لقد أنبأناك منذ فاتحة الكتاب أننا سنستخدم لفظ «الشعر» لندل به على كل ضروب الأدب التي تقصد لذاتها وجمال فنها، لا لنفعها وما فيها من علم وعرفان، ولكن العرف قد جرى بتقسيم هذا الشعر أنواعا وأقساما؛ فملحمة ومسرحية وقصيدة غنائية وقصة ومقالة إلى آخر هذه الأقسام والأنواع، وكلها يخضع لما قدمناه في الفصلين السابقين من مبادئ وموازين، إلا ما يخص النظم منها، فهو لا ينطبق إلا على المنظوم؛ فالعوامل التي تؤدي إلى قوة التعبير هي بعينها لا تتغير في كل هذه الضروب الأدبية على اختلافها، فمهما تكن القطعة الأدبية، ملحمة كانت أو قصيدة غنائية أو مقالة، فينبغي لك أن تقرأها على النحو الذي أفضنا في شرحه وتوضيحه في الفصلين السابقين، لكن مشكلة جديدة تنشأ ها هنا، وتتطلب منا التفكير والحل. لقد زعمنا أن الميزان الذي نميز به جيد الشعر من رديئه، هو قوة الألفاظ والصور في التعبير عما أريد لها أن تعبر عنه، لكننا عرفنا مما قدمناه في الفصل السابق أن لأنواع الشعر المختلفة قدرات مختلفة على التعبير؛ فقصيدة في الشعر المرسل تختلف في طريقة أدائها للمعنى وتعبيرها عما يريد الشاعر عن قصيدة في بحر الدوبيت، وإذن فربما كانت الطريقة المثلى في الحكم على قصيدة أن نحكم عليها باعتبارها شعرا أولا، ثم باعتبارها هذا الضرب أو ذاك ثانيا؛ إذ يستحيل أن تزن قصيدة بميزان النقد الكامل العادل إلا إذا قستها بمعيار نوعها، أما أن تقيس القصيدة الغنائية بما تقيس به الملحمة، ثم تستخف قيمتها وتستصغر شأنها لأنها لا تؤدي ما تؤديه الملحمة، فضلال وانحراف عن سواء السبيل، ولا يقل خطلا وحمقا عمن ينتقص من شأن النمر لأنه لم يكن أسدا؛ فإذا كانت القصيدة الغنائية تختلف عن زميلتها القصصية بمقدار ما يختلف النمر عن الأسد، فبديهي أن تحكم على القصيدة الغنائية في حدود ما يستطيع الشعر الغنائي أن يؤديه، وأن تحكم على الملحمة في حدود ما يستطيع الشعر القصصي أن يبلغه؛ فالقصيدة الغنائية الجيدة هي التي تجود في صفتها الغنائية، كما أن خير النمور ما يمثل طبيعة النمر على وجهها الكامل. ونسوق لذلك مثالا هذه العبارة الآتية التي وردت في تأمل «هاملت» وهو وحده يحدث نفسه، قالها وهو يفكر في العالم الآخر، فيصفه بأنه:
العالم المجهول الذي من حدوده
لا يعود مسافر.
