وللنثر وزن كما للنظم، والفرق في درجته واطراده؛ فقد تجيء في النثر عبارة موزونة على بحر معين تليها عبارة من بحر آخر، تليها ثالثة لا وزن لها. أما في القصيدة فالوزن مطرد منتظم في الأبيات كلها، وليس من شك في أن لهذا الوزن أثره في قوة التعبير، وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد. وحسبنا الآن أن نشير إلى حسن وقعه في الأذن، مما يحدث في السامع لذة كالتي تحدثها الأنغام المتسقة أيا كان نوعها ومصدرها؛ فالإنسان مفطور بطبعه على إيثار الصوت الموسيقي المنغوم. والوزن في النظم أنواع تسمى «بحورا»، والعلم الذي يضبط قواعدها يسمى «عروضا». وتجيز قواعد العروض في الشعر الإنجليزي أن يختلف الوزن في أبيات القصيدة الواحدة؛ فقد وجد الناظمون بفطرتهم الموسيقية الموهوبة أنه لو تتابعت مجموعة من الأبيات على أوزان معينة، كونت مجموعة موسيقية جميلة النغم جميلة التوقيع؛ ومن ثم تواضع الشعراء على نظام معين في بناء المقطوعات الشعرية، فهنالك المقطوعة الرباعية التي يتألف بيتاها الأول والثالث من أربع تفعيلات، والثاني والرابع من ثلاث، ويجدون أن هذه المقطوعة تلائم الترانيم، وهنالك المقطوعات السباعية التي أغرم بها «تشوسر»، والتساعية التي آثرها «سبنسر» ونسبت إليه، وهكذا.
وأبيات المقطوعة الواحدة لا تختلف في أوزانها فحسب، بل كذلك في قوافيها؛ ففي الرباعية مثلا تتحد القافية في البيتين الأول والثالث، وفي الثاني والرابع، وفي سباعية «تشوسر» تسير القوافي هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ج) أي أن الأول والثالث قافية واحدة، والثاني والرابع والخامس قافية واحدة، والسادس والسابع قافية ثالثة. وفي تساعية «سبنسر» تسير هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ب - ج وكلها وزن واحد، ثم يجيء البيت التاسع بقافية «ج» ومن وزن آخر) لكن القافية ليست شرطا لازما في هذه المقطوعات؛ فالشعر القديم كله خال من القافية خلوا تاما، وكذلك تخلص من قيد القافية كثير من الشعراء المحدثين. ومن أشهر المقطوعات الشعرية التي تعرف وتتميز بنظام القوافي في أبياتها، المقطوعة الأربع عشرية، وهي تقوم بذاتها وحدة مستقلة - وليست كسائر المقطوعات السالفة تكون أجزاء من قصيدة كبرى - والمقطوعة الأربع عشرية أنواع تختلف باختلاف قوافيها. ولكل من الشعراء الفحول في الأدب الإنجليزي طريقة في تقفية مقطوعة، نخص منهم بالذكر «سبنسر» و«شيكسبير» و«ملتن».
فالشعر في الأدب الإنجليزي يقع من حيث الوزن والقافية في ثلاثة أنواع: (1) الشعر المرسل الذي يجري بغير قافية. (2) وشعر تزدوج فيه القافية، فيكون لكل بيتين متعاقبين قافية واحدة، وتسمى الوحدة فيه بالدوبيت. (3) وشعر تتألف القصيدة فيه من مقطوعات تسير فيها القافية على وجه من الوحدة التي ذكرناها لك منذ قليل.
ولقد آن أن نحدثك عن مهمة النظم بصفة عامة، موضحين القول بالإشارة إلى أنواعه الشائعة، ونحب أن نذكرك بما أسلفناه وهو أن اطراد الأنغام والأوزان في النظم جزء من وسيلة التعبير كالألفاظ نفسها سواء بسواء؛ وما دامت أبحر الشعر وأوزانه أداة يستخدمها الشاعر في التعبير، فلا بد أن نبحثها من حيث علاقتها بالمعنى الذي يراد التعبير عنه.
