فبعد أن صنع «وردزورث» ما يصنعه كبار الشعراء، بأن سما بأغنية الفتاة حتى جعله لحنا كونيا يعبر عن صوت العالم بأسره، ويجري بأعمق ما هد قلوب البشر من أحزان، يعود بطريقة نعهدها فيه وحده دون سائر الشعراء، فيرد الأغنية من جديد إلى قلب الفتاة النكرة التي لا نعرف منها حتى اسمها، والتي لم تكن منذ عهد قريب سوى حاصدة منفردة في حقلها، منهمكة في عملها اليومي المألوف، لكن الفتاة يستحيل أن تعود إلى ما كانت عليه بساطة وقلة شأن، فقد تجسدت فيها أخطر جوانب الحياة؛ وإذن فهذه القصيدة في صميمها تقويم جديد لقيم الإنسان، وأسلوب جديد في النظر إلى الإنسان والطبيعة، وإحساس جديد بقيمة الحياة البشرية. إنها كشف لعالم جديد تسوده القيم الروحية، فيصبح فيه الحقير التافه وقد اكتسب قيمة عالمية كبرى. إنها نبوءة بروح الديمقراطية، وسبق للحوادث التي ستتمخض عنها الأيام. فوردزورث في قصيدته هذه يكشف عن تجربة جديدة؛ فلم ير أحد قبله ما رآه، ولم يسمع أحد قبله ما سمعه، ولم يحس أحد قبله ما أحسه، حين طرقت مسمعيه أغنية «الحاصدة المنفردة».
كل قصيدة كبرى هي كشف جديد وتنبؤ وتسلف لحوادث المستقبل وروحه. القصيدة الجيدة تكشف عن آفاق من التجربة الروحية لم يسبق إليها الشاعر، فالشاعر كشاف رائد في دولة الروح. وإذا ما قرأت القصيدة العصماء كنت بمثابة من يمارس تجارب جديدة في عالم الروح، تهتز لها نفسك اهتزازا لا يقل في قوته عن اهتزازها إذا ما أقبل رحالة على إقليم جديد، ووقع بصره فيه على عالم لا عهد له به. تقرأ للشاعر العظيم فكأنك تتابعه في ذلك العالم الروحي الذي كشف عنه الغطاء، وتحيا في التجارب التي أحسها في رحلته التي كشف فيها عن ذلك العالم. والعجيب أن الشاعر لا يكشف لنا الغطاء عن عوالم الروح وكفى، بل يزيد على ذلك أنه يجهزنا بملكات نستطيع بها أن نفهم ونتشرب تلك العوالم، بحيث يصبح جزءا منا يجري في دمائنا. فما جهل الإنسان قط وجود زهرة الأقحوان، يراها في الحقول في غدوه ورواحه، ولكن عينه لم تر فيها قط ما أصبحت تراه فيها بعد أن هداها وردزورث بشعره في الأقحوان. فلئن عجز الإنسان أن يضيف إلى عالم المادة ذرة واحدة، فقد عوضه الله عن هذا العجز خير العوض، إذ أتاح له أن يوسع لنفسه من عالم الروح كيف شاء.
وتلك هي المهمة الكبرى التي على الشعر أن يؤديها؛ فكل واجبه أن يوسع من قدرة الإنسان على أن يمارس في عالم الروح ما لم يمارسه في عالم المادة، فكل قصيدة تجسد تجربة معينة صادفت شاعرا معينا، فلما تبلورت التجربة في وعي الشاعر واستقرت في ألفاظ، كان في مقدور القارئ أن يعيد في نفسه تلك التجربة بذاتها التي صادفت الشاعر في حياته، ومعنى ذلك أن القارئ يستطيع أن يمر خلال الحالة النفسية والشعورية التي مر بها الشاعر، فيحياها من جديد بفضل ما تمتاز به الألفاظ من خصائص، وما الألفاظ هنا إلا بلورات صغيرة تجسدت فيها تلك الحالة النفسية الشعورية، وخصائصها العجيبة التي امتازت بها قدرتها على أن تتحلل من تلقاء نفسها في عقل القارئ، فتخرج ما دس فيها من عناصر الفكر والشعور. وفن قراءة الشعر هو الفن الذي يعين الألفاظ على أداء هذه العملية في ذهن قارئها، عملية التحلل إلى عناصرها المكونة لها. فن قراءة الشعر هو فن تنفذ به إلى معاني الألفاظ كاملة، فلا تكتفي بمعانيها السطحية العامة، بل تستخرج من أجوافها كل الصور والمشاعر التي ترتبط بمعانيها. لو أخرجت من ألفاظ القصيدة محصولها المكنون، ونقشتها في ذهنك نقشا يفرز عناصرها ومقوماتها، ويحلل كيانها؛ فقد قرأت القصيدة قراءة صحيحة. وطبيعي أن يختلف الناس اختلافا بينا في القدرة على استخراج مكنون الألفاظ من معان ومشاعر وصور؛ فكلما ازددت معرفة بالحياة والعالم ازددت قدرة على تعمق الألفاظ واستخراج ما في أحشائها من معنى مدخر. تقرأ - مثلا - هذه الأبيات لأبي نواس يصف الخمر وهي تدار في كئوس من الذهب عليها تصاوير:
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
فلا تفهم كل ما في الأبيات من معنى إذا لم تكن قد علمت من تجارب حياتك ومن دراساتك ما الراح، وكيف تكون في كأس عسجدية، وما التصاوير الفارسية، ومن كسرى الذي رسمت صورته في قرارة الكأس، وكيف يدرئ الفوارس المها بأقواسهم لتتخيل الصورة التي رسمت في جنبات الكأس، ثم لا بد لك أن تعلم من صور فارسية رأيتها أو وصفت لك في شكل الثياب الفارسية والقلانس؛ لتتكون في ذهنك صورة حية عن مزيج الخمر بالماء في الكأس، إذ يقول الشاعر إن الخمر في الكأس بلغت جيوب الثياب التي في التصاوير، وكمية الماء تبدأ من الجيوب وتنتهي عند القلانس؛ فكلما ازددت بهذه الأشياء علما ازددت قدرة على استكناه الألفاظ واستخراج الصور المرادة حية ناصعة. وكذلك وردت في الشعر ألفاظ ترددت على ألسنة الشعراء، فاكتسبت طعما خاصا لا يتذوقه إلا من أدمن قراءة الشعر، كلفظة «المها» التي وردت في الأبيات السالفة - مثلا - فليس يكفيك لفهمها أن تفتح المعجم لتعلم أنها الظباء، بل لا بد أن تحاط في ذهنك بكل ما أحاطها به الشعراء من هالة تفيض غزلا واستحسانا، لكن هذه وأمثالها صعاب قليلة لا تحول دون قراءتك للشعر واستمتاعك به؛ فمعظم الفحول من شعراء العالم أجمع يبثون في ألفاظهم وقصائدهم من المعاني ما يكفي رجلا مارس الحياة وحدها وعرف حلوها ومرها، ولو لم يكن له من الثقافة المستمدة من الدراسة وقراءة الكتب إلا قليل؛ فقصيدة «الحاصدة المنفردة» التي أسلفنا لك تحليلها لا تحتاج في فهمها وتذوقها إلى علم وقراءة واسعة، فحسب قارئها إلمام ضئيل بحقائق الجغرافيا، فيعرف صحراء العرب وجزائر الهبريد ومحيطها، ليتابع الشاعر في قصيدته، وكل ما تحتاج من عدة لتستمرئ شعرا كهذا هو القدرة على الشعور؛ لأن القوة الشعرية في ألفاظ هذه القصيدة مستمدة في الأعم الأغلب من عناصرها الشعورية والعاطفية، لا من معانيها المكسوبة بالتعلم وقراءة الكتب، والكلمات الشائعة البسيطة أملأ - في كثير من الأحيان - بهذه العناصر الشعورية والعاطفية، من الكلمات الغريبة التي تحتاج في تحصيلها إلى دراسة ومطالعة. وقد رأيت فيما أسلفناه من مقطوعات شعرية تناولناها بالتحليل والمقارنة أن كلمة «أب» فيها من الشعور والعاطفة أضعاف ما في كلمة «مولى» على ألسنة الصغار.
نامعلوم صفحہ