دارتانيان: «أما من ناحيتي، فليس في صحبتي أحد؛ إذ لا أعرف أحدا في باريس، حتى الآن، ما خلا السيد دي تريفي، الذي أوصاه بي أبي.»
قال آثوس: «أرجو - بعد إذنك - أن ننتظر هذين السيدين؛ فلدينا متسع من الوقت، وسيكون الأمر أنفذ. ها هو أحدهما، على ما أعتقد.»
الواقع أن جسم بورثوس العملاق ظهر من بعيد.
صاح دارتانيان قائلا: «ماذا؟ هل صديقك الأول هو السيد بورثوس؟» «أجل. هل يقلقك هذا؟» «لا، إطلاقا.» «وها هو ذا الآخر.» واستدار دارتانيان نحو الجهة التي أشار إليها آثوس، فأبصر أراميس.
صاح في دهشة أكبر: «ماذا؟ وهل صديقك الثاني هو السيد أراميس؟» «بالتأكيد! فإننا لا نرى أبدا، واحدا بغير الآخرين. ألا تعلم أننا معروفون بين الفرسان باسم الثلاثة الذين لا ينفصلون، ولدى الحرس وفي البلاط، وفي المدينة؟»
أجاب دارتانيان بقوله: «بشرفي هذا اسم طيب!»
في تلك الأثناء، كان بورثوس قد وصل إليهما، فلوح له آثوس بيده، ثم استدار نحو دارتانيان وهو دهش تماما؛ لقد غير بورثوس حمالة سيفه الفخمة، وترك معطفه الجميل في البيت.
قال بورثوس: «رباه! ما معنى هذا؟»
قال آثوس: «هذا هو السيد الذي سأتقاتل معه.»
قال بورثوس: «وأنا أيضا، سأتقاتل معه.»
قال دارتانيان: «ولكن ليس قبل الساعة الواحدة.»
قال أراميس، الذي كان قد وصل لتوه إلى الجماعة: «وأنا أيضا، سأقاتل هذا الرجل.»
قال دارتانيان، بنفس الهدوء: «ولكن ليس قبل الساعة الثانية.»
قال أراميس: «علي أي شيء ستتقاتلان، يا آثوس؟» «بشرفي، لا أعرف تماما! ربما آلمني في كتفي. وأنت، يا بورثوس؟»
قال، وقد شرق وجهه: «سأقاتل لأنني لا بد أن أقاتل!»
لاحظ آثوس، الذي لا تشرد عنه شاردة، ابتسامة بسيطة على وجه الغسقوني الشاب الذي أجاب بدلا منه بقوله: «حدثت بيننا مشادة عن الزي.» «وأنت، يا أراميس؟»
أجاب أراميس، وهو يغمز بعينه لدارتانيان كي يحتفظ بسبب مبارزتهما سرا: «اختلفنا في موضوع ديني.»
قال دارتانيان: «بما أنكم جميعا هنا، يا سادة، فاسمحوا لي بأن أقدم لكم خالص اعتذاراتي!» عند سماع كلمة «اعتذاراتي» قطب آثوس جبينه، وظهرت ابتسامة ازدراء على وجه بورثوس، وأبدى أراميس عدم رضاه صراحة.
قال دارتانيان وهو يرفع رأسه في خيلاء: «إنكم لا تفهمونني! فإني أطلب الاعتذار في حالة عدم إمكاني مقاتلتكم، أنتم الثلاثة معا.»
وإذ قال دارتانيان ذلك بأشجع لهجة ممكنة، استل سيفه.
قال آثوس وهو يستل سيفه: «حار اليوم، ورغم ذلك، لا أستطيع أن أخلع صداري. لقد شعرت الآن بجرحي ينزف مرة ثانية، ولا أريد مضايقة هذا الرجل بمنظر الدم الذي لم يكن هو السبب فيه.»
قال دارتانيان: «إذن، فسأقاتل، أنا أيضا، وأنا مرتد صداري.»
صاح بورثوس قائلا: «هيا، هيا، كفى شكاوى، وتذكرا - من فضلكما - أننا ننتظر دورينا.»
قاطعه أراميس بقوله: «تكلم عن نفسك. أعتقد أن ما قالاه جد صحيح، ويليق بسيدين.»
ما كاد السيفان يلتقيان معا، حتى ظهرت جماعة من حرس الكاردينال تحت إمرة السيد دي جوساك، عند ناصية القصر.
صاح أراميس وبورثوس، في اللحظة نفسها قائلين : «حرس الكاردينال! أغمدا سيفيكما.»
الفصل الحادي عشر
دارتانيان يتخذ قرارا سريعا
فات أوان أن يغمد كل من آثوس ودارتانيان سيفيهما؛ فقد شوهدا، وبدا واضحا ما كانا ينتويان.
صاح جوساك وهو يتقدم مع رجاله بقوله: «مرحى! أراكما تتبارزان. يبدو أنكما نسيتما القانون.»
قال آثوس، وهو في ثورة غضبه، لكون جوساك أحد الحراس الذين قاموا بالهجوم الغادر على الفرسان في اليوم السابق: «لست متمسكا تماما بالقانون؛ فلو رأيتك تقاتل، فلن أبذل أي جهد في أن أتدخل. اتركنا وشأننا، وأنت وشأنك!»
قال جوساك، وهو مملوء ثقة بالنفس: «لن أسمح بكسر القانون، يا سادة، حتى ولو كان الذين يكسرونه هم الفرسان. أغمدا سيفيكما، واتبعاني.»
لم يتحرك الفرسان.
وتمتم آثوس بقوله: «إنهم خمسة، ونحن ثلاثة فقط، وسيتغلبون علينا مرة ثانية. أما عن نفسي، وإن حدث هذا، فلن أجرؤ على الظهور مرة أخرى، أمام قائدنا.»
اقترب آثوس وبورثوس وأراميس، كل من الآخر، وجعل جوساك رجاله مصطفين في وضع استعداد، للهجوم عند الضرورة.
قرر دارتانيان قراره على الفور. كان هذا أحد الأحداث التي تقرر حياة المرء. كان الأمر بالنسبة له اختيارا بين الملك والكاردينال، فاستدار نحو آثوس وصديقيه وقال: «أرجوكم، أيها السادة، أن تسمحوا لي بأن أضيف شيئا إلى كلامكم. لقد قلتم إنكم ثلاثة، ولكن يبدو لي أننا أربعة.»
قال بورثوس: «ولكنك لست واحدا منا.»
رد دارتانيان، وهو ينحني بشدة: «أنا، في قرارة نفسي، فارس. قد لا أحصل على حلة الفارس الرسمية، ولكن لي روح الفارس.»
صاح جوساك، وقد خمن قصد دارتانيان من إيماءاته، والملامح المعبرة البادئة في وجهه، قائلا: «انسحب، أيها الشاب. انسحب في الحال. إننا نسمح لك بالانسحاب. انج بحياتك، وانصرف سريعا.»
غير أن دارتانيان لم يتحرك.
واستطرد آثوس قائلا: «يجب علينا أن نكون ثلاثة فقط أحدهم جريح، مع إضافة غلام. ورغم ذلك، فسيقال إننا كنا أربعة رجال.»
أدرك دارتانيان شكوكهم فيه، فقال: «جربوني، يا سادة، وسأثبت لكم أنني لن أبرح هذا المكان مهزوما.»
سأله آثوس بإعجاب: «يا لك من شجاع! ما اسمك؟» «دارتانيان، يا سيدي.»
صاح آثوس قائلا: «حسن، يا بورثوس، ويا أراميس، ويا دارتانيان، فلنصمد.»
صاح جوساك غاضبا: «هيا، يا سادة، هل قررتم ما ستفعلون؟»
أجاب أراميس رافعا قبعته بإحدى يديه، ومشهرا سيفه بالأخرى: «أجل، نحن موشكون على أن يكون لنا شرف مواجهتكم.»
صاح جوساك: «هكذا! إذن فأنتم مصممون؛ أليس كذلك؟»
انقض الحراس الخمسة بوحشية على الفرسان الثلاثة، ومعهم دارتانيان.
لم يستغرق القتال إلا وقتا قصيرا، فكان سريعا وضاريا، إلا أنه سرعان ما اكتشف دارتانيان أنه ند لأي من الحراس. ولم يمض وقت طويل، حتى قتل أحد الحراس، وجرح ثلاثة آخرون بجروح بالغة، فلم يستطيعوا مواصلة القتال. فلما رأى الحارس الباقي نفسه وحيدا أمام أربعة فرسان، كسر سيفه على ركبته ليتحاشى الاستسلام.
تحترم الشجاعة دائما في أي مكان، حتى لدى العدو نفسه، فحيا الفرسان الحارس الباقي بسيوفهم، وأعادوها إلى أغمادها، وحذا دارتانيان حذوهم. وبعد ذلك، بمساعدة ذلك الحارس، نقلوا الجرحى إلى باب القصر، ودقوا الجرس.
انصرف الأربعة الظافرون مشهرين سيوفهم، مبتهجين ميممين شطر مقر السيد دي تريفي. وكانوا يغنون وهم يسيرون، وقد تأبط كل منهم ذراع الآخر، شاغلين الشارع كله. وانضم إليهم كل فارس التقوه، حتى كونوا في النهاية مسيرة انتصار. وامتلأ دارتانيان فرحا وهو يسير فخورا بين آثوس وبورثوس.
أنب السيد دي تريفي الفرسان الثلاثة علنا، ورغم ذلك فقد هنأهم فيما بينه وبينهم، على انتقامهم السريع الحاسم من حرس الكاردينال.
ونتيجة لمسلك دارتانيان، الذي لا يهاب شيئا، ألحق على الفور بجماعة من حرس الملك، للتدريب تحت إمرة السيد ديسار. وهكذا، في ظروف أكثر ملاءمة مما كان بوسع ذلك الغسقوني الشاب أن يتصور، وجد نفسه في طريقه لأن يصبح فارسا. وعلاوة على ذلك، رحب به رفيقا للثلاثة الذين لا ينفصلون؛ آثوس وبورثوس وأراميس، وصار يقضي معهم جل وقته.
الفصل الثاني عشر
ميلادي
بعد ذلك بنحو شهرين، تصادف أن كان دارتانيان يسير متباطئا في أحد شوارع باريس، فإذا بسيدة تجذب انتباهه، وهي تهبط درجات سلم منزل. لم تكن صغيرة السن وبارعة الجمال فحسب، بل كان من الواضح أنها سيدة من طبقة راقية؛ إذ كانت تسير خلفها خادمتان. وبينما هي تستدير لتصدر أمرا لإحداهما، قفز قلب دارتانيان؛ إذ عرف أنها سيدة ميونغ، السيدة التي خاطبها الرجل ذو الندب بقوله: «ميلادي.»
لحسن حظ دارتانيان أن تلك السيدة لم تتعرف عليه؛ ومن ثم فقد أمكنه أن يقتفي أثرها دون أن ينتبه إليه. ركبت عربتها عند قارعة الطريق تماما، وسمعها تأمر سائقها بأن يسير في الطريق المؤدي إلى سان جيرمان، وهي ضاحية جميلة خارج باريس.
لم يكن اهتمام دارتانيان الشديد بميلادي؛ بسبب جمالها الفاتن، الذي جذبه يقينا، وإنما لأنه تأكد من أنها إحدى جواسيس الكاردينال، وتاق إلى اكتشاف اللغز المحيط بها. أضف إلى ذلك، أنها تحدثت إلى عدوه، الرجل ذي الندب؛ وبناء عليه، فلا بد أنها تعرفه. فإذا ما تتبعها، فقد تقوده إلى ذلك الرجل، وبطريقة ما، أو بغيرها، يمكنه أن يكتشف شيئا عنه.
وإذ كان من العبث أن يتبع العربة على قدميه، فقد أسرع إلى إسطبل خيول الحرس، وانتقى حصانا. وسرعان ما كان في طريقه هو أيضا، إلى سان جيرمان.
لم يستغرق بحثه عن آثار العربة طويلا؛ إذ رآها تجرها الخيول في شارع جانبي هادئ، ويسير إلى جانبها رجل فخم الملبس، على صهوة جواده.
شغل الرجل مع ميلادي في حديث هام، فاقترب دارتانيان من الجانب الآخر للعربة، دون أن يلحظه أحد سوى خادمة تلك السيدة الحسناء، الجالسة قبالة سيدتها.
كانا يتكلمان بالإنجليزية، وهي لغة لا يتقنها دارتانيان كثيرا، ولكنه استطاع أن يدرك أن السيدة الإنجليزية النبيلة المرأى، كانت في قمة سورتها. وفجأة توقفت عن الكلام، وضربت الرجل بمروحتها، بقوة جعلت المروحة تتناثر في الهواء قطعا صغيرة.
ضحك الرجل، على حين جلست ميلادي، تلوي منديلها بعنف وتمزقه في ثورة عارمة.
بدا لدارتانيان، أن هذه اللحظة مناسبة، لكي يتدخل؛ فخلع قبعته وانحنى للسيدة قائلا: «هل تسمحين لي، يا سيدتي، بأن أقدم لك خدماتي؟ يبدو لي أن هذا السيد يضايقك. ما عليك سوى أن تأمري، يا سيدتي، فأعاقبه على سوء خلقه!»
حين سمعت ميلادي هذه الكلمات، استدارت بدهشة، ونظرت إلى هذا الشاب، ثم أجابت في هدوء بالفرنسية: «لا شك، يا سيدي، في أنني أضع نفسي في حمايتك، لو لم يكن الشخص الذي أتعارك معه، هو أخي!»
قال دارتانيان: «رباه! آمل في أن تصفحي عني، يا سيدتي؛ إذ لم أكن أعرف هذا.»
سأل الرجل وهو ينحني نحو نافذة العربة، قائلا: «ماذا يريد هذا الغبي؟ ولم لا يذهب وشأنه؟»
صاح دارتانيان، وهو ينحني أيضا، ويجيب من جانبه خلال نافذة العربة: «الغبي هو أنت! وأنا لن أذهب لأنه يسرني أن أقف هنا.»
عند ذلك تحدث الراكب مع أخته ببضع كلمات بالإنجليزية.
فقال دارتانيان: «تحدثت إليك بالفرنسية، فلم لا ترد علي باللغة نفسها؟ قد تكون شقيق هذه السيدة، ولكن لحسن الحظ أنك لست شقيقي!»
من المؤكد أن يظن الإنسان أن ميلادي ستجبن، مثل عموم النساء، فتحاول إيقاف ذلك العراك. ولكنها، على العكس، جلست في مقعدها بالعربة، وأمرت سائقها في هدوء، بأن يعود أدراجه إلى باريس.
من الجلي أن خادمة هذه السيدة الجميلة قد تأثرت بمظهر دارتانيان الحسن؛ إذ ظلت عيناها مشدودتين إليه، وبدا على وجهها القلق، حين سارت العربة تاركة الرجلين، يواجه كل منهما الآخر.
قام شقيق ميلادي بحركة، وكأنه سيتبع العربة، إلا أن دارتانيان استوقفه قائلا: «يبدو لي، يا سيدي، أنك أغبى مني؛ إذ سرعان ما نسيت أن ثمة عراكا بسيطا بيننا يجب تسويته!»
قال الرجل الإنجليزي: «أترغب في نزال رجل أعزل؟ يمكنك أن ترى بوضوح أن ليس معي سيف.» «عسى أن يكون لديك سيف في البيت، فإن لم يكن، فمعي اثنان، أعيرك واحدا منهما.»
قال الرجل الإنجليزي: «هذا ليس ضروريا. أنا مزود بأمثال هذه اللعب!»
قال دارتانيان: «حسن جدا، يا سيدي، هات أطول سيف عندك، وتعال أرنيه هذا المساء.» «أين؟» «خلف قصر لوكسمبورغ. هناك ساحة هائلة للألعاب، بجانب القصر. وهناك سألقنك كيف تلعب!» «عظيم! سأكون بانتظارك.» «في أي وقت؟» «في الساعة السادسة. ولتصطحب معك - بهذه المناسبة - صديقا أو اثنين.» «لدي ثلاثة، سيكون مدعاة لسرورهم أن ينضموا إلى هذه اللعبة معي.» «ثلاثة؟ هذا رائع! فعدد أصدقائي كذلك ثلاثة. بهذه المناسبة خبرني من تكون؟» «أنا السيد دارتانيان، رجل غسقوني، أعمل في حرس الملك. ومن أنت؟» «أنا اللورد وينتر، بارون شفيلد.»
قال دارتانيان: «حسن جدا. إذن، فموعدنا الساعة السادسة هذا المساء.» وأدار حصانه، وانطلق عائدا به إلى باريس.
وكالمعتاد في مثل هذه الحالات، ذهب دارتانيان مباشرة إلى منزل آثوس، وحكى له كل ما حدث.
انطلق الاثنان من فورهما، إلى بورثوس وأراميس، فلما قدما أخبراهما بالموعد المتفق عليه في المساء خلف قصر لوكسمبورغ.
استل بورثوس حسامه، ولوح به في الهواء مزهوا بما سيفعله بخصمه.
ذهب أراميس إلى حجرة أخرى، في هدوء، ليكمل قصيدة كان ينظمها، وطلب منهم ألا يزعجوه إلى أن يحين وقت المبارزة.
أشار آثوس إلى خادمه جريمو ليحضر له زجاجة أخرى من العصير.
شغل دارتانيان نفسه بالتفكير في تفاصيل خطة - سوف نقرأ المزيد عنها فيما بعد - تهيئ له مغامرة مقبولة، كما يستنتج من الابتسامات التي تبدو في وجهه بين آونة وأخرى.