نستطيع القول بصفة عامة إن الشعر ضربان؛ فالقصيدة إما أن تحكي عن حوادث وأشخاص وأقطار وبلاد، وإما أن تعرب عن الحالة النفسية الداخلية التي تسود الشاعر وهو ينشئها. أو بعبارة أخرى، إما أن تحكي القصيدة عن العالم الخارجي، وإما أن تعبر عن العالم الداخلي عند الشاعر نفسه؛ فأما النوع الأول فنسميه شعرا قصصيا، أما الآخر فهو الشعر الغنائي أو الوجداني. وطبيعي أن يتداخل النوعان؛ فالقصيدة القصصية التي تأخذ نفسها قبل كل شيء بالرواية عما وقع من أفعال وحوادث، قد تفسح المجال آنا بعد آن لهذا الشخص أو ذاك من أشخاصها أن يفصح عن مشاعره على نحو ما تفعل القصيدة الغنائية. وقد تجد قصيدة قصصية مثقلة بعاطفة راويها وعواطف سامعيها والأشخاص والواردة فيها، حتى لتكاد تخرجها العاطفة السارية فيها من نوع الشعر القصصي إلى النوع الغنائي الوجداني، والأغاني الشعبية التي شاعت في العصور الوسطى معظمها من هذا القبيل؛ فالأغنية الشعبية حكاية منظومة مثقلة بالعاطفة. وهنالك نوع ثالث من الشعر لا هو قصصي بالمعنى الدقيق ولا هو غنائي بالمعنى الدقيق، ولكنه يجمع طرفا من هنا وطرفا من هناك، وأعني به المسرحية الشعرية؛ فالمسرحية تقص قصة على غير ما تقصها القصيدة القصصية، فهي ليست قصة في ذاتها تروى لذاتها، إنما هي قصة ينظر إلى حوادثها من حيث هي مؤثرات تفعل فعلها في عواطف أشخاصها ومشاعرهم وحالاتهم النفسية بصفة عامة.
ولكننا نستطيع لسهولة التقسيم أن نقسم الشعر كله إلى النوعين الأساسيين؛ القصصي والغنائي، وإنما يعرف الشعر القصصي عادة باسم فرع واحد من فروعه وهو «الملحمة»؛ لأن الملاحم أقدم ضروب الشعر القصصي ظهورا، وكان الشعر الغنائي أول أمره ينشد ليغنى على قيثارة ، من اسمها اشتق اسم هذا الشعر في اللغات الأوروبية.
2
ولما كانت قصائد الغناء تفيض عادة عن وجدان الشاعر من سرور وحزن وحب وما إلى ذلك، تطور هذا الشعر بحيث اشتمل على كل قصيدة تعبر عن الوجدان ولو لم يقصد بها إلى الغناء.
وهنا نسأل: أي لون من النظم يلائم هذا وأي لون يلائم ذاك، بحيث يجيء التعبير أتم ما يكون كمالا وقوة؟ إن كانت القصة في الشعر القصصي تروي أعمال البطولة السامقة لجبابرة الرجال، أعمالا كان لها شأنها في تاريخ الأمة أو في تاريخ العالم بأسره، فبديهي أن أنسب الشعر لوصفها ما جرى في بحر فخم رصين؛ ليناسب جلاله جلالها، وقد كانت أمثال هذه الأفعال المجيدة أول ما وقعت عليه أعين الشعراء في أقدم العصور، فاختاروها وأجروها فيما نسميه بالملاحم، بأوزان وبحور فيها هذه الرصانة وهذا الجلال؛ فالإلياذة تنبئ عن بطولة «أخيل» و«هكطور» في الحرب الطروادية التي دامت عشر سنوات، وتحكي عن تلك البطولة في شعر يسوده الوقار والجلال ورصانة النغم، وهو مرسل لا قافية فيه، شأنه في ذلك شأن الشعر اليوناني والروماني كله. ولقد حاول شعراء العصور الحديثة أن يجدوا لهذا الشعر القصصي القديم الذي خلفته لنا آداب اليونان والرومان بديلا في لغاتهم الحديثة، فأوشكوا جميعا أن يبوءوا بالفشل فيما حاولوا؛ إذ لم يجدوا قصة فيها كل هذا الجلال الذي رأوه في ملاحم هومر؛ فهذا هو «سبنسر» أراد أن يتخذ الملكة اليصابات، ملكة إنجلترا في