لكن كيف يمكن للمسرح أن يمثل هذا المجال الروحاني؟ كيف له أن يمثل مكانا لا تحده الحدود الموضعية، وزمانا لا تقيده مقاييس الزمان؟ لقد رأينا أن كفاية المسرح وامتيازه، إنما يظهران في تمثيله للواقع زمانا ومكانا، وهذه الواقعية هي التي جعلته في عصرنا أداة قوية في إخراج الملاهي، التي هي أقرب من المآسي إلى الحياة الواقعة. المسرح الحديث يخلع على الفعل شبها بالحياة الصحيحة الواقعة؛ لأنه يحيط الفعل بمكان وزمان يشبهان ما في الدنيا الواقعة من مكان وزمان، أفيكون المسرح الحديث الذي يصلح للملهاة أدنى قوة وأضعف أداة للمأساة من المسرح أيام اليونان وأيام شيكسبير، وإلا فكيف كان هؤلاء وأولئك يمثلون على مسارحهم ما في رواياتهم من عناصر هي أسمى من حياة البشر؟
إن ما جعل المسرح عند اليونان وفي عصر شيكسبير أصلح أداة من المسرح الحديث لتمثيل المأساة - كما كانت تفهم المأساة عندئذ - هو أنهم لم يعدوا المسرح بحيث يمثل المنظر تمثيلا واقعيا صحيحا، إنما كانوا يكتفون فيه بالرمز، فلم يكن عند اليونان مناظر مرسومة يعلقونها على جدران المسرح، لتدل على مكان الفعل وزمانه، إنما كانوا يرمزون للزمان والمكان باعتبارهما حقيقتين مجردتين، فلم يكن يعنيهم أن يمثلوا مكانا معينا وزمانا معينا، وكفاهم أن يقولوا إن الحوادث حدثت في مكان ما وفي زمان ما بغير تحديد. كانوا يكتفون فوق المسرح بحاجز يقام في طرفه الخلفي ليكون رمزا للمكان، ولم يأبهوا في مآسيهم بتحديد الزمن تحديدا يتفق مع الواقع، فليس ما يمنع مثلا أن نسمع أن أجاممنون بسفنه في عرض البحر، ثم نراه بعد لحظة في داره مع زوجته. وحسبهم أن هذه الحادثة وتلك وسائر الحوادث وقعت في زمان. وليس بذي خطر أن يصور المسرح أوضاع الزمان وأقسامه، كما هي في الدنيا الواقعة، وزاد من هذه النزعة نحو التجريد عند اليونان، أن ممثليهم كانوا يلبسون أقنعة تخفي وجوههم، فلا يعود الممثل المقنع شخصا له قسماته ومميزاته، بل يصبح صوتا يمثل نمطا من أنماط الإنسان، ونموذجا من نماذج البشر، وهكذا كان الفعل يأتيه الممثل المقنع من هؤلاء، فعلا مجردا من كل جوانبه، فلا هو يعزى إلى فرد معين، ولا هو يتقيد بحدود مكان معين وزمان معلوم.
أما المسرح في عصر شيكسبير فكان أقرب إلى مسارحنا الحديثة منه إلى مسرح اليونان الأقدمين، ولكنه شابه المسرح القديم في اصطناعه للرموز بدل التمثيل الواقعي، فلم يكن يصور المكان المعين الذي تقع فيه الحوادث، إنما كان يشير إليه بالرمز الدال، فشجيرة توضع على جانب المسرح دليل على غابة، بل ربما وضعت لوحة كتب عليها وصف المكان المفروض. لكن لم يكن الممثلون يقنعون أنفسهم كأسلافهم اليونان، بل كانوا على عكس ذلك يمثلون بين النظارة أنفسهم. كان الممثل عند اليونان يمثل في مدرج فسيح يتسع لألوف المشاهدين؛ ولذلك لم يكن بد من أن يقف على مبعدة منهم، وكذلك ترى الممثلين في مسارحنا الحديثة يفصلهم عن الجمهور حاجز من مصابيح، أما المسرح في عصر شيكسبير فمصطبة بارزة في فناء، والمشاهدون يجلسون حول جوانبه الثلاثة، بل يجلسون على أطراف مصطبة التمثيل نفسها. ومن هنا كان الممثلون في عصر اليصابات أشخاصا من لحم ودم، وليسوا رموزا مقنعة، كانوا أفرادا لكل طابعه المميز، وملامحه الخاصة التي تجعله إنسانا بين الناس، وكان لهذا أثره في قوة المأساة عندئذ؛ إذ أتاحت هذه الفرصة للممثل أن يعبر عن معانيه بملامح وجهه وإشارات جوارحه، فنظرة من العين، وإشارة باليد، ونبرة في الصوت قد تزيد في التمثيل قوة، بل كان لظهور الممثل بين النظارة أثر أقوى من هذا؛ إذ كان عاملا ذا شأن في صياغة الموضوع المسرحي عند شيكسبير.