الفصل الثالث عشر
آثوس يحافظ على كلمته ودارتانيان ينجح في خطته
قبيل الساعة السادسة، ركب دارتانيان وأصدقاؤه الثلاثة جيادهم، يتبعهم خدمهم الأربعة، وساروا نحو الساحة الهادئة الواقعة وراء قصر لوكسمبورغ. وأصدروا أوامرهم إلى خدمهم بأن يرصدوا ما يقع من أحداث. وبعد بضع دقائق، جاءت عربة إلى المدخل، فنزل منها لورد وينتر وثلاثة رجال، وساروا في صمت نحو دارتانيان والفرسان الثلاثة. وتبعا للتقاليد، تم التعارف. وكان جميع رفقاء اللورد وينتر من ذوي المكانة، ومن الطبيعي أن كانت الأسماء غير العادية لخصومهم موضع مفاجأة وقلق.
قال لورد وينتر: «لم نعرف، حتى الآن، من أنتم؛ فنحن لا نقاتل أناسا لهم هذه الأسماء. إنها ليست أسماء أشخاص.»
قال آثوس: «إنها أسماء حركية، كما قد يتبادر إلى ذهنك.»
وكانت هذه هي الحقيقة؛ إذ لم يعرف أحد أسماءهم الحقيقية، ولا حتى هم أنفسهم لم يعرف أحدهم اسم الآخر، فيما عدا السيد دي تريفي.
رد اللورد بقوله: «يولد هذا فينا رغبة أكثر في أن نعرف الأسماء الحقيقية. يقامر المرء أو يلعب الورق مع أي إنسان، ولكنه لا يبارز إلا من يكون ندا له.»
قال آثوس: «وهو كذلك.» وانتحى جانبا بمن سيقاتله، وأخبره باسمه، همسا. وفعل بورثوس وأراميس الشيء نفسه.
قال آثوس لخصمه: «أيرضيك هذا؟ أتجد رتبتي كافية لأكون في شرف مبارزتك بالسيف؟»
رد الرجل بانحناءة وهو يقول: «أجل.»
واستطرد آثوس يقول ببرود: «حسن! دعني أخبرك الآن بشيء آخر؛ كان من الحكمة ألا تصر على معرفة اسمي. إن الناس يعتقدون أنني ميت، ولدي من الأسباب ما يجعلني راغبا في الحفاظ على هذا السر؛ ولذلك سأضطر إلى قتلك حفاظا على سري!» وحملق إليه خصمه معتقدا أنه يمزح، ولكنه لم يكن بمازح؛ فهو لم يعرف المزاح قط.
قال آثوس، بعد لحظة، يخاطب زملاءه وخصومهم: «أيها السادة، هل نحن جميعا مستعدون؟» وجاء الرد منهم جميعا، وفي صوت واحد: «نعم!»
صاح آثوس: «إذن، فخذوا حذركم.»
وفي الحال، تألقت نصال ثمانية سيوف في أشعة الشمس.
بارز آثوس في هدوء وبطريقة مدروسة، وكأنه يتدرب في مدرسة للمبارزة بسيوف الشيش. أما بورثوس، فربما كان أقل مجهودا من المعتاد، قاتل بمهارة ولكن بحذر. وأما أراميس، الذي كان لا بد له من أن يكمل نظم قطعة شعرية ثالثة لقصيدته، فكان من الجلي أنه متعجل. ورغم ذلك، كان آثوس أول من هزم خصمه بضربة سيف في قلبه فأرداه قتيلا. لقد حافظ على كلمته! ورقد خصم بورثوس بعده ممددا فوق الأعشاب مجروحا في فخذه، فحمله بورثوس بذراعيه ونقله إلى العربة المنتظرة. وهاجم أراميس خصمه بوحشية حتى إنه سرعان ما استسلم. أما دارتانيان فقاتل ملتزما الدفاع في بساطة، حتى أبصر لورد وينتر وقد أنهكه التعب، فأدار نصل حسامه دورة فجائية أطارت الحسام من يده، فحاول اللورد استعادة سيفه، غير أن قدمه زلت، فوقع على ظهره.
وفي لحظة كان دارتانيان واقفا فوقه، يشير بسيفه إلى رقبته. وبقي لورد وينتر تحت رحمة دارتانيان. وهكذا حقق هذا الأخير الجزء الأول من خطته، التي كان يفكر فيها آنفا.
قال دارتانيان: «بوسعي الإجهاز عليك، ولكني سأبقي على حياتك إكراما لأختك.»
نهض لورد وينتر ببطء منتصبا على قدميه، ثم انحنى اعترافا بفضل دارتانيان، واستدار إلى الفرسان الثلاثة، فأثنى على مهارتهم.
قال لورد وينتر لدارتانيان: «أي صديقي الشاب، إن سمحت لي بأن أناديك بهذا، أود أن تقابل أختي، ليدي وينتر، كي تضيف شكرها إلى شكري.»
أشرق وجه دارتانيان سرورا، وأبدى موافقته بانحناءة شديدة.
وقبل أن ينصرف اللورد وينتر، أعطى دارتانيان عنوان أخته - رقم 6، الميدان الملكي - وهو يقع في منطقة جد راقية. ووعده بأن يذهب إليه في ذلك المساء لكي يصحبه إلى هناك، فحدد له دارتانيان الساعة الثامنة في بيت آثوس.
أسرع دارتانيان إلى بيته مباشرة، فاستبدل ملابسه وارتدى أفضل حلة، وأسرع إلى آثوس فأخبره بخططه فيما يختص بميلادي.
أصغى إليه آثوس مليا، ثم هز رأسه ببطء، ناصحا إياه بأن يحتاط جيدا. ولم يتنبه دارتانيان لنغمة الحزن الذي شابت صوته.
قال دارتانيان: «أنا لم أقع في غرام ميلادي، وإنما هدفي الوحيد، هو أن أكتشف بالضبط، الدور الذي تقوم به في البلاط.» «يا لرحمة السماء! ليس هذا صعب التخمين، بعد الذي أخبرتني به. لا شك في أنها والرجل ذا الندب من جواسيس الكاردينال. كن على حذر، وإلا جرتك إلى شرك لن تفلت منه!» «عزيزي آثوس، إنك تنظر دائما إلى الجانب المعتم من الأمور.» «أنا لا أثق بالنساء، ولا سيما الجميلات منهن. كيف لي أن أفكر في غير ذلك! لقد اشتريت خبرتي غاليا. قل لي، هل ميلادي جميلة؟» «إنها من أجمل النساء اللائي وقعت عليهن عيناي!» «آه، يا عزيزي دارتانيان المسكين!» «اسمع، يا آثوس، أنا لا أريد إلا أن أكتشف شيئا ما، وعندما أكتشفه، فلن تهمني هي بعد ذلك في كثير أو قليل.»
قال آثوس كسيفا: «افعل ما يحلو لك، يا صديقي الصغير، ولكن الزم جانب الحذر.»
الفصل الرابع عشر
ميلادي تستقبل دارتانيان
بر لورد وينتر بوعده، فذهب إلى دارتانيان في الساعة الثامنة ليصحبه ليقابل أخته ميلادي.
كان بيت ميلادي بالمدينة، أبهى بيت في الحي، ولم يدهش دارتانيان من كونه مؤثثا بأغلى الأثاث. في ذلك الوقت، كان جل الإنجليز يغادرون فرنسا من جراء الحرب المرتقبة بين الإنجليز والفرنسيين. أما ميلادي، فعلى العكس، إذ أعادت طلاء بيتها. وبدا للعيان أنه لم يكن ثمة ما تخافه ببقائها في باريس. لاحظ دارتانيان هذه الحقيقة، فدعمت شكوكه في أن ثمة لغزا يحيط بها.
قال اللورد وينتر لشقيقته: «اسمحي لي بأن أقدم لك رجلا صغير السن، كانت حياتي معلقة بين يديه، ولكنه لم يسئ انتهاز الفرصة؛ إذ أبقى على حياتي، رغم أنني أنا الذي بادرت بإهانته. والآن، ألا بادرت بأن تضيفي شكرك إلى شكري؟»
بعد ذلك استدار اللورد وينتر، ليدق الجرس كي يطلب شرابا؛ ومن ثم، فلم يلاحظ مسحة الامتعاض التي مرت على وجه أخته. ورغم هذا، حين تكلمت لم يبد أي أثر لذلك الامتعاض، في صوتها الرقيق العذب.
قالت: «يسعدني أن أرحب بك، يا سيدي. يبدو لي أنك نلت حقوقا أبدية في اعترافي بجميلك.»
بعد ذلك، روى أخوها القصة بالتفصيل.
أصغت ميلادي بانتباه تام، ولكن اتضح لدارتانيان، أن هذه الحكاية لم تلق عندها القبول. ولاحظ كيف كانت تعقد منديلها وتشده، كما لاحظ أنها كانت تدق الأرض بفردة من حذائها الصغير ذي اللونين الأحمر والفضي، في قلق، فوق البساط اللين.
لم يلاحظ اللورد وينتر شيئا من هذا؛ إذ كان مشغولا بإعداد الشراب عند المائدة الصغيرة، وهو يروي قصته.
ملأ اللورد كأسين، ودعا دارتانيان بإيماءة كي يشاركه الشراب، فاتجه دارتانيان إلى المائدة ليتناول كأسه، مراعيا أن يراقب ميلادي في مرآة كبيرة على الحائط. وحين اعتقدت ميلادي أن لا أحد يراقبها، بدت عليها نظرة مقت هائلة، فطفقت تنهش منديلها بأسنانها الجميلة.
في تلك اللحظة بالذات، جاءت الخادمة الحسناء بمذكرة للورد، وكلمته بضع كلمات بالإنجليزية. فلما قرأ المذكرة، استأذن في الانصراف؛ إذ كان مطلوبا في موعد هام.
وحين التفت دارتانيان نحو ميلادي، كانت كل آثار الغضب قد اختفت وكأنها بفعل ساحر، وتساءل للحظة ما إذا كانت المرأة قد خدعته أم لا .
بعد انصراف اللورد، غدا الحديث وديا، فعلم دارتانيان أن لورد وينتر لم يكن أخا ميلادي، بل هو شقيق زوجها؛ فقد تزوجت أخا اللورد وينتر الأصغر، وهي الآن أرملته، بعد أن أنجبت منه طفلا واحدا. كان هذا الابن الوارث الوحيد للورد وينتر، شريطة ألا يتزوج هذا اللورد.
أحس دارتانيان، في أثناء الحديث الذي دار بينهما، بأن ميلادي تخفي شيئا ما، ولكن ما هو؟ هذا ما لم يستطع فهمه. أضف إلى ذلك، اقتناعه بأنها من أصل فرنسي وليست إنجليزية. كانت تتكلم الفرنسية بطلاقة ونقاء أزالا كل شك.
في المساء التالي، عاود دارتانيان زيارة ميلادي، فاستقبلته بحفاوة أكثر. وبدا أنها تخصه باهتمام عظيم به وبعمله. رغم ذلك، لم ينس دارتانيان أن يثني على الكاردينال، وقال إنه كان يتمنى الالتحاق بحرس الكاردينال، لو لم يقدم أولا للسيد دي تريفي.
غيرت ميلادي مجرى الحديث بعد ذلك بلباقة، وسألت ببراءة عما إذا كان دارتانيان قد قام بزيارة إنجلترا، في وقت ما.
فكر دارتانيان في نفسه قائلا: «رباه! إنها تعرف زيارتي السرية لإنجلترا، للورد بكنجهام.»
أجاب بصوت بريء براءة صوت ميلادي، بأن السيد دي تريفي أرسله ذات مرة إلى إنجلترا لشراء خيول، فأحضر معه أربعة جياد من نوع أصيل.
وإذ أدركت ميلادي أن دارتانيان يجيد اللعب بالألفاظ مثلما يجيد اللعب بالسيف، أدارت دفة الحديث إلى موضوعات أكثر أمنا.
الفصل الخامس عشر
دارتانيان يسترق السمع
رغم نصيحة آثوس، هام دارتانيان بحب ميلادي، وظل يزورها كل مساء تقريبا. وما عاد يستأذن في الدخول عليها؛ إذ أصدرت ميلادي أمرا بأن يدخل دارتانيان حجرة جلوسها الخاصة، فور مجيئه مباشرة.
لم يدرك دارتانيان أن ميلادي تلعب دورا، حتى سمعها مصادفة وهي تتحدث إلى خادمتها الخاصة كيتي، في الحجرة المجاورة لحجرة الجلوس التي كان منتظرا فيها. لم يكن الباب الموصل بين الحجرتين موصدا تماما. وهكذا استطاع أن يسمع بوضوح ما كان يدور بينهما من حديث.
قالت ميلادي: «يبدو أن صديقنا الغسقوني سيتأخر الليلة.»
قالت كيتي: «ماذا، يا سيدتي؟ هل يستهتر بصداقتك إلى حد ألا يكون مواظبا؟» «من المحتمل أن يكون عمله قد منعه المجيء. لا بأس؛ فأنا أعرف ما سأفعله معه، يا كيتي.» «لماذا يا سيدتي؟ وأية لعبة ستلعبينها؟» «هذا سؤال حسن! وسوف نرى. ثمة شيء ما بيني وبين ذلك الشاب. الذي يجهله أنه كاد يحطمني في عيني الكاردينال بشأن موضوع ماسات الملكة. لا بد من أن آخذ بثأري!» «رباه! ظننتك تهيمين بحبه.» «أحبه؟ إنني أمقته! كانت حياة لورد وينتر في يدي ذلك الغبي، فلم يقتله. وبسبب عدم قتله، فقدت ميراثا سنويا قدره ثلاثمائة ألف جنيه!»
قالت كيتي: «هذا حقيقي. لقد نسيت أن ابنك، يا سيدتي، هو الوارث الوحيد لعمه. وحتى يبلغ سن الرشد، ستكونين المتصرفة في أية ثروة يرثها.»
قالت ميلادي بحدة: «نعم، وكان لا بد لي من الانتقام منذ أمد بعيد، لو لم يصر الكاردينال على أن أستمر في صداقة ذلك الغسقوني البغيض. ولا يمكنني أن أفهم السبب.»
ارتجف دارتانيان، وأسرع يهبط السلم، متسللا إلى خارج البيت على أطراف أصابع قدميه، لكي يهدئ من غضبه. وفي الصباح التالي، هرع إلى مقابلة آثوس، وأخبره بما سمع.
قال آثوس: «يبدو أن معشوقتك ميلادي امرأة شريرة. ولا شك في أنك تواجه عدوة شقية.»
وبينما هما يتكلمان، نظر آثوس بإمعان إلى خاتم من الياقوت الأزرق في إصبع دارتانيان، وقال: «يا له من خاتم جميل، هذا الذي تلبسه! إنه يذكرني بجوهرة عائلية كنت أحوزها فيما مضى. هل قايضت به على خاتمك الماسي؟» «لا. إنه هدية من ميلادي.»
صاح آثوس بانفعال: «ماذا؟ جاءك هذا الخاتم من ميلادي؟»
وفحص آثوس الخاتم، فامتقع لونه.
ردد في نفسه: «مستحيل! لا يمكن! كيف وصل هذا الخاتم إلى حوزة ميلادي؟ ومع ذلك، فمن الصعب أن نتصور إمكان تشابه جوهرتين إلى هذا الحد!»
سأله دارتانيان: «ألك سابق معرفة بهذا الخاتم؟»
أجاب آثوس: «أظن ذلك، ولكن لا بد أن ثمة خطأ ما. أرجوك، يا دارتانيان، إما أن تخلع هذا الخاتم، وإما تدير فصه؛ فهو يذكرني بذكريات قاسية. ولكن انتظر! دعني أفحص الفص؛ فللفص الذي ذكرته لك خدش على أحد أوجهه.»
خلع دارتانيان الخاتم وسلمه إلى آثوس.
نظر آثوس إليه مليا، فبدا عليه الاضطراب.
قال آثوس وهو يشير إلى الخدش الذي ذكره: «انظر، إنه الخدش نفسه كما أخبرتك. هذه جوهرة عائلية قديمة ورثتها عن أمي.»
سأله دارتانيان مترددا: «هل بعتها؟»
أجاب آثوس ببطء وتمعن: «لا، أهديتها لامرأة أحببتها.»
استعاد دارتانيان الخاتم، ووضعه في جيبه لا في إصبعه.
أمسك آثوس بيد دارتانيان وقال: «أي دارتانيان، تعرف أنني أعتبرك أخا أصغر لي. اعمل بنصيحتي، وابتعد عن هذه المرأة. إنني لا أعرفها، ولكن شيئا ما يوحي إلي بأنها لن تجر عليك سوى الشر!»
قال دارتانيان: «أنت على حق. سأكف عن لقائها، ولكن لا تقلق؛ فإننا سنغادر باريس بعد أيام قلائل لنشترك في حصار روشيل.»
بعد انصراف دارتانيان، جلس آثوس صامتا يفكر. أقلقت أفكاره ذكريات الماضي، فأخذ يسترجع ويستدعي المشاهد التي كثيرا ما مرت به. وعبثا حاول أن يكف عن التفكير ويسلو.
رأى نفسه، مرة أخرى، الكونت دي لا فير، النبيل الفرنسي الشاب. كان الاسم الذي يحمله أصيلا ونبيلا. وكانت له السيطرة على أراضيه، وكانت كلمته قانونا.
وضمت هذه الصورة فتاة رقيقة كالنسمة جميلة كالملاك، أقبلت معها نسمات الربيع. جاءت مع أخيها الذي حاز منصبا بمكان ما، في قرية تقع في ممتلكات الكونت. كانت تبدو بريئة ولطيفة، ويبدو أخوها ورعا وتقيا، حتى إن أحدا لم يسأل من أين قدما، أو ارتاب لحظة في أنهما بخلاف ما كانا يبدوان عليه.