وتقرأ العبارة في أصلها الإنجليزي فتجد لها رنينا جميلا ونغما حلوا مستساغا، ولا تخطئ فيها جودة الصياغة وقوة التعبير، وما دمت قد حكمت لها بقوة التعبير فقد سلكتها في الشعر الجيد، فذلك مقياسنا الذي اتخذناه وحرصنا أن تكون له المنزلة الأولى في الحكم والتقدير. تقرأ هذه العبارة فتشعر أنك قد أحببتها، لا لأن لها نغما جميلا في مسمعيك فحسب، بل لأنها بأسلوبها؛ أي بطريقتها في معالجة موضوعها. تصور لك العالم الآخر صورة تغنيك وترضيك؛ فتصوير هذا العالم الآخر «بعالم مجهول» وبأنه لسفر الحياة نهاية وختام، قد هيأ للشاعر أن يبرز صفتين هما من أهم الفوارق بينه وبين هذا العالم الأرضي الذي نعيش فيه؛ أولاهما إلغازه وغموضه فهو «عالم مجهول»، والثانية انفصاله التام عن هذا العالم؛ إذ «من حدوده لا يعود مسافر». وهكذا كشف الشاعر عن العناصر الأساسية في الفكرة التي يسوقها كشفا صحيحا جميلا، فلا يسعنا إلا أن نحكم لعبارته بالجمال، وإذن فهي عظيمة بمقياس الشعر بوجه عام، لكنها ليست شعرا بمعنى الشعر العام وكفى. إنها قول معين لشخص معين في نوع معين من الشعر هو المسرحية، فلا يمكن الحكم لها أو عليها حكما قاطعا إلا إذا رأيناها في موضعها من المسرحية التي وردت فيها؛ لنزن قدرها في ذلك الموضع ومقدار أدائها لما أريد لها أن تؤديه. ونعود إلى المسرحية فإذا العبارة تجري على لسان «هاملت»، وإذا بعامل جديد يدخل في الحكم والتقدير؛ فقد كنا حكمنا على العبارة بالجودة لأنها عبرت لنا عن رأينا في العالم الآخر؟ حكمنا لها بالجودة لصدقها، لكنها تجري في الرواية على لسان «هاملت» الذي يعلم دون سائر الناس جميعا أنها كاذبة! فلم يكن قد مضى في حوادث المسرحية إلا قليل حين رأى «هاملت» مسافرا قد عاد إليه من العالم الآخر، ولم يكن المسافر العائد إلا أباه. كان هاملت قد رأى منذ قليل شبح أبيه أمام عينيه، وأخذ الشبح يقص عليه من الأنباء ما تشيب له النواصي وتنخلع له القلوب. فواضح - إذن - أن الصفة التي جعلتنا نحكم على العبارة بالجودة وقوة التعبير - أعني صفة الصدق في التصوير - قد ارتفعت عنها في موضعها من الرواية؛ فإن كانت لا تزال جيدة قوية في سياقها، فلسبب آخر غير صدقها. وهنا نتساءل: ولماذا وصف هاملت العالم الآخر وصفا كاذبا بالنسبة إليه؟ إن تجربته القريبة القوية قد دلت على عكس ما يقول؛ إذ آب إليه من حدود العالم المجهول مسافر هو أبوه، ولا نكاد نبدأ البحث عن علة هذا حتى ينفتح لنا طريق نتسلل منه إلى أعماق نفسه؛ فحين أخذ هاملت يتأمل الحياة بفكره المجرد كما يتأملها الفيلسوف، طارت عنه تجربته الشخصية المحدودة المحسوسة، فهو في تأمله هذا قد بات عقلا خالصا مفصولا عن الجسد وتجاربه، وفي هذا وحده كل مأساته! إن مأساة هاملت في صميمها أنه رجل يسير بفكره المجرد في واد وبجسمه وحواسه وتجاربه في واد آخر، هو رجل لا يبني تفكيره على تجاربه؛ ومن هنا كانت متاعبه، رجل يعرف كيف يتأمل ولا يعرف كيف يعمل؛ لأن التأمل من خصائص العقل وهو على عقله مسيطر، وأما العمل فمن صفات الجسم وليس له على جسمه من سلطان؛ وإذن فقد ظهر للعبارة جمال آخر وروعة أخرى، إنها ليست عظيمة في سياقها من الرواية لمجرد أنها تقول الصدق، بل لأنها عند التحليل مفتاح لشخصية هاملت، فتفتح آفاق نفسيته وتلقي عليه الضوء، وبذلك تفسر المأساة كلها؛ هي عبارة جميلة قوية من حيث هي شعر مطلق، ثم هي أجمل وأقوى من حيث هي جزء في رواية مسرحية ينطق به شخص معين في موقف معين.