عهده، موضوعا لملحمة، لكنه أخرج الموضوع في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» فجاءت خلوا من خصائص الملحمة؛ إذ قطع الحكاية أجزاء منفصلا بعضها عن بعض، في كل جزء يعرض بطولة فارس من فرسانه، وحصر اهتمامه وهو يعرض بطولة الفارس في الحوادث الجزئية الباهرة اللامعة التي صادفها الفارس في سيرته، وهو في نظمه لا يتدفق بحيث يخرج القصة كتلة واحدة منظومة، بل قسم قصيدته مقطوعات تجري القوافي على نظام معين عرف باسمه، وأصبحت المقطوعة الاسبنسرية لونا من ألوان النظم في الأدب الإنجليزي؛ في كل مقطوعة ثمانية أبيات مطردة الوزن تنتهي بتاسع طويل يجيء لها كالخاتمة في القطعة الموسيقية، فلا يسع القارئ إلا أن يقف، وهكذا تفككت أجزاء القصة وانتثرت خرزاتها، ولو أن ذلك لم يقلل من جمال الأجزاء. ولقد شبهت قصيدة «ملكة الجن» بقطعة من الحرير الجميل المطرز؛ فهي رقيقة رائعة ناعمة الملمس، لكنها لا تصلح لتخليد العظماء. وهل نخلد أبطالنا الأمجاد وبطولتهم العالية على لوحة من الحرير الموشى؟ إن هذه القطعة إنما تلائمها التماثيل المرمرية الرزينة الرصينة الجليلة الثابتة. وانقضى قرن بعد سبنسر، فجاء «ملتن» وطاف بخياله موضوع عظيم لملحمة عظيمة، قد يكون للناس عامة أجل شأنا من موضوع الملحمة الهومرية نفسها، وهو عصيان الإنسان الأول وطرده من الجنة، واختار له الشعر المرسل أداة فأحسن الاختيار، إذ لا يصلح للملحمة من أوزان الشعر الإنجليزي إلا هذا؛ لأنه يسكب على الموضوع وقارا وجلالا، ويكسبه عظمة ورهبة. أما الشعر المقفى فيكسو الموضوع نوعا من السحر والفتنة دون العظمة والجلال. الشعر المرسل جليل والشعر المقفى جميل، ذلك رزين وقور وهذا فاتن جذاب. إذن قد وفق «ملتن» في اختيار الموضوع والأسلوب معا، ثم زاد على ذلك أنه أجاد في شعره المرسل إجادة لا زيادة بعدها لمستزيد؛ فهو في يده مطرد البناء ثابته، ولا يجعل الكلمة الأخيرة في البيت توحي للقارئ بالوقوف، فيمضي القارئ من سطر إلى سطر كما يمضي في حديثه الموصول، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يجعل توقيع الكلام على نحو يباين نغمة الحديث المعتاد، بحيث يشعر القارئ بأنه يستمع إلى نغمات موسيقية فخمة تنبعث عن «أرغن» يملأ الجو بألحانه العريضة، وذلك ليوائم بين جلال النغم وجلال الموضوع؛ فوفق «ملتن» توفيقا عظيما، لكنه جوزي بما وفق ثمنا باهظا. فلئن جاء شعره هذا الفخم الجليل الرصين منقطع النظير في التعبير عن مواقف الفخامة والعظمة والجلال، فقد كان ثقيلا وهو يروي أجزاء القصة التي لا تتطلب كل هذه الرزانة والرصانة؛ فمن أجزاء القصة ما يروى عن أفعال دنيوية لا يلزمها جو التفخيم والتعظيم الذي يكون حول حوادث السماء الجسام، فهو مثلا حين يتحدث عن آدم وحواء وهما ينظمان شئونهما العائلية الخاصة، يستخدم أسلوبه العالي نفسه، فيكون أقرب إلى ممثل المهزلة الذي يقطب الجبين ويفخم العبارة في غير موضع للتقطيب والتفخيم. وليس الذنب في هذه السقطات ذنب الشعر المرسل في ذاته، لكنه ذنب «ملتن» الذي لم يغير في أوتاره شدة وارتخاء بحيث يساير موضوعه ويطابق معانيه. ومهما يكن من أمر فما يزال الشعر المرسل أنسب أداة