كثيرا ما شاهد النبيل تلك الفتاة وهو ممتط جواده خلال القرية. وكان حب ذلك الشاب لهذه الفتاة الرقيقة آن، يزيد يوما بعد يوم.
وتعاقبت مشاهد تلاقيهما، مشهدا بعد آخر، تحت أشجار الصنوبر ذات الأريج العبق، وخلال الممرات التي يعطرها شذى الأزهار، وبجانب مجرى ماء بارد يخر خريرا جميلا، وعلى الجسر الريفي الذي اعتادا الوقوف عليه، إذا ما أخذت ظلال المساء تطول، ثم في ذلك البيت الصيفي تحت ظلال النباتات المتسلقة.
ورغم كونها ليست من طبقة نبيلة، ورغم عدم موافقة أسرته ، تزوجها ذلك الكونت الشاب، وجعلها أول كونتيسة لذلك الإقليم.
اضطرب آثوس قلقا، على حين تضاءل المنظر أمامه، وظهرت في تفاصيل حيوية، تلك الحادثة المميتة في ساحة الصيد؛ رأى زوجته تسقط عن ظهر جوادها إلى الأرض، وترقد مغشيا عليها في غيبوبة تشبه غيبوبة الموت. ورأى نفسه يرتجف جزعا وهلعا، ويفتح فستانها من عل كي يمدها بمزيد من الهواء، فإذا به يرى على بشرة كتفها الناعمة، واضحة أمام عيون كل من احتشد حولها، أبصر العلامة المريعة، علامة العار والشنار، التي طبعها الجلاد العام على جلدها بمكواته؛ علامة «زهرة الزنبق».
كانت زوجته، كونتيسة دي لا فير، مجرمة مدانة، فأنزل هذا الاكتشاف بكبرياء الكونت ضربة قاصمة؛ ضربة لم يشف منها قط.
في تلك الليلة، غادر الكونت دي لا فير قصره، ولم يرجع إليه ألبتة.
لم يثر احتمال كونها قد تكون على قيد الحياة، رغم افتراض موتها، لم يثر أي إحساس بالشفقة في قلب آثوس. ولم يخفف الزمن، بحال ما، تلك الضربة القاصمة التي تلقاها، فرفع كأسه وشربها حتى الثمالة، ومال رأسه في بطء حتى استقر على ذراعيه الممتدتين فوق المائدة، واحترقت الشمعة حتى تلاشت ثم انطفأت، دون أن يفطن إليها. وهكذا بقي آثوس حتى بدأ نور الفجر البارد يلوح خلال مصراعي النافذة نصف المفتوحة.
الفصل السادس عشر
سر ميلادي
رغم ما عرفه دارتانيان عن ميلادي، فإنه أحس في قرارة نفسه أنه خرق للأدب ودماثة الخلق، إن هو غادر باريس، دون أن يودعها؛ ومن ثم، فقد زارها بعد مرور ليلتين، ليخبرها برحيله المبكر مع فرقته إلى الساحل الغربي لفرنسا، للمشاركة في حصار روشيل. وعلى أية حال، لم تعرف ميلادي أنه سمع مصادفة كلامها مع خادمتها. وزيادة على ذلك، لم يرغب في إثارة شكوكها، إن هو قطع، فجأة، زياراته لها، التي كثرت في الأيام الأخيرة.
لم يمكث دارتانيان لدى ميلادي طويلا، وإنما نهض واستأذن في الانصراف، حينما عن له أن ينصرف. وكانت ميلادي رقيقة كعادتها، وتطوعت مبتسمة بأن تصحبه حتى الباب، غير أنها وهي تنهض لتفعل ذلك، اشتبك طرف فستانها بكعب فردة حذائها اليسرى، فجذب الفستان بشدة عند كتفها، فلم يقاوم الفستان الحريري الرقيق هذه الجذبة القوية، فتمزق عند الكتف.
وإذ رأى دارتانيان ارتباك ميلادي، تقدم بطبيعة الحال، ليساعد في تخليص الفستان، فإذا على إحدى كتفيها - وقد كشفها الفستان الممزق - يظهر شيء مذهل، فلم يسعه إلا أن يقف ويحملق دهشا؛ فعلى جلد كتفها الأبيض، نقشت علامة زهرة الزنبق، التي تدل على الإدانة، طبعتها مكواة الجلاد العام.
استدارت ميلادي، وفي لمح البصر، أدركت أن دارتانيان اكتشف سرها الرهيب؛ ذلك السر الذي أخفته، حتى عن خادمتها.
صاحت ميلادي قائلة، وما عادت امرأة، بل قطة متوحشة: «يا لك من وغد! لقد عرفت سري، سأقتلك!»
وهرعت إلى دولاب صغير وسط الحجرة، وفتحت درجا بيدين مرتجفتين، وأخرجت خنجرا صغيرا ذا مقبض ذهبي، واستدارت فألقت بنفسها على دارتانيان.
رغم شجاعة دارتانيان، ارتجف لمرآها المتغير ونظرتها الوحشية، وعينيها اللتين تقدحان بالشرر، ووجنتيها الشاحبتين، وشفتيها الداميتين بين أسنانها، فقفز إلى الخلف، وكأنه يتحاشى قفزة أفعى سامة تهجم عليه، واستل سيفه.
لم تهتم ميلادي بالسيف، ولا بالفستان الممزق، ولا بعدم الاحتشام لكتفها العارية، بل انقضت على دارتانيان بخنجرها في ضراوة. ولم تتقهقر إلى الخلف إلا عندما شعرت بسن السيف الحادة فوق رقبتها. وحتى ذلك لم يفت في عضدها، فحاولت في ثورتها العمياء، أن تمسك السيف بيدها العارية لتنقض على غريمها، ولكنه خلص السيف، واحتفظ به مسلطا، إما على رقبتها وإما على عينيها.
وإذ استمرت توجه إليه الضربات، دون جدوى، صرخت تصب اللعنات في صوت مريع، يرعب أي رجل عادي.
كان كل هذا أشبه بمبارزة. وسرعان ما تمالك دارتانيان نفسه، فأجبر ميلادي على التراجع إلى خلف الحجرة ببطء، على حين سار هو في طريقه إلى الباب. كان كل هدفه أن يهرب، فتحسس خلفه بيده اليسرى، وأمسك بمقبض الباب فأداره، وركل الباب بعقب قدمه، فانفتح. وبقفزة واحدة، صار خارج الحجرة، وأغلق الباب خلفه بسرعة البرق، وأدار المفتاح في القفل.
أغمد دارتانيان سيفه، وأسرع يهبط السلم. ووقف لحظة في مدخل الباب الخارجي، ليلتقط أنفاسه ويمسح العرق المتصبب من جبينه. وعندئذ أمكنه أن يسمع صرخات ميلادي، وصوت الخنجر وهي تطعن به الباب المقفل، طعنات عمياء.
غادر دارتانيان البيت بعد ذلك، وانصرف بسرعة متجها شطر بيت آثوس.
دهش آثوس لهذه الزيارة المتأخرة من دارتانيان، الذي كان شاحب الوجه مهموما، فأمسك آثوس بيديه، وسأله: «ما الخطب؟ هل مات الملك؟ هل قتلت الكاردينال؟ هيا، هيا، أخبرني!»
قال دارتانيان: «استعد لصدمة، يا آثوس!»
قال آثوس، بعد أن قدم إليه كرسيا: «ما الخبر؟»
تردد دارتانيان لحظة، ثم همس بقوله: «ميلادي مطبوعة على كتفها علامة زهرة الزنبق.»
صاح آثوس بدهشة: «ماذا؟»
قال دارتانيان: «أأنت على يقين مما أخبرتني به ذات مرة من أن تلك المرأة؛ تلك المرأة ذات العلامة، زوجتك، قضت نحبها حقيقة؟»
تنهد آثوس عميقا، وأسقط رأسه بين يديه، وشرد فكره لبضع لحظات.
ولما رفع رأسه، لاحظ دارتانيان أن كل أمارات الحزن والأسى، قد حل محلها نظرة قوية باردة.
قال دارتانيان: «إنها امرأة في حوالي السابعة والعشرين من عمرها، ولكنها تبدو أصغر من ذلك.»
قال آثوس: «أليست جميلة؟» «بلى، هي جميلة للغاية!» «وذات عينين زرقاوين نجلاوين، وأهداب طويلة وحاجبين داكنين؟» «نعم.» «طويلة القامة وبضة القوام؟» «نعم.» «وزهرة الزنبق صغيرة، وردية اللون، وتبدو وكأن جهدا قد بذل لإزالتها؟» «نعم.»
قال وكأن فكرة مفاجئة قد طرأت بباله: «ولكنك قلت إنها إنجليزية.»
قال دارتانيان: «ينادونها ميلادي، ورغم ذلك فمن الجائز جدا أن تكون فرنسية؛ فهي تتكلم الفرنسية بطلاقة. ومع كل، فليس اللورد وينتر إلا شقيق زوجها.» «إنها هي؛ زوجتي. وكنت أظنها ماتت. سأزورها.» «حذار يا آثوس! إنها قادرة على أن تفعل أي شيء. أرأيتها ثائرة، في وقت من الأوقات؟»
قال آثوس: «لا.»
قال دارتانيان: «إنها وشقة برية، أو نمرة!» ثم روى كل ما حدث.
واستطرد يقول: «أقسم بشرفي، لو عرفت أنك لا تزال حيا، فلن تساوي حياتك عندها شيئا. ولحسن الحظ أننا سنغادر باريس بعد غد.»
رد آثوس قائلا: «أتظن أن الحياة تعني الكثير بالنسبة لي؟» «يحيط بها لغز جديد. من المؤكد أنها إحدى جواسيس الكاردينال.»
قال آثوس: «في هذه الحالة عليك بمزيد من الحذر؛ إذ لم ينس الكاردينال موضوع ماسات الملكة. وإن خرجت، فلا تخرج وحدك. وعندما تأكل فخذ كل الاحتياطات. لا تثق بأي شيء، حتى ولو كان ظلك!»
قال دارتانيان: «لحسن الحظ، ليست هذه الاحتياطات ضرورية؛ إذ سنكون غدا في طريقنا للانضمام إلى القوات، قرب روشيل. وهناك، كما أرجو، لن يكون غير الرجال لنخافهم.»
قال آثوس: «ورغم ذلك، دعني أصحبك إلى بيتك.»
عندما خرجا، بعد ذلك بساعة، أمر آثوس خادمه جريمو بأن يحضر بندقيته، ويتبعهما على بعد خطوات منهما.
الفصل السابع عشر
دارتانيان يطلق العنان لقدميه
في الصباح الباكر لليوم التالي، استعرض لويس الثالث عشر قواته المختارة لمهاجمة ميناء روشيل.
من سنوات خلت كان الأهلون مشاغبين ومصدرا لقلق الكاردينال. وبسبب عدم وفاء السكان ودسائسهم ضد أنصار الملكية، جاءت إلى هذه المدينة أعداد ضخمة من المنشقين والمغامرين والجنود المرتزقة من جميع الجنسيات. ووجد أعداء فرنسا ترحيبا مسبقا، ومأوى آمنا داخل أسوار المدينة. وفضلا عن هذا، كانت روشيل آخر ميناء مفتوح أمام الإنجليز، الذين اعتبرهم الفرنسيون في ذلك الوقت أعداءهم الحقيقيين.
ولمساعدة سكان روشيل في مقاومة أي هجوم تقوم به القوات الملكية، وعدهم الإنجليز، أو على الأصح، وعدهم دوق بكنجهام، الذي هو ألد أعداء الكاردينال، بتقديم كل عون. فلما علم لويس الثالث عشر أن بكنجهام قد أرسل قوة قوامها تسعون سفينة تحمل عشرين ألف رجل، نزلوا على جزيرة ري أمام حصن روشيل المحاصر، ما عاد يشك في كلام الكاردينال، بأن ثمة خطرا حقيقيا يحدق بمملكة فرنسا. وقرر إرسال جيش من الرجال المختارين لإخضاع المتمردين، إلى الأبد، وأن يقود الهجوم بنفسه بمساعدة الكاردينال.
رغم هذا، لم يغادر الملك باريس بالقوة الرئيسية، فاضطر حرسه - أي الفرسان - إلى البقاء معه؛ الأمر الذي استاء منه الأصدقاء الأربعة أشد استياء. وما إن انتهى استعراض الملك لقواته، حتى تحركت القوات، تتقدمها فرقة حرس الملك، التي يتبعها دارتانيان، ميممة شطر الشاطئ الغربي.
ركب الغسقوني الصغير مزهوا، مع رفقائه، وهو شارد الفكر تماما؛ ومن ثم لم يلاحظ ميلادي وهي تمتطي جوادا جميلا كستنائي اللون. ووقفت في موضع يمكنها منه أن ترى الجنود بوضوح، وهم يمرون. وكان بقربها رجلان يركبان جوادين قويين أيضا، فأومأت لهما برأسها عندما أشار أحدهما إلى دارتانيان. وكان من المؤكد أن هذين الرجلين لن يعجزا عن التعرف على دارتانيان مرة أخرى. ثم أصدرت إليهما تعليمات خاصة، بصوت هادئ صادق العزم. وركب الرجلان بعد ذلك، متخذين نفس الاتجاه الذي تسير فيه القوات.
ووقفت القوات على مرأى من روشيل، وأقامت معسكرها انتظارا لقدوم الملك. وإذ انفصل دارتانيان عن أصدقائه الثلاثة، وجد لديه متسعا من الوقت للتفكير في هدوء؛ فمنذ مجيئه إلى باريس، اكتسب خبرات كثيرة، فاتخذ أربعة أصدقاء أوفياء؛ إذ هو بطبيعة الحال يعتبر السيد دي تريفي صديقا حميما.
بيد أنه عندما شرع يفكر في أمر مستقبله، لم يجد سوى الأفكار الكئيبة. وبقدر ما يستطيع أن يرى، وهو الشخص غير ذي المكانة، رأى أنه عادى الكاردينال، وهو الرجل الذي يرتجف أمامه أعظم رجالات المملكة؛ فبوسع الكاردينال أن يسحقه، إلا أنه، ولسبب خفي، لم يفعل. أما عدوه الآخر؛ ميلادي، فكان خوفه منها أقل من خوفه الكاردينال. ورغم هذا، أحس بأنها عدو لا يمكن الاستهانة به.
تأمل دارتانيان في هذه الأفكار، وهو جالس إلى نفسه، فأخذ يسير وئيدا في الطريق الموصل من المعسكر إلى القرية المجاورة، في جو المساء البارد. وبالقرب من المعسكر، جذبت انتباهه حركة بسيطة لشيء على جانب الطريق، على مقربة منه. وتألق هذا الشيء تحت أشعة الشمس، وخيل إليه أنه لمح ماسورة بندقية.
وكان دارتانيان يمتاز بسرعة اللماحية والفهم. وكان من الجلي أن البندقية لم تصل إلى ذلك المكان وحدها، ولم يختبئ الشخص الذي يمسكها، خلف الأعشاب لقصد طيب. وفي اللحظة نفسها، تقريبا، أبصر ماسورة بندقية أخرى تبرز من وراء صخرة على الجانب الآخر من الطريق.
كان من الجلي أن هذا كمين.
نظر مرة أخرى إلى البندقية الأولى، فرآها تصوب نحوه ببطء، وبمجرد أن شاهدها ثبتت لا تتحرك، انبطح على الأرض، وبعد هنيهة، أطلقت البندقية، ومرت الطلقة من فوق رأسه. وعمل دارتانيان على عدم ضياع لحظة واحدة، فهب منتصبا على قدميه، وقفز جانبا. وعلى الفور أطلقت البندقية الثانية، وأصابت الطلقة الأرض التي كان منبطحا فوقها.
لم يكن دارتانيان ليسعى إلى موت تافه؛ كي يقال إنه لم يتقهقر خطوة واحدة، بالإضافة إلى أن الشجاعة هنا ليست جديرة بالاعتبار؛ لذا فقد أطلق دارتانيان العنان لساقيه متجها نحو المعسكر، بأسرع ما تستطيع قدماه أن تفعل. غير أن الرجل الذي أطلق أول طلقة، سرعان ما شحن بندقيته مرة أخرى. وفي هذه المرة، كان تسديدها نحو الهدف أدق من المرة السابقة، فأصابت الطلقة قبعة دارتانيان وأطارتها لمسافة عدة خطوات بعيدا عنه. وإذ لم يكن لديه سوى قبعة واحدة، فقد خاطر بالتوقف ليلتقطها ولحسن حظه لم تطلق طلقة أخرى.
وصل دارتانيان إلى المعسكر ممتقع اللون، مبهور الأنفاس. وذهب مباشرة إلى خيمته دون أن ينطق بكلمة واحدة لأي فرد، بل جلس وحده، وأمسك قبعته، وأخذ يفحص بعناية ذلك الثقب الذي أحدثته الطلقة. لم يكن الثقب بطلقة حربية؛ لذا فلم يكن هذا كمينا نصبه العدو. ولم يخطر بباله أن الكاردينال يلجأ إلى مثل هذا الإجراء الدنيء المشكوك فيه، ليتخلص منه أو من أي عدو آخر.
من الجائز جدا، أن تكون ميلادي قد استأجرت هذين الوغدين لتنفيذ انتقامها، في أول فرصة مناسبة. حاول أن يتذكر ملامحهما، أو ملابسهما، ولكنه كان قد انطلق بسرعة فلم يلاحظهما.