من هذا ترى أنك لا تستطيع الحكم بالجودة على قول في مسرحية إلا بمقياس المسرحية، ولا على بيت في قصيدة غنائية إلا بميزان القصيدة الغنائية وهكذا. أما الحكم على إطلاقه فعبث وضلال. وإنه ليشيع اليوم بين رجال النقد رأي بأنه لا فرق بين شعر وشعر عند الحكم والتقدير، فما نريده من شعر القصيدة الغنائية هو ما نريده من شعر المسرحية أو الملحمة، أو غير ذلك من فنون النظم؛ فالشعر إما أن يكون شعرا أو لا يكون شيئا. ويمضي رجال النقد في رأيهم، فيزعمون أن ما يجعل الشعر شعرا لا يتوقف في قليل ولا كثير على المصادفة البحتة التي جعلت هذا البيت من الشعر جزءا من قصيدة غنائية أو جزءا من مأساة. وعندنا أنه رأي بعيد عن الصواب؛ فقد رأينا في تحليل العبارة التي قالها «هاملت» أنها اكتسبت قوة وجودة وجمالا بعد إذ نظرنا إليها وهي في موضعها من المأساة، ولو جردناها عن موضعها ذاك لاحتفظت بقليل من قوتها وجودتها وجمالها. إن الرواية المسرحية تختلف عن القصيدة الغنائية بمقدار ما يختلف الأرغن عن القيثارة؛ فإن كانتا أداتين مختلفتين في طبيعتهما فبديهي أن تختلفا كذلك في قدرتيهما على التعبير. ولن نقدر قصيدة غنائية أو مسرحية حق قدرها إلا إذا عرفنا في غير لبس ماذا تستطيع القصيدة الغنائية أو المسرحية أن تؤديه، وبالقياس إلى ما تستطيعه من الوجهة النظرية يمكن الحكم على هذه القصيدة المعينة أو المسرحية المعينة، بأن نرى كم جرت من شوطها المفروض. ولكن أنى لنا أن نعلم لكل نوع مداه؟
كنا في الفصل الأول قد آثرنا في تعريف الشعر طريقا مأمونا من الخطل والزلل بعيدا عن العمق والغموض، فقلنا إن الشعر هو ما يصنعه الشاعر. وذلك هو ما نعنيه إن قلنا بعبارة أخرى إن الشعر فن. ولكن كلمة «الفن» قد اضطربت معانيها في استعمالاتها الحديثة فغشيها بعض الغموض؛ فقد تفهم الفن على أنه وجه آخر من المعرفة غير «العلم» وإنه لكذلك، ولكن وجه الخطأ في هذا الفهم أن تضع هذين الضدين في غير موضعهما الصحيح، فقد تتوهم أن «العلم» أشد ارتباطا بالحياة العلمية النافعة من «الفن». فالعالم هو عند أهل العصر ما يبحث في المعرفة النافعة، فيخترع للصناعة آلاتها وللحرب أدواتها، وللحياة اليومية ما يزيدها رغدا وبهجة وجمالا. أما «الفنون» فتشمل صنوفا من الدراسة لا خير فيها، وتشغل وقتها وتنفق جهدها في كتب عتيقة أكل عليها الدهر، تعالج علما قديما بلغة ماتت ومات أصحابها. ذلك ما يتوهمه أهل هذا العصر من العلم والفن، وإنه لقلب للوضع الصحيح. فإن أردنا الدقة ألفينا «العلم»، بعيدا كل البعد عن الحياة العملية؛ إذ العلم لا ينظر إلى المعرفة من وجهها النافع المفيد، فهو لا يعنيه إلا المشكلات المجردة والمبادئ العامة، العلم فكر مجرد يقوم به العالم، بغض النظر هل يفيد في نهاية الأمر أو لا يفيد. وأما «الفنون» فهي في حقيقة أمرها، ليست فروعا من المعرفة، بل هي الطرائق العملية لصناعة الأشياء وأدائها، والمواد الدراسية التي يطلق عليها اليوم في الجامعات اسم «الفنون»، كاللغة اللاتينية والتاريخ والأدب الإنجليزي وما إليها «فنون»؛ لأنها جميعا تعمل على التوسيع من «فن» الحياة، فهي تهيئ للإنسان أدوات تعينه على أن يعيش حياته على صورة أكمل وأوفى. الفن - إذا - في حقيقة معناه صناعة وعمل وطريقة أداء. وأصدق ما أسوقه لك من مثال، يوضح كيف يخلط الناس اليوم بين «العلم» و«الفن»، خلطا يضع كلا منهما مكان الآخر، هو ما يفهمه الرجل من أوساط الناس من معنى «مدرسة الفنون». فعنده أن هذه مدرسة تعد التلاميذ لصناعة الأشياء المختلفة، كالتصوير والتطريز وتركيب الآلات وإصلاحها وغير ذلك، وهو مصيب في فهمه، لكن خطأه يبدأ حين يظن أن هذه الأمور هي من أبواب «العلم»، مع أنها «فنون» خالصة ليس لها من «العلم» الخالص البحت كثير ولا قليل. «مدرسة الفنون» في حقيقة أمرها تطبق العلوم على صناعات مختلفة، أي أنها تعلم «الفنون» التي تتصل بفروع العلم الخالص. فالصباغة - مثلا - فن وصناعة، لكنها تعتمد على فرع من فروع العلم البحت، هو كيمياء الألوان.