للشعر القصصي لقابليته العجيبة لمسايرة جوانب الموضوع توترا وارتخاء؛ ذلك أن خلوه من القافية يقرب مسافة الخلف بينه وبين النثر، فيستطيع أن يهبط من سماء الشعر إلى شئون العيش الجارية، ثم يستطيع أن يعود فيعلو إلى ذروة الشعور العالي والتأمل الرفيع؛ ففيه وحده هذه القدرة على الصعود والهبوط وفق ما تقتضيه مراحل الموضوع ومواقفه. وهذه الصفة الرئيسية في الشعر المرسل هي التي جعلته الأداة التي لا أداة سواها بين ألوان الشعر في كتابة المسرحيات؛ فالممثلون في المسرحية لا ينبغي لهم أن يتحدثوا على نحو يختلف عن طريقة الحديث في الحياة اليومية اختلافا بينا، على أن تظل لهم القدرة - في الوقت نفسه - على أن يعبروا عن العواطف السامية والأفكار العالية إذا ما اقتضى الأمر، فها هو ذا «هاملت» في مسرحية شيكسبير، يتحدث آونة عن توافه شئونه، ويتأمل آونة أخرى في الحياة، أفيجوز له أن يتكلم بنفس الأسلوب في الموقفين؟ يجب أن يهبط حين يتحدث عن شئون حياته اليومية، ثم يعلو حين يغرق في تأملاته العميقة. والشعر المرسل وحده هو الذي يستطيع أن يحتمل هذا الصعود والهبوط؛ ومن ثم كان السر في عظمته وملاءمته للأدب المسرحي هو هذه المرونة الشديدة التي يتصف بها دون سائر البحور والأوزان. ولقد برع شيكسبير في هذا الشعر المرسل براعة ممتازة أخذت تزداد معه كلما أمعن في إنتاجه وسيطر على فنه، وحسبك أن تقرأ له - مثلا - «رتشرد الثالث» من نتاج المرحلة الأولى، ثم «يوليوس قيصر» من نتاج المرحلة الوسطى، ثم «الملك لير» من نتاج المراحل الأخيرة؛ لتعلم كيف كان هذا العبقري يسير في فن الشعر المرسل بخطوات الجبابرة حتى بلغ به أوج الكمال.
لكن ليس الشعر القصصي الإنجليزي كله شعرا مرسلا، فهنالك بحر آخر يأتي بعد المرسل في صلاحيته للقصص، وذلك هو بحر «الدوبيت»، والدوبيت بيتان على قافية واحدة، يغلب فيهما أن يتألف الواحد منهما من خمس تفعيلات أيامبية، والتفعيلة الأيامبية هي التي تتألف من جزأين يقع الضغط الصوتي على ثانيهما ولا يقع على الأول. وكان تشوسر أول من استخدم هذا البحر في حكاياته المشهورة في القرن الرابع عشر، وهو خير من المقطوعة التساعية الاسبنسرية في سياق القصة؛ لأن الدوبيت الواحد أقل من أن يكون وحدة معنوية مستقلة، فلا تتفتت القصة أجزاء وتتناثر، كما هي الحال في قصة تروى بالمقطوعات الاسبنسرية، التي فيها يقف الذهن وقفة في ختام كل مقطوعة، فلا يتصل حبل القصة. الدوبيت بحر يصلح للقصة؛ لأن وحداته تبدو كأنها الخطوات السريعة التي تخطو بالقارئ إلى الأمام، وكل خطوة فيها من القصر بحيث يتقدم بها القارئ في القصة ولا يتحدد بها اتجاه معين، فيظل الكاتب ممسكا بزمام السير والسياق يوجهه كيفما شاء؛ وإذن فالزوج يتلو الزوج من هذا البحر، يهيئ الحركة التي هي أهم عناصر القصة، وفضلا عن ذلك فإن الدوبيت يميل بطبيعته إلى أن يكون مطردا في انتظام لا يعرف الشذوذ، كأن وحداته قطع متساوية أخرجتها آلة على صورة واحدة؛ فكل وحدة بيتان مقسومان بالقافية إلى نصفين متساويين، وكل بيت تتوازن فيه التفعيلتان الأوليان مع التفعيلتين الأخريين، يتوسطها تفعيلة وسطى كأنها للطرفين بمثابة المحور.
نامعلوم صفحہ