أمر دارتانيان، في تلك الليلة، بوضع الحراسة على خيمته، وبقي هو داخلها معتذرا بأنه متعب للغاية وبحاجة إلى الراحة والهدوء.
الفصل الثامن عشر
مهمة خطرة تأتي بنتائج غير عادية
بعد ذلك بأيام قلائل، قام دوق دورليان، الذي يقود القوات الفرنسية أمام روشيل في غياب الملك، ويقوم بالتفتيش على المعسكر، وأقر كل شيء رآه، وأثنى بخير بنوع خاص على السيد ديسار رئيس الحرس الملكي.
اتجه دوق دورليان نحو الجنود، ورفع عقيرته قائلا: «أريد ثلاثة أو أربعة متطوعين مع قائد قدير، للاضطلاع بمهمة خطرة.»
قال السيد ديسار، وهو يشير إلى دارتانيان: «ها هو ذا الرجل الذي يقودهم، يا سيدي.»
تقدم دارتانيان إلى الأمام، وشهر سيفه قائلا: «هل من أربعة رجال يخاطرون بحياتهم معي؟»
تقدم إلى الأمام اثنان من الحرس، وتبعهما مباشرة جنديان، فوافق دارتانيان على هؤلاء الأربعة، الذين أبدوا رغبتهم بدون تردد.
كانت حامية روشيل قد شنت هجمة في أثناء الليل، واستعادت القلعة التي استولت عليها القوات الملكية قبل ذلك ببضعة أيام.
كانت مهمة دارتانيان فحص تلك القلعة عن قرب، ومعرفة كيفية حراسة العدو لها.
خرج دارتانيان مع رفاقه الأربعة، الحارسان على جانبيه، يتبعهما الجنديان، فساروا متخفين داخل خندق، حتى صاروا على مسافة مئة متر من القلعة، فتوقفوا لكي يتنصتوا وينظروا ما فوق جانب الخندق الذي يحميهم، فاكتشف دارتانيان أن الجنديين ليسا خلفه، فصرخ في نفسه قائلا: «يا لهما من جبناء! ربما نكصا على أعقابهما.»
واستداروا حول زاوية على مقربة منهم، فوجدوا أنفسهم على مسافة خمسين مترا من هدفهم، ولكنهم لم يروا أحدا. وبدت القلعة مهجورة، غير أنهم قبل أن يقرروا ما إذا كانوا يستمرون في تقدمهم أو يمكثون ويراقبون، مرت اثنتا عشرة قذيفة تصفر إلى جانب الثلاثة.
وعرفوا من هذا كل ما أرادوا معرفته؛ فالقلعة محصنة، فتقهقروا إلى الخلف في الحال.
وحين انعطفوا عند زاوية الخندق، سقط أحد أفراد الحرس صريعا؛ إذ أصابته قذيفة في صدره، على حين كان الآخر سليما معافى، ولم يصب بسوء، فاستأنف سيره عائدا إلى المعسكر بأقصى ما أوتي من سرعة.
وإذ انكب دارتانيان على الحارس المصاب لإسعافه، انطلقت قذيفتان أخريان، أصابت إحداهما رأس المصاب، وأصابت الأخرى جانب الخندق، بجوار دارتانيان.
كان من الواضح - بناء على اتجاه القذيفتين - أنهما لا يمكن أن تأتيا من القلعة. وفي لمح البصر، تذكر دارتانيان الجنديين اللذين حاولا الاعتداء على حياته في مساء اليوم السابق؛ فاعتزم في هذه المرة أن يكتشف أمر هذين الرجلين، فوقع فوق جسم الحارس الصريع، وكأنه قد أصيب هو نفسه.
ولم يمض وقت طويل حتى ظهر رأسان حول زاوية جانب الخندق، وكانا رأسي الجنديين. لم يخطئ دارتانيان في حدسه؛ إذ انتهز الرجلان فرصة الخروج مع دارتانيان؛ آملين في أنهما إن قتلاه بدا أن العدو هو الذي قتله، وإذا جرح، اتهما فيما بعد؛ ولذا تقدما نحوه ليتأكدا مما حدث له، ولكن، لسوء حظهما، خدعتهما حيلة دارتانيان؛ إذ لم يعيدا شحن بندقيتيهما. وكان دارتانيان قد احتاط ألا يترك سيفه، فلما صارا على مقربة بضع خطوات منه، هب واقفا على قدميه.
وأدرك القاتلان على الفور، أنه من العبث أن يفرا إلى المعسكر دون أن ينالا منه، فإن أخفقا في ذلك انضما إلى قوات العدو.
وهوى أحدهما ببندقيته على دارتانيان، إلا أن هذا تحاشى الضربة الهائلة بأن قفز جانبا بسرعة البرق، تاركا بعمله هذا ممرا للجندي الآخر، الذي اندفع هاربا في اتجاه القلعة، فأطلق حراس القلعة النار ظانين إياه جنديا ملكيا، فسقط وقد خلعت كتفه.
في الوقت ذاته، هجم دارتانيان على الجندي الآخر، فلم يستغرق القتال معه سوى بضع لحظات، خر بعدها الجندي بضربة سيف في فخذه.
صاح الجندي مسترحما حين سلط دارتانيان طرف سيفه على رقبته، قائلا: «لا تقتلني! اصفح عني! سامحني، وسأعترف لك بكل شيء.»
قال دارتانيان: «لماذا؟ هل سرك عظيم الأهمية بحيث يمنعني قتلك؟» «أجل، إن كنت تعتقد أن الحياة تساوي شيئا لشاب شجاع ووسيم مثلك.»
صاح دارتانيان: «يا لك من وغد! تكلم في الحال! من الذي استأجرك لقتلي؟» «لا أعرف من هي، سوى أنها تدعى ميلادي.» «إن كنت لا تعرفها، فكيف تعرف اسمها؟» «خاطبها صديقي بهذا الاسم، وهو الذي اتفق معها. والواقع أن في جيبه خطابا منها.» «كيف اشتركت في هذا العمل؟» «اقترح علي زميلي أن أنضم إليه، فوافقت.» «ماذا كنت ستربح بعملك هذا؟» «مائة لويس
1
نقتسمها فيما بيننا.»
قال دارتانيان ضاحكا: «إذن فهي تعتقد أنني أساوي شيئا! مائة لويس إغراء قوي لخسيسين من أمثالكما. رغم هذا، سأبقي على حياتك، بشرط واحد.»
سأله الجندي بقلق: «ما هو؟» «أن تذهب وتحضر الخطاب الذي تدعي أنه في جيب زميلك.»
صاح: «لا، لا! ليس هذا سوى طريقة أخرى لقتلي! سيطلق جنود القلعة النار علي، أنا أيضا.» «هيا! فكر في الأمر. اذهب وأحضر الخطاب، وإلا دفعت سيفي في جسدك.»
صاح الرجل جاثيا: «اعف عني، يا سيدي! أشفق علي!»
صاح دارتانيان وهو يهجم على الرجل بوحشية: «لا بد لي من ذلك الخطاب.»
صاح الرجل مذعورا من أن تكون هذه آخر لحظة في عمره: «سأذهب، سأذهب.»
زحف الرجل الجريح نحو زميله وهو يرتعد فرقا من الموت، فلما أبصر دارتانيان الرعب يطل من عيني ذلك الرجل، والدم الذي ينزف منه، أشفق عليه.
قال دارتانيان وهو ينظر إليه شزرا: «قف، سأريك الفرق بين الشجاع والجبان. ابق حيث أنت، وسأحمل عنك عبء هذه المخاطرة.»
أخذ دارتانيان يراقب بحذر حركة الحراس، متخذا من الحفر والصخور ساترا له، حتى وصل في أمان إلى حيث يرقد الجندي الثاني.
كان على دارتانيان أن يعمل أحد شيئين: إما أن يفتش الرجل حيث هو، وإما أن يحمله ويعود به، متخذا إياه درعا، ثم يفتشه في الخندق.
وبدون تردد، قرر دارتانيان الخطة الثانية. وبعد أن رفع الرجل على كتفيه، بلحظة، أطلق الحراس النار.
شعر دارتانيان بثلاث طلقات، على الأقل، تصيب الرجل، وبذا أنقذ حياته من كان سيفقده إياها.
عاد دارتانيان إلى الخندق سليما، فأنزل الجثة، وفتش في جيوبها.
وجد دارتانيان الخطاب في جيب داخلي، فقرأه، فإذا به:
لا تترك ذلك الرجل؛ إذ لو تركته، فأنت تعرف أن يدي تمتد إلى مسافة بعيدة، وأنك ستدفع الثمن غاليا نظير المائة لويس، التي أخذتها مني.
لم يكن بالخطاب توقيع، إلا أنه لم يكن ثمة شك في أن المرسل هو ميلادي. طوى دارتانيان هذا الخطاب ووضعه بعناية في جيبه، إذ هو دليل مادي قوي لإدانتها.
استدار دارتانيان نحو الرجل الجريح، ومد إليه يده قائلا: «هيا، لا يمكنني أن أدعك هنا بحالتك هذه. اتكئ على ذراعي، وهيا بنا نعد إلى المعسكر.»
جثا الرجل على ركبتيه، وانحنى ليقبل قدمي دارتانيان، متوسلا إليه: «أشفق علي! إنك ستعود بي إلى المعسكر ليشنقوني! دعني أمت هنا! رحماك بي!»
قال دارتانيان غاضبا من فرط جبن الرجل: «انهض؛ فقد حصلت على وعدي. للمرة الثانية، سأبقي على حياتك.»
وصل الحارس الآخر إلى المعسكر بسلام، وأعلن عن موت الأربعة الآخرين من فريقه؛ ولذا فقد دهش من بالمعسكر دهشة بالغة، وابتهجوا عندما شاهدوا دارتانيان يعود سليما معافى.
حكى دارتانيان أنهم هاجموا العدو فيما بعد للحصول على مزيد من المعلومات، وأن العدو تمكن من قتل اثنين، وجرح الجندي الذي عاد معه.
أثنى الجيش كله على دارتانيان ثناء عظيما، ولم يكن ثمة حديث طوال ذلك اليوم إلا في هذا الموضوع. وحتى دوق دورليان، امتدحه بحرارة بعد أن سمع تقريره.
والآن، وقد قتل أحد أعداء دارتانيان، وصار كل هم عدوه الآخر هو أن يكون في خدمة دارتانيان، أحس هذا الأخير براحة بال عظيمة.
وقد أثبتت راحة البال هذه، أن دارتانيان أساء الحكم على ميلادي.
الفصل التاسع عشر
عصير أنجو
تعاقبت الأيام، ولم يصل الملك بعد، كما كان متوقعا، ويبدو أنه أصيب بوعكة بسيطة، أدت إلى هذا التأخير.
استمر دارتانيان في عمله هانئ البال، كما هي الحال عندما ينجو إنسان من خطر محدق، غير أن كل ما كان يقلقه هو عدم ورود أخبار عن أصدقائه الثلاثة.
وكم كانت فرحته عظيمة، عندما تسلم الخطاب التالي بعد بضعة أسابيع:
السيد دارتانيان «تشرفت بدعوة السادة آثوس وبورثوس وأراميس إلى منزلي لتناول الشراب، وقد أعجب هؤلاء كثيرا بعصير أنجو، حتى إنهم طلبوا مني أن أرسل لك اثنتي عشرة زجاجة منه، ففعلت.
وتفضل، يا سيدي، بقبول عظيم الاحترام.»
خادمك المتواضع المطيع
جودو
صاح دارتانيان قائلا: «هذا رائع! لقد فكروا في أثناء مسراتهم، مثلما فكرت فيهم أثناء متاعبي، إلا أنني لن أشرب نخبهم وحدي.»
أسرع دارتانيان، من فوره، يبحث عن اثنين بذاتهما من رجال الحرس، كان على صلة جد طيبة بهما. كان أحدهما في نوبته هذه الليلة، والآخر نوبته في الليلة التالية، فاتفقوا على أن يتناولوا العشاء معا في الليلة التالية لنوبة الثاني، ويشربوا نخب أصدقائهم الغائبين.
عهد دارتانيان بزجاجات العصير الاثنتي عشرة، إلى خادمه بلانشيه، وأصدر إليه التعليمات بإعداد عشاء خاص.
ابتهج بلانشيه، وبدأ يعمل بنفس راضية، على ثقة بأن سيده لا بد سيعطيه كأسا من العصير. وكان يساعده في هذا العمل الجندي الزائف، الذي كان، في ذلك الوقت، في خدمة دارتانيان. كما حصل على مساعدة فورو خادم أحد الضيفين.
وحان وقت العشاء، فاتخذ الأصدقاء الثلاثة أماكنهم، وصفت الأطباق على المائدة، وقام بلانشيه بالخدمة، وفتح فورو زجاجات العصير، وصب الجندي بريزمون العصير في الكئوس. ورج فورو أول زجاجة عند فتحها، فإذا بالعصير عكر. وسمح دارتانيان للجندي أن يشرب منه، ثم يملأ الكئوس من زجاجات أخرى.
تناول الضيفان حساءهما، وكانا موشكين على أن يرفعا كأسيهما ليشربا نخب مضيفهما، فإذا بهم يسمعون صوت انطلاق المدافع، فخشي الثلاثة أن يكون قد حدث هجوم مفاجئ، فاستلوا سيوفهم وخرجوا إلى مواقعهم.
وما كادوا يغادرون الحجرة، حتى سمعوا الهتافات: «يحيا الملك. يحيا الكاردينال.» إذن فقد أطلقت المدافع تحية لقدوم الملك.
أخيرا وصل الملك، مع فرسانه وعشرة آلاف رجل. وإذ كان دارتانيان على رأس ضيوفه، فسرعان ما أبصره أصدقاؤه الثلاثة. وانتهى بسرعة حفل الاستقبال، واجتمع شمل الأصدقاء الأربعة مجددا.
صاح دارتانيان مبتهجا وهو يقدم أصدقاءه إلى الحارسين: «ما كنتم لتصلوا في فرصة أفضل من هذه. يمكنكم الآن أن تشتركوا معنا في احتساء عصيركم.»
قال آثوس دهشا: «عصيرنا!» «نعم، العصير الذي أرسلتموه إلي.» «العصير الذي أرسلناه إليك؟» «طبعا، عصير أنجو الذي تغرمون به كثيرا.»
قال آثوس وهو ينظر إلى أراميس بخجل: «هل أرسلت عصيرا، يا أراميس؟» «لا!»
استطرد آثوس يقول: «ولا أنت، يا بورثوس؟» «لم يحدث!»
قال دارتانيان: «حيث إنكم لم ترسلوه، فمن المؤكد أن جود قد أرسله باسمكم.»
قال بورثوس: «مهما يكن مصدره، فهيا نحتسيه.»
قال آثوس بإصرار: «لا، لن نشرب بغباء عصيرا لا نعرف مصدره.»
قال دارتانيان: «ألم تطلبوا من جودو أن يرسل لي بعض العصير؟» «نعم، لم نطلب. ولماذا تظننا طلبنا منه ذلك؟»
أطلعهم دارتانيان على المذكرة وهو يقول : «ها هو الخطاب الذي جاء مع العصير.»
قال آثوس بصوت مضطرب: «لا يمكن أن يكون هذا الخطاب منه. أضف إلى ذلك، أننا لم نتناول العشاء معه منذ عدة شهور. إذن، فهذا الخطاب زائف!»
صمت الأربعة، وكل منهم يجول بخاطره ما يراه من أفكار. وكان دارتانيان هو أول من خرج عن صمته، فصاح قائلا: «ميلادي! أيمكن أن تكون هذه مؤامرة أخرى على حياتي؟» قال هذا، وانطلق فجأة إلى حجرة المائدة، يتبعه أصدقاؤه الثلاثة والضيفان.
كان أول من وقع عليه نظر دارتانيان حين دخل الحجرة، بريزمون وهو يتدحرج على الأرض في ألم ممض، على حين يحاول كل من بلانشيه وفورو إسعافه، وهما شاحبا اللون يرتجفان، ولكن من الواضح أن ذلك الرجل كان يحتضر.
تأوه بريزمون حين وقع بصره على دارتانيان، وقال: «رباه! بعد أن تظاهرت بالعفو عني، ها أنت ذا تقتلني بالسم!»
قال دارتانيان: «ماذا تقول، أيها الخسيس؟»
قال: «أعطيتني العصير، وطلبت مني أن أشربه. أردت أن تأخذ بثأرك!»
قال دارتانيان: «أقسم بشرفي أنني لم أكن أعرف أن العصير مسموم!»
غير أنه لم تكن ثمة فائدة من أن يزيد على قوله هذا؛ إذ مات ذلك الرجل من فوره.
استدار دارتانيان نحو ضيفيه، وقال: «أرجوكما ألا تتفوها بشيء مما حدث. قد تكون لأناس ذوي سلطان عظيم يد في هذا الأمر، ومن الأسلم لكما ألا تكون لكما صلة به.»
وعد الحارسان بألا يذكرا هذا الأمر لأي إنسان، ثم لما رأيا رغبة الأصدقاء الأربعة في الانفراد معا، استأذنا وانصرفا.
قال آثوس: «فلنترك هذه الحجرة، ونأكل في مكان آخر؛ فليس من المستحب وجود الموتى عند تناول الطعام!»
قال دارتانيان وهو مغادر: «أي بلانشيه، أترك جثة هذا الرجل في عهدتك. استدع أحدا وادفنه. إنه في الحقيقة اقترف جريمة، ولكنه ندم عليها.»
وجلس الأربعة في حجرة بالطابق العلوي، وتناولوا طعاما شهيا قدمه لهم صاحب الفندق، وشربوا الماء الذي أحضره لهم آثوس بنفسه، من البئر التي خلف الفندق.