إذا فصورة تصورها وقطعة من القماش تصبغها، تجعلانك من أصحاب الفنون لا من رجال العلوم. لكننا نعود فنفرق بين هذين الفنين، فتصوير الصورة فن، وصبغ القماش فن، لكن الأول من عمل «الفنان» والثاني من صنائع «الصانع». فلئن كان «الفنان» و«الصانع» كلاهما من رجال الفنون، إلا أن أولهما معني «بالفنون الجميلة»، وثانيهما معني «بالفنون المفيدة». فصانع القصائد وصانع الصور، وصانع التماثيل وصانع الموسيقى، فنانون يعالجون «فنا جميلا»، وصانع الأحذية وصانع الإطارات للصور، وصانع المناضد وصانع القيثار، فنانون يعالجون «فنا مفيدا». فما الفرق بين الفن الجميل والفن المفيد؟
قيمة ما يصنعه الصانع مرهونة بفائدة ما يصنع، فغاية الحذاء أن يصنع شيئا ننتفع به نفعا معينا، نعم قد نحب لحذائنا أن يكون جميلا، لكننا قبل جماله نتطلب أن يكون وقاية لأقدامنا، فلا بد للحذاء أن يكون على شكل القدم، وألا تكون به خروق تدخل الماء، وأن يكون ذا جلد قوي يقاوم صلب الأديم فيحمينا من أذاه، وبعبارة أخرى لا بد لإنتاج الحذاء أن يكون في شكله وبنائه وصفاته، متمشيا مع الظروف المفروضة عليه، فهو في صناعته يرضي عوامل خارجة عنه، ليس له عليها نفوذ وسلطان، عليه أن يستخدم مادة معينة - هي الجلد عادة - لأن للجلد من الخصائص والصفات ما يجعله نافعا أكبر النفع فيما نريده له، ثم عليه أن يشكل الجلد ويصوغه على نحو فرض عليه فرضا؛ إذ لا بد له أن يخرج الحذاء على صورة معلومة. نعم في وسعه أن يستغل ما لبعض صنوف الجلد من صفات، فيؤثر اللامع منها على القاتم؛ لكي يكسب صناعته جمالا، لكن الجمال في الحذاء له المرتبة الثانية، ولفائدته المكان الأول، والحذاء الماهر هو الذي يصنع لنا أحذية تنفع وتفيد، لا من يقصر عنايته على جمال المظهر.