لم تكن القوة العليا التي تسيطر على مجرى الحياة عند شيكسبير «ربة الانتقام» كما كانت عند اليونان، بل لم تكن قوة خارجة عن الإنسان نفسه، إنما يتحكم الإنسان في مصير نفسه، والقوة العليا نابعة من نفسه لا مفروضة عليه من خارج، فالذي ساق «هاملت» إلى قضائه المحتوم، لم تكن قوة آمرة ناهية خارجة عنه، بل قوة داخلية فيه، ساقته إلى قضائه «فرديته» أو «شخصيته»، من هنا كان للشخصية الإنسانية في مآسي شيكسبير أكبر شأن وأعظم مكان؛ فالذي يحدد مسلك الفعل من أوله إلى آخره، ويقرر له مراحله التي يجتازها، هو شخصية الإنسان نفسه الذي يقوم بذلك الفعل. فالشخصية - إذا - هي القوة الدافعة، ولن تجد سبيلا إلى فهم مسرحية عند شيكسبير، إلا إذا ألممت بعناصر شخصية البطل إلماما تاما؛ لأنها المفتاح الذي يلقي الضوء على سلوكه وتصرفه. وكثيرا ما ترى شيكسبير يحشر المناظر المسرحية، لا ليواصل بها القصة لمجرد أنها فعل متصل، بل ليتيح فرصة أخرى يدخل بها إلى صميم شخصية البطل، إذ كلما تعددت المواقف كثرت النواحي، التي ندرس منها نفسية البطل وحقيقة خلقه، ولا أمل في فهم الحوادث نفسها فهما صحيحا، إلا إذا وفقت إلى هذه الدراسة؛ إذ بغيرها تظل مفردات الحوادث حلقات مفككة، لا تجد من عامل الشخصية في البطل ما يربطها في سلسلة واحدة.
وقد وجد شيكسبير من نظام المسرح في عصره، ما عاونه على بناء المسرحية على هذا الأساس؛ إذ كان الممثلون في طليعة العناصر المكونة للمسرح والرواية المسرحية، هم العامل الأول الهام، وعلى براعتهم تتوقف قوة التعبير المسرحي للرواية، فتمكن المؤلف المسرحي بذلك أن يجعل الأفراد، الذين يتفاعلون في الرواية أفرادا لهم شخصياتهم، ولكل طابعه المميز، لا مجرد أشباح ورموز؛ لأنه كلما كان الممثل ذا شخصية حية متميزة، أمكن أن يقوم بدور فيه هذه الخصائص الفردية المتميزة. كان الممثلون إذ ذاك عاملا يساعد على تمثيل الواقع؛ لأنهم يمثلون أفرادا ممن تصادفهم في الحياة بين أهلك وجيرتك، لكن البطانة المسرحية من أدوات ومناظر مرسومة وما إلى ذلك، لم تكن تساعد حينئذ على هذه الواقعية كما تساعد عليها اليوم، لم يكن يدل المسرح بما عليه من أدوات ورسوم على مكان الحادثة وزمانها. وإذا فقد كان الممثلون طلقاء من حدود الزمان والمكان، كأنما هم أفراد قوامهم الدوافع الأبدية الكونية الخالدة، ومعنى ذلك أن سلوكهم الخارجي لم يكن ينظر إليه نظرة جغرافية تاريخية، تربطه بمكان معلوم وزمان معلوم، من بيئتهم التي يعيشون فيها، بل كان ينظر إليه باعتباره صادرا عن عالم روحي كامن في أنفسهم.
وصفوة القول أن المسرح الحديث يصور العالم المحسوس، الذي يحيط بنا ويبرز جوانب الحياة الظاهرة البادية، دون صميمها الخفي المستور. والحياة الظاهرة المحسوسة العملية، كما تبدو أمام أعيننا، هي خير مجال للملهاة بصفة خاصة. أما المأساة - فعلى نقيض زميلتها - من شأنها أن تتغلغل إلى ما وراء هذه القشور الظاهرة التي تغلف الحياة لتضرب في الصميم الكامن خلف ستارها؛ لهذا كله كان المسرح الحديث أصلح لتمثيل الملاهي منه لتمثيل المآسي، ومن ثم كان تطور الرواية المسرحية نحو الملهاة.
ونختم الحديث بكلمة موجزة عن اللغة التي تكتب بها الرواية المسرحية. ظلت المسرحيات مآسيها وملاهيها على السواء، تكتب شعرا حتى القرن السادس عشر، وعندئذ بدأ النثر يأخذ مكانته رويدا رويدا، حتى أصبحت له الغلبة على الشعر في الملهاة، وبقي الشعر سائدا في المأساة وحدها، ولكن حركة التطور لم تقف عند حد، فأخذ النثر يتسلل إلى المأساة أيضا، حتى أصبحنا اليوم ومعظم المآسي تكتب نثرا، وتلك نتيجة طبيعية لسير المسرح نحو الواقعية، فتمثيل الواقع من شأنه أن يضع النثر مكان الشعر؛ لأنه لغة الحياة الواقعة، غير أننا نلاحظ أن النثر أصلح للملهاة منه للمأساة؛ وذلك لسبب ظاهر، فالملهاة - كما أسلفنا لك القول - تعالج ظروف الحياة القائمة كما نعيشها ونلمسها، وأما المأساة فتضرب وراء الظواهر لتصل إلى الأعماق. المأساة تريد القوانين الكونية الشاملة الأبدية الخالدة، ولا يعنيها في كثير أو قليل قوانين هذه الطائفة من الناس أو تلك. وإذا فالنثر في الملهاة يساعد على واقعيتها، والشعر في المأساة يساعد الخيال على تحطيم الحدود المادية، التي يوهم بها المسرح وأوضاعه؛ لكي يطير بأجنحته إلى المجال الكوني المطلق. لكن شعر المأساة يعجز عن تحطيم حدود المسرح المادية؛ إذ كانت هذه الحدود مقيدة شديدة التقييد، لا يستطيع الخيال أن يتخلص من أثقالها، فقد كان المسرح عند شيكسبير - مثلا - لا يحمل ما يدل على الزمان والمكان دلالة قوية. ولهذا كان شعر المأساة قمينا أن يطير بالخيال، وراء تلك القيود الخفيفة. أما في المسرح الحديث فيكاد يستحيل على مأساة مهما سمت بشعرها، أن تتخلص مما يزدحم به المسرح من مناضد ومقاعد وطنافس وستائر ومناظر تقيد الخيال بمكان معين وزمان معين تقييدا لا خلاص من أغلاله. فمن الغفلة - إذا - أن يقف الممثلون وسط هذه الأشياء، التي تنم عن الحياة المادية، ثم يتكلمون شعرا! فلا بد أن يكون حديثهم شبيها بملابسهم ومقاعدهم ومناضدهم وسائر متاعهم، حتى تتم خديعة الحواس عند النظارة، ويعيشوا في جو واقعي مسرحا وحديثا ووقائع. ولعلك الآن تدرك العسر الشديد الذي يلاقيه المخرجون في إخراج روايات شيكسبير على المسارح الحديثة.
لقد حدثناك فيما سلف عن نوعين من الرواية المسرحية؛ المأساة والملهاة، وبقيت أنواع أخرى لن نجد المجال لبسطها؛ فهناك المسرحية التي تجمع بين المأساة والملهاة، ثم هنالك الرواية التاريخية. فما مجالها؟ إن كانت الملهاة تصور لنا مجتمعا بشريا خالصا كما نشاهده ونمارسه، وتضع الفرد على محك الإدراك الفطري والبديهة السليمة؛ لترى هل يتصرف بما يتفق مع أوضاع المجتمع القائم، أو يشذ وينحرف فيكون مثيرا للضحك، ثم إن كانت هذه المأساة تصور لنا القوانين الكونية العليا التي تتحكم في أقدار البشر، وتضع الفرد على محك الأبدية المطلقة؛ لترى إن كان متفقا مع روح الكون بأسره. فهل يكون للمسرحية التاريخية مجالها الخاص كذلك؟ هل تضع الفرد على محك ثالث لتسبر فيه جانبا ثالثا؟ قد يكون ذلك. قد تكون المسرحية التاريخية معيارا للإنسان - لا باعتباره حيوانا اجتماعيا كما تفعل الملهاة، ولا باعتباره طامحا إلى الخلود كما تفعل المأساة - ولكن باعتباره أداة سياسية في المجتمع، أعني باعتباره خادما ساهرا على مصلحة الجماعة التي يعيش فيها. ولعل البطل في المسرحية التاريخية أن يكون فردا تمحي الفردية فيه أمام عنصره السياسي الذي يمت إلى الجماعة بصفة عامة .
نامعلوم صفحہ