وبينما يتناولون وجبتهم البسيطة، روى دارتانيان لأصدقائه الثلاثة، ما حدث في المحاولتين السابقتين، من إطلاق النار عليه.
الفصل العشرون
فندق برج الحمام الأحمر
بعد ذلك بعدة ليال، كان آثوس وبورثوس وأراميس ممتطين جيادهم ويسيرون الهوينى في طريقهم إلى المعسكر من فندق في القرية المجاورة، فإذا بهم يسمعون وقع حوافر خيول قادمة. وكانوا ثلاثتهم مسلحين تسليحا كاملا، ولكنهم لا يعرفون ما إذا كان الراكبون القادمون أصدقاء، أو أعداء، فتوقفوا عن السير وانضموا معا في وسط الطريق. وفي تلك اللحظة، أضاء القمر من خلف سحابة فأبصروا فارسين. وفي اللحظة ذاتها، أبصر القادمان الرفاق الثلاثة فتوقفا، وبدا أنهما لم يقررا بعد ماذا سيفعلان؛ هل يستمران في طريقهما أم يعودان؟
وبالطبع، كان هذا التردد كافيا لإيقاظ الشكوك في نفوس الفرسان الذين لا يهابون شيئا، فصاح آثوس على الفور: «من هناك؟» فأجاب أحد الراكبين: «من أنت؟»
قال آثوس: «ليس هذا ردا! من الذي يسير هناك؟ أجيبا، وإلا فسنهجم عليكما.»
رد صوت بدا أنه معتاد مثل تلك الأمور: «يجب أن تأخذوا حذركم، أيها السادة.»
قال آثوس لرفيقيه: «من الجائز أن يكون هذا ضابطا ذا رتبة رفيعة يقوم بالتفتيش ليلا. ماذا تقترحان أن نفعل؟»
كرر الصوت الآخر قوله: «من أنتم؟ أجيبوا وإلا فستندمون على عصيانكم!»
قال آثوس وقد تأكد من أن لهذا المتكلم حق السؤال أكثر منهم: «فرسان الملك.» «من أية فرقة؟» «من فرقة السيد دي تريفي.» «تقدموا وأخبروني ماذا تعملون هنا في مثل هذا الوقت؟»
تقدم الرفاق الثلاثة إلى الأمام قليلا وفي بطء، فرأوا المتكلم على بعد بضع خطوات أمام زميله، فأشار آثوس إلى بورثوس وأراميس بأن يتوقفا، وسار بجواده، وحده، إلى الأمام.
قال آثوس: «عفوا، يا سيدي! لم نعرف من أنت. لقد كنا نقوم بالحراسة.»
سأله الضابط الذي احتفظ بجزء من وجهه مغطى بمعطفه: «ما اسمك؟»
قال آثوس، وقد ضايقه السؤال: «ولكن من أنت؟ أحب أن أعرف ما إذا كان لك الحق في أن تسألني أو لا.»
كشف الراكب وجهه، وقال: «ما اسمك؟»
صاح آثوس دهشا: «سيدي الكاردينال!»
كرر الكاردينال، للمرة الثالثة: «ما اسمك؟»
قال: «آثوس .»
نادى الكاردينال تابعه، وقال له بصوت خفيض: «يجب أن يتبعني هؤلاء الفرسان الثلاثة. لا أريد أن يعرف أنني غادرت المعسكر، فإذا تبعونا، تأكدنا من عدم إبلاغهم أي شخص.»
قال آثوس: «نحن رجال، يا سيدي. خذ منا كلمة شرف، ولا تخف! فإننا نحفظ السر، وأنت تعلم ذلك يقينا.»
نظر الكاردينال إلى آثوس لحظة، وقال: «لك أذن حادة السمع، يا سيد آثوس! لا أريدكم أن تتبعوني لأنني لا أثق بكم، ولكن ربما أحتاج إلى حمايتكم. وأعتقد أن زميليك هما السيدان بورثوس وأراميس، أليس كذلك؟»
أجاب آثوس: «بلى، يا سيدي.»
قال الكاردينال: «أعرفكم، أيها السادة. ويؤسفني أنكم لستم من زمرة أصدقائي الخلص، ولكنكم، على الأقل، رجال صناديد ومخلصون. وأنا أضع فيكم ثقتي. اتبعوني من فضلكم.»
قال آثوس: «خيرا تفعل، يا سيدي، بأن تطلب منا مرافقتك؛ فقد رأينا في الطريق كثيرا من الرجال ينبئ مظهرهم على أنهم أشرار، وتعاركنا مع أربعة منهم في فندق برج الحمام الأحمر.»
صاح الكاردينال: «عراك! لماذا، أيها السادة؟ تعلمون أنني لا أحب المشاغبين!» «لهذا السبب، يا سيدي، لي شرف إخبارك به؛ إذ قد يشوه لك الحقائق غيرنا، فتلومنا.»
سأل الكاردينال عابسا: «ماذا إذن كانت نتيجة ذلك العراك؟» «جرح صديقي أراميس جرحا بسيطا في ذراعه، إلا أنه يستطيع الوقوف في ميدان المعركة غدا، إن اقتضى الأمر.»
قال الكاردينال: «إنكم لم تتعودوا السماح لأحد بأن يصيبكم هكذا. كونوا صرحاء، يا سادة. أعتقد أنكم أخذتم بثأركم من شخص ما.»
قال آثوس: «نحن يا سيدي؟ لا؛ فلم نستل سيوفنا على الإطلاق، بل لم أفعل سوى أن أمسكت بالرجل الآثم وقذفت به من الشباك، ويبدو ...» ثم صمت قليلا، واستطرد يقول مترددا: «ويبدو أنه كسرت ساقه نتيجة لسقوطه.»
قال الكاردينال: «رباه! وماذا فعلت، يا سيد بورثوس؟» «لما كنت أعلم، يا سيدي، أن المبارزة محرمة، أمسكت مقعدا خشبيا وهويت به على أحد الأشخاص، وأعتقد أن الضربة كسرت كتفه.» «وماذا فعلت، يا سيد أراميس؟» «كما تعلم، يا سيدي، أنا رجل جد صبور ومحب للعمل وأمقت العراك. وحدث أن هاجمني أحد أولئك الرجال الأشرار، فجرح ذراعي اليسرى، ففقدت صبري، واستللت سيفي، ووضعته أمام جسمي دفاعا عن نفسي، فانقض علي ذلك الرجل بوحشية، فاخترق السيف جسده مباشرة. ولا أعلم يقينا ما حدث له، سوى أنه سقط. ولكني أعتقد أن زميليه حملاه بعيدا.» «يا لرحمة السماء! لقد أصيب ثلاثة رجال في العراك بما يشبه العجز! حقا إنكم تؤدون واجبكم على الوجه الأكمل! وما سبب ذلك العراك؟»
قال آثوس: «كانوا مخمورين، يا سيدي، وخلناهم قد يسببون مضايقة للسيدة التي قدمت إلى الفندق في هذا المساء.» «ما شكل هذه السيدة؟»
أجاب آثوس: «لم نرها، يا سيدي.»
قال الكاردينال بحدة: «لم تروها! إذن فقد فعلتم خيرا بالدفاع عن سيدة. وأنا، بالصدفة، في طريقي إلى فندق برج الحمام الأحمر، وسأتحقق من أقوالكم.»
قال آثوس مزهوا: «سبق أن قلت لسيادتك إننا رجال! نحن لا نكذب لكي نحمي أنفسنا.»
قال الكاردينال: «رباه! أنا لا أرتاب في كلامكم لحظة واحدة، ولكن هل كانت هذه السيدة وحدها؟» «لا، على ما يبدو أن شخصا ما قد زارها، ولكنه، رغم الضوضاء، لم يظهر. وعلى ذلك، فمن المؤكد أنه جبان.»
قال الكاردينال: «لا تتسرع في الحكم! اتبعوني.»
وفي دقائق وصلوا إلى فندق برج الحمام الأحمر، وبالقرب من الباب، أمر الكاردينال خادمه والفرسان بالتوقف، وتقدم بعد ذلك، من باب جانبي، وطرق ثلاث طرقات بطريقة خاصة، فخرج رجل يرتدي معطفا فضفاضا، وتحدث إلى الكاردينال لبضع لحظات، ثم قفز فوق حصانه الذي كان منتظرا هناك، وانطلق به.
قال الكاردينال بعد انصراف ذلك الفارس الغريب: «اقتربوا، يا سادة. لقد نطقتم بالصدق، ولن يكون خطئي، إذا كانت نتائج اجتماعنا في هذا المساء في غير صالحكم، في يوم من الأيام.»
ترجل الكاردينال وأمر الآخرين بأن يفعلوا مثله، ثم سلم عنان فرسه لخادمه، وربط الفرسان الثلاثة أعنة خيولهم في السياج.
من الجلي أن صاحب الفندق، الذي جاء إلى الباب بنفسه، كان يتوقع مجيء ضابط، ولكنه لم يكن يعرف من هو.
سأله الكاردينال: «هل عندك حجرة بمدفأة في الدور الأرضي، ليبيت فيها هؤلاء السادة ويستمتعوا بالدفء؟»
انحنى صاحب الفندق، وقادهم إلى حجرة فسيحة استبدل فيها بالموقد الحديدي القديم، موقد آخر كبير تضطرم بداخله نار.
أبدى الكاردينال استحسانه قائلا: «هذه حجرة رائعة! ادخلوا، يا سادة، وأرجو أن تنتظروا هنا؛ فلن أتأخر عنكم طويلا.»
دخل الفرسان الثلاثة، على حين صعد الكاردينال إلى الطابق العلوي مباشرة، وكان واضحا أنه يعرف الطريق جيدا.
جلس بورثوس وأراميس إلى مائدة بقرب المدفأة، وأخذ آثوس يذرع أرض الحجرة جيئة وذهابا، مفكرا فيمن سيشرفه الكاردينال بمثل هذه الزيارة الخاطفة. وبينما هو يسير هكذا في الحجرة، كان يمر مرارا بالموقد القديم غير المستعمل. وكانت أنبوبة المدخنة المكسورة تخترق السقف وتتصل بمدفأة في الحجرة العليا.
وفي كل مرة يمر فيها آثوس بالأنبوبة، يخيل إليه أنه يسمع تمتمة أصوات؛ لذا توقف عندها متنصتا. وقد أمتعه ما سمعه؛ إذ أشار لصديقيه بالتزام الصمت والتقدم من أنبوبة المدخنة المكسورة.
سمعوا الكاردينال يقول: «اسمعي، يا ميلادي؛ فهذا الأمر بالغ الأهمية.»
فكر آثوس فيما سمع، وصاح في نفسه متعجبا: «رباه! ميلادي!» واقترب بأذنه ووضعها على الأنبوبة، وبذا أمكنه أن يميز بوضوح كثيرا من المحادثة.
بعد لحظات قلائل، أخذ بأيدي صديقيه وقادهما إلى الطرف الآخر من الحجرة.
قال بورثوس: «ما الأمر؟ لم لا تصغي لنهاية الحديث؟»
قال آثوس هامسا: «صه! لقد سمعت كل ما أريد سماعه. وفضلا عن هذا، يجب أن أنصرف قبل أن ينزل الكاردينال.»
قال بورثوس: «وماذا نقول له إن سأل عنك؟»
قال: «لا تنتظراه حتى يسأل. تكلما أولا. أخبراه بأنني خرجت لأفحص المنطقة المحيطة بالفندق؛ إذ لدي سبب يجعلني أرتاب في الطريق. وسأخبر رجل الكاردينال بالشيء نفسه وأنا مغادر. لا تقلقا علي ولا على ما سأفعله.»
رجع بورثوس وأراميس إلى مكانيهما قرب المدفأة، يستمتعان بدفئها.
خرج آثوس، فحل عنان جواده وشرح لتابع الكاردينال سبب مغادرته قبل زميليه. وامتطى صهوة فرسه، وانطلق بسيف مسلول في الطريق المؤدية إلى المعسكر.
الفصل الحادي والعشرون
ميلادي تستقبل زائرا غير متوقع
لم يكد آثوس يبتعد بحصانه كثيرا ، حتى استدار بعيدا عن الطريق، وانبرى عائدا، حتى صار على مقربة من فندق برج الحمام الأحمر، فترجل واختبأ خلف سياج مرتفع من النباتات المتسلقة، ليس ببعيد عن الطريق. ولم ينتظر هناك طويلا حتى أبصر الكاردينال وجماعته يمرون في طريقهم عائدين إلى المعسكر، فتركهم يمرون بخيولهم حتى اختفوا عن ناظريه، وامتطى جواده وأسرع عائدا إلى الفندق.
فتح صاحب الفندق الباب، فعرفه على الفور. وبادره آثوس: «أرسلني الضابط الذي زار السيدة بالدور العلوي، برسالة نسي أن يعطيها إياها.»
رد صاحب الفندق: «السيدة لا تزال في حجرتها. اصعد إليها.»
صعد آثوس من فوره، محاذرا وهو يسير بخفة قدر الإمكان، فأبصر ميلادي من خلال الباب المفتوح تلبس قبعتها، فتسلل إلى الحجرة، وأقفل الباب خلفه بالمزلاج، فالتفتت ميلادي على صوت المزلاج.
وقف آثوس عند الباب متلفعا بمعطفه ويخفي عينيه بقبعته وذهلت ميلادي لهذا الشخص الصامت الساكن الذي لا يتحرك، كأنه تمثال.
صاحت تسأله: «من أنت؟ ماذا تريد؟»
ردد آثوس لنفسه قائلا: «نعم، إنها هي.»
وأطلق معطفه، وخلع قبعته، وخطا نحوها قائلا: «أتعرفينني، يا سيدتي؟»
تقدمت ميلادي خطوة إلى الأمام، ثم تقهقرت إلى الخلف مذعورة وكأنها أبصرت أفعى.
تمتمت تقول وقد امتقع لونها: «الكونت دي لا فير!»
قال آثوس: «نعم، الكونت دي لا فير بشخصه؛ زوجك! فلنقل كما قال الكاردينال منذ لحظة قصيرة: اجلسي ودعينا نتحدث.»
جلست ميلادي مرتعبة، ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة.
قال آثوس: «لم يدر بخلدي قط أن توجد امرأة شريرة مثلك! ها قد اعترضت طريقي مرة أخرى. ظننتك شنقت وتخلص العالم منك. لكن يبدو أنني كنت مخدوعا، إلا إذا كنت قد عدت إلى الحياة ثانية من الجحيم!»
رفعت ميلادي رأسها حين سمعت هذه الألفاظ التي ذكرتها بأحداث الماضي الأليمة.
استطرد آثوس، يقول: «نعم، منحتك الجحيم الحياة من جديد، ومنحتك ثروة واسما آخر، ولكنها لم تستطع أن تمحو عنك سواد روحك، ولا علامة العار من كتفك.»
هبت ميلادي واقفة فجأة، وعيناها تقدحان بشرر الغضب، غير أن آثوس ظل جالسا لا يتحرك.
استأنف آثوس كلامه: «ظننتني مت، كما ظننتك أنا كذلك. لقد أخفى اسم آثوس الكونت دي لا فير، مثلما أخفى اسم ليدي وينتر اسم آن دي بريي. ألم يكن كذلك قبل أن نتزوج؟»
قالت ميلادي بصوت واهن مضطرب: «ماذا جاء بك إلي؟ ماذا تريد مني؟» «أريدك أن تعلمي أنه رغم غيابك عن ناظري، فإن حياتك كانت ظاهرة لي ككتاب مفتوح أمامي.» «ماذا تعرف عني؟» «بوسعي أن أخبرك بكل شيء اقترفته، يوما بيوم، منذ دخولك في خدمة الكاردينال، حتى هذا المساء.»
ابتسمت ميلادي ابتسامة شاحبة، وهي تستعيد بعض الثقة؛ إذ خالته يبالغ في قوله.
أضاف آثوس بحدة: «اسمعي! ليس لدي وقت لأسرد عليك قائمة بكل جرائمك، أو أصف لك حياتك الشريرة. ورغم ذلك، اكتشف دارتانيان سرك المخزي. هل تنكرين أنك استأجرت رجلين ليتتبعاه، وعندما أخطأته قذائفهما، مرتين، أرسلت له نبيذا مسموما، مع خطاب زائف؟ ثم .. ومنذ بضع دقائق فقط، في هذه الحجرة، ارتبطت بعهد مع الكاردينال على أن تقتلي دوق بكنجهام، ونظير هذه الخدمة، سيسمح لك الكاردينال بقتل دارتانيان. وكان من ضمن الكلمات التي استعملتها: «حياة بحياة، ورجل برجل. أليس كذلك؟»»
صاحت ميلادي، التي غدا وجهها شاحبا شحوب الموت: «لا بد أنك الشيطان نفسه!»
قال آثوس: «ربما، ولكن أصغي تماما وبإمعان إلى ما سأقول. يمكنك أن تفعلي ما تشائين فيما يختص بدوق بكنجهام؛ تغتالينه أو تعملين على اغتياله، هذان سيان بالنسبة لي، ولكنك إن لمست بطرف إصبعك شعرة واحدة من رأس دارتانيان، فإني أقسم برأس أبي على أن هذه الجريمة ستكون آخر عهدك بالحياة!»
بقي آثوس صامتا لبضع لحظات، وقد ثبت عينيه على ميلادي، وصار وجهه صلبا ينم عن عزم ومضاء. ونهض بطيئا من مقعده وأخرج مسدسه من جرابه. وشحب وجه ميلادي شحوب الموتى، وبدت كأنها تحولت إلى تمثال حجري. وحاولت أن تصرخ، ولكن تجمدت الأصوات في حلقها.
رفع آثوس المسدس ببطء، ومد ذراعه، وصوبه نحوها، وهو يتحدث بصوت مرعب، تدل لهجته على الحسم وقوة العزيمة، قائلا: «أعطيني، في الحال، تلك الورقة التي وقعها الكاردينال معك، وإلا نسفت رأسك!»
كان من الممكن أن ترتاب ميلادي في أي رجل آخر، أما بالنسبة لآثوس، فلا. كانت تعرف أنه رجل الكلمة، وقرأت في وجهه الدال على الإصرار وقوة العزيمة، أنه يوشك على أن يطلق النار، فأخرجت الورقة من جيبها سريعا، وقدمتها إليه.
فض آثوس الورقة، وقرأ:
3 من ديسمبر سنة 1627
إنه بأمري ولصالح الدولة فعل حامل هذه ما فعله.
ريشلييه
غادر آثوس الحجرة دون أن ينظر خلفه. وفي الخارج كان ثمة فارسان، وحصان أرسله الكاردينال ليحمل ميلادي إلى الميناء في الانتظار.
يمم آثوس نحو الفارسين، وقال: «أيها السيدان، لا تنسيا أن الأوامر التي لديكما هي مرافقة السيدة فورا إلى الميناء، وألا تتركاها إلا بعد أن تصعد على ظهر السفينة.»
كانت هذه التعليمات هي نفسها التي تلقاها الفارسان من قبل، فحيا الرجلان آثوس علامة على الإذعان.
قفز آثوس على ظهر حصانه، وركض به. وبدلا من السير في الشارع، اختصر الطريق عبر الحقول. وتوقف مرتين وأصغى، ولكنه لم يسمع شيئا. أما في المرة الثالثة، فسمع وقع حوافر خيول مقبلة فتيقن في نفسه أنها خيول الكاردينال وجماعته؛ فتحاشاهم وسبقهم بحصانه إلى مكان بجوار المعسكر قبلهم بمسافة ما.
وهناك أسرع فمسح العرق المتصبب من جسم جواده، واتخذ مكانا في وسط الطريق، وانتظر.
عندما اقترب الركبان، صاح آثوس: «من هناك؟»
قال الكاردينال: «أهذا فارسنا الشجاع؟»
قال بورثوس: «أجل، يا سيدي. إنه هو.»
قال الكاردينال: «أشكر لك حراستك المتيقظة يا سيد آثوس.»
وحين بلغوا مدخل المعسكر، حيا الكاردينال الأصدقاء الثلاثة، واستمر في طريقه مع تابعه.
حين ابتعد الكاردينال مسافة كافية، صاح آثوس: «بحوزتي الورقة التي وقع عليها.»
لم يتفوه الأصدقاء الثلاثة بكلمة واحدة بعد ذلك، وهم في طريقهم إلى مقرهم، إلا بإعطاء أفراد الحراسة كلمة السر.
الفصل الثاني والعشرون
عقد رهان سخيف على عمل خطير
ما إن وصل الأصدقاء الثلاثة إلى مقرهم، حتى أرسل آثوس في طلب دارتانيان.
رأى آثوس أنه من الخطر الكلام بحرية حيث هم؛ لذا قرروا تناول طعام الإفطار مبكرا في فندق القرية، حيث يختلفون معا. رفض آثوس أن يفصح بكلمة واحدة قبل أن يبلغوا مكانا يمكنهم التحدث فيه دون أن يتنصت عليهم أحد، وحيث يبدو اجتماعهم طبيعيا.
ولسوء حظهم، وجد أن الفندق غير مناسب للحديث الخاص؛ إذ دائما ما يأتي إلى هناك أفواج من رجال الحرس، والفرسان، والجنود لطلب المرطبات؛ لذا طرحوا فكرة المناقشة الخاصة مؤقتا، وانهمكوا في حديث عام.
كان أهم ما دار حوله الحديث، هو الهجوم الذي شن على القلعة في اليوم السابق، وطرد جنود روشيل، على حين غادر جنود الملك القلعة؛ خشية أن تسقط جدرانها عليهم.
قال آثوس لأربعة من ضباط الحرس: «أيها السادة، لدي رهان أريد أن أعقده معكم: أراهن على أن أتناول، أنا ورفاقي الثلاثة، طعام الإفطار في القلعة. وسنمكث هناك ساعة كاملة، رغم ما قد نتعرض له من العدو لإجبارنا على تركه.»
نظر بورثوس وأراميس، كل إلى الآخر، نظرة ذات مغزى.
قال السيد دي بوسيني، وهو أحد الضباط: «إذن، فلنحدد قيمة الرهان.»
قال آثوس: «أنتم أربعة رجال، ونحن أربعة؛ ومن ثم، فلتكن قيمة الرهان العشاء هنا في الساعة الثامنة؟ أهذا يكفي؟»
وافق الضباط الأربعة، على الفور.
نادى آثوس خادمه جريمو، وأشار إلى سلة كبيرة في الركن.
فهم جريمو أن سيده يريد منه أن يضع في السلة طعام الإفطار، الذي أحضره صاحب الفندق. وبعدها ينطلق الأصدقاء الأربعة، يتبعهم جريمو بالسلة إلى القلعة.
وعندما غادروا المعسكر، استدار دارتانيان نحو آثوس قائلا: «أخبرني، يا آثوس، إلى أين نحن ذاهبون؟» «لا داعي لهذا السؤال؛ يمكنك أن ترى بوضوح أننا ذاهبون إلى القلعة.» «نعم، ولكن ماذا سنعمل هناك؟» «نتناول الإفطار.»
قال دارتانيان بضيق: «ولم لا نفطر في الفندق؟ أنت غامض في هذا الصباح، يا آثوس!»
قال آثوس: «لدينا أشياء هامة يجب مناقشتها. ومن المستحيل أن نتكلم ولو لدقيقتين فقط في الفندق، دون مقاطعة. أما في القلعة، فنستطيع على الأقل أن نتكلم بحرية.»
قال دارتانيان: «يبدو لي أنه كان بوسعنا أن نتكلم بحرية في الحقول، أو على شاطئ البحر .»
قال آثوس: «هناك سوف يلاحظوننا، نحن الأربعة، في الحال، وبعد ربع الساعة يصل الخبر إلى الكاردينال عن طريق عيونه، بأننا نعقد جلسة سرية.»
استطرد آثوس قائلا: «عقدنا رهانا، وأتحدى أي شخص غيرنا، أن يخمن الغرض الحقيقي من هذا الرهان. ولكي نكسبه، سنبقى داخل القلعة ساعة كاملة، سواء هوجمنا أو لم نهاجم؛ فهذا لا يهم. سيكون لدينا متسع من الوقت للحديث، وأنا على يقين من أن تلك الحوائط ليس لها آذان! فإذا هوجمنا، فلا يزال بمقدورنا أن نتحدث في شئوننا. أضف إلى ذلك أننا في دفاعنا عن أنفسنا، نجلل أنفسنا بالمجد والفخار. وهكذا ترى أن كل شيء في صالحنا.»
قال دارتانيان: «نعم، ولكن من المؤكد أننا سنكون هدفا لقذائف العدو.»
قال آثوس: «هذا ممكن جدا، ولكنك تعرف، كما أعرف أنا، أن القذائف التي تخشى أكثر من أي شيء، لا تأتي من العدو!»
قال بورثوس: «كان علينا أن نسلح أنفسنا لمثل هذا العمل الخطير.»
رد آثوس: «سيكون هذا عبئا عديم الجدوى. أنسيت ما أخبرنا به دارتانيان عن الهجوم الذي حدث بالأمس؟»
سأله بورثوس بحدة: «ماذا قال؟»
أجاب آثوس: «في هجوم الأمس، قتل ثمانية جنود أو عشرة في القلعة، ومثلهم من رجال روشيل.» «وبعد؟»
رد آثوس: «لم يدفنوا، ولم تؤخذ أسلحتهم؛ لذا سنجد بنادقهم وبارودهم وخراطيشهم.»
عند ذلك وصل الأربعة إلى القلعة، وتطلعوا فيما حولهم، فوجدوا ثلاثمائة جندي على الأقل، في جماعات صغيرة، على طول حدود المعسكر. وفي إحدى تلك الجماعات، تعرفوا على السيد دي بوسيني، وأصدقائه الثلاثة.
خلع آثوس قبعته ووضعها على طرف سيفه، ولوح بها في الهواء.
وعندما دخل الأربعة القلعة، أمكنهم سماع هتافات الجنود من بعيد.
الفصل الثالث والعشرون
انعقاد مجلس الأربعة في ظل ظروف صعبة
كما كان متوقعا، وجد المغامرون الأربعة اثنتي عشرة جثة داخل القلعة، فجمعوا بنادقهم الاثنتي عشرة في الحال، وشحنوها تحسبا لأي هجوم يحدث.
افترش الأربعة الأرض، حول طعام الإفطار الذي وضع على مفرش أبيض. وأعطى آثوس خادمه نصيبا من الطعام، وأمره بالحراسة.
قال دارتانيان: «لا خوف الآن من أن يسمعنا أحد؛ وعلى هذا، فأرجو أن تطلعني سريعا على سرك.»
قال آثوس: «السر هو أنني زرت ميلادي في الليلة الماضية.» «زرت زوج...!»
قاطعه آثوس قائلا: «صه! أنسيت أن هذين السيدين لا يعلمان شيئا عن شئوني العائلية؟ لقد رأيت ميلادي.»
قال دارتانيان: «أين؟» «في فندق برج الحمام الأحمر.»
قال دارتانيان: «إذن، فقد ضعت!»
قال آثوس: «لا! ليس الأمر سيئا إلى هذه الدرجة، يا صديقي. ربما تكون ميلادي قد غادرت الشواطئ الفرنسية، الآن.»
تنفس دارتانيان الصعداء.
سأل بورثوس بصوته العميق: «ومن هي ميلادي هذه؟»
قال آثوس: «امرأة فاتنة. امرأة بالغة الفتنة. يبدو أنها مغرمة بدارتانيان كثيرا، لدرجة أنها استأجرت رجلين ليغتالاه، فحاولا ذلك مرتين، ولكنهما أخفقا. ثم أرسلت له هدية قيمة من العصير المسموم، والذي كنا نوشك على أن نشاركه إياه. وفي الليلة الماضية، طالبت الكاردينال برأسه.»
صاح دارتانيان، وقد شحب لونه: «مستحيل!»
قال بورثوس: «نعم، هذا جد صحيح، لقد سمعتها بأذني.»
قال أراميس: «وأنا أيضا.»
رد دارتانيان، وقد ثبطت عزيمته تماما: «إذن، فلا جدوى لي من النضال بعد ذلك. يمكنني أن أنسف رأسي، فينتهي كل شيء.»
قال آثوس: «هذا غباء محض طالما لا علاج لذلك. يا لرحمة السماء! يشير جريمو بالاستعداد لاستقبال زائرين.»
لقد أنبأهم جريمو، بأن العدو يتقدم نحو القلعة.
قال آثوس: «كم رجلا؟» «عشرون.» «وما نوعهم؟» «ستة عشر عاملا، وأربعة جنود.»
نهض آثوس، والتقط بندقية محشوة، وتقدم من فتحة في الحائط، وحذا بورثوس وأراميس ودارتانيان حذوه. ووقف جريمو خلفهم تماما، على استعداد لإعادة شحن بنادقهم بمجرد إطلاقها.
تقدم العدو داخل خندق يربط بين المدينة والقلعة، ووقف آثوس مكشوفا تماما ليراقبهم.
صاح دارتانيان: «خذ حذرك، يا آثوس! ألا تراهم يصوبون بنادقهم نحوك؟»
في تلك اللحظة، أطلق الجنود الأربعة بنادقهم فأصابت طلقاتهم الحائط قريبا من آثوس.
وردت عليهم أربع طلقات مسددة بإحكام، فسقط ثلاثة جنود قتلى، وجرح جندي.
وبسرعة تم تغيير البنادق، وانطلقت مرة أخرى، فسقط الجندي الجريح، واثنان من العمال قتلى. وعندئذ فر بقية الرجال هاربين .
صاح آثوس: «والآن، هيا بنا نطاردهم، يا سادة.»
اندفع الأربعة خارجين من القلعة إلى ساحة المعركة، غير أنهم سرعان ما اقتنعوا بأن العدو لن يتوقف حتى يصل إلى موضع الأمان في المدينة. ولذا جمعوا بنادق الجنود الأربعة القتلى، وعادوا إلى القلعة ظافرين.
قال دارتانيان: «أتذكر أنك قلت إن ميلادي ستكون الآن قد غادرت شواطئ فرنسا، فإلى أين ستذهب؟» «إلى إنجلترا.» «وما هدفها؟»
أجاب آثوس: «هدفها أن تغتال دوق بكنجهام، أو تعمل على اغتياله. ولكن هذا لا يهمني في قليل أو كثير.»
استدار آثوس نحو خادمه، وقال: «أي جريمو، اربط فوطة مائدة في ساق خشبية، وضعها بحيث ترفرف فوق القلعة؛ فيبين هذا للعدو، أنهم يتعاملون مع جنود صناديد مخلصين من جنود الملك.»
أطاع جريمو الأمر، وسرعان ما كان العلم الأبيض يرفرف عاليا فوق الأبطال الأربعة، فاستقبل ظهور العلم بهتافات عالية من المعسكر.
استمر الأصدقاء الأربعة في تناول طعام الإفطار، والتحدث عن ميلادي. وارتجفت يدا دارتانيان حين فتح آثوس الورقة التي أجبر ميلادي على أن تسلمه إياها.
قال دارتانيان، وكأنما في هذه الورقة الحكم بإعدامه: «يجب تمزيق هذه الورقة!»
قال آثوس: «لا؛ فلهذه الورقة أهمية أكثر مما تظن.»
سأله دارتانيان: «ولكن، ماذا هي فاعلة الآن؟»
رد آثوس: «لا شك في أنها ستكتب للكاردينال، تبلغه أن فارسا ملعونا اسمه آثوس أجبرها على أن تسلمه الورقة التي تحميها. ومن المحتمل أن تشير عليه، في الوقت نفسه، بالتخلص من صديقيه أراميس وبورثوس. وعندئذ يتذكر الكاردينال أننا اعترضنا طريقه أكثر من مرة. وفي صباح جميل مشرق، عندما يقبض على دارتانيان، ويلقى في غياهب السجن، سيرسلوننا إليه لنؤنس وحدته!»
صاح دارتانيان: «عندي فكرة.»
بادره الثلاثة الآخرون، في صوت واحد، قائلين: «ما هي؟»
قاطعهم صياح جريمو بقوله: «إلى السلاح!»
هب الشبان الأربعة المغامرون، وأمسكوا بنادقهم.
كان العدو القادم، في هذه المرة، أكثر عددا، كانوا ما بين عشرين وخمسة وعشرين رجلا. وكانوا كلهم جنودا مسلحين.
قال بورثوس: «فلنعد إلى المعسكر، إذ لا أظن أن الجانبين متعادلان تماما.»
رد آثوس : «لن يحدث هذا؛ لثلاثة أسباب؛ أولا، لم ننه إفطارنا، وثانيا، لدينا أمور هامة جدا تجب مناقشتها، وثالثا، لا يزال أمامنا عشر دقائق لنكمل مدة الساعة!»
قال أراميس: «في هذه الحالة، فلنعد خطة للقتال.»
قال آثوس: «لا شيء أسهل منها؛ فبمجرد اقتراب العدو، حتى يصير على مرمى أسلحتنا، نطلق النار. فإن استمر في الزحف، أعدنا الكرة، مرة ومرات، ما دامت لدينا بنادق محشوة، فإن استمر الباقون في هجومهم، فلنستدرجهم إلى الخندق أسفلنا، ثم ندفع فوقهم الجدار الذي لا يزال قائما بمعجزة.»
أثنى الجميع على هذه الخطة، قائلين بأنها رائعة، وصوب كل واحد منهم بندقيته نحو جندي.
صاح آثوس: «أطلقوا النار!»
وأطلقت أربع بنادق، فسقط أربعة جنود صرعى.
ودق العدو طبوله بسرعة أكثر، فتقدمت الفرقة الصغيرة عدوا. واستمر الأربعة في إطلاق النار، وأخذ الجنود في السقوط، على حين استمر الباقون يتقدمون.
وأخيرا، وصل اثنا عشر جنديا إلى الخندق أسفل جدران الحصن. وبدون توقف، أخذوا يستعدون للتسلق.
صاح آثوس: «والآن، الجدار، الجدار!»
انقض الأربعة، يساعدهم جريمو، على الجدار الضخم الذي يميل إلى الخارج، فدفعوه ببنادقهم، فهوى إلى الخندق محدثا دويا هائلا، وإذا بصرخات الجنود المحبوسين في الخندق تتعالى، وارتفعت سحابة ضخمة من الغبار، وبدا السكوت الذي أعقب هذا، غير عادي.
قال آثوس: «لست أدري، ما إذا كنا قد أبدناهم جميعا أو لا.»
قال دارتانيان: «يبدو أننا أبدناهم جميعا.»
صاح آثوس: «لا؛ فهناك ثلاثة أو أربعة يزحفون إلى الخارج.»
والواقع أن أربعة جنود، سيئي الحظ، مسربلين بالتراب والدم، كانوا في طريقهم داخل الخندق عائدين إلى المدينة. كانوا هم وحدهم الأحياء من القوة المهاجمة.
الفصل الرابع والعشرون
خاتم يحل مشكلة خطيرة
قال آثوس: «سادتي، لنا الآن ساعة كاملة داخل القلعة؛ لذا فقد كسبنا الرهان، ولكننا لا نستطيع المغادرة حتى يخبرنا دارتانيان بفكرته.»
قال دارتانيان: «فكرتي، أن نذهب إلى إنجلترا ونحذر بكنجهام. كنت هناك ذات مرة، فأثنى علي هذا الدوق كثيرا عن دوري في ماسات الملكة.»
قال آثوس: «لا، لا يمكنك أن تفعل هذا، يا دارتانيان ! فعندما ذهبت إلى إنجلترا، قبل اليوم، لم نكن في حرب معها. أما الآن، فنحن في حرب معها، وبكنجهام عدونا، وزيارتك إياه تعد خيانة عظمى!»
لم يمض وقت طويل حتى قطع حديثهم صفارة الإنذار العام بالخطر، في المدينة.
قال آثوس: «يبدو أنهم في طريقهم لإرسال فرقة كاملة لقتالنا. فليأتوا إذن، فسوف تستغرق مسيرتهم ربع الساعة من المدينة إلى هنا، وفي هذا الوقت، نكون بالتأكيد قد فكرنا في خطة ما؛ فإن غادرنا هذا المكان، فلن نجد مكانا آخر مناسبا. آه! انتظروا لحظة؛ فلدي فكرة.»
نادى آثوس خادمه جريمو، وأشار أولا، إلى جثث الجنود القتلى في القلعة، ثم إلى الحوائط، وأخيرا إلى قبعاتهم وبنادقهم، فصاح دارتانيان: «يا لك من رجل عظيم! لقد فهمت الآن.»
قال بورثوس: «أحقا؟»
قال أراميس: «هل فهمت، يا جريمو؟»
وكان جريمو منهمكا في العمل.
قال آثوس: «والآن، هيا لننفذ الفكرة. هذه المخلوقة، هذه المرأة الشريرة التي تدعى ميلادي، أليس لها أخو زوج، يا دارتانيان؟» «بلى، وأعرفه جيدا، كما أعرف أيضا أن علاقته بأرملة أخيه ليست كما يجب.»
عقب آثوس بقوله: «إن كان يمقتها، فهذا أفضل.»
قال بورثوس: «رغم ذلك، أريد أن أعرف ما يفعله جريمو.»
قال أراميس: «اسمع، يا بورثوس!»
قال آثوس: «ما اسم شقيق زوجها هذا؟» «لورد وينتر.» «وأين هو الآن؟» «لقد عاد إلى إنجلترا عند أول إشارة للحرب.» «حسن، فلنحذره، ونخبره بزيارتها وهدفها. ويقينا، سيجد لها مكانا يمكن أن يسجنها فيه، وعندئذ نحظى بالأمان.»
قال بورثوس: «رغم عدم قدرتنا على ترك المعسكر للذهاب إلى إنجلترا، فبوسع رجالنا أن يفعلوا.»
قال أراميس: «بالطبع يستطيعون. فلنكتب خطابا، ونزود رسولنا بالمال الكافي، وبوسعه أن يرحل اليوم.»
قال آثوس: «مال! هل معكم أي مال؟»
نظر كل واحد من الأربعة إلى الآخر بوجه مكفهر، وهو يعلم أنهم هم الأربعة جميعا، لا يمكنهم تدبير المال الكافي لتلك الرحلة.
قال دارتانيان وهو يقفز منتصبا على قدميه: «احترسوا! لقد تكلمت عن فرقة من الجنود، يا آثوس، ولكن ها هو ذا جيش قادم.»
قال آثوس: «أقسم بشرفي إنك لعلى حق. هل انتهيت من عملك، يا جريمو؟»
أشار جريمو إلى الاثنتي عشرة جثة التي صفها على الحائط؛ بعضها يحمل بنادق، وبعض آخر يبدو وكأنه يصوبها، ويمسك الباقون السيوف في أيديهم.
صاح آثوس: «مرحى! مرحى! هذا عمل عظيم يشرفك، يا جريمو!»
قال بورثوس: «هذا رائع، ولكني أحب أن أفهم!» «فلننصرف من هنا الآن، وستفهم فيما بعد.»
كان جريمو قد انصرف بسلة الإفطار، ثم خرج في إثره الأصدقاء الأربعة، إلا أنهم بمجرد أن غادروا القلعة حتى توقف آثوس.
سأله أراميس: «هل نسيت شيئا؟» «العلم! يجب ألا نترك العلم في أيدي العدو، حتى ولو كان مجرد فوطة مائدة!»
قال هذا، وجرى عائدا إلى القلعة، فتسلق إلى القمة، وأنزل فوطة المائدة. وفي تلك الآونة، كان العدو على مرمى البنادق، فلما أبصر رجلا يعرض نفسه لهم بغباء، أطلق النار عليه.
لم يصب آثوس، وكأنه يحمل تعويذة سحرية. ومع ذلك، فقد اخترقت ثلاث طلقات الفوطة، وجعلت منها علما حقيقيا!
نزل آثوس، وانضم إلى أصدقائه الذين كانوا ينتظرونه بهدوء، وأداروا ظهورهم إلى القلعة، متجهين نحو المعسكر بخطى وئيدة.
بعد ذلك بلحظة، سمعوا أصوات طلقات سريعة متلاحقة.
صاح بورثوس: «ما هذا؟ على أي شيء يطلقون قذائفهم الآن؟ ما من قذائف تنفذ إلى هذه الناحية، ولا يمكنني أن أرى أحدا.» «إنهم يطلقون القذائف على الجثث التي في القلعة.» «ولكن الموتى لا يمكنهم الرد على نيرانهم!» «بالطبع لا. ولكن في الوقت الذي يكتشف فيه الجيش الحيلة، نكون نحن في أمان بعيدا عن مدى نيرانهم؛ ولهذا السبب، لسنا بحاجة إلى الجري لكيلا نصاب بالبرد.»
صاح بورثوس بدهشة: «رباه! الآن فهمت!»
قال آثوس وهو يهز رأسه ببطء: «أخيرا!»
إلا أن القذائف سرعان ما أطلقت على المغامرين الأربعة؛ فقد استولى العدو على القلعة.
قال آثوس: «أقسم بشرفي، إنهم جنود مساكين! لست أدري كم قتلنا منهم، ربما اثني عشر.» «أو خمسة عشر.» «وكم سحقنا تحت الجدار؟» «ثمانية أو عشرة.» «وفي مقابل ذلك، لم نصب بخدش، ولكن ماذا أصاب يدك، يا دارتانيان ؟ يبدو أنها تنزف.»
قال دارتانيان: «إنه لا شيء، انحشرت أصابعي بين حجرين فقطع الجلد. هذا هو كل ما حدث.»
عقب آثوس قائلا: «هذا نتيجة لبس الماس، يا صديقي الصغير.»
صاح بورثوس: «أيوجد هذا الماس ونشغل أنفسنا بموضوع المال؟»
قال آثوس: «هذا تفكير صائب، يا بورثوس! في هذه المرة لك فكر يعتد به!»
قال بورثوس مبتهجا لسماع إطراء آثوس عليه: «طبعا، طالما توجد ماسة، فلنبعها.»
قال دارتانيان: «ولكنها الماسة التي أعطتنيها الملكة!»
قال آثوس: «هذا سبب أقوى لبيعها. ألن ننقذ بها صديق الملكة، دوق بكنجهام؟ ما رأيك يا أراميس، وقد أعطى بورثوس رأيه؟»
قال أراميس، في صوت خفيض رقيق: «حيث إن هذا الخاتم لم يعط كدليل للصداقة، بل مكافأة على خدمات جليل، فلا أرى مانعا من بيعه.»
قال آثوس: «أنت تتكلم كواعظ المستقبل، يا عزيزي أراميس. نصيحتك ...؟»
قاطعه أراميس قائلا: «بيعوا الماسة.»
قال دارتانيان: «إذن، فلنبع الماسة.»
قال آثوس: «نحن الآن على مشارف المعسكر، يا سادة، فلا تتفوهوا بكلمة واحدة في هذا الموضوع.»
الفصل الخامس والعشرون
دارتانيان يحقق أعظم رغباته وأراميس يخط خطابا صعبا
تجمع آلاف الجنود عند حدود المعسكر، وهم يملئون الجو صياحا حين هل الأربعة من مغامرتهم المجيدة، وإن كانت بدون تعقل. ولم يفطن أي فرد لغرضها الحقيقي. ولبعض الوقت ما كان يسمع سوى: «يحيا الفرسان» و«يحيا الحرس». والواقع أن الأصوات غدت صاخبة، حتى إن الكاردينال أرسل قائد الحرس ليستطلع ما يجري هناك.
لم يمض وقت طويل، حتى رجع قائد الحرس إلى الكاردينال بالخبر اليقين.
قال القائد: «تراهن ثلاثة فرسان ورجل من الحرس التابع للسيد ديسار، مع السيد دي بوسيني، يا سيدي، على أن بوسعهم أن يتناولوا إفطارهم في القلعة، ويظلوا به مدة ساعة كاملة. ويبدو أنهم مكثوا في القلعة قرابة ساعتين، لا ساعة واحدة. واستولوا على القلعة رغم عدة هجمات قام بها العدو. وقتلوا عددا لا أستطيع حصره.» «هل عرفت أسماء أولئك الفرسان الثلاثة؟» «أجل، يا سيدي. إنهم السادة آثوس وبورثوس وأراميس.»
تمتم الكاردينال: «أولئك الثلاثة، مرة أخرى؟ ومن الحارس؟» «السيد دارتانيان، يا سيدي.»
قال الكاردينال لنفسه: «آه! الحقيقة أنه يجب أن ألحق هؤلاء الرجال بخدمتي.»
وعند الظهيرة، تحدث الكاردينال إلى السيد دي تريفي عن مغامرة الصباح، وحاول قدر استطاعته ألا يكثر من الكلام عنها؛ إذ كانت حديث المعسكر كله. وعلم السيد دي تريفي، بجميع تفاصيل هذا الأمر، من الأصدقاء الأربعة أنفسهم، فأعاد القصة للكاردينال، بكل تفاصيلها، ولم ينس دور فوطة المائدة التي اتخذوها علما.»
قال الكاردينال: «هذا رائع! أرجوك أن ترسل لي فوطة المائدة تلك، وسآمر بأن يطرز عليها بخيوط الذهب، ثلاث زهرات نرجس، ثم أهدها لفرسانك كعلم فخار لهم.»
قال السيد دي تريفي، بغير تردد: «لن يكون هذا عدلا لرجال الحرس، يا سيدي! فليس السيد دارتانيان تابعا لي، بل هو من رجال الحرس، تحت إمرة السيد ديسار.»
قال الكاردينال: «إذن، فسأجعله فارسا! فعندما يلتحم أربعة رجال معا في صداقة وطيدة، فمن العدل أن يعملوا معا.»
حين سمع دارتانيان هذا النبأ أحس بفرحة عارمة تجتاح كيانه؛ إذ كان حلم حياته أن يصير فارسا. ولم يكن أصدقاؤه الثلاثة بأقل منه فرحا.
قال دارتانيان: «يا للسماء! لقد أتت فكرتك يا آثوس، بأعظم مما ظننت؛ فقد اكتسينا بالمجد، وصرت فارسا، رغم سرية هدفنا.»
قال آثوس: «نعم، وزيادة على ذلك، فسيظل حديثنا سريا، دون أن يشتبه فينا أحد، في كل مرة نرى فيها معا.»
في ذلك المساء، قدم دارتانيان نفسه للسيد ديسار، قبل انتقاله إلى فرقة الفرسان. وكان السيد ديسار يجل دارتانيان كثيرا، فعرض عليه نقودا لتغطية نفقات حلته الجديدة، والمطالب الأخرى اللازمة له، فشكره دارتانيان في أدب جم، رافضا قبول أية مساعدة من أي إنسان. إلا أنه انتهز هذه الفرصة، وطلب من السيد ديسار أن يثمن له الماسة، لأنه يريد بيعها. وبعد ظهر اليوم التالي، ذهب خادم السيد ديسار إلى دارتانيان، فسلمه كيسا يحوي سبعة آلاف جنيه، ثمنا لخاتم الملكة الماسي.
بعد ذلك بعدة أمسيات، تقابل الأصدقاء الأربعة، ليكملوا حديثهم الخاص. ولم يبق إلا أن يكتبوا الرسالة، ويقرروا من من رجالهم سيحملها. وبعد مناقشة طويلة، عهدوا بكتابة الرسالة إلى أراميس، العالم، وواعظ المستقبل، فكتب الرسالة التالية:
سيدي اللورد
تشرف كاتب هذه السطور القليلة بأن تبارز معك في ساحة مسيجة خلف اللوفر. وإذ أقررت عدة مرات، أنك صديق هذا الشخص، فإنه يرى من واجبه على طريق هذه الصداقة، أن يرسل إليك هذه المعلومات. لقد كدت، ذات مرة، أن تكون ضحية إحدى قريباتك، التي تعتقد أنها وارثتك الوحيدة؛ لأنك تجهل أنها قبل زواجها في إنجلترا، كانت متزوجة في فرنسا ولكنك قد تموت هذه المرة!
لقد غادرت قريبتك روشيل إلى إنجلترا، أثناء الليل، فترقب وصولها؛ لأن لديها خططا عظمى رهيبة، وإذا أردت أن تعرف ما هي قادرة على فعله فاقرأ تاريخ ماضيها على كتفها اليسرى!
وبعد الفراغ من الرسالة، قرروا إرسال بلانشيه، خادم دارتانيان، بها إلى لندن، ونودي عليه، وزود بالتعليمات، مع سبعمائة جنيه مصروفا للرحلة، ووعد بسبعمائة جنيه أخرى عند عودته ظافرا.
وقال له دارتانيان: «والآن، أمامك ثمانية أيام لكي تصل إلى لورد وينتر، وثمانية أيام للعودة. فإذا لم ترجع في الساعة الثامنة مساء، بعد ستة عشر يوما من الغد، حتى ولو تأخرت خمس دقائق، فلن يكون لك نقود أخرى!»
قال بلانشيه: «إذن، فلتشتر لي ساعة.»
قال آثوس، وقد تفضل بإعطائه ساعته: «إليك هذه، ولكن تذكر أنك إن تفوهت بشيء، أو احتسيت خمرا، فستعرض حياة سيدك للخطر. وتذكر أيضا، أنه إذا أصاب دارتانيان أي سوء، من جراء خطأ منك، فسأجدك أينما كنت، وأقطعك إربا إربا!»
وأضاف بورثوس، وهو يدير عينيه النجلاوين: «وسأسلخك حيا!»
وعقب أراميس ببطء، بصوته الرقيق المألوف: «سأشويك فوق نار هادئة!»
اقتاد دارتانيان خادمه خارجا، وتحدث إليه بهدوء وجدية، قائلا: «إنك تعرف أصدقائي الثلاثة حق المعرفة. لقد تكلموا معك بهذه الطريقة، بدافع محبتهم لي.»
قال بلانشيه وقد اغرورقت عيناه بالدموع: «سوف أنجح، يا سيدي، أو أقتل في هذه المحاولة.»
قال دارتانيان: «اذهب الآن واسترح، واحفظ الرسالة عن ظهر قلب، ثم أخفها في بطانة سترتك.»
في الصباح التالي، عندما كان بلانشيه موشكا على الخروج في رحلته، انتحى به دارتانيان جانبا، وقال له: «أصغ إلي جيدا، يا بلانشيه. بعد أن تسلم الرسالة إلى لورد وينتر، وبعد أن يقرأها، قل له أن يحرس صاحب السمو دوق بكنجهام، لأنهم يخططون لاغتياله. هذه مسألة خطيرة، يا بلانشيه، سرية لدرجة أنها أثمن من حياتي أنا! فلم أكتب عنها، ولكني أعهد بها إليك.»
رد بلانشيه: «تأكد، يا سيدي، من أنك وضعت ثقتك فيمن تجدر الثقة به.»
في الساعة الثامنة تماما، بعد اليوم السادس عشر من رحيل بلانشيه، عاد الرجل وقدم نفسه لسيده، ودس مذكرة في يده.
همس دارتانيان لأصدقائه قائلا: «معي المذكرة.»
قال آثوس: «هذا رائع! فلنذهب إلى البيت ونقرأها.»
كان بتلك المذكرة نصف سطر مدون بخط إنجليزي واضح: «شكرا؛ لا تقلق!»
أخذ آثوس المذكرة وأحرقها، وانتظر حتى تم احتراقها تماما وصارت رمادا.
قال دارتانيان لبلانشيه: «والآن، يا رجلي، اذهب إلى الفراش ونم نوما عميقا.» «نعم، يا سيدي، وستكون هذه أول مرة أنام فيها، طوال ستة عشر يوما.» فقال الأربعة معا: «ونحن أيضا.»
الفصل السادس والعشرون
العدالة
تسلم اللورد وينتر الرسالة التي حملها بلانشيه، وكان لديه متسع من الوقت لمراقبة ميلادي في جميع الموانئ الجنوبية بإنجلترا.
وعندما وصلت ميلادي إلى شاطئ إنجلترا، قبض عليها في الحال، وسجنت بموافقة دوق بكنجهام، في أحد قصور اللورد وينتر، الذي لم يكن يدرك أي نوع من النساء هذه المرأة؛ فلو عرف ذلك، لما تركها بعيدا عن ناظريه للحظات، ولقيد يديها وقدميها بالسلاسل، ولربطها في جدار، واحتفظ بمفاتيح زنزانتها معه هو شخصيا.
تمكنت ميلادي من الهروب، بعد أقل من أسبوع، واختفى معها سجانها السيد فيلتون، وهو ضابط بحري سابق، صغير السن. وفي فجر اليوم التالي لهروبها، كانت على ظهر سفينة مغادرة إلى فرنسا.
وكان اللورد وينتر قد عهد إلى فيلتون بأسيرته الجميلة. وكانت وظيفة هذا السجان، الإشراف على وجبات طعام السجينة، وملاحظة تغيير الحراس كل ساعتين، وأن يحتفظ معه دائما، بمفاتيح زنزانتها. ولكن سرعان ما اكتشفت ميلادي أن فيلتون يمقت دوق بكنجهام، مقته السم؛ لأنه عارض في ترقيته أثناء خدمته في البحرية، وبذا أجبره على الخدمة على الشاطئ. وسريعا ما أشعلت ميلادي نار حقده، فاختلقت بعض الأكاذيب، وأخبرته بأنها هي أيضا من ضحايا ذلك الدوق. وقالت إنها استدرجت إلى إنجلترا بخدعة، ثم قبض عليها، وسجنت زورا بأوامر الدوق، لأنها رفضت أن تتزوجه؛ ومن ثم فقد سجنها الدوق ليعذبها حتى ترضخ له وتتزوجه.
وسرعان ما أثارت ميلادي عطف هذا السجان الصغير، بجمالها ودموعها وأكاذيبها. بعد ذلك، بوقت قصير، أقنعته بأن يقتل الدوق الشرير، وبذا يكون قد أدى عملا نبيلا؛ إذ سينقذ شرف فتاة بريئة مهيضة الجناح، وفي الوقت ذاته، يخلص إنجلترا من رجل قاس ظالم.
تأخر إخطار اللورد وينتر، لبضع ساعات، بهروب ميلادي، واختفاء فيلتون المفاجئ. وعلى الفور أرسل الخبر إلى بكنجهام، لتحذيره من الخطر المحدق به، ولكن بعد فوات الأوان؛ إذ نفذ القاتل فيلتون جنايته الشنيعة. وهكذا، أنجزت ميلادي المهمة الموكولة إليها، رغم سجنها؛ ومن ثم يقع إثم هذه الجناية عليها، وإن لم تكن هي المنفذة الفعلية للجريمة.
في ذلك اليوم نفسه، سافر لورد وينتر إلى فرنسا ليطارد ميلادي. ولم يكن من العسير عليه أن يتتبع حركات مثل هذه المسافرة الحسناء، التي كانت تدفع أجر الخدمات بالذهب، في مختلف الفنادق التي تنزل بها. فلما وصل إلى بيتون، لم يعثر عليها هناك؛ إذ كانت قد رحلت قبل وصوله بوقت قصير إلى أرمانتيير. ولكن، وكأن يد القدر قد تدخلت، التقى هناك آثوس وبورثوس وأراميس ودارتانيان، الذين تصادف وجودهم في بيتون لأمر خاص، فأخبرهم لورد وينتر بكل ما حدث.
قال اللورد وينتر: «وهكذا ترون أنه يجب اتخاذ الخطوات اللازمة للقبض على هذه المرأة الشريرة، ومعاقبتها بأسرع ما يمكن. هذا واجب ينبغي إنجازه؛ إذ اكتشفت حديثا، أنها هي التي تسببت في موت أخي؛ بأن دست له السم.»
هبت في تلك الليلة عاصفة هوجاء، غير أنه رغم الوابل المنهمر، خرج آثوس وحده في الظلام، وقام بجولة خاطفة في تلك القرية.
تأخر الذهاب إلى أرمانتيير، في الصباح التالي لبعض الوقت، إلى حين مجيء رجل طويل القامة، مقنع، يرتدي معطفا طويلا أحمر اللون. لم يتبين أي فرد من يكون ذلك الرجل، سوى آثوس الذي كان رئيس الفرقة.
ولم يقم آثوس بتعارفهم؛ لذا لم تكن ثمة أسئلة. وامتطوا جميعا خيولهم، وجاسوا في سكون خلال الوحل الكثيف والمطر الغزير.
انتهت مطاردة ميلادي في أرمانتيير، في وقت متأخر من ذلك المساء. وبدأت محاكمتها على الفور، بدون إجراءات رسمية. وكان الشهود هم آثوس وبورثوس وأراميس ودارتانيان ولورد وينتر والرجل الطويل المقنع. وصدر الحكم بالإعدام بيدي الجلاد العام.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، عندما خرج الفريق ومعهم ميلادي في آخر رحلة لها في هذه الدنيا. وكانت العاصفة قد هدأت، وكأن الطبيعة نفسها قد اقتنعت أخيرا بوجوب القصاص وتنفيذ حكم العدالة. وكان القمر الشاحب في أعقاب آثار العاصفة قد بدا أحمر بلون الدم، ويظهر منخفضا في السماء. وأمام خلفية من الضوء الباهت، بدت حدود البيوت في أرمانتيير بحيث لا تكاد ترى، ولا يمكن تمييزها.
على مسافة قصيرة أمام هذا الفريق الصامت، كانت المياه الصامتة لنهر ليس، تتدفق في بطء، كأنه نهر من الرصاص. وعلى الشاطئ البعيد، كانت تلوح حدود كتلة من الأشجار تحت السماء التي لا تزال مزدحمة بالسحب المتقطعة، فتنعكس عليها أشعة القمر، وتخلق نوعا من الشفق المخيف.
وفي حقل على يسار الطريق، تقوم طاحونة هواء مهجورة، ذات شراع واحد شاحب اللون، معطل، ويشير إلى أعلى، يشبه من كافة الوجوه إصبع اتهام ضخمة. ومن بين تلك الأنقاض، تصدر بومة وحيدة نعيبها المحزن على وتيرة واحدة.
وعن يمين الطريق ويساره، الذي سارت فيه الجماعة المكتئبة، بدت الشجيرات والأشجار المبتورة كأقزام ممسوخة، تراقب بعيون متسائلة، أولئك الذين تجاسروا على الخروج ليلا في مثل هذه الساعة المشئومة المتأخرة.
وفي فترات، كان البرق يضيء الأفق بكامله. وكان يتحرك ذهابا وإيابا فوق كتلة سوداء من الأشجار، كسيف مشرع يفصل السماء عن كل اتصال بالأرض. ولم تهب نسمة واحدة من الهواء فتعكر صفو الجو البارد المطير. وكانت الأرض مشبعة بالمياه، وتتألق بها قطرات المطر التي سقطت حديثا. وأطلقت الشجيرات المنتعشة والحشائش عبيرها بقوة.
توقف الجمع عند وصوله إلى النهر. وكبل الرجل الفارع المقنع يدي ميلادي في صمت، ووضعها في المعدية وعبر بها إلى الضفة المقابلة من النهر.
وبدا هذا الرجل هناك متشحا بالسواد، أمام هالة من نور القمر، حيث أبصر الجمع سيف الرجل المقنع ذا المقبضين، يرتفع ثم يهوي مرة واحدة. كان هذا هو الجلاد العام، وكان هو الذي - قبل ذلك بإحدى عشرة سنة - وسم كتف ميلادي بسمة زهرة الزنبق - رمز العار - في الميدان العام لمدينة ليل.
الفصل السابع والعشرون
فخامته يتعرف على خط يده ويصدر قرارا حكيما
كان من المعتاد، في ذلك الوقت، عندما لا يكون أصدقاؤنا الأربعة في صحبة الملك، أن يقضوا وقتهم في فندقهم المفضل. وهناك، لا يلعبون الورق، ولا يحتسون الخمور، وإنما يتحدثون في هدوء، محاذرين ألا يسمعهم أحد.
وذات يوم، وهم يتجاذبون أطراف الحديث في هدوء بذلك الفندق، سمع دارتانيان شخصا ينطق اسمه.
تطلع دارتانيان حوله فأبصر رجل ميونغ المجهول، فصاح صيحة الرضا، واستل سيفه، واندفع نحو الباب.
في هذه المرة، بدلا من أن يتحاشاه الرجل، ترجل عن حصانه، وتقدم نحوه لملاقاته.
قال دارتانيان: «هيا، يا سيدي! ها نحن نلتقي أخيرا، ولكنك لن تفلت في هذه المرة!»
قال الرجل: «ليست هذه نيتي، يا سيدي، بل أنا الذي أبحث عنك، في هذه المرة، لأقبض عليك باسم الملك.»
صاح دارتانيان: «ماذا تقول؟» «يجب أن تسلمني سيفك دون مقاومة، يا سيدي. وأحذرك من الاندفاع؛ فهذه مسألة بالغة الخطورة.»
قال دارتانيان وهو يخفض سيفه، دون أن يسلمه إياه: «إذن، فمن أنت؟» «أنا فارس روشفور، التابع الشخصي لسمو الكاردينال ريشلييه. ولدي أمر باقتيادك إلى سموه.»
قاطعه آثوس بقوله: «من المصادفة أننا في طريقنا إلى سموه، يا سيدي. ولذلك آمل في أن تقبل كلمة شرف من دارتانيان، بأنه سيذهب مباشرة إلى هناك ويقدم نفسه.» «لكن يجب أن أسلمه لحارس.»
قال آثوس: «سنكون نحن حرسه، يا سيدي. نقسم بشرفنا كرجال !» ثم نظر إليه نظرة لها مغزى، وقال: «وبشرفنا كرجال، أيضا، لن يتركنا دارتانيان.»
نظر فارس روشفور خلفه، فأبصر بورثوس وأراميس، ففهم أنه تحت رحمة هؤلاء الرجال الأربعة، فقال: «أيها السادة، إذا سلمني السيد دارتانيان سيفه، وضم كلمة شرفه إلى كلمة شرفكم، فسأرضى بوعدكم في اصطحابه إلى صاحب السمو.»
قال دارتانيان: «إليك كلمة شرفي، وهاك سيفي.»
قال الفارس: «هذا يرضيني كثيرا؛ لأنني أريد مواصلة رحلتي.»
قال آثوس، في هدوء: «إذا كنت تؤمل في أن تقابل ميلادي، فأنت تضيع وقتك سدى؛ فلن تجدها.»
سألهم الفارس بلهفة قائلا: «إذن، ماذا صار إليه أمرها؟» «عد معنا، وستعرف.»
بينما كان الكاردينال في طريق عودته إلى مكتبه في المساء التالي، وجد دارتانيان ينتظر استدعاءه. ولاحظ أنه بدون سيفه، ولاحظ أيضا أن الفرسان الثلاثة الذين يحرسونه، ليسوا سوى الثلاثة الذين لا ينفصلون؛ آثوس وبورثوس وأراميس.
ولما كان مع الكاردينال عدد من الأتباع، رمق دارتانيان بحدة، وأشار إليه بيده، أن يتبعه، فأطاع دارتانيان.
قال آثوس بصوت جهوري يستطيع الكاردينال أن يسمعه: «إننا في انتظارك، يا دارتانيان.»
قطب الكاردينال أساريره، وتردد قليلا، ثم مضى إلى مكتبه وهو في حالة تفكير عميق.
دخل الكاردينال مكتبه، وأمر روشفور بأن يحضر إليه الفارس الشاب.
سرعان ما وجد دارتانيان نفسه وحيدا مع الكاردينال، الذي وقف بقرب المدفأة، تفصل بينه وبين دارتانيان مائدة.
قال الكاردينال: «قبض عليك بأمري، أتعرف لماذا؟» «لا، يا صاحب السمو؛ إذ السبب الذي من أجله يمكن القبض علي، غير معروف لسموكم حتى الآن.»
نظر الكاردينال مليا إلى هذا الشاب، وقال دهشا: «ما معنى هذا؟»
قال دارتانيان: «هل تتفضل، سموكم، فتشرفني أولا، بإخباري بالجرائم التي أنا متهم بها؟»
رد ريشلييه: «أنت متهم بجرائم كانت السبب في هلاك أناس أكثر منك أهمية، يا سيدي.»
قال دارتانيان بهدوء أذهل الكاردينال نفسه: «ما هي، يا صاحب السمو؟» «أنت متهم بالتراسل مع أعداء فرنسا، ومتهم بإفشاء أسرار الدولة، ومتهم أيضا بمحاولة إفساد خطط قائدك.»
وما كان من دارتانيان إلا أن سأل بحدة، وهو مقتنع تماما بأن هذا الاتهام جاء من لدن ميلادي: «من الذي يتهمني بهذه التهم، يا صاحب السمو؟ أهي امرأة موسوم على كتفها عن طريق العدالة؟ امرأة تزوجت رجلا في فرنسا، ورجلا آخر في إنجلترا؟ امرأة قتلت زوجها الثاني بالسم؟ امرأة حاولت اغتيالي مرتين، ثم حاولت أخيرا قتلي بالسم؟»
صاح الكاردينال دهشا: «ما هذا الذي تقوله، يا سيدي؟ وعن أية امرأة تتكلم؟»
أجاب دارتانيان: «عن ميلادي وينتر. لا شك في أن سموك تجهل جرائمها، بدليل أنك شرفتها بوضع ثقتك فيها.»
قال الكاردينال: «إذا كانت ميلادي وينتر، قد اقترفت كل هذه الجرائم التي تتهمها بها، فسوف تعاقب.»
قال دارتانيان: «لقد عوقبت بالفعل، يا صاحب السمو.» ثم أخبر الكاردينال، بعد ذلك، بمحاكمة ميلادي السرية، وإعدامها بعد المحاكمة مباشرة.
استطرد دارتانيان قائلا: «هناك شخص آخر يستطيع أن يخبرك بأنه يحمل أمر العفو عنه في جيبه.»
صاح ريشلييه وقد علت وجهه الدهشة: «العفو عنه! ومن الذي وقع عليه؟» «موقع عليه من سموك.» «أنا الذي وقعت عليه؟ إنك لمجنون، يا سيدي!»
قدم دارتانيان إلى الكاردينال قصاصة الورق الثمينة، التي حصل عليها آثوس من ميلادي، وسلمها بدوره إليه لتكون درعا له، وقال: «لا شك في أن سموك ستتعرف على خط يدك!»
تناول الكاردينال قصاصة الورق، وقرأ بصوت متثاقل:
3 ديسمبر سنة 1627
بأمري ولصالح الدولة فعل حامل هذه ما فعله.
ريشلييه
بعد أن قرأ الكاردينال السطرين، وقف يفكر مليا. ويبدو أنه لم يقرر ماذا يفعل؛ لأنه أخذ يقلب الورقة في يده.
وأخيرا، رفع الكاردينال رأسه، ونظر إلى وجه دارتانيان الذي ينم عن ذكاء متوقد، وفكر في مستقبل هذا الشاب، وتأمل فيما يمكن أن يفعله نشاطه وجرأته وفهمه .. فكم من مرة بلبلت جرائم ميلادي وسطوتها وشرها عقل الكاردينال. وإذ ماتت الآن فقد أحس بالطمأنينة وراحة البال.
وصل الكاردينال إلى قرار، فمزق الورقة بروية قطعا صغيرة، وذهب إلى مكتبه وخط بضعة أسطر على ورقة مطبوعة قيمة المنظر، ووقع عليها.
قال الكاردينال: «أيها الشاب، أخذت منك ورقة لأعطيك ورقة أخرى بدلا منها. يلزم توقيع على هذه الورقة التي أعطيكها، ويمكنك أن توقعه بنفسك.»
تناول دارتانيان الورقة بأصابع مضطربة، وقرأها؛ كانت تكليفا لضابط في الفرسان.
جثا دارتانيان على ركبتيه قائلا: «لا أستحق هذا الفضل، يا صاحب السمو. لي ثلاثة أصدقاء، هم أكثر مني استحقاقا له.»
قاطعه الكاردينال، وهو سعيد بالتفكير في أنه، أخيرا، قد ربح إلى جانبه ذلك الشاب الغسقوني المتوثب الطباع، قائلا: «أنت شاب باسل. اكتب أي اسم تشاء، ولكن تذكر، أنك أنت الذي أعطيت هذا التكليف.»
بعد ذلك، استدعى الكاردينال روشفور، الذي كان ينتظر خارج الباب، وقال له: «يا روشفور، من الآن فصاعدا، أنا أستقبل السيد دارتانيان كصديق. وليصافح كل منكما الآخر، وتصرفا بتعقل، إذا رغبتما في الاحتفاظ بسلامة رأسيكما!»
في ذلك المساء، استدعى دارتانيان آثوس، وعرض عليه التكليف.
قال آثوس: «يا صديقي، الشرف عظيم جدا لآثوس، وقليل جدا للكونت دي لا فير! احتفظ بهذا التكليف لنفسك؛ فهو لك.»
بعد ذلك، ذهب دارتانيان إلى بورثوس، وعرض عليه التكليف ولكنه رفض معتذرا بأنه سيتزوج قريبا، وقال: «سأكون جد مشغول بشئوني وممتلكاتي، ولن يمكنني التمتع بهذه الوظيفة الممتازة. احتفظ بالتكليف، يا صديقي. احتفظ به لنفسك.»
كان أراميس مشغولا بدراساته وبحوثه حين زاره دارتانيان، وقدم له التكليف.
قال أراميس: «صديقي العزيز، لقد كرهتني مغامراتنا التي خضناها معا، في الحياة العسكرية. وأنا موشك على ترك الحياة العسكرية، فاحتفظ بهذا التكليف لنفسك، يا دارتانيان؛ فوظيفة حمل السلاح تناسبك تماما.»
عاد دارتانيان إلى آثوس، وأخبره كيف رفض الاثنان الآخران أيضا هذا التكليف، وكان قلبه مفعما بالفرح، وعيناه مغرورقتين بالدموع، اعترافا بجميل زملائه الثلاثة.
أخذ آثوس الوثيقة، وكتب بيد ثابتة اسم دارتانيان الكامل، في المكان الخالي بها.
نامعلوم صفحہ