قابل هذه القيود التي تكبل الصانع في صناعته، بالحرية التي ينعم بها الفنان في أدائه لفنه، فليس على المصور قيد تفرضه الظروف، فلا عليه أن يضع الألوان والأصباغ على نحو معين لتكون مفيدة نافعة. أمام المصور ألوان، لكل منها قدرة على التمثيل والتعبير، وكل نبوغه أن يدرك على أي نحو توضع الألوان، فتبلغ حدها الأقصى في التمثيل والتعبير. وإذا فإنتاجه الفني - أي الصورة - لا يخضع لشروط تأتيه من خارج، وإنما يخضع للخصائص الكامنة في طبائع الألوان ذاتها، باعتبارها أدوات تعبر. خذ مثلا آخر: أعط مادة الصوت لصاحب مصنع ولرجل موسيقى، يسارع صاحب المصنع إلى تشكيل نبرة الصوت بحيث تنفعه، فتوقظ له من العمال من تأخذهم سنة من النوم، وهو إذ يعد الصفارة التي تصفر للقوم، إنما يخضع لعوامل خارجة عن نفسه، فلا بد أن يسمع آذانا غافلة، لا تريد أن تسمع، فهو لا يشكل الصفارة لتعجب بصوتها بل لتنفع وتفيد. أما الموسيقي فمطلق السراح من هذه القيود، وهو يخرج الصوت على نحو لا يقيده ولا يحدده إلا قدرة الصوت نفسه على حسن التعبير وقوته. وهاك مثلا ثالثا: أعط قطعة من المرمر لبناء، ومثلها لفنان يصنع التماثيل، فأما البناء فيصوغها بحيث تنفع في بناء ما يبنيه، وهو في صناعته يضع نصب عينه الظروف الخارجية، فيسوي قطعة المرمر مستطيلة أو مربعة أو مكورة، وفقا لما تمليه تلك الظروف. أما المثال فينحت قطعته تمثالا، ولا يحدده في نحت تمثاله ما يتطلبه العالم الخارجي، وإنما يستوحي شيئا واحدا فقط، وهو القدرة الكامنة في المرمر على التعبير عما يريد أن يبثه فيه من معنى، فيشكله في وضع يؤدي ذلك المعنى خير الأداء.
ونسوق مثلا رابعا وأخيرا يوضح الفرق بين الفنون الجميلة والفنون المفيدة توضيحا جليا، ويهيئ لنا في الوقت نفسه علامة لا تخطئ، في تمييز ما أنتجه الفن الجميل وما أخرجته الصناعة، وإنما قصدت فن الحياة، والحياة فن من الفنون، ما دامت طريقة تصرف وسلوك وأسلوب عيش. فهل الحياة فن جميل أو فن مفيد؟ لكي نجيب لا بد لنا من نظرة نلقيها على النتاج الفني نفسه، على الثمرة التي أخرجها الفن، على رجل ونوع حياته، لنرى هل كانت حياته تلك فنا جميلا أو مفيدا، ثم لكي نجيب لا بد لنا أن نسأل: هل هذا الرجل كما هو الآن، قد جاء نتيجة لظروف وعوامل خارجة عن نفسه، أم هو نتيجة لعوامل كامنة في مادته الخامة التي منها نشأ وتكون، ومادته الخامة هي الطفل الذي كانه، فلو كانت الحياة فنا جميلا، لاقتضى ذلك أن يكون الرجل - وقد نما واكتمل - قد برزت فيه كل خصائص الطفل الكامنة فيه، بروزا بلغ بها أقصى ما تستطيعه من قوة ونضج، دون أن يحول في سبيل نموها حائل ليس منها. لكن ما هكذا يتم تكوين الرجال، فملكات الطفل وقواه لا تنطلق في طريقها إلى النمو، بغير أن تعرقل سيرها وتعوق نموها ألوف العوامل الخارجية؛ فهذه ضرورات اقتصادية، وهذه تقاليد اجتماعية، وتلك عادات أهله وذويه، بل هذه ضرورة العيش قد ألزمته أن يسلك في كسب قوته سبيلا، قد يكون بينها وبين استعداده الفطري شقة بعيدة؛ فقد ينعرج طريق الحياة باليافع إلى مصنع، ينفق فيه بياض نهاره ضاربا بالمطرقة فوق السندان، أو إلى مكتب ما ينفك فيه مطقطقا بالآلة الكاتبة فوق القرطاس، أو إلى الجامعة يطيل الدراسة النظرية بالاستماع آنا، وبالقراءة والبحث آنا آخر. وربما كان حامل المطرقة أولى بالجامعة، والطالب الجامعي أنسب للمطرقة، لكنها ظروف العيش تضع رجلا هنا ورجلا هناك، بغض النظر عن المواهب والملكات، فليس الرجل - إذا - طفلا نما فنمت ملكاته معه إلى حدها الأقصى، لقد شكلته ظروف خارجة عن نفسه، قاهرة ملزمة، أكثر مما سيرته ملكاته وقواه التي غرسها الله في فطرته. ليست الحياة - وا أسفاه - فنا جميلا، ولكنها فن نافع مفيد .
نامعلوم صفحہ