حديث قس بن ساعدة وما ظهر من عجائبه
[28] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس ، حدثني أبو الطيب أحمد بن روح ، حدثني حماد بن المؤمل ، وأبو الأحوص ، قالا : حدثنا محمد بن حسان السمتي ، حدثنا محمد بن الحجاج اللخمي ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي ؟ " فقالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لست أنساه بسوق عكاظ ، واقف على جمل أحمر ، وهو ينادي ، ويقول : يا أيها الناس ، اجتمعوا واستمعوا ، وإذا سمعتم فعوا ، وإذا وعيتم فانتفعوا ، وإذا انتفعتم فقولوا ، وإذا قلتم فاصدقوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ، مطر ، ونبات ، وأحياء ، وأموات ، إن في السماء خبرا ، وفي الأرض عبرا يحار فيها البصر ، مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحار لا تغور ، ومنايا دوان ، ودهر خوان ، كحذون الفسطاس ، ووزن القسطاس ، أقسم قس قسما حقا لا كاذبا فيه ، ولا إثما ، إن لله دينا هو أرضى له من الذي أنتم عليه " . وقال : " مالي أرى الناس يذهبون ، ولا يرجعون أرضوا فأقاموا ، أم تركوا فناموا " ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه ، فقال : " أيكم يروي لنا شعره ؟ " فقال أبو بكر : أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ومن الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر . فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس ، طويل القامة ، عظيم الهامة ، ضخم الدسيعة ، جهري الصوت قال : فداك أبي وأمي يا رسول الله ، وأنا فقد رأيت من قس بن ساعدة عجبا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما الذي رأيت منه يا أخا عبد القيس ؟ " فقال : خرجت في جاهليتي أبتغي بعيرا شرد مني أقفو أثره ، في تنايق ذات ضغابيس ، وعرصات حثحاث بين صدور حرعاف ، وعمير حردان ، ومهمه ظلمان ، ورضيع أيهقان ، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول سبسبها ، وأرمق فدفدها ، إذا أتاه بهضبة في تشوائها أراك كباث مخضوضلة بأغصانها ، كأن بريرها حب فلفل من بواسق أقحوان ، وإذا أنا بعين خرارة ، وروضة مدهامة ، وشجرة عادية ، وإذا قس بن ساعدة جالس في أصل تلك الشجرة ، وبيده قضيب فدنوت منه ، وقلت : أنعم صباحا . فقال : وأنت فنعم صباحك ووردت العين سباع كثيرة ، فكان كلما ذهب سبع من السباع يشرب من العين قبل السبع الذي ورد قبله ، ضربه قس بالقضيب الذي كان معه ، فقال : اصبر حتى يشرب الذي ورد قبلك . فذعرت لذلك ذعرا شديدا ، فنظر إلي وقال : لا تخف ، وإذا قبران ، وبينهما مسجد ، فقلت : ما هذان القبران ؟ فقال : هذان قبرا أخوين كانا لي ، يعبدان الله عز وجل في هذا الموضع ، فأنا مقيم بين قبريهما أعبد الله حتى ألحق بهما ، فقلت : ألا تلحق بقومك ، فتكون معهم في خيرهم ، وتباينهم على شرهم ؟ فقال لي : ثكلتك أمك ، أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم ، واتبعوا الأضداد ، وعظموا الأنداد ثم أقبل على القبرين يبكي ، ويقول :
خليلي هبا طال ما قد رقدتما أجدكما ما تقضيان كراكما
أرى النوم بين العظم والجلد منكما كأن الذي يسقي العقار سقاكما
ألم تعلما أني بسمعان مفرد وما لي فيه من حبيب سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحا أذوب ذا الليالي أو يجيب صداكما
كأنكما والموت أقرب غاية بروحي في قبريكما قد أتاكما
أبكيكما طول الحياة ، وما الذي يرد على ذي عبرة أن بكاكما
فلو جعلت نفس لنفس فداءها لجدت بنفسي أن تكون فداكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده " *
صفحہ 62