1 - فيما اخترناه من شعر صريع الغواني مسلم بن الوليد
2 - فيما اخترناه من شعر أبي نواس الحسن بن هانئ
3 - فيما اخترناه من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي
4 - فيما اخترناه من شعر أبي عبادة البحتري
5 - فيما اخترناه من شعر ابن الرومي علي بن العباس
6 - فيما اخترناه من شعر أمير المؤمنين ابن المعتز
7 - فيما اخترناه من شعر ابن الحسين أبي الطيب المتنبي
8 - فيما اخترناه من شعر أبي العلاء المعري
فصل فيما اخترناه من رسائل أبي العلاء المعري
1 - فيما اخترناه من شعر صريع الغواني مسلم بن الوليد
2 - فيما اخترناه من شعر أبي نواس الحسن بن هانئ
3 - فيما اخترناه من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي
4 - فيما اخترناه من شعر أبي عبادة البحتري
5 - فيما اخترناه من شعر ابن الرومي علي بن العباس
6 - فيما اخترناه من شعر أمير المؤمنين ابن المعتز
7 - فيما اخترناه من شعر ابن الحسين أبي الطيب المتنبي
8 - فيما اخترناه من شعر أبي العلاء المعري
فصل فيما اخترناه من رسائل أبي العلاء المعري
فحول البلاغة
فحول البلاغة
تأليف
محمد توفيق البكري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحابته وتابعيه.
أما بعد؛ فهذا سفر وضعناه في المختار من شعر ثمانية من فحول الشعراء وأئمة البلاغة وأمراء الكلام، وهم: مسلم بن الوليد صريع الغواني، وأبو نواس الحسن بن هانئ، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي، وأبو عبادة البحتري، وابن الرومي علي بن العباس، وابن المعتز، وابن الحسين أبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري، ولأبي العلاء المعري رسائل نثر كأحسن ما كتب الكاتبون لفظا ومعنى قد اخترنا بعضها وألحقناه بجملة كلامه.
وقد جعلنا في أثناء هذا الكتاب أشياء من ملح ما اخترناه لغير أولئك الفحول من الشعراء المحدثين، فأصبح الكتاب بحمد الله خزانة جمع فيها كل معنى مخترع ولفظ شريف وقافية بليغة وكأن مثله في كتب الأدب مثل النقطة الواحدة من العطر؛ فهي وإن صغر حجمها محصل جملة كثيرة من الزهر، والله تعالى نسأل أن يوفقنا للصواب بمنه وكرمه.
الباب الأول
فيما اخترناه من شعر صريع الغواني مسلم بن الوليد
قال مسلم:
وملتطم الأمواج يرمي عبابه
بجرجرة الآذي للعبر فالعبر
ملتطم الأمواج يريد البحر، والعباب كثرة الماء، والجرجرة صوت الماء، والآذي الموج، والعبر حافة النهر أو البحر. قال النابغة:
فما الفرات إذا هب الرياح له
ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يقول ورب بحر ملتطم الأمواج ركبته صفته كذا وكذا.
مطعمة حيتانه ما يغبها
مآكل زاد من غريق ومن كسر
يقول إن حيتانه تأكل كل يوم من بقايا الغرقى والسفن المتكسرة؛ يصفه بالهول.
إذا اعتنقت فيه الجنوب تكفأت
جواريه أو قامت مع الريح لا تجري
يقول إذا هبت ريح الجنوب في هذا البحر اضطربت المراكب التي فيه، فصارت أعاليها أسافل أو وقفت تلك المراكب لا تسير ولا تبرح؛ وذلك من هول البحر وشدته.
كأن مدب الموج في جنباتها
مدب الصبا بين الوعاث من العفر
العفر جمع أعفر وهو الكثيب الأحمر، والوعاث: أي اللينة. يقول كأن مدب الريح في جنبات السفينة، وقد ارتفع الموج حولها، مدب الريح بين كثبان الرمال اللينة؛ فالريح تجري الرمل كذا وكذا.
كشفت أهاويل الدجى عن مهوله
بجارية محمولة حامل بكر
يقول كشفت أهوال الليل عن هول ذلك البحر بجارية أي بسفينة، ومحمول: أي يحملها الماء، وحامل: أي الناس في أحشائها فكأنها حامل بهم. وجاء في بعض رسائل الأدباء هذه العبارة: هال عليها البحر فسقاها كأس الحمام وأولدها قبل التمام. وبكر: أي أنها لم تركب قبل. يريد أنه قطع ذلك البحر وأهواله قاصدا رجلا مدحه.
لطمت بخديها الحباب فأصبحت
موقفة الدايات مرتومة النحر
الحباب الموج، وموقفة الدايات: أي مخططة الظهر. يقول إن الماء قد جعل فيها خطوطا من الخضرة، ومرتومة النحر: أي في نحرها بياض؛ وذلك أن أصحاب السفائن يجعلون في صدر السفينة شيئا أبيض إما جيرا وإما محارا.
إذا أقبلت راعت بقنة قرهب
وإن أدبرت راقت بقادمتي نسر
يقول إذا أقبلت إليك السفينة أفزعتك برأس ثور وحشي مسن، شبه به السلوقية التي يقعد عليها الرائس في صدر المركب وإذا أدبرت عنك راقتك بقادمتي نسر؛ أي أعجبتك بقاذف كأنها جناحا نسر.
تجافى بها النوتي حتى كأنما
يسير من الإشفاق في جبل وعر
تجافى: أي تنحى عن الحجارة التي تحت الماء، والإشفاق الخور.
تخلج عن وجه الحباب كما انثنت
مخبأة من كسر ستر إلى ستر
تخلج: أي تتنحى عن مواضع الحجارة في البحر لئلا تصاب كما تنحت جارية مخبأة من كسر ستر إلى ستر، والكسر ما عن يمين الخباء وشماله وهما كسران.
أناف بهاديها ومد زمامها
شديد علاج الكف معتمل الظهر
الهادي العنق، والمعتمل العامل لنفسه، قال القائل:
إن الكريم وأبيك يعتمل
إن لم يجد يوما على من يتكل
يقول أشرف بعنقها ومد زمامها نوتي شديد علاج الكف معتمل الظهر؛ أي ظهره عامل إلى جذب الحبال مع يديه.
كأن الصبا تحكي بها حين واجهت
نسيم الصبا مشي العروس إلى الخدر
شبه سير السفينة في الرفق واللين بسير العروس.
يممنا بها ليل التمام لأربع
فجاءت لست قد بقين من الشهر
يقول قصدناها ليل التمام لأربع عشرة مضت من الشهر فبلغت الممدوح لست ليال بقين من الشهر.
فما بلغت حتى اطلاح خفيرها
وحتى أتت لون اللحاء من القشر
يريد ما وصلت حتى كل خفيرها أي حافظها ومل من التعب، وحتى أتت: أي صارت، واللحاء القشر الرقيق الذي دون القشر الغليظ.
وحتى علاها الموج في جنباتها
بأردية من نسج طحلبه خضر
يقول وما بلغت أيضا حتى كساها الموج في جنباتها أردية خضراء من طحلب.
تؤم محل الراغبين وحيث لا
تذاد إذا حلت به أرحل السفر
أرحل جمع رحل وهو إكاف الجمل. يقول إن هذا الممدوح الذي قصده لا يمنع أحدا من رفقائه، ولا يجفي؛ أي لا يستخف بأحد، بل يكرم الضيفان ويعطي الوافدين والطراق.
ركبنا إليه البحر في مؤخراته
فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر
وقال أيضا ينعت الخمر:
معتقة لا تشتكي وطأ عاصر
حرورية في جوفها دمها يغلي
يقول إنما سالت من العنب بلا عصر، وقوله حرورية شبهها في الشجاعة برجل حروري يغلي دمه ليفور.
شققنا لها في الدن عينا فأسبلت
كما أسبلت عين الخريد بلا كحل
يقول شققنا لها في الدن ثقبا ففاضت كما فاضت عين الخريدة.
كأن حباب الماء حين يشجها
لآلئ عقد في دماليج أو حجل
الحجل: الخلخال.
كأن فنيقا بازلا شك نحره
إذا ما استدرت كالشعاع على البزل
يقول كأن صبيبها إذا ثقبت هذه الخابية كصبيب دم انبعث من نحر، جمل فنيق أي أبيض حين نحر، والنحر أن يطعن في ثغرته وهي النقيرة في أصل حلقه.
كأن ظباء عكفا في رياضها
أبا ريقها أوجسن قعقعة النبل
ودارت علينا الكأس من كف طفلة
مبتلة حوراء كالرشأ الطفل
وحن لنا عود فباح بسرنا
كأن عليه ساق جارية عطل
باح بسرنا: أي أطربنا فأظهر كل واحد منا ما كان يكتم من الشوق إلى حبيبه.
تضاحكه طورا وتبكيه تارة
خدلجة هيفاء ذات شوى عبل
الخدلجة: المرأة الحسنة الخلق.
إذا ما اشتهينا الأقحوان تبسمت
لنا عن ثنايا لا قصار ولا ثعل
الثعل: التي يدخلها اعوجاج.
وأسعدها المزمار يشدو كأنه
حكى نائحات بتن يبكين من ثكل
أقامت لنا الصهباء صدر قناتها
ومالت علينا بالخديعة والختل
أي قومت لنا أمرها فاستقام لنا شربها، ومالت علينا بالخديعة: أي خدعتنا في عقولنا.
إذا ما علت منا ذؤابة شارب
تمشت به مشي المقيد في الوحل
وقال أيضا:
إليك أمين الله ثارت بنا القطا
بنات الفلا في كل ميث مسرد
الميث اللين من الأرض، ومسرد متتابع.
أخذن السرى أخذ العنيف وأسرعت
خطاها بها والنجم حيران مهتد
أخذن أي النوق.
فلما انتضى الليل الصباح وصلنه
بحاشية من فجره المتورد
يريد أنهم وصلوا سير الليل بسير النهار.
لبسن الدجى حتى نضت وتصوبت
هوادي نجوم الليل كالدحو باليد
حتى نضت وتصوبت، يعني النجوم تصوبت إلى الغرب كأنها تدفع باليد.
يكون مقيل الركب فوق رحالها
إذا منعت لمس الحصى كل صيخد
يريد أن الركب ينامون فوق ظهور تلك النوق ولا ينزلون عنها من كدهم في صميم القائلة، والصيخد شدة الحر.
وقاطعة رجل السبيل مخوفة
كأن على أرجائها حد مبرد
يقول ورب مفازة قاطعة رجل السبيل؛ أي لا يدخلها أحد، فكأنها تقطع عن نفسها أرجل الناس.
عزوف بأنفاس الرياح أبية
على الركب تستعصي على كل جلعد
أراد أن الريح تصوت في تلك الفلاة لانخراقها واتساعها.
يقصر قاب العين في فلواتها
نواشز صفوان عليها وجلمد
قاب العين: أي مد البصر، ونواشز صفوان: أي كوى مرتفعة من صفوان. يريد أنه إذا بسط لحظه ومده في تلك الفلاة ارتفع أمامه جبل لا يرى ما وراءه من الأرض ولا يعرف ما يحجب.
مؤزرة بالآل فيها كأنها
رجال قعود في ملاء معضد
يقول إنها قد لبست الآل في أسافل جبالها وبقيت قننها فظهرت كأنها رجال قعود في ملاء بيض قد بدت رءوسهم منها.
تناولت أقصاها إليك ودونه
مقص لأعناق النجاء العمرد
مقص: أي مقطع لأعناق النجاء.
وقال أيضا:
أصبحت كالثوب اللبيس قد اخلقت
جداته منه فعاد مذالا
وبقيت كالرجل المدله عقله
أشكو الزمان وأضرب الأمثالا
سالمت عذالي فآبوا بالرضى
عني وكنت أحارب العذالا
ولقد علمت بأنه ما من فتى
إلا سيبدل بعد حال حالا
وقال أيضا:
سل ليلة الخيف هل أمضيت آخرها
بالراح تحت نسيم الخرد الغيد
شججتها بلعاب المزن فاغتزلت
نسجين من بين محلول ومعقود
وقال أيضا:
أناف به العلياء يحيى وجعفر
فليس له مثل ولا لهما مثل
لهم هضبة تأوي إلى ظل برمك
منوطا بها الآمال أطنابها السبل
وقال أيضا:
وما أبقت الأيام مني ولا الصبا
سوى كبد حرى وقلب مقتل
ويوم من اللذات خالست عيشه
رقيبا على اللذات غير مغفل
فكنت نديم الكأس حتى إذا انقضت
تعوضت منها ريق حوراء عيطل
العيطل الخالية من الحلي.
نهاني عنها حبها أن أريبها
بسوء فلم أفتك ولم أتبتل
يقول لم أهجم عليها وأفتك بها ولا بعدت عنها وزهدت فيها كل الزهد.
سقتني بعينيها الهوى وسقيتها
فدب دبيب الراح في كل مفصل
وإن شئت أن ألتذ نازلت جيدها
فعانقت دون الجيد نظم القرنفل
نظم القرنفل عقد ينظم من حب القرنفل ويسمى السخاب.
وممكورة رود الشباب كأنها
قضيب على دعص من الرمل أهيل
الممكورة: الجارية الضامرة.
خلوت بها والليل يقظان قائم
على قدم كالراهب المتبتل
فلما استمرت من دجى الليل دولة
وكاد عمود الصبح بالصبح ينجلي
تراءى الهوى بالشوق فاستحدث البكا
وقال للذات اللقاء ترحلي
فلم تر إلا عبرة بعد عبرة
مرقرقة أو نظرة بتأمل
وقال أيضا:
لما بدا القمر استحيت فقلت لها
بعض الحياء فإن الحب قد ظهرا
تكاتم القمر الوجه الذي ضمنت
والوجه منها ترى في مائه القمرا
وقال أيضا:
أمنتجعا مروا بأثقال همه
دع الثقل واحمل حاجة ما لها ثقل
ثناء كعرف الطيب يهدى لأهله
وليس له إلا بني خالد أهل
فإن أغش قوما بعدهم أو أزرهم
فكالوحش يستدنيه للقنص المحل
وقال أيضا:
موف على مهج واليوم ذو رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به
كالموت مستعجلا يأتي على مهل
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
ولا يمسح عينيه من الكحل
أي لا يتطيب ولا يتكحل.
الباب الثاني
فيما اخترناه من شعر أبي نواس الحسن بن هانئ
قال أبو نواس:
ركب تساقوا على الأكوار بينهم
كأس الكرى فانتشى المسقي والساقي
كأن أرؤسهم والنوم واضعها
على المناكب لم تخلق بأعناق
ساروا فلم يقطعوا عقدا لراحلة
حتى أناخوا إليكم قبل إشراق
يقول إنهم ساروا ليلهم كله ولم ينيخوا حتى أتوكم قبل الشروق.
من كل جائلة التصدير ناجية
مشتاقة حملت أوصال مشتاق
جائلة التصدير يريد ناقة ضامرة جال صدارها.
ومن أحسن ما قيل في السير والسرى قول الآخر:
أنا في السرى والسير كالطفل الذي
يجد السكون إذا تحرك مهده
وقال بعضهم في الرد على من يقول إن في السفر به يبلغ الوطر:
كم سفرة نفعت وأخرى مثلها
ضرت ويكتسب الحريص ويخفق
كالبدر يكتسب الكمال بسيره
وبه إذا حرم السعادة يمحق
وقال أيضا:
ولقد تجوب بي الفلاة إذا
صام النهار وقالت العفر
صام النهار: أي قام قائم الظهيرة، والعفر الظباء، وقالت من القيلولة، وهي لا تقيل إلا إذا اشتد الحر، قال الحارث بن حلزة:
حتى إذا التفع الظباء بأط
راف الظلال وقلن في الكنس
شدنية رعت الحمى فأتت
ملء الحبال كأنها قصر
الشدنيات من النوق منسوبة إلى موضع باليمن، وتشبيه الناقة بالقصر قديم، قال عنترة:
فوقفت فيها ناقتي وكأنها
فدن لأقضي حاجة المتلوم
والفدن القصر.
تثني على الحاذين ذا خصل
تعماله الشذران والخطر
الحاذان تثنية حاذ وهو ظاهر الفخذ، وذا خصل يعني ذنب الناقة، والخصل قطع الشعر. يقول إنها تضرب فخذها بذنبها، وتعماله الشذران والخطر: أي تضرب به يمينا وشمالا.
أما إذا رفعته شامذة
فتقول رنق فوقها نسر
يقال شمذت الناقة تشمذ: أي لقحت فشالت بذنبها. يقول إن رفعت ذنبها حلق فوقها كأنه نسر.
أما إذا وضعته عارضة
فتقول أرخي فوقها ستر
وفي هاتين الحالتين يقول طرفة:
فطورا به خلف الزميل وتارة
إلى حشف كالشن ذاو مجدد
وتسف أحيانا فتحسبها
مترسما يقتاده إثر
وتسف: أي تشدد النظر وتحده، والإثر الأثر، قال القائل:
على إثر حي عامدين لنية
فحلوا العتيق أو ثنية مطرق
يقول إنها تنظر لأعطاف الطرق وتتأملها كأنها قائف ينظر إلى أثر ويتتبعه.
فإذا قصرت لها الزمام سما
فوق المقادم ملطم حر
الملطم: الخد.
فكأنها مصغ لتسمعه
بعض الحديث بأذنه وقر
هذا كقول مسلم:
والعيس عاطفة الرءوس كأنما
يطلبن سر محدث في الأحلس
يرمي إليك بها بنو أمل
عتبوا فأعتبهم بك الدهر
وقال أيضا، وقد نهاه الأمين عن شرب الخمر:
أيها الرائحان باللوم لوما
لا أذوق المدام إلا شميما
فاصرفاها إلى سواي فإني
لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها
قعدي يزين التحكيما
رجل قعدي منسوب إلى القعد، والقعد الشراة الذي يحكمون ولا يحاربون ولا يتخذون لهم ديوانا، والقعد جمع قاعد، كما قالوا حارس وحرس.
كل عن حمله السلاح إلى الحر
ب فأوصى المطيق أن لا يقيما
وقال أيضا:
وبتنا كغصني بانة عطفتهما
مع الصبح ريحا شمأل وجنوب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه
مبادي نصول في عذار خضيب
وقال أيضا في الخمر:
كأن بقايا ما عفا من حبابها
تفاريق شيب في سواد عذار
تعاطيكها كف كأن بنانها
إذا اعترضتها العين صف مدار
وقال أيضا:
إذا كان إبراهيم جارك لم تجد
عليك بنات الدهر من متقدم
لقد حط جار العبدري رحاله
إلى حيث لا ترقى الخطوب بسلم
العبدري نسبة إلى عبد الدار. يريد أن جار هذا الممدوح يأمن خطوب الزمان.
وجدنا لعبد الدار جرثوم عزة
وعادية أركانها لم تهدم
عبد الدار هو ابن قصي أخو عبد مناف، وعادية: أي قديمة، نسبة إلى عاد. يريد مناقب عريقة في الكرم.
إذا اشتعب الناس البيوت فإنهم
أولو الله والبيت العتيق المحرم
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا
مقابلة بين الجديل وشدقم
الجديل وشدقم فحلان كريمان تنسب إليهما كرام الإبل. يقول سارت بنا إلى هذا الممدوح إبل مقابلة الطرفين من جديل وشدقم، أمهاتها لجديل وآباؤها لشدقم أو بالعكس.
مهارى إذا أشرعن حر مفازة
كرعن جميعا في إناء مقسم
نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه
على كل خيشوم نبيل المخطم
حدابير ما ينفك في حيث بركت
دم من أظل أو دم من مخدم
حدابير: أي قوست من طول السير، والأظل باطن الخف، والمخدم من الناقة موضع الخلخال من المرأة. يريد أن هذه النوق نقبت فالدم يجري من أظلها.
وقال أيضا:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاء
وقال بعضهم:
فدونك قهوة لم يبق منها
تقادم عهدها إلا الأقلا
بزلنا دنها والليل داج
فصيرت الدجى شمسا وظلا
فأرسلت من فم الإبريق صافية
كأنما أخذها بالعين إغفاء
دارت على فتية ذل الزمان لهم
فما يصيبهم إلا بما شاءوا
وقال أيضا:
لما تبدى الصبح من حجابه
كطلعة الأشمط من جلبابه
وانعدل الليل إلى مآبه
كالحبشي افتر عن أنيابه
هجنا بكلب طالما هجنا به
كأن متنيه لدى انسلابه
هجنا به: أي هجنا الصيد به.
متن شجاع لج في انسيابه
كأنما الأظفور في قنابه
الشجاع الثعبان، والقناب مقر الظفر.
موسى صناع رد في نصابه
تراه في الحضر إذا هاها به
الصناع الحاذق، وهابه: أي أغراه على الصيد.
يكاد أن يخرج من إهابه
الإهاب: الجلد.
وقال أيضا ينعت كلبا لسعته حية فمات:
خرجت والدنيا إلى تباب
به وكان عدتي ونابي
أصفر قد ضرج بالملاب
كأنما يدهن بالزرياب
الملاب نوع من الطيب أصفر اللون كالزعفران، والزرياب الذهب.
فبينما نحن به في الغاب
إذ برزت كالحة الأنياب
كالحة الأنياب يعني حية.
رقشاء جرداء من الثياب
كأنما تبصر من نقاب
فعلقت عرقوبه بناب
فخر وانصاعت بلا ارتياب
كأنما تنفخ من جراب
وقال بعضهم يصف ثعبانا:
ينظر من عين بلا حملاق
إن نام لا يكلؤها بماق
يشم منك موضع النطاق
بوخذة من ذرب حذاق
يكتمه في هرت الأشداق
ليك من حديدة الحلاق
ترى على اللبات والتراقي
إهالة من سمه المراق
مثل القذى لجلج في المآقي
وقال أيضا:
ما زلت أستل روح الدن في لطف
وأستقي دمه من جوف مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
والدن منطرح جسما بلا روح
وقال أيضا:
لمن دمن تزداد حسن رسوم
على طول ما أقوت وطيب نسيم
تجافى البلا عنهن حتى كأنما
لبسن على الإقواء ثوب نعيم
وما زال مدلولا على الربع عاشق
حسير لبانات طليح هموم
يرى الناس أعباء على جفن عينه
ولو حل في وادي أخ وحميم
يود بجدع الأنف لو أن ظهرها
من الإنس أعرى من سراة أديم
وقال أيضا:
أما ترى الأرض ما تفنى عجائبها
والدهر يخلط ميسورا بمعسور
وليس للهم إلا كل صافية
كأنها دمعة في عين مهجور
وقال أيضا:
وشراب ألذ من نظر المعش
وق في وجه عاشق بابتسام
لا غليظ تنبو الطبيعة عنه
نبوة السمع عن شنيع الكلام
وقال أيضا:
لم ترض عني وإن قربت متكئي
يا راضي الوجه عني ساخط الجود
بل استترت بإظهار البشاشة لي
والبشر مثل استتار النار في العود
وقال أيضا:
كأن ثيابه أطلع
ن من أزراره قمرا
بوجه سابري لو
تصوب ماؤه قطرا
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
وقال أيضا:
يا ابن إبراهيم يا عبد الملك
واثقا أقبلت بالله وبك
أنت للمال إذا أصلحته
فإذا أنفقته فالمال لك
وقال أيضا:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم
وإني على أمثال تلك لحابس
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
قال ابن المزرع: سمعت الجاحظ يقول: لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات التي لأبي نواس، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا لهو الشعر ولو نقر لطن، فقلت له: ويحك ما تفارق عمل الجرار والخزف.
وقال بعضهم يصف قتالا:
أأميم لو شاهدت يوم نزالنا
والخيل تحت النقع كالأشباح
تطفو وترسب في الدماء كأنها
صور الفوارس في كئوس الراح
الباب الثالث
فيما اخترناه من شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي
قال أبو تمام:
قفا نعط المنازل من عيون
لها في الشوق أنواء غزار
عفت آياتهن وأي ربع
يكون له على الزمن الخيار
أثاف كالخدود لطمن حزنا
ونؤي مثل ما انفصم السوار
وكانت لوعة ثم اطمأنت
كذاك لكل سائلة قرار
وقال أيضا يصف فرسا ويمدح:
نعم متاع الدنيا حباك به
أروع لا جيدر ولا جبس
الجيدر القصير، والجبس الضعيف الجبان.
أصفر منها كأنه محة ال
بيضة صاف كأنه عجس
محة البيضة صفارها، والعجس مقبض القوس، يضرب به المثل في الصفرة.
هاديه جذع من الأراك وما
خلف الصلا منه صخرة جلس
الهادي العنق، والصلا الظهر، وصخرة جلس أي صلبة وبها سميت الناقة جلساء.
يكاد يجري الجادي من ماء عط
فيه ويجنى من متنه الورس
الجادي الزعفران.
هذب في جنسه ونال المدى
بنفسه فهو وحده جنس
وهو إذا ما ناجاه فارسه
يفهم عنه ما تفهم الإنس
وهو إذا ما أعرت غرته
عينيك لاحت كأنها برس
البرس: القطن.
وقال بعضهم:
طرف من الصبح له غرة
ومن رياح أربع أربع
ضمخ من لونه فجاء كأن
قد كسفت في أديمه الشمس
هذب همي به صقيل من ال
فتيان أقطار عرضه ملس
يقول أعطاني هذا الفرس صقيل من الفتيان أي نقي طاهر العرض.
أبو علي أخلاقه زهر
غب سماء وروحه قدس
أبيض قدت قد الشراك شرا
ك السبت بيني وبينه النفس
يقول إن نفسا واحدة قدت بيني وبينه قد الأديم.
للمجد مستشرف وللأدب ال
مجفو ترب وللندى حلس
حلس أي ملازم، يقال: فلان حلس بيته؛ أي ملازمه لا يخرج منه.
وحومة للخطاب فرجها
والقوم عجم في مثلها خرس
شك حشاها بخطبة عنن
كأنها منه طعنة خلس
طعنة خلس أي مختلسة يريد أنها سريعة.
أروع لا من رياحه الحرجف الص
ر ولا من نجومه النحس
يشتاقه من جماله غده
ويكثر الوجد نحوه الأمس
أيامنا في ظلاله أبدا
فصل ربيع ودهرنا عرس
لا كأناس قد أصبحوا صدأ ال
عيش كأن الدنيا بهم حبس
وقال أيضا:
راح إذا ما الراح كن مطيها
كانت مطايا الشوق في الأحشاء
صعبت وراض المزج سيئ خلقها
فتعلمت من حسن خلق الماء
خرقاء يلعب بالعقول حبابها
كتلاعب الأفعال بالأسماء
ومن لطيف ما قيل في الحباب قول القائل:
يجول حباب الماء في جنباتها
كما جال دمع فوق خد مورد
وقال آخر:
تدلى عليها حسام المزج فامتنعت
بلامة للحباب الجم حصداء
وضعيفة فإذا أصابت فرصة
قتلت كذلك قدرة الضعفاء
وقال أيضا:
يا أيها الملك النائي بغرته
وجوده لمرجي جوده كثب
كثب: أي قريب.
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا
إن السماء ترجى حين تحتجب
وقال أيضا:
كل يوم تبدي صروف الليالي
خلقا من أبي سعيد عجيبا
طاب فيه المديح والتذ حتى
فاق وصف الديار والتشبيبا
غربته العلا على كثرة الأه
ل فأضحى في الأقربين غريبا
وقال أيضا:
حول لا فعاله مرتع الذم ولا
عرضه مراح العيوب
الحول الرجل الداهية. قال معاوية رضي الله عنه لابنته وهي تمرضه على فراشه: إنك لتقلبين حولا قلبا.
سرح قوله إذا ما استمرت
عقدة العي في لسان الخطيب
سرح أي سهل القول منطيق ذلق اللسان.
لا معنى بكل شيء ولا كل
عجيب في عينه بعجيب
ليس يعرى عن حلة من طراز ال
مدح من راجز بها مستثيب
فإذا مر لابس الحمد قال ال
قوم: من صاحب الرداء القشيب
وإذا كف راغب سلبته
راح طلقا كالكوكب المشبوب
ما مهاة الحجال مسلوبة أظ
رف حسنا من ماجد مسلوب
واجد بالخليل من برحاء الش
وق وجدان غيره بالحبيب
كل شعب كنتم به آل وهب
فهو شعبي وشعب كل أديب
إن قلبي لكم لكالكبد الحر
ى وقلبي لغيركم كالقلوب
وقال أيضا:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد
تقطع ما بيني وبين النوائب
تكاد عطاياه يجن جنونها
إذا لم يعوذها بنغمة طالب
إذا حركته هزة المجد غيرت
عطاياه أسماء الأماني الكواذب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل
كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور تفتحه الصبا
بياض العطايا في سواد المطالب
وقال أيضا:
هب من له شيء يريد حجابه
ما بال لا شيء عليه حجاب
ما زال وسواس لقلبي خادعا
حتى رجا مطرا وليس سحاب
ما إن سمعت ولا أراني سامعا
يوما بصحراء عليها باب
ما كنت أدري لا دريت بأنه
يجري بأفنية البيوت سراب
وقال أيضا:
وثناياك إنها إغريض
ولآل توم وبرق وميض
وأقاح منور في بطاح
هزه في الصباح روض أريض
وقال أيضا:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال بعضهم:
في الناس من لا يرتجى نفعه
إلا إذا مس بإضرار
كالعود لا يطمع في ريحه
إلا إذا أحرق بالنار
وقال أيضا:
إليك هتكنا جنح ليل كأنه
قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
تخب بنا أدم المهارى وشيمها
على كل نشز متلئب وفدفد
الأدم البيض، والشيم التي فيها سواد وبياض، والنشز المرتفع من الأرض، والفدفد المستوي من الأرض.
تقلب في الآفاق صلا كأنما
يقلب في فكيه شقة مبرد
الصل الحية.
أتيتك لم أفزع إلى غير مفزع
ولم أنشد الحاجات في غير منشد
ومن يرج معروف البعيد فإنما
يدي عولت في النائبات على يدي
وقال أيضا:
قراني اللهى والود حتى كأنما
أفاد الغنى من نائلي وفوائدي
فأصبحت يلقاني الزمان لأجله
بإعظام مولود وإشفاق والد
وقال أيضا يصف خيلا:
كأنني بي قد زنت ساحتها
بمسمح في قياده سلس
أحمر منها مثل السبيكة أو
أحوى به كاللمى أو اللعس
أو أدهم فيه كمتة أمم
كأنه قطعة من الغلس
الكمتة حمرة مشوبة بسواد، والغلس الظلام.
مخلق وجهه على السبق
تخليق عروس الأبناء للعرس
الأبناء هم جماعة من الفرس سكنت اليمن وتعربت.
حر له سورة لدى السوط
والزجر وعند العنان والمرس
والمرس هو الحبل يريد به الرسن.
فهو يسر الرواض بالنزق السا
كن منه واللين والشرس
صهصلق في الصهيل تحسبه
أشرج حلقومه على جرس
صهصلق: أي شديد الصوت.
وقال أيضا:
إن المنازل ساورتها فرقة
أخلت من الآرام كل كناس
الآرام الظباء، والكناس بيت الظبي.
من كل ضاحكة الترائب أرهفت
إرهاف خوط البانة المياس
الخوط الغصن.
بكر إذا ابتسمت أراك وميضها
نور الأقاح برملة ميعاس
وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما
بحليها من كثرة الوسواس
وقال أيضا:
مهاة النقا لولا الشوى والمآبض
وإن محض الإعراض لي منك ماحض
يقول هي مهاة النقا لولا دقة أطرافها، وقوله: إن محض الإعراض، أي أقول ذلك وإن أعرضت عني كل الإعراض.
رعت طرفها في هامة قد تنكرت
وصوح منها نبتها وهو بارض
البارض أول ما ينبت من النبات.
فصدت وعاضته أسى وصبابة
وما عائض منها وإن جل عائض
يقول فهجرته وعوضته من نفسها الأسى والصبابة، وقوله: وما عائض منها وإن جل عائض، يقول وما المعتاض منها معتاضا شيئا وإن جل ذلك الشيء.
وقال أيضا:
فما صقل السيف اليماني لمشهد
كما صقلت بالأمس تلك العوارض
ولا كشف الليل النهار، وقد بدا
كما كشفت تلك الشئون الغوامض
ولا عملت خرقاء أوهت شعيبها
كما عملت تلك الدموع الفوائض
الخرقاء المرأة الحمقاء، والشعيب السقاء البالي.
وأخرى لحتني حين لم أمنع النوى
قيادي ولم ينقض زماعي ناقض
الزماع العزم.
أرادت بأن يحوي الغنى وهو وادع
وهل يفرس الليث الطلى وهو رابض؟
هي الحرة الوجناء وابن ملمة
وجأش على ما يحدث الدهر خافض
إذا ما رأته العيس ظلت كأنما
عليها من الورد اليماني نافض
الورد الحمى، والنافض رعدة الحمى.
إليك سرى بالمدح قوم كأنهم
على الميس حيات اللصاب النضانض
الميس الرجال.
معيدين ورد الحوض قد هدم البلى
نصائبه وانمح منه المراكض
النصائب حجارة تنصب حول الحوض، والمراكض جوانب الحوض.
تشيم بروقا من نداك كأنها
وقد لاح أولاها عروق نوابض
فما زلن يستشرين حتى كأنما
على أفق الدنيا سيوف روامض
الروامض الحادة.
فلم تنصرم إلا وفي كل وهدة
ونشز لها واد من العرف فائض
وقال أيضا:
بمهدي بن أصرم عاد عودي
إلى إيراقه وامتد باعي
سعى فاستنزل الشرف اقتسارا
ولولا السعي لم تكن المساعي
ونغمة معتف يرجوه أحلى
على أذنيه من نغم السماع
جعلت الجود لألاء المساعي
وهل شمس تكون بلا شعاع
ولم يحفظ مضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المضاع
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع
وقال أيضا يمدح محمد بن الهيثم ويذكر خلعة خلعها عليه:
قد كسانا من كسوة الصيف خرق
مكتس من مكارم ومساع
خرق: أي كريم.
حلة سابرية ورداء
كسحا القيض أو رداء الشجاع
القيض قشر البيض الأعلى، والسحا القشرة الرقيقة التي بين قشر البيضة ولبها، والشجاع الثعبان.
كالسراب الرقراق في العنت إلا
أنه ليس مثله في الخداع
يطرد اليوم ذا الهجير ولو ش
به في حره بيوم الوداع
خلعة من أغر أروع رحب الص
در رحب الفؤاد رحب الذراع
سوف أكسوه ما يعفي عليها
من ثناء كالبرد برد الصناع
ويعجبني قول الآخر، وقد لامته صاحبته على خلق ثيابه وهو:
يا هذه إن رحت في
خلق فما في ذاك عار
هذي المدام هي الحياة
قميصها خزف وقار
وقال ابن حرب في طيلسانه:
طيلسان لو كان لفظا إذا ما
شك خلق في أنه بهتان
كم رفوناه إذ تمزق حتى
بقي الرفو وانقضى الطيلسان
وقال أيضا:
لا غرو إن فننان من عيدانة
لقيا حماما للبرية آكلا
إن الأشاء إذا أصاب مشذب
منه اتمهل ذرى وأث أسافلا
يقول إن مات ابناك فسيزيد نسلك كالنخل الذي إذا شذب وقطع منه طال وكثرت فروعه.
وقال أيضا، وقد سمع مغنية تغني بالفارسية فاستحسن الصوت ولم يعرف المعنى:
ولم أفهم معانيها ولكن
ورت كبدي فلم أجهل شجاها
ورت كبدي: أي أدوتها.
فبت كأنني أعمى معنى
يحب الغانيات وما يراها
وقال أيضا:
يا برق طالع منزلا بالأبرق
واحد السحاب له حداء الأينق
دمن لوت عزم الفؤاد ومزقت
فيها دموع العين كل ممزق
لا شوق ما لم تصل وجدا بالتي
تأبى وصالك كالأبا ء المحرق
الأبا ء القصب.
ما مقرب يختال في أشطانه
ملآن من صلف به وتلهوق
ما نكرة موصوفة واقعة على فرس وما بعدها صفات لها، يعني فرس هذه صفاته أمطاكه الحسن بن وهب، والصلف النشاط.
بحوافر حفر وصلب صلب
وأشاعر شعر وخلق أخلق
حفر جمع أحفر: أي مستدير من غير صغر، والأشاعر ما حول الحافر، وشعر كثيرة الشعر، والأخلق الأملس.
وبشعلة نبذ كأن فلولها
في صهوتيه بدو شيب المفرق
ذو أولق تحت العجاج وإنما
من صحة إفراط ذاك الأولق
الأولق الجنون.
تغرى العيون به فيفلق شاعر
في نعته وصفا وليس بمفلق
بمصعد من نعته ومصوب
ومجمع من حسنه ومفرق
صلتان يبسط إن عدا أو إن ردى
في الأرض باعا منه ليس بضيق
الصلتان النشيط الحديد الفؤاد، وإن ردى: أي سار.
وتطرق الغلواء منه إذا عدا
والكبرياء له بغير تطرق
مسود شطر مثل ما اسود الدجى
مبيض شطر كابيضاض المهرق
أهدى كناز جده فيما مضى
للمثل واستصفى أباه ليلبق
يلبق والمثل ملكان من ملوك قحطان. يقول إن كناز ملك فارس أهدى جد هذا الفرس للمثل وأهدى ليلبق أباه.
قد سالت الأوضاح سيل قرارة
فيه فمفترق عليه وملتق
القرارة محل استقرار الماء بعد السيل.
فكأن فارسه يصرف إذ بدا
في متنه ابنا للصباح الأبلق
صافي الأديم كأنما ألبسته
من سندس بردا ومن إستبرق
إمليسه أملوده لو علقت
في صهوتيه العين لم تتعلق
يرقى وما هو بالسليم ويغتدي
دون السلاح سلاح أروع مملق
في مطلب أو مهرب أو رغبة
أو رهبة أو موكب أو فيلق
أمطاكه الحسن بن وهب إنه
داني ثرى اليد من رجاء المملق
يحصى مع الأنواء فيض بنانه
ويعد من حسنات أهل المشرق
يستنزل الأمل البعيد ببشره
بشرى الخميلة بالربيع المغدق
وكذا السحائب قلما تدعو إلى
معروفها الرواد إن لم تبرق
لو كان سيفا ما استبنت لنصله
متنا لفرط فرنده والرونق
ثبت البيان إذا تلعثم قائل
أضحى شكالا للسان المطلق
لم يتبع شنع اللغات ولا مشى
رسف المقيد في حدود المنطق
في هذه خبث الكلام وهذه
كالسور مضروبا له والخندق
في هذه: أي في شنع اللغات خبث الكلام، وهذه: أي حدود المنطق كالسور المضروب لا يتخطاه العقل.
يجني جناة النحل في أعلا الربا
زهرا ويشرع في الغدير المتأق
يشرع: أي يكرع.
أنف البلاغة لا كمن هو حائر
متردد في المرتع المتعرق
عير تفرق إن حداها غيره
ومتى يسقها وادعا تستوسق
تنشق في ظلم المعاني إن دجت
منه تباشير الكلام المشرق
وقال أيضا:
كم نعمة لله كانت عنده
فكأنها في غربة وإسار
كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت
كتضاءل الحسناء في الأطمار
وقال أيضا:
سميذع يتغطى من صنائعه
كما تغطت رجال من فضائحها
وفأرة المسك لا يخفي تضوعها
طول الحجاب ولا يزري بفائحها
وقال أيضا:
لبست سواه أقواما فكانوا
كما أغنى التيمم بالصعيد
فتى أحيت يداه بعد يأس
لنا الميتين من بأس وجود
وقال أيضا:
مطرد الآباء في نسبة
كالصبح في إشراقه الساطع
مناسب تحسب من ضوئها
منازلا للقمر الطالع
وقال أيضا:
عبس اللحد والثرى منك وجها
غير ما عابس ولا قطاب
أطفأ اللحد والثرى لبك المس
رج في وقت ظلمة الألباب
وتبدلت منزلا ظاهر الجدب
يسمى مقطع الأسباب
منزلا موحشا وإن كان مع
مورا بحل الصديق والأحباب
يا شهابا خبا لآل عبيد الل
ه أعزز بفقد هذا الشهاب
زهرة غضة تفتح عنها ال
مجد في منبت أنيق الجناب
خلق كالمدام أو كرضاب المس
ك أو كالعبير أو كالملاب
وحياء ناهيك في غير عي
وصبا مشرق بغير تصاب
قصدت نحوه المنية حتى
وهبت حسن وجهه للتراب
وقال أيضا:
راحت وفود الأرض عن قبره
فارغة الأيدي ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت إنما
يعرف فقد الشمس عند المغيب
إذا البعيد الوطن انتابه
حل إلى نهي وواد خصيب
النهي مستقر الغدير.
أدنته أيدي العيس من ساحة
كأنها مسقط رأس الغريب
ونعمة منه تسربلتها
كأنها طرة برد قشيب
من اللواتي إن ونى شاكر
قامت لمسديها مقام الخطيب
وقال أيضا:
مشت قلوب أناس في صدورهم
لما رأوك تمشي نحوهم قدما
أمطرتهم عزمات لو رميت بها
يوم الكريهة ركن الدهر لانهدما
أبدلت أرؤسهم يوم الحفيظة من
قنا الظهور قنا الخطي مدعما
وقال بعضهم في الرماح:
من كل أزرق لا يعييه نضح دم
مثل اللسان فما ينفك ذا بلل
وقال آخر في هذا الباب:
يمضي بها الرمح إلى عقبه
كأنه يرقع ما يخرق
من كل ذي لمة غطت ضفائرها
صدر القناة فقد كادت ترى علما
وقال أيضا:
عهدي بهم تستنير الأرض إن نزلوا
بها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا
ويضحك الدهر منهم عن غطارفة
كأن أيامهم من حسنها جمع
وقال أيضا:
ولو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
وقال أيضا:
ما يحسن الدهر أن يسطو على رجل
إذا تعلق حبلا من أبي حسن
فتى تريش جناح الجود راحته
حتى يخال بأن البخل لم يكن
وتشتري نفسه المعروف بالثمن ال
غالي ولو أنها كانت من الثمن
حاطت يداه من الإسلام ضاحية
وحالتا بين طرف الدهر والوسن
وقال أيضا:
لقد جلى كتابك كل بث
جو وأصاب شاكلة الرمي
وكان أغض في عيني وأندى
على كبدي من الزهر الجني
وأحسن موقعا مني وعندي
من البشرى أتت بعد النعي
وضمن صدره ما لم تضمن
صدور الغانيات من الحلي
وقال أيضا:
أخرست إذ عاينتني حتى إذا
ما غبت عن بصري ظللت تشدق؟
قل ما بدا لك يا ابن ترنى فالصدى
بمهذب العقيان لا يتعلق
وقال أيضا:
لم أر عيرا جمة الدءوب
تواصل التهجير بالتأويب
أبعد من أين ومن لغوب
منها غداة الشارق المهضوب
نجائبا وليس من نجيب
شبائه الأعناق بالعجوب
العجوب يريد الأذناب.
كالليل أو كاللوب أو كالنوب
منقادة لعارض غربيب
كالشيعة التفت على النقيب
آخذة بطاعة الجنوب
ناقضة لمرر الخطوب
تكف غرب الزمن العصيب
محاءة للأزمة اللزوب
محو استلام الركن للذنوب
لما بدت للأرض من قريب
تشوقت لوبلها السكوب
تشوق المريض للطبيب
وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب
وخيمت صادقة الشؤبوب
فقام فيها الرعد كالخطيب
وحنت الريح حنين النيب
فالشمس ذات حاجب محجوب
قد غربت من غير ما غروب
يريد أن الشمس محجوبة بالغمام.
والأرض من ردائها القشيب
في زاهر من نبتها رطيب
بعد اشتهاب الثلج والضريب
كالكهل بعد السن والتحنيب
تبدل الشباب بالمشيب
كم آنست من جانب غريب
وغلبت من الثرى المغلوب
ونفست عن بارض مكروب
وسكنت من نافر الجبوب
البارض أول نبت الأرض، والجبوب التراب.
وأقنعت من بلد رغيب
تحفظ عهد الغيب بالمغيب
أقنعت أرضت، والبلد الرغيب المفازة الواسعة الأطراف.
لذيذة الريق والصبيب
كأنما تهمي على القلوب
وقال أيضا:
أخرجتموه بكره من سجيته
والنار قد تنتضى من ناضر السلم
يا عثرة ما وقيتم شر مصرعها
وزلة الرأي تنسي زلة القدم
وقال أيضا:
نزلوا مركز الندى وذراه
وعدتنا من دون ذاك العوادي
غير أن الربا إلى سبل الأنواء
أدنى والحظ عند الوهاد
يقول إن غيرنا قرب من الممدوح ونحن بعدنا عنه إلا أن ذلك لا يضيرنا فإن الربا أدنى إلى الغمام من الأودية، ومع ذلك فالأودية هي التي تنتفع بمائه إذ ينحدر إليها ويستقر فيها.
وقال أيضا:
ملك تضيء المكرمات إذا بدا
للملك منه غرة وجبين
ساس الجيوش سياسة ابن تجارب
رمقته عين الملك وهو جنين
لانت مهزته فعز وإنما
يشتد بأس الرمح حين يلين
وقال أيضا يذكر إحراق حيدر الأفشين وصلبه:
ما كان لولا فحش غدرة حيدر
ليكون للإسلام عام فجار
ما زال سر الكفر بين ضلوعه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
نارا يساور جسمه من حرها
لهب كما عصفرت شق إزار
طارت لها شعل يهدم نفحها
أركانه هدما بغير غبار
لله من نار رأيت ضياءها
ضاق الفضاء به على النظار
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك
ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيا وكان وقودها
ميتا ويدخلها مع الفجار
وكذاك أهل النار في الدنيا هم
يوم القيامة جل أهل النار
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى
أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما
وجدوا الهلال عشية الإفطار
واستنشقوا منه قتارا نشره
من عنبر ذفر ومسك داري
القتار رائحة الشواء.
وتحدثوا عن هلكه كحديث من
بالبدو عن متتابع الأمطار
وتباشروا كتباشر الحرمين في
قحم السنين بأرخص الأسعار
وقال أيضا:
يقول في قومس صحبي، وقد أخذت
منها السرى وخطى المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
فقلت كلا ولكن مطلع الجود
وقال أيضا:
وبساط كأنما الآل فيه
وعليه سحق الملاء الرحيض
البساط ما اتسع من الأرض، والسحق الخلق، والرحيض المغسول الأبيض.
يصبح الداعري ذو الميعة
المرجم فيه كأنه مأبوض
والداعري جمل منسوب إلى داعر، والميعة النشاط، والمرجم السريع، والمأبوض المقيد.
وقال أيضا:
كانت لكم أخلاقه معسولة
فتركتموها وهي ملح علقم
حتى إذا أجنت لكم داوتكم
من دائكم إن الثقاف يقوم
أجنت: أي حان جناها.
فقسا لتزدجروا ومن يك حازما
فليقس أحيانا على من يرحم
وقال أيضا في قوم:
لا رقة الحضر اللطيف غذتهم
وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم
كرم النفوس وقلة الآداب
وقال أيضا:
عجبت لصبري بعده وهو ميت
وقد كنت أبكيه دما وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
وقال أيضا:
نظرت إليه فما استنمت لحظها
حتى تمنت أنها لم تنظر
ورأت شحوبا رابها في جسمه
ماذا يريبك من جواد مضمر
وقال آخر:
عتاق الوجوه وعتق الجياد
في الضمر تعرفه والقبب
يشف الوضاء خلال الشحوب
منها وخلف الدخان اللهب
وقال أيضا:
لا تنكري عطل الكريم من الغنا
فالسيل حرب للمكان العالي
وتنظري خبب الركاب ينصها
محيي القريض إلى مميت المال
يريد أن المكان العالي كقلل الجبال ونحوها لا يثبت بها ماء السيل ولا يستقر بها، وإنما ينحدر إلى الوادي وهو أوطأ محل فيستقر به، وكذلك الغناء لا يكون عند الكريم وإنما يكون عند اللئيم الدنيء.
وقال أيضا:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وقال أيضا:
مهذب قدت النبوة والإس
لام قد الشراك من نسبه
له جلال إذا تسربله
أكسبه البأو غير مكتسبه
والحظ يعطاه غير طالبه
ويحرز الدر غير مجتلبه
يقول ألبسه قدره جلالة العظمة من غير أن يسعى في اكتسابها.
وقال أيضا في الخمر:
وكأس كمعسول الأماني شربتها
ولكنها أجلت، وقد شربت عقلي
إذا هي دبت في الفتى خال جسمه
لما دب فيه قرية من قرى النمل
ومن عادة الخمر أنها تعقد لسان شاربها، وقد قيل في ذلك أنها لما استخفت المرء حتى يفضي بأسراره عقدت لسانه كيلا يبيح بها.
الباب الرابع
فيما اخترناه من شعر أبي عبادة البحتري
قال أبو عبادة:
يمشون في زرد كأن متونها
في كل معركة متون نهاء
النهاء جمع نهي وهو مستقر الماء.
بيض تسيل على الكماة فضولها
سيل السراب بقفرة بيداء
فإذا الأسنة خالطتها خلتها
فيها خيال كواكب في ماء
وقال أيضا:
ما الندى في سواك غير حديث
من أناس بادوا وفعل ماض
قد تلافى القريض جودك فار
تث لقى مشفيا على الإنقراض
ارتث: أي حمل من المعركة به رمق، وقد فعل ذلك بجماعة من الصحابة يوم أحد حملوا إلى المدينة فماتوا بها فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بردهم إلى أصحابهم في أحد، ولقى أي حالة كونه لقى، واللقى الشيء المنبوذ الملقى.
نعم أبدت المصون المغطى
منه تحت الخفوت والإغماض
كالغوادي أظهرن كل جني
مستسر في زاهرات الرياض
وقال أيضا:
ولقد جمعت فضائلا ما استجمعت
يفنى الزمان وذكرها لم يهرم
من صدق قولك تبتدي وإلى فعا
لك تنتهي، وإليك أجمع تنتمي
مثل الكلام تفرقت أنواعه
فرقا ويجمعها حروف المعجم
وقال أيضا:
ولقد سكنت إلى الصدود من النوى
والشري أري عند أكل الحنظل
وكذاك طرفة حين أوجس ضربة
في الرأس هان عليه فصد الأكحل
وأغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه
في الحسن جاء كصورة في هيكل
وافي الضلوع يشد عقد حزامه
يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرستمين بفارس
وجدوده للتبعين بموكل
يهوي كما تهوي العقاب، وقد رأت
صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
تتوهم الجوزاء في أرساغه
والبدر فوق جبينه المتهلل
متوجس برقيقتين كأنما
تريان من ورق عليه موصل
ذنب كما سحب الرداء يذب عن
عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة
يقق تسيل حجوله في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشيه
عرضا على السنن البعيد الأطول
صافي الأديم كأنما عنيت به
لصفاء نقبته مداوس صيقل
النقبة اللون، والمداوس المصاقل.
وكأنما نفضت عليه صبغها
صهباء للبردان أو قطربل
لبس القنوء مزعفرا ومعصفرا
يدمى فراح كأنه في خيعل
القنوء الحمرة، والخيعل ثوب أحمر.
وكأنما كسي الخدود نواعما
مهما تواصلها بلحظ تخجل
وتراه يسطع في الغبار لهيبه
لونا وشدا كالحريق المشعل
وتظن ريعان الشباب يروعه
من جنة أو نشوة أو أفكل
هزج الصهيل كأن في نغماته
نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك العيون فإن بدا أعطينه
نظر المحب إلى الحبيب المقبل
نفسي فداؤك يا محمد من فتى
يوفي على ظلم الخطوب فتنجلي
قد جدت بالطرف الجواد فثنه
لأخيك من أدد أبيك بمنصل
يتناول الروح البعيد مناله
عفوا ويفتح في القضاء المقفل
بإنارة في كل حتف مظلم
وهداية في كل نفس مجهل
ماض وإن لم تمضه يد فارس
بطل، ومصقول وإن لم يصقل
يغشى الوغى فالترس ليس بجنة
من حده والدرع ليس بمعقل
مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى
لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
متألق يفري بأول ضربة
ما أدركت ولو انها في يذبل
وإذا أصاب فكل شيء مقتل
وإذا أصيب فما له من مقتل
وكأنما سود النمال وحمرها
دبت بأيد في قراه وأرجل
وكأن شاهره إذا استعصى به
في الروع يعصى بالسماك الأعزل
حملت حمائله القديمة بقلة
من عهد عاد غضة لم تذبل
وقال أيضا:
يا خليلي نمتما عن مبيت
بته آنفا ونومي مطار
لسوار من الغمام تزجيها
جنوب كما تزجى العشار
تزجيها: أي تسوقها، قال تعالى:
ألم تر أن الله يزجي سحابا
الآية، والعشار النوق الحوامل، قال امرؤ القيس يصف رعدا ومطرا:
كأن هزيزه بوراء غيب
عشار وله لاقت عشارا
مثقلات تحن في زجل الرع
د بشجو كما تحن الظؤار
الظؤار اسم جمع لظئر، والظئر الناقة التي تظأر على ولد أخرى.
بات برق يشب في حجرتيها
بعد وهن كما تشب النار
وقال أيضا:
شهروا على الإسلام حد مناصل
لولا التهاب حسامه لم يغمد
حمر السيوف كأنما طبعت لهم
أيدي القيون صفائحا من عسجد
وكأن مشيهم، وقد حملوا الظبى
من تحت سقف بالزجاج ممرد
مزقت أنفسهم بقلب واحد
جمعت قواصيه وسيف أوحد
في فتية طلبوا غبارك إنه
رهج ترفع من طريق السؤدد
وقال بعضهم في غبار الحرب:
وعم السماء النقع حتى كأنه
دخان وأطراف الرماح شرار
كالرمح فيه بضع عشرة فقرة
منقادة خلف السنان الأصيد
يصف اتباع الرجال له في الحرب.
لم تلقهم زحفا ولكن حملة
جاءت كضربة ثائر لم ينجد
وقال أيضا يصف إيوان كسرى:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبس
الجبس: الدنيء.
وتماسكت حين زعزعني الده
ر التماسا منه لتعسي ونكسي
ونكسي : أي لتنكيسي.
بلغ من صبابة العيش عندي
طففتها الأيام تطفيف بخس
يقول لم يبق عنده من العيش إلا بقية ثم هي تطففها الأيام أي تنقصها.
وبعيد ما بين وارد رفه
علل شربه ووارد خمس
وكأن الزمان أصبح محمو
لا هواه مع الأخس الأخس
واشترائي العراق خطة غبن
بعد بيعي الشآم بيعة وكس
لا ترزني مزاولا لاختباري
عند هذي البلوى فتنكر مسي
الروز التجربة والاختبار.
وقديما عهدتني ذا هنات
آبيات على الدنيئات شمس
هنات هنا أي أخلاق، وشمس أي نافرة.
ولقد رابني نبو ابن عمي
بعد لين من جانبيه وأنس
وإذا ما جفيت كنت حريا
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
حضرت رحلي الهموم فوجه
ت إلى أبيض المدائن عنسي
الرحل هنا المنزل، وفي حديث المطر: صلوا في الرحال. وحضرت رحلي: أي طرقتني، والمدائن مدائن كسرى وهي إلى جنب الكوفة، والأبيض هو إيوان كسرى، والعنس الناقة الصلبة.
أتسلى عن الحظوظ وآسى
لمحل من آل ساسان درس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي
ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظل عال
مشرف يحسر العيون ويخسي
مغلق بابه على جبل القب
ق إلى دارتي خلاط ومكس
حلل لم تكن كأطلال سعدى
في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني
لم تطقها مسعاة عنس وعبس
عنس قبيلة من اليمن، والبحتري طائي يمني، وعبس قبيلة من قيس عيلان.
نقل الدهر عهدهن عن الجد
ة حتى غدون أنضاء لبس
غدون أنضاء لبس: أي غدون باليات.
فكأن الجرماز من عدم الأن
س وإخلاقه بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي
جعلت فيه مأتما بعد عرس
وهو ينبيك عن عجائب قوم
لا يشاب البيان فيهم بلبس
وإذا ما رأيت صورة إنطا
كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل، وأنوشروان
يزجي الصفوف تحت الدرفس
الدرفس فارسي معرب وهو علم الفرس.
وعراك الرجال بين يديه
في خفوت منهم وإغماض جرس
وإغماض جرس: أي سكوت، والجرس الصوت.
من مشيح يهوي بعامل رمح
ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحيا
ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو
ث على العسكرين شربة خلس
أبو الغوث هو ابن البحتري.
من مدام تقولها هي نجم
أضوأ الليل أو محاجة شمس
أضوأ الليل: أي أضاءه.
وتراها إذا أجدت سرورا
وارتياحا للشارب المتحسي
أفرغت في الزجاج من كل قلب
فهي محبوبة إلى كل نفس
وتوهمت أن كسرى أبروي
ز معاطي والبلهبذ أنسي
حلم مطبق على الشك عيني
أم أمان غيرن ظني وحدسي
وكأن الإيوان من عجب الصن
عة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة إن يب
دو لعيني مصبح أو ممس
مزعجا بالفراق عن أنس إلف
عز أو مرهقا بتطليق عرس
يقول إن هذا الإيوان يظنه القادم عليه شخصا مزعجا بفراق إلف عزيز أو مرهقا بتطليق زوجته.
عكست حظه الليالي وبات ال
مشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدا وعليه
كلكل من كلاكل الدهر مرس
الكلكل الصدر، يقال: وضع عليه كلكله أي أناخ عليه.
لم يعبه أن بز من بسط الدي
باج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات
رفعت في رءوس رضوى وقدس
رضوى وقدس جبلان.
لابسات من البياض فما
تبصر منها إلا غلائل برس
يقول إن هذه الشرفات البيض كان عليها غلائل قطن.
ليس يدرى أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم
يك بانيه في الملوك بنكس
النكس الوضيع.
فكأني أرى المراتب والقو
م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى
من وقوف خلف الزحام وخنس
وقوف جمع واقف، وخنس أي مستترون.
وكأن القيان وسط المقا
صير يرجعن بين حو ولعس
وكأن اللقاء أول من أم
س ووشك الفراق أول أمس
عمرت للسرور دهرا فصارت
للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع
موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأعانوا على كتائب أرياط
بطعن على النحور ودعس
يشير إلى قضية سيف بن ذي يزن واستعانته بكسرى في طرد أرياط ملك الحبشة من اليمن بعد أن ملكها.
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وأس
وقال أيضا:
وأطلس ملء العين يحمل زوره
وأضلاعه من جانبيه شوى نهد
الأطلس الذئب، والزور الصدر، وشوى نهد: أي قوائم مرتفعة.
له ذنب مثل الرشاء يجره
ومتن كمتن القوس أعوج منأد
الرشاء حبل الدلو.
طواه الطوى حتى استمر مريره
فما فيه إلا العظم والروح والجلد
الطوى الجوع، واستمر مريره: أي ضمر.
يقضقض عصلا في أسرتها الردى
كقضقضة المقرور أرعده البرد
العصل الأنياب، والمقرور الذي أصابه القر وهو البرد.
سما لي وبي من شدة الجوع ما به
ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد
كلانا بها ذئب يحدث نفسه
بصاحبه والجد يتعسه الجد
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته
فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء فأضللت نصلها
بحيث يكون اللب والرعب والحقد
خرقاء يريد نشابه، وقوله: بحيث يكون اللب والرعب والحقد، يريد القلب.
وقال أيضا:
جئناك نحمل ألفاظا مدبجة
كأنما وشيها من يمنة اليمن
اليمنة نوع من ثياب اليمن.
من كل زهراء كالنوار مشرقة
أبقى على الزمن الباقي من الزمن
شكر امرئ ظل مشغولا بشكرك عن
فرط البكاء على الأطلال والدمن
رضيت منك بأخلاق قد امتزجت
بالمكرمات امتزاج الروح بالبدن
تدني إلى الجود كفا منك قد أنست
بالبذل والعرف أنس العين بالوسن
وقال أيضا يصف الغيث:
ذات ارتجاز بحنين الرعد
مجرورة الذيل صدوق الوعد
مسفوحة الدمع لغير وجد
لها نسيم كنسيم الورد
ورنة مثل زئير الأسد
ولمع برق كسيوف الهند
جاءت بها ريح الصبا من نجد
فانتثرت مثل انتثار العقد
فراحت الأرض بعيش رغد
من وشي أنوار الربى في برد
كأنما غدرانها في الوهد
يلعبن من حبابها بالنرد
وقال أيضا:
تلفت من عليا دمشق ودوننا
للبنان هضب كالغمام المعلق
إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما
ذممت مقامي بين بصرى وجلق
إلى معقلي عزي وداري إقامتي
وقصد التفاتي بالهوى وتشوقي
مقاصير ملك أقبلت بوجوهها
على منظر من عرض دجلة مونق
كأن الرياض الحو يكسين حولها
أفانين من أفواف وشي ملفق
إذا الريح هزت نورهن تضوعت
روائحه من فأر مسك مفتق
كأن القباب البيض والشمس طلقة
تضاحكها أنصاف بيض مفلق
ومن شرفات في السماء كأنها
قوادم غران الحمام المحلق
وقال أيضا:
ورأت لمة ألم بها الشيب
فريعت من ظلمة في شروق
ولعمري لولا الأقاحي لأ
بصرت أنيق الرياض غير أنيق
وسواد العيون لو لم يحجر
ببياض ما كان بالموموق
ومزاج الصهباء بالماء أولى
بصبوح مستحسن وغبوق
أي ليل يبهى بغير نجوم
أو سحاب تندى بغير بروق
وقفة في العقيق أطرح ثقلا
من دموعي بوقفة في العقيق
وقال أيضا، وقد كتب إلى محمد بن القاسم البقمي يستهديه نبيذا فبعث إليه نبيذا مع غلام له فجمشه البحتري فغضب الغلام وظن البحتري أنه سيخبر مولاه بما جرى فكتب إليه:
أبا جعفر كان تجميشنا
غلامك إحدى الهنات الدنيه
بعثت إلينا بشمس المدام
تضيء لنا مع شمس البريه
فليت الهدية كان الرسول
وليت الرسول إلينا الهديه
وقال أيضا في وصف النوق:
يترقرقن بالسراب، وقد خض
ن غمارا من السراب الجاري
كالقسي المعطفات بل
الأسهم مبرية بل الأوتار
وما أحسن قول الآخر:
والبدر أنضته الغياهب والسرى
فليرض إن ينض الفنيق البازل
وقال بعضهم:
ولقد أثرت العيس ما لظهورها
مما أضر بها السفار بطون
مشق السهوب لحومهن وعرقت
أشلاءهن فكل حرف نون
يرسفن في قيد الكلال كأنما
حركاتهن، وقد جهدن سكون
وقال أيضا:
وأنت خليفة منه تسود البن
ين الأشرفين ولا تساد
وبعضهم يكون أبوه منه
مكان النار يخلفها الرماد
وقال بعضهم:
إن يخترم خلفا حمام فابنه
منه لنا خلف وحظ وافر
نور تساقط حين أصبح مثمرا
والنور يسقط نفسه إذ يثمر
وقال أيضا:
ولقد سريت مع الكواكب راكبا
أعجازها بعزيمة كالكوكب
والليل في لون الغراب كأنه
هو في حلوكته وإن لم ينعب
والعيس تنصل من دجاه كما انجلى
صبغ الخضاب عن القذال الأشيب
حتى تبدى الفجر من جنباته
كالماء يلمع من خلال الطحلب
وقال أيضا:
إذا خطرت تأرج جانباها
كما خطرت على الروض القبول
ويحسن دلها والموت فيه
وقد يستحسن السيف الصقيل
يقوم من تثنيها اعتدال
يكاد يقال من هيف نحول
أقول أزيد من سقم فؤادي
وهل يزداد من قتل قتيل
وقال أيضا:
وليتنا والراح عجلى يحثها
فنون غناء للزجاجة حاد
على باب قنسرين والليل لاطخ
جوانبه من ظلمة بمداد
كأن القصور البيض في جنباته
خضبن مشيبا نازلا بسواد
كأن انخراق الجو غير لونه
لبوس حديد أو لباس حداد
كأن النجوم المستسرات في الدجى
سكاك دلاص أو عيون جراد
ولا قمر إلا حشاشة غائر
كعين طماس رنقت لرقاد
سكاك دلاص: أي مسامير دروع، وطماس رجل أعور، وللبحتري أهاج كثيرة فيه، وقال بعضهم يصف النجوم:
كأن نجوم الليل لما تنحلت
توقد جمر في خلال رماد
حكى فوق ممتد المجرة شكلها
فواقع تطفو فوق لجة واد
وقد طلعت فيه الثريا كأنها
بقية وشي في قميص حداد
ولاحت بنو نعش كتنقيط كاتب
بيسراه للتعليم هيئة صاد
وقال آخر:
وليل كأن نجوم السماء به مق
ل رنقت للهجوع
ترى الغيم من دونها حاجبا
كما احتجبت مقلة بالدموع
وقال آخر:
نبهته وسنان الفجر معترض
والليل كالبحر يخفي لجه درره
وقال آخر:
كأن اكتتام المشتري في سحابه
وديعة سر في ضمير مذيع
وقال آخر:
وكأن السماء لجة بحر
وكأن النجوم فيها حباب
وقال آخر:
رعشت كواكب جوها فكأنها
ورق تقلبها أكف شحيح
وقال أيضا:
رفيع الباع يرفع منكباه
فضول الدرع عنه والشليل
الشليل لباس من لباس الحرب.
ويحكم في ذخائره نداه
كما حكم العزيز على الذليل
خلائق كالغيوث تفيض عنها
مواهب مثل جمات السيول
ووجه رق ماء الجود فيه
على العرنين والخد الأسيل
يريك تألق المعروف فيه
شعاع الشمس في السيف الصقيل
وقال أيضا:
أبني الحسين ولم تزل أخلاقكم
من ديمة سح وروض زاهر
إن المكارم قد بدون بأول
من مجدكم وختمن بعد بآخر
تقفون طلحة بالفعال وإنما
تسرون في قمر السماء الباهر
وقال أيضا يصف قصر المعتز بالله:
لما كملت روية وعزيمة
أعملت رأيك في ابتناء الكامل
وغدوت من بين الملوك موفقا
منه لأيمن حلة ومنازل
ذعر الحمام، وقد ترنم فوقه
من منظر خطر المزلة هائل
رفعت لمنخرق الرياح سموكه
وزهت عجائب حسنه المتخايل
وكأن حيطان الزجاج بجوه
لجج يمجن على جنوب سواحل
وكأن تفويف الرخام إذا التقى
تأليفه بالمنظر المتقابل
حبك الغمام رصفن بين منمر
ومسير ومقارب ومشاكل
لبست من الذهب الصقيل سقوفه
نورا يضيء على الظلام الحافل
فترى العيون يجلن في ذي رونق
متلهب العالي أنيق السافل
وكأنما نشرت على بستانه
سيراء وشي اليمنة المتواصل
أغنته دجلة إذ تلاحق فيضها
عن صوب منسجم الرباب الهاطل
وتنفست فيه الصبا فتعطفت
أشجاره من حيل وحوامل
حيل: أي غير حوامل.
مشي العذارى الغيد رحن عشية
من بين حالية اليدين وعاطل
وقال أيضا يرثي بني حميد:
أقصر حميد لا عزاء لمغرم
ولا قصر عن دمع وإن كان من دم
أفي كل عام لا تزال مروعا
بفذ نعي تارة أو بتوأم
مضى أهلك الأخيار إلا أقلهم
وبادوا كما بادت أوائل جرهم
فصرت كعش خلفته فراخه
بعلياء فرع الأثلة المتهشم
أحب بنوك المكرمات ففرقت
جماعتهم في كل دهياء صيلم
تدانت مناياهم بهم وتباعدت
مضاجعهم عن تربك المتنسم
فكل له قبر غريب ببلدة
فمن منجد نائي الضريح ومتهم
قبور بأطراف الثغور كأنما
مواقعها منها مواقع أنجم
بشاهقة البذين قبر محمد
بعيد عن الباكين في كل مأتم
تشق عليه الريح كل عشية
جيوب الغمام بين بكر وأيم
وبالموصل الزهراء ملحد أحمد
وبين ربى القاطول مضجع أصرم
وكم طلبتهم من سوابق عبرة
متى ما تنهنه بالملامة تسجم
نوادب في أقصى خراسان جاوبت
نوائح في بغداد بح الترنم
لهن عليهم أنة بعد أنة
ووجد كدفاع الحريق المضرم
بنفسي نفوس لم تكن حملة العدى
أشد عليها من وقوف التكرم
دعاها الردى بعد الردى فتتابعت
تتابع منبت الفريد المنظم
سلام على تلك الخلائق إنها
مسلمة من كل عار ومأثم
وقال أيضا:
لتفننت في الكتابة حتى
عطل الناس فن عبد الحميد
في نظام من البلاغة ما ش
ك امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضا
حك في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع م
يخلقه عوده على المستعيد
ما أعيرت منه بطون القراطي
س وما حملت ظهور البريد
مستميل سمع الطروب المغنى
عن أغاني مخارق وعقيد
حجج تخرس الألد بألفاظ
فرادى كالجوهر المعدود
ومعان لو فصلتها القوافي
هجنت شعر جرول ولبيد
جرول هو الحطيئة.
حزن مستعمل الكلام اختيارا
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك
ن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل البي
ض إذا رحن في الخطوط السود
قد تلقيت كل يوم جديد
يا أبا جعفر بمجد جديد
وذوو الفضل مجمعون على فض
لك من بين سيد ومسود
عرف العالمون فضلك بالع
لم وقال الجهال بالتقليد
وقال أيضا:
جئناه إذ لا الترب في أفنائه
يبس ولا باب العطاء بمرتج
والبيت لولا أن فيه فضيلة
يعلو البيوت بفضلها لم يحجج
وقال أيضا:
إن للبين منة لا تؤدى
ويدا في تماضر بيضاء
حجبوها حتى بدت لفراق
كان داء لعاشق ودواء
أضحك البين يوم ذاك وأبكى
كل ذي صبوة وسر وساء
فجعلنا الوداع فيه سلاما
وجعلنا الفراق فيه لقاء
ووشت بي إلى الوشاة دموع الع
ين حتى حسبتها أعداء
كيف نثني على ابن يوسف لا
كيف سما مجده ففاق الثناء
جاد حتى أفنى السؤال فلما
باد منا السؤال جاد ابتداء
أحسن الله في ثوابك عن ثغ
ر مضاع أحسنت فيه البلاء
وأقمت الصلاة في معشر لا
يعرفون الصلاة إلا مكاء
في نواحي برجان إذ أنكروا
التسبيح حتى توهموه غناء
وجلبت الحسان حوا وحورا
آنسات حتى أغرت النساء
علم الروم أن غزوك ما كا
ن عقابا لهم ولكن فناء
يوم فرقت من كتائب آرا
ئك جندا لا يأخذون عطاء
ويود العدو لو تضعف الجي
ش عليهم وتصرف الآراء
وقال أيضا:
غدوت على الميمون صبحا وإنما
غدا المركب الميمون تحت المظفر
أطل بعطفيه ومر كأنما
تشرف من هادي حصان مشهر
إذا زمجر النوتي فوق علاته
رأيت خطيبا في ذؤابة منبر
إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى لها
جناحا عقاب في السماء مهجر
إذا ما انكفا في هبوة الماء خلته
تلفع في أثناء برد محبر
وحولك ركابون للهول عاقروا
كئوس الردى من دارعين وحسر
إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم
ليقلع إلا عن شواء مقتر
صدمت بهم صهب العثانين دونهم
ضراب كإيقاد اللظى المتسعر
صهب العثانين: يريد الروم.
يسوقون أسطولا كأن سفينه
سحائب صيف من جهام وممطر
كأن ضجيج البحر بين رماحهم
إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر
ترجيع عود مجرجر: أي صوت جمل مسن.
تقارب من زحفيهم فكأنما
تؤلف من أعناق وحش منفر
فما رمت حتى أجلت الحرب عن
طلى مقطعة فيهم وهام مطير
فما رمت: أي ما زلت.
على حين لا نقع تطوحه الصبا
ولا أرض تلفى للصريع المقطر
وقال أيضا:
أترى حبي لسعدى قاتلي
وإذا ما أفرط الحب قتل
خطرت في النوم منها خطرة
خطرة البرق بدا ثم اضمحل
زمن تلعب بي أحداثه
لعب النكباء بالرمح الخطل
النكباء كل ريح بين ريحين، والخطل الطويل.
نطلب الأكثر في الدنيا وقد
نبلغ الحاجة فيها بالأقل
أخلق الناس الأخيرون كأن
لم ينبوا جدة الناس الأول
ينبوا: أي ينبئوا.
ولقد يكثر من إعوازه
رجل ترضاه من ألف رجل
كأبي جعفر الطائي إذ
يتمادى معطيا حتى يمل
وادع يلعب بالدهر إذا
جد في أكرومة قلت هزل
ذلل الحلم لنا جانبه
وإذا عز كريم الناس ذل
رابئ يرتقب العليا متى
أمكنته فرصة المجد اهتبل
وأرى الجود نشاطا يعتري
سادة الأقوام والبخل كسل
وقال أيضا:
ملك عنده على كل حال
كرم زائد على التقدير
وكأنا من وعده وجداه
أبدا بين روضة وغدير
جامع الرأي ليس يخفى عليه
أين وجه الصواب والتدبير
وله كلما أتته أمور
مشكلات دلائل من أمور
كسروي عليه منه جلال
يملأ البهو من بهاء ونور
وترى في روائه بهجة الملك
إذا ما استوفاه صدر السرير
وإذا ما أشار هبت صبا الم
سك وخلت الإيوان من كافور
يطلق الحكمة البليغة في عر
ض حديث كاللؤلؤ المنثور
وقال أيضا:
تمادى بها وجدي وملك وصلها
خلي الحشا في وصلها جد زاهد
وما الناس إلا واجد غير مالك
لما يبتغي أو مالك غير واجد
الباب الخامس
فيما اخترناه من شعر ابن الرومي علي بن العباس
قال ابن الرومي يعاتب أبا القاسم التوزي الشطرنجي:
يا أخي أين عهد ذاك الإخاء
أين ما كان بيننا من صفاء
كشفت منك حاجتي هنوات
غطيت برهة بحسن اللقاء
تركتني ولم أكن سيئ الظ
ن أسيء الظنون بالأصدقاء
يا أخي هبك لم تهب لي من سع
يك حظا كسائر البخلاء
أفلا كان منك رد جميل
فيه للنفس راحة من عناء
أجزاء الصديق إيطاؤه العش
وة حتى يظل كالعشواء
تاركا سعيه اتكالا على سع
يك دون الصحاب والشفعاء
كالذي غره السراب بما خي
ل حتى هراق ما في السقاء
يا أبا القاسم الذي كنت أرجو
ه لدهري قطعت متن الرجاء
لا أجازيك من غرورك إيا
ي غرورا وقيت سوء الجزاء
بل أرى صدقك الحديث وما ذا
ك لبخل عليك بالإغضاء
أنت عيني وليس من حق عيني
غض أجفانها على الأقذاء
ليس من حل بالمحل الذي أن
ت به من سماحة ووفاء
بذل الوعد للأخلاء سمحا
وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يورق للعي
ن ويأبى الإثمار كل الإباء
يا أخي يا أخا الدماثة والرق
ة والظرف والحجا والدهاء
أترى الضربة التي هي غيب
خلف خمسين ضربة في وحاء
ثاقب الرأي ناقد الفكر فيها
غير ذي فترة ولا إبطاء
ويلاقيك سبعة فيظلو
ن على ظهر آلة حدباء
تهزم الجمع أوحديا وتلوي
بالصناديد أيما إلواء
وتحط الرخاخ بعد الفرازي
ن فتزداد شدة استعلاء
ربما هالني وحير عقلي
أخذك اللاعبين بالبأساء
ورضاهم هناك بالنصف والرب
ع وأدنى رضاك في الإرباء
واحتراس الدهاة منك وإعصا
فك بالأقوياء والضعفاء
عن تدابيرك اللطاف اللواتي
هن أخفى من مستسر الهباء
بل من السر في ضمير محب
أدبته عقوبة الإفشاء
فأخال الذي تدير على القو
م حروبا دوائر الأرحاء
وأظن افتراسك القرن فالقر
ن منايا وشيكة الإرداء
وأرى أن رقعة الأدم الأح
مر أرضا عللتها بدماء
غلط الناس لست تلعب بالشط
رنج لكن بأنفس اللعباء
لك مكر يدب في القوم أخفى
من دبيب الغناء في الأعضاء
أو دبيب الملال في مستهامي
ن إلى غاية من البغضاء
أو مسير القضاء في ظلم الغي
ب إلى من يريده بالتواء
تقتل الشاه حيث شئت من الرق
عة طبا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك في الدس
ت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه
ر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء
رب قوم رأوك ريعوا فقالوا
هل تكون العيون في الأقفاء
تقرأ الدست ظاهرا فتؤدي
ه جميعا كأحفظ القراء
وتلقى الصواب فيما سوى ذا
ك إذا جار جائر الآراء
فترى أن بلغة معها الرا
حة خير من ثروة في شقاء
وقديما رغبت عن كل مصحو
ب من المترفين والأمراء
ورفضت التجارة الجمة الرب
ح وما في مراسها من جداء
وهذى العاذلون من جهة الرب
ح فخليتهم وطول الهذاء
لم تبع طيب عيشة بفضول
دونه خبث عيشة كدراء
تعب النفس والمهانة والذل
ة والخوف واطراح الحياء
بل أطعت النهى ففزت بحظ
قصرت عنه فطنة الأغبياء
راحة النفس والصيانة والعف
ة والأمن في حياء رواء
عالما بالذي أخذت وأعطي
ت، حكيما في الأخذ والإعطاء
قائلا للمشير بالكدح مهلا
ما اجتهاد اللبيب بعد اكتفاء؟
مرحبا بالكفاف يأتي عفيا
وعلى المتعبات ذيل العفاء
ضلة لامرئ يشمر في الجم
ع لعيش مشمر للفناء
دائبا يكنز القناطير للوا
رث والعمر دائب في انقضاء
حبذا كثرة القناطير لو كا
نت لرب الكنوز كنز بقاء
يغتدي يرحم الأسير أسيرا
جاهلا أنه من الأسراء
لا إلى الله يذهب الحائر البا
ئر جهلا ولا إلى السراء
يحسب الحظ كله في يديه
وهو منه على مدى الجوزاء
ليس في آجل النعيم له حظ
وما ذاق عاجل النعماء
ذلك الخائب الشقي وإن كا
ن يرى أنه من السعداء
حسب ذي إربة ورأي جلي
نظرت عينه بلا غلواء
صحة الدين والجوارح والعر
ض وإحراز مسكة الحوباء
تلك خير لعارف الخير مما
يجمع الناس من فضول الثراء
ليس للمكثر المنغص عيش
إنما عيش عائش بالهناء
يا أبا القاسم الذي ليس يخفى
عنه مكنون خطة عوصاء
أترى كل ما ذكرت جليا
وسواه من غامض الأشياء
ثم يخفى عليك أني صديق
ربما عز مثله بالغلاء
لا لعمر الإله لكن تعاشي
ت بصيرا في ليلة قمراء
ظالما لي مع الزمان الذي ابتذ
حقوق الكرام للؤماء
ثقلت حاجتي عليك فأضحت
وهي عبء من فادح الأعباء
فتوانيت والتواني وطيء الظ
هر لكنه ذميم الوطاء
ظلمت حاجتي فلاذت بحقوي
ك فأسلمتها بكف القضاء
وقضاء الإله أحوط للنا
س من الأمهات والآباء
غير أن اليقين أضحى مريضا
مرضا باطنا شديد الخفاء
لو يصح اليقين ما رغب الرا
غب إلا إلى مليك السماء
وعسير بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
وعزيز علي عضيك باللوم
ولكن أصبت صدري بداء
أنت أوريت صدر خلك فاعذ
ره على النفث، إنه كالدواء
يا أبا بكر المشار إليه
بانقطاع القرين في الأدباء
قد جعلناك حاكما فاقض بالح
ق وما زلت حاكم الظرفاء
تأخذ الحق للمحق وتنهى
عن ركوب العداء أهل العداء
ليس يؤتى الخصمان من جنف
فيك ولا من جهالة وغباء
هل ترى ما أتى أخوك أبو القا
سم في حاجتي بعين ارتضاء؟
لي حقوق عليه أصبح يلويها
فطالبه لي بوشك الأداء
لست أعتد لي عليه يدا
بيضاء غير المودة البيضاء
تلك لو أنني أخ لو دعاه
لمهم أجاب أولى الدعاء
يتقاضى صديقه مثلما يب
ذل من ذات نفسه بالسواء
وأناديك عائذا يا أبا القا
سم أفديك يا عزيز الفداء
قد قضينا لبانة من عتاب
وجميل تعاتب الأكفاء
ومع العتب والعتاب فإني
حاضر الصفح واسع الإعفاء
ولك الود كالذي كان من خل
لك، والصدر غير ذي الشحناء
والذي أطلق اللسان فعاتب
تك عديك أول الفهماء
لم أخف منك غلطة حين عاتب
تك تدعو العتاب باسم الهجاء
وأنا المرء لا أسوم عتابي
صاحبا غير صفوة الأصفياء
ذا الحجا منهم وذا الحلم
والعلم وجهل ملامة الجهلاء
إن من لام جاهلا لطبيب
يتعاطى علاج داء عياء
وقال أيضا:
رب أكرومة له لم تخلها
قبله في الطباع والتركيب
غربته الخلائق الزهر في الن
اس وما أوحشته في التغريب
يهب النائل الجزيل معيرا
طرفه الأرض ناكتا بالقضيب
يتقي نظرة المدل بجد
واه ويعتدها من التثريب
من رآه رأى شواهد تغني
عن سماع الثناء والتجريب
ألمعي يرى بأول ظن
آخر الأمر من وراء المغيب
لا يروي ولا يقلب كفا
وأكف الرجال في تقليب
حازم الرأي ليس عن طول تجر
يب لبيب وليس عن تلبيب
أحسنت وصفه مساعيه حتى
أفحمت كل شاعر وخطيب
بل حذوا حذوها فراحوا يزج
ون من القول كل معنى غريب
يممته بنا المطايا فأفضت
من فضاء إلى فضاء رحيب
وقال أيضا يصف العنب الرازقي:
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
قد ضمنت مسكا إلى الشطور
وفي الأعالي ماء ورد جوري
لم يبق منه وهج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
الحرور شدة الحر.
لو أنه يبقى على الدهور
قرط آذان الحسان الحور
بلا فريد وبلا شذور
له مذاق العسل المشور
ونكهة المسك مع الكافور
ورقة الماء على الصدور
وبرد مس الخصر المقرور
باكرته والطير في الوكور
وعذر اللذات في البكور
في فتية من ولد المنصور
أملأ للعين من البدور
حتى أتينا خيمة الناطور
قبل ارتفاع الشمس للذرور
فانقض كالطاوي من الصقور
بطاعة الراغب لا المجبور
والحر عبد الحلب المشطور
والحلب الخمر.
حتى أتانا بضروع خور
مملوءة من عسل محصور
يعني بالدروع عناقيد العنب.
والطل مثل اللؤلؤ المنثور
من ناقع فيها ومن محدور
ثم جلسنا مجلس المحبور
على حفافي جدول مسجور
أبيض مثل المهرق المنشور
أو مثل متن المنصل المشهور
المنصل السيف.
ينساب مثل الحية المذعور
بين سماطي شجر مسطور
ناهيك للعنقود من ظهور
فنيلت الأوطار في سرور
يريد أن هذا الماء طهور للعنقود يزيل عنه غباره.
وكل ما نقضي من الأمور
تعلة من يومنا المنظور
ومتعة من متع الغرور
وقال أيضا:
لم أخضب الشيب للغواني
أبتغي عندهم ودادا
لكن خضابي على شبابي
لبست من بعده حدادا
وقال أيضا:
توددت حتى لم أجد متوددا
وأفنيت أقلامي عتابا مرددا
كأني أستدني بك ابن حنية
إذا النزا أدناه من الصدر أبعدا
وقال أيضا:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها
ثم انثنت عني فكدت أهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
وقال الخوارزمي في نحو هذا:
وما أصبحت إلا مثل ضرس
تأكل فهو موجود فقيد
ففي تركي له داء دوي
وفي قلعي له ألم شديد
وقال أيضا:
يا شبيه البدر في الحس
ن وفي بعد المنال
جد فقد تنفجر الص
خرة بالماء الزلال
وقال أيضا:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حجج تضل عن الهدى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت
فهوت وكل كاسر مكسور
وقال أيضا:
وما تعتريها آفة بشرية
من النوم إلا أنها تتخير
كذلك أنفاس الرياض بسحرة
تطيب وأنفاس الأنام تغير
يقول إن النوم لا يفسد رائحة نفسها كسائر الناس بل يحسنه؛ فهي كالروضة التي تصبح أطيب ما كانت أنفاسا.
وقال أيضا:
طرفت عيون الغانيات وربما
أملن إلي الطرف كل مميل
وما الشيب إلا شعرة غير أنه
قليل قذاة العين غير قليل
قال أنوشروان كنت أخشى أنني إذا شبت وكبرت تعافني النساء فإذا أنا أعافهن.
وقال أيضا:
وفلاة قطعتها بعلاة
كاللياح الملمع الأزلام
العلاة يريد الناقة، واللياح ثور البقر الوحشي.
بات في حلة الظلام فريدا
تحت أهوال رائج مرزام
يريد تحت مطر شديد.
مطرقا يبحث الروي عن الظم
آن من عانك ركام هيام
يريد أن هذا الثور بات يفحص الأرض المبتلة عن الأرض الظمأى، والعانك الرمل المتراكم، والهيام الذي ينهال.
عطف الليل هيدبيه عليه
وتداعت سماؤه بانهدام
هيدبيه: أي هيدب المطر وهو ما سال منه.
يقق اللون كالملاءة إلا
لمعا في شواه مثل الوشام
اللمع الألوان المختلفة، والشوى: أي الأطراف.
ينتمي كله إلى آل سام
غير هاتيك، فهي من آل حام
تلك أو سفعة بخديه تهدي
جدة في سراته كالعصام
السفعة لون مخلوط بسواد، والجدة خط على طول ظهر الثور، والعصام الحبل.
هنة قومت وعوج منها
فتراها كأنها خط لام
هنة يريد الجدة.
خطها في القرا وفي الذنب الذا
ئل قسمين أعدل القسام
القرا الظهر.
ذو إهاب يضاحك البرق ما
ألاح، وطورا يضيء في الإظلام
ضوعف الليل في الكثافة
والطول عليه بمرجحن ركام
يريد بالمرجحن الركام المطر الشديد.
وخريق تلفه في كنا
س عدملي بجانبيه حوامي
الخريق الريح الشديدة الهبوب، والعدملي القديم.
دمنته الأرواح قدما
فرياه كريا حرائر الأهضام
رقرقته الشمال والرعد
والبرق وفيقات وابل سجام
حرجف لو عداه منها أذى ال
قر كفاه دءوبها في الموامي
وسوار عليه أوكفت ال
قطر أطارت كراه بالإرزام
الإرزام هنا صوت الرعد.
دأبه ذاك فحمة الليل حتى
طلع الفجر ساطعا كالضرام
أنقذ الصبج شلوه من شفا ال
موت فأضحى يعلو رءوس الإكام
فرحا بالنجاة ترمي به ال
ميعة رمي الوليد بالمهزام
المهزام لعبة من لعب العرب.
بينما الشاة ناصلا من هنات
بات يشقى بهن ليل التمام
الشاة: أي الثور. يقول إن الثور تخلص مما أصابه في الليل من البرد والمطر.
قد صحت شمسه وأقفر إلا
من نعاج خواذل ونعام
يصطلي جمرة النهار ويلهو
بالرخامي وخلفة العلام
الرخامي نبت، والعلام كذلك.
إذ أتيحت له ضوار وطمل
ما لها غير صيدها من طعام
ضوار: أي كلاب صيد، وطمل: أي صائد متلصص.
ينتهبن المدى إليه ويضرمن
له الشد أيما إضرام
ولديه لهن إن فر أو كر
عتاد المفر والمقدام
فترامت به الأجاري شأوا
ثم ثابت حفيظة من محام
فترامت به الأجاري، يقول إنه جرى شأوا ثم وقف ليحامي عن نفسه.
كر فيها بمذوديه مشيحا
فسقاها كئوس مؤت زؤام
مذوديه: أي قرنيه، ومشيحا: أي مجدا.
فارعوت من مرنح وصريع
ومول مهتك النحر دام
فمشى يعسف النجاء كما زل
من المنجنيق مردى رجام
يقول إنه بعد أن فتك بالكلاب أسرع في الجري كأنه حجر قذف من منجنيق.
أو كما انقض كوكب أو كما
طارت من البرق شقة في غمام
ذاك شبهت ناقتي حين راحت
صخبا رحلها كتوم البغام
ميلع الوخد تقذف المر
و وترمي اللغام بعد اللغام
ميلع الوخد: أي سريعة السير، والمرو الحجارة الصغيرة، واللغام الزبد الذي يخرج من أفواه الإبل من شدة السير.
كم أجازت إلى الأمير عبيد ال
له حامي الحمى وراعي الذمام
عبدلي مهذب طاهري
مصعبي يبذ كل مسام
فيه حد الفتى وحلم المذكي
وحجى الكهل وارتياح الغلام
ملك حل من سماء المعالي
فوق شمس الضحى وبدر الظلام
ثاقب الفكر ما تمهل في الرأ
ي شديد الإسداء والإلحام
فإذا باده الحوادث بالرأ
ي أصاب الصواب بالإلهام
صاحب الحربة التي تنفث الم
وت كنفث الأفعى ذعاف السمام
لم يزل شامل المنافع
للأمة طرا مأمومها والإمام
يتقي جوده صلول القناطير
كما يتقى صلول اللحام
يقال: صل اللحم إذا أنتن. يريد أنه لا يخزن الدراهم حتى تنتن كما ينتن اللحم من طول خزنه.
وكذا الماء طيب ما استقوه
آجن آسن على الإجمام
الإجمام عدم السقي والأخذ منه.
يعذب المورد الذي يستقى م
نه ولا تعذب المياه الطوامي
أرخصت كفه العطايا وأغل
ت حمد سوامها على السوام
ليس ينفك من عطايا تباري
سائرات خواطر الأفهام
حاصلات وهن من عظم الق
در كبعض المنى أو الأحلام
وعطايا كوامن في المواعيد
كمون الثمار في الأكمام
فعطاياه دانيات يد الدهر
توالى كأنها في نظام
ساعيات إلى رجال قعود
ساريات إلى أناس نيام
أمسك السائلون عنه وكانوا
قبله للملوك كالغرام
ساهر لا ينام عن حاجة السا
هر حتى يذوق طعم المنام
ويصون الولي بالجاه والمال
كصون الكمي نصل الحسام
وحقيق بذاك من أولوه
كالنواصي والناس كالأقدام
إن من يرتجي سواه لكالذ
اهب عن ربه إلى الأصنام
وقال أيضا في رجل يجذب طرته من قفاه إلى وجهه:
يجذب من نقرته طرة
إلى مدى تقصر عن نيله
فوجهه يأخذ من رأسه
أخذ نهار الصيف من ليله
وقال آخر:
قد ترك الدهر صفاتي صفصفا
فصار رأسي جبهة إلى القفا
كأنه قد كان ربعا فعفا
وقال أيضا:
رأيت الدهر يرفع كل وغد
ويخفض كل ذي شيم شريفه
كمثل البحر يغرق فيه حي
ولا ينفك تطفو فيه جيفه
أو الميزان يخفض كل واف
ويرفع كل ذي زنة خفيفه
وقال في مليح رمدت عيناه:
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم
من كثرة القتل مسها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت
والدم في النصل شاهد عجب
وقال أيضا في الهجاء:
خذها إليك مشيحة سيارة
تلقاك من باد ومن متحضر
المشيحة السيارة، يريد بها قصيدته، وتلقاك من باد ومن متحضر: أي ينشدك إياها البادي والحاضر.
تغدو عليك بحاصب وبتارب
وعلى الرواة بلؤلؤ متخير
الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء، والتارب التي ترمي بالتراب.
كالنار تحرق من تعرض لفحها
وتكون مرتفق امرئ متنور
وقال أيضا:
فلا تحسبن الشر يبقى فإنه
شهاب حريق واقد ثم خامد
ستألف فقدان الذي قد فقدته
كإلفك وجدان الذي أنت واجد
وقال أيضا:
لا تعجبا إن دمعا فاض عن حرق
ماء أفاضته نار من مراجله
أراق دمعي هوى ظبي أراق دمي
يا للقتيل بكى من حب قاتله
وقال أيضا:
لله ما ضمنت حفيرتها
من حسن مرأى وطيب مختبر
أضحت من الساكني حفائرهم
سكنى الغوالي مداهن السرر
لو علم القبر من أتيح له
لانخفض القبر غير محتفر
وقال أيضا يهجو ابن بوران:
يا ابن بوران كيف أخطأك الجس
م فلم تعل جسم كل جسيم
فلعمري لما أتيت من الماء
ولكن من السقاء الهزيم
شمل الناس عدل أمك حتى
سار فيهم كسير جور سدوم
لو رآك الرجال شيئا نفيسا
كثرت فيك هنبثات الخصوم
كيف ندعوهم لآبائهم ربي
وفيهم أمثال هذا الزنيم
كل فحل أبوك عدلا من الله
وعيسى بلا أب كاليتيم
تطمث الأرض من مواطئ
بوران ولو بين زمزم والحطيم
أفحش القذف والهجاء لبو
ران طهور كالرجم للمرجوم
كيف لا تسقط السماء على الأر
ض وترمى من أجلها بالرجوم
كثرت موبقات بوران حتى
ضاق عنها عفو الغفور الرحيم
لو أطاعت كما عصت لاستح
قت خلة الله دون إبراهيم
ليس لي من هجاء بوران إلا
نقل منثوره إلى المنظوم
ومعاني كلهن اتباع
لا ابتداع والعلم بالتعليم
هي تفري لي الفري فأحذو
حذوها كالإمام والمأموم
ما أراني أسير الشعر فيها
سيرها في سهولها والحزوم
هي أهدى من القوافي وأسرى
في دجى الليل والفلا الديموم
ليس يخلي منها مكانا مكان
هي شيء خصوصه كالعموم
هي طيف الخيال يطرق أهل
الأرض من بين ظاعن ومقيم
هي بالليل كل شخص تراه
مائلا في الظلام كالجرثوم
لا تمل البروك أو تقع الطي
ر على متنها كبعض الأروم
الأروم: الأعلام التي تبنى على الطرق.
ناقضت مريم العفاف فلما
قاومتها بالغي والتأثيم
صمدت في الزنا تناسل حوا
ء فحواء عندها كالعقيم
صمدت: أي أخذت.
ذات فرج هو واستها طائري
شائع الذرع ليس بالمقسوم
يسع السبعة الأقاليم طرا
وهو في إصبعين من إقليم
كضمير الفؤاد يلتهم الد
نيا وتحويه دفتا حيزوم
أيها الجالدو عميرة طرا
لا عدمتهم ظلامة من ظلوم
كيف ضعتم وفرج بوران موق
وف على ابن السبيل والمحروم
وقال أيضا:
قاسيت منه ليلة مذكورة
لولا دفاع الله لم تتكشف
فكأن ليلته علي لطولها
باتت تمخض عن صباح الموقف
وقال أيضا:
أصبحت الدنيا تروق من نظر
بمنظر فيه جلاء للبصر
والأرض في روض كأفواف الحبر
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
وقال أيضا:
صنه عن العنف إن مغمزه
من عودك اللدن لا من الصخر
أما ترى العود إن هتفت به
جاوزت تقويمه إلى الكسر
وفي كتاب كليلة ودمنة الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلا زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتكها نقص الظل.
وقال أيضا:
اشرب على ورد البنفسج
قبل تأنيب الحسود
فكأنما أوراقه
آثار قرض في الخدود
وقال أيضا:
ساءها أن رأت حبيبا إليها
ضاحك الرأس عن مفارق شيب
فدعته إلى الخضاب وقالت
إن دفن المعيب غير معيب
وقال أيضا:
أتظن أنك لو مسخت
بلغت قبحك أو قرابه
بؤس لمن قد خاض ظل
ك ثم لم يسلخ إهابه
وقال أيضا:
إذا خلة خانتك بالغيب عهدها
فلا تجعلن الحزن ضربة لازب
وهب أنها الدنيا التي المرء موقن
بفرقتها والمرء في شأن لاعب
وقال أيضا في السهام:
وكل ابن ريح يسبق الطرف معجه
مروق ومنزوع لدى حومة الجذب
معجه: أي جريه وذهابه.
صنيع مريش قوم القين متنه
فجاء كما سل النخاع من الصلب
صنيع: أي متقن صنعة، ومريش: أي مجعول له ريش.
وقال أيضا:
لا أنس لا أنس خبازا مررت به
يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في لجة الماء يرمى فيه بالحجر
وقال أيضا:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
عند الورود لما أطال رشاءه
الرشاء الحبل الذي فيه الدلو.
وقال أيضا:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة المقدار
وقال أيضا:
كأن بغداد، وقد أبصرت
طلعته نائحة تلتدم
مستقبل منه ومستدبر
وجه بخيل وقفا منهزم
وقال أيضا:
يستغفر الناس بأيديهم
وهن يستغفرن بالأرجل
فيا له من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
وقال أيضا:
يمل كل شراب من يعاقره
وشارب الراح مشغوف بها عاني
كريقة المرء لا تنفك من فمه
وما يمل لها طعما لإبان
يقول إن شارب الراح لا يملها أبدا؛ فهي كالريق الذي هو دائما في فم الإنسان وما يمل طعمه أبدا.
وقال أيضا:
يا رب حسانة منهن قد فعلت
سوءا، وقد تفعل الأسواء حسان
حسانة: أي حسناء.
تشكي المحب وتلفى الدهر شاكية
كالقوس حسن الرمايا وهي مرنان
وقال أيضا يصف المباضعة:
كأن صوت الأعجر المتين
في حر ذات الكفل الرزين
صوت يد العجان في العجين
أو صوت رجلي عامل في طين
وقال أيضا:
ذهب الذين تهزهم مداحهم
هز الكماة عوالي المران
كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم
فالأريحية منهم بمكان
والمدح يقرع قلب من هو أهله
قرع المواعظ قلب ذي إيمان
فدع اللئام فما ثواب مديحهم
إلا ثواب عبادة الأوثان
وقال أيضا:
لا تنفسا عبرة أجود بها
فلست أبكي بها على الدمن
لا تنفسا: أي لا تلوما عليها.
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن
وقال أيضا:
وغزال ترى على وجنتيه
قطر سهميه من دماء القلوب
لهف نفسي لتلك من وجنات
وردها ورد شارق مهضوب
أي ورد نبت في ضوء الشمس لا في الظل، وسقاه المطر فهو أحسن ما يكون.
وقال أيضا:
أنفق المال قبل إنفاقك العم
ر ففي الدهر ريبه ومنونه
لا تظنن أن مالك شيء
كدم الجوف خيره محقونه
يقول لا تظن أن المال كالدم الذي ليس له قيمة إلا إذا كان محفوظا في الجسم فإن بذل وخرج من الجسم كان لا شيء.
وقال أيضا:
إذا بدا وجهه لقوم
لاذت بأجفانها العيون
كأنه عندهم غريم
حلت عليهم له ديون
وقال أيضا:
هكذا عهدنا بآل زريق
يشترون الثناء بالأثمان
ويصونون باللهى حرم الأعر
اض صون السيوف بالأجفان
مجدهم كالجبال من بنية الله
ومجد الأنام مثل المباني
كل مدح في غيرهم فمثاب
ما أثيبت عبادة الأوثان
وقد استعمل بعضهم عبادة الوثن في معنى فقال:
ولا تعجبا أن يملك العبد ربه
فإن الدمى استعبدن من نحت الدمى
وقال أيضا:
رأيت سواد الرأس واللهو تحته
كليل وحلم بات رائيه ينعم
فلما اضمحل الليل زال نعيمه
فلم يبق إلا عهده المتوهم
وقال أيضا:
فما يرتاح للمدح
ولا يرتاع للشتم
كأنا إذ سألناه
وقفنا سائلي رسم
وقال أيضا:
وكلا الشيب والكتاب جميعا
واعظ زاجر عن الآثام
غير أن الكتاب يكتب بالأق
لام والشيب ليس بالأقلام
لم تر مثله كتابا مبينا
لا بشكل له ولا إعجام
وقال بعضهم:
ولي خط وللأيام خط
وبينهما مخالفة المداد
فأكتبه سوادا في بياض
وتكتبه بياضا في سواد
وقال آخر:
قد سار بي هذا الزمان فأوجفا
ومحا مشيبي من شبابي أحرفا
وقال أيضا:
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب
وقال أيضا:
كأني أدري بنداه صيدا
يباعده دنوي واقترابي
أدري أختل.
فلا يكن الذي أملت فيه
كرقراق السراب على الحداب
وقال أيضا:
سيفي السيف من أليح له ما
ت ومهما أصابه مقصوب
أليح: أي ألمع له، ومقصوب: أي مقطوع.
كلما قط أو هوى في مقذ
مضرب منه في العظام رسوب
أوهم العين أنه أخطأ المض
رب هذا، وقد مضى المضروب
إن من جاء يمتري ضرة اللب
وة غرثى للحائن المجلوب
الحائن الهالك.
رام من ضرعها شخوبا فكانت
من وتين الشقي تلك الشخوب
وقال أيضا فيمن يعيب شعره:
نظرت في وجوه شعري وجوه
أوسعت قبل خلقها تقبيحا
فغدت وهي زاريات عليه
والذي أنكرته منها أتيحا
أبصرت في صقالها صورا من
ها قباحا فأظهرت تكليحا
والمرايا تري الجميل جميلا
وكذاكم تري القبيح قبيحا
وقال أيضا:
قوم يرون النصح في أموالهم
غشا فقد سخطوا على النصاح
زرهم على ثقة مزار محصل
مالا فلست كضارب بقداح
يا ليت شعري حين يمدح مثلهم
ماذا تراه يزاد بالتمداح
لكنهم كالمسك طاب لعينه
ويزيد حين يخاض بالمجداح
يعطون عفوا كلما أعفيتهم
ويلح نائلهم على الإلحاح
أين هؤلاء من أبي خالد الذي يقول فيه الشاعر:
يحب المديح أبو خالد
ويفرق من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح
وتفرق من صولة الناكح
وعطاؤهم فوق العطاء لأنهم
يعطون كسب مناصل ورماح
ومتى يرون من الشحاح على اللهى
وهم على الأرواح غير شحاح
من بأسهم يقع الردى وبحلمهم
تتماسك الأرواح في الأشباح
كالهندوانيات حد مضارب
عند اختبارهم ولين صفاح
لله أحمد بن فضل إنه
مأوى الطريد ومورد الممتاح
الدهر يفسد ما استطاع وأحمد
يتتبع الإفساد بالإصلاح
ما زال يقدح في الدجى بزناده
حتى رأى الإمساء كالإصباح
أما الندى فندى غرير ناشئ
والرأي رأي محنك جحجاح
فكأنه للأريحية شارب
وكأنه للألمعية صاحي
وقال أيضا:
خليلي ما بعد الشباب رزية
يجم لها ماء الشئون ويعتد
ولا تعجبا للجلد يبكي فربما
تفطر عن عين من الماء جلمد
تضاحك شيبي في قذالي ولحيتي
وأقبح ضحاكين شيب وأدرد
كفى حزنا أن الشباب معجل
قصير الليالي والمشيب مخلد
إذا حل جارى المرء شأو حياته
إلى أن يضم المرء والشيب ملحد
أرى الدهر أجرى ليله ونهاره
بعدل فلا هذا ولا ذاك سرمد
وجار على ليل الشباب فضامه
نهار مشيب سرمد ليس ينفد
أقول، وقد شابت شواتي وقوست
قناتي وأضحت كبدتي تتخدد
والشواة أعلى الرأس.
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأفسح مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
من ألطف ما قيل في الأذى الذي يصيب المرء في هذه الدنيا قول القائل:
يشقى الفتى بخلاف كل معاند
يؤذيه حتى بالقذى في مائه
يهوي إذا أصغى الإناء لشربه
ويروغ عنه عند صب إنائه
وقال أيضا:
كرمتم فجاش المفحمون بمدحكم
إذا رجزوا فيكم أثبتم فقصدوا
كما زهرت جنات عدن وأثمرت
فأضحت وعجم الطير فيها تغرد
هذا المعنى أشبه بمعنى رأيته لبعض شعراء الفرس يخاطب محبوبته فيقول لها لا غرو، وقد حضرت عندي أن أجيش بالشعر؛ فإن من عادة البلبل أن يغرد إذا طلع القمر والطير تصدح إذا بدى النهار.
وقال أيضا:
يظل نداه ندى غارم
ومهجته مهجة الغانم
وما يستفيق ندى قاسم
كأن يديه يدا عائم
وقال أيضا:
فاعجب لبر تعلمت العقوق به
فما أحن إلى أهل ولا وطن
وامدح فتى حظه من وفر ثروته
كحظ ناظره من وجهه الحسن
وقال بعضهم:
كم والد يحرم أولاده
وخيره يحظى به الأبعد
كالعين لا تبصر ما حولها
ولحظها يدرك ما يبعد
وقال أيضا في مغنية:
ظبية تسكن القلوب وتر
عاها وقمرية لها تغريد
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورا ويحيا
مستلذ بسيطه والنشيد
وتر العزف في يديها مضاه
وتر الزحف؛ فيه سهم شديد
وإذا ما انتضته للشرب يوما
أيقن القوم أنها ستصيد
وقال بعضهم في قينة تصلح أوتار عودها:
جسته عالمة بحالته
جس الطبيب لمدنف عرقا
معبد في الغناء وابن سريج
وهي في الضرب زلزل وعقيد
عيبها أنها إذا غنت الأح
رار ظلوا وهم لديها عبيد
ليت شعري إذا أدام إليها
كرة الطرف مبدئ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه
أم لها كل ساعة تجديد
ومن أحسن ما قيل في راقص قول الآخر:
ترى الحركات منه بلا سكون
فتحسبها لخفتها سكونا
كسير الشمس ليس بمستقر
وليس بممكن أن يستبينا
وقال أيضا:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
وقال أيضا:
ورياض تخايل الأرض فيها
خيلاء الفتاة في الأبراد
ذات وشي تناسجته سوار
لبقات بحوكه وغوادي
شكرت نعمة الولي على الوس
مي ثم العهاد بعد العهاد
فهي تثني على السماء ثناء
طيب النشر شائعا في البلاد
من نسيم كأن مسراه في الأرو
اح مسرى الأرواح في الأجساد
وقال بعضهم:
ويا نسمات الريح رفقا بمهجتي
ففي القلب نار كلما هجت تنفخ
وقال أيضا:
قد حدثت في دهرنا أنفس
تستبرد السخنة لا البارده
كما تعاف الطيب المشتهى
من الطعام المعدة الفاسده
وقال أيضا:
رب ليل كأنه الدهر طولا
قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشي
ب ليست تزول لكن تزيد
وقال أيضا:
يا خلاص الأسير يا صحة المد
نف يا زورة على غير وعد
يا نجاة الغريق يا فرحة الأو
بة يا قفلة أتت بعد كد
يا حيا عم نفعه بعد جدب
يا هلال الإفطار يا بدر سعد
ارض عني فلست أنكر أني
لك عبد أذل من كل عبد
ومن هذا الأسلوب في الذم قول القائل:
يا كراء الدكان، يا يوم السبت على الصبيان، يا برد العجوز ، يا درهما لا يجوز، يا حديث المغنيين، يا كسب المرابين، يا رمد العين، يا غداة البين، يا فراق المحبين، يا مقتل الحسين، يا ثقل الدين، يا منع الماعون، يا سنة الطاعون، يا بغي العبيد، يا كلام المعيد، يا أقبح من حتى، في مواضع شتى، يا فروة في المصيف، يا تنحنح المضيف إذا كسر الرغيف، يا جشاء المخمور، يا وتد الدور، يا طمع المقمور، يا حبسة اللسان، يا بول الخصيان، يا مؤاكل العميان، يا شفاعة العريان، يا دخان النفط، يا صنان الإبط، يا كلمة ليت، يا كيت وكيت.
وقال أيضا:
معشر فيهم نكول إن نووا
فعل خير وعلى الشر مرود
ليتهم كانوا قرودا فحكوا
شيم الناس كما تحكي القرود
وقال أيضا:
ومدامة كحشاشة النفس
لطفت عن الإدراك باللمس
لنسيمها في قلب شاربها
روح الرجاء وراحة اليأس
وتمد في أمل ابن نشوتها
حتى يؤمل مرجع الأمس
وقال أيضا:
كم قد وردنا فلم تكدر موارده
ولا بدا في لقاء منه تحميض
كأنه الحق يصفو كلما اعتلجت
فيه من البحث والفحص المخاويض
وقال أيضا:
دهر علا قدر الوضيع به
وترى الشريف يحطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه
سفلا وتعلو فوقه جيفه
وقال أيضا:
يمن الله طلعة المولود
وحبا أهله بطول السعود
فهم الضامنون حين توالى
منسيات العهود حفظ العهود
سله الله للخطوب من
الغيب كسل المهند المغمود
فيه عرف وفيه نكر معد
إن لأهل النهى وأهل المرود
وكمين الحريق في العود محفى
وحقين الرحيق في العنقود
طلعت منه غرة كسنا الف
جر وسيما كالمخلص المنقود
لا عقمتم يا آل وهب فما الد
نيا لقوم أمثالكم بولود
مستمد من فعلكم كل قول
قيل فيكم فما له من نفود
ومن السيف ماؤه ومن الطا
وس ذي الوشي وشي تلك البرود
مات أسلافكم فأنشرتموهم
فهم في القلوب لا في اللحود
أرقد الساهرين أن بني وه
ب عن النائبات غير رقود
واستهب الرقود للشكر فالأ
مة من ذي تهجد أو هجود
حرست دولة الكرام بني وه
ب غياث اللهيف والمنجود
دولة عاد نرجس الروض فيها
من عيون وورده من خدود
أصلحت كل فاسد متماد
بجنود الدهاء لا بالجنود
آل وهب قوم لهم عفة ال
مغمد أظفاره ونفع الصيود
أرغبتهم عن القنا قصبات
مغنيات عن كل جيش مقود
لا تراها تعيث عيث الذئاب الط
س لكن تصيد صيد الفهود
ولأقلامهم صرير مهيب
يزدرى عنده زئير الأسود
والقراطيس خافقات بأيديهم
كمرهوب خافقات البنود
وهم راكبو النمارق أمضى
من كماة على خناذيذ قود
من أناس قعودهم كقيام النا
س لكنهم قليلو القعود
دينهم أن يمس لين بلين
ويصك الجلمود بالجلمود
ولهم تارة عداة بروق
ولهم تارة وعيد رعود
كم وعيد لهم تبلج عن
صفح ومنح تبلج الموعود
وقال أيضا يرثي ابنا له مات:
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه
أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
وقال أيضا:
ثم قالت وأحست عجبي
من سراها حيث لا تسري الأسود
لا تعجب من سرانا فالسرى
عادة الأقمار والناس هجود
وقال أيضا:
إلى أين بي عن صاعد وانتجاعه
وقد راده الرواد قبلي فأحمدوا
أرق من الماء الذي في حسامه
طباعا وأمضى من شباه وأنجد
طويل التأني لا العجول ولا الذي
إذا طرقته نوبة يتبلد
له سورة مكتنة في سكينة
كما اكتن في الغمد الجراز المهند
يغض عن السؤال من طرف عينه
لكيلا يرى الأحرار كيف تعبد
جواد ثنى غرب الجياد بغربه
وظل يجاري ظله وهو أوحد
تراه عن الحرب العوان بمعزل
وآثاره فيها وإن غاب شهد
كما احتجب المقدار والحكم حكمه
على الناس طرا ليس عنه معرد
فتى هاجر الدنيا وحرم ريقها
وهل ريقها إلا الرحيق المورد
ولو طمعت في عطفه ووصاله
أبا حته منها مرشفا لا يصرد
وقال أيضا:
وعاط أخاك عاتقة
بقار الدن مشتمله
تراها حين تبذلها
كجمر النار مشتعله
وقال أيضا:
من كان جمله لبوس ولاية
وأعاره التعظيم والتبجيلا
فبذات نفسك ما يكون جمالها
وبمائه كان الحسام صقيلا
الباب السادس
فيما اخترناه من شعر أمير المؤمنين ابن المعتز
قال ابن المعتز:
ونسيم يبشر الأرض بالقط
ر كذيل الغلالة المبلول
ووجوه البلاد تنتظر الغي
ث انتظار المحب رجع الرسول
وقال أيضا:
قد أغتدي والصبح كالمشيب
في أفق مثل مداك الطيب
مثل مداك الطيب، يعني أن الأفق أملس براق صاف، والمداك هو صفاة يسحق عليها نساء العرب الطيب.
بقارح مسوم يعبوب
ذي أذن كخوصة العسيب
القارح الفرس الذي كمل كماله، ويعبوب: أي كثير الجري.
أو آسة أوفت على قضيب
أسرع من ماء إلى تصويب
ومن رجوع لحظة المريب
ومن نفوذ الفكر في القلوب
وقال أيضا:
وفتيان سروا والليل داج
وضوء الصبح متهم الطلوع
سروا: أي سروا للصيد.
كأن بزاتهم أمراء جيش
على أكتافهم صدأ الدروع
وقال أيضا:
ولقد غدوت على طمر سابح
عقدت سنابكه عجاجة قسطل
الطمر الفرس الجيد الوثاب.
متلثم لجم الحديد يلوكها
لوك الفتاة مساوكا من إسحل
الإسحل شجر تستاك به نساء العرب كالأراك.
ومحجل غير اليمين كأنه
متبخر يمشي بكم مسبل
وقال أيضا:
باكية يضحك فيها برقها
موصولة بالأرض مرخاة الطنب
رأيت فيها برقها منذ بدا
كمثل طرف العين أو قلب يجب
جرت بها ريح الصبا حتى بدا
منها لي البرق كأمثال الشهب
تحسبه طورا إذا ما انصدعت
أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب
وتارة تخاله كأنه
سلاسل مفصولة من الذهب
وقال أيضا:
فتبدى لهن بالنجف المد
بر ماء صافي الجمام عري
يتمشى على حصى سلب الري
ح قذاه فمتنه مجلي
وإذا ضاحكته درة شمس
خلته كسرت عليه الحلي
وقال أيضا:
قد أغتدي بقارح
مسوم يعبوب
ينفي الحصى بحافر
كالقدح المكبوب
قد ضحكت غرته
في موضع التقطيب
وقال أيضا:
ولي صارم فيه المنايا كوامن
فما ينتضى إلا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرند كأنه
بقية غيم رق دون سماء
وقال أيضا يصف حية:
نعت رقطاء لا يحيا لرقيتها
لو قدها السيف لم يعلق به بلل
تلقي إذا انسلخت في الأرض جلدتها
كأنها كم درع قده بطل
وقال أيضا:
دعي الهجر مما تعلمين فإنه
أخو الصرم عند العاشقين وصاحبه
وما أم منقوص الظلوف أصابها
كناس قراها البرد والطل جانبه
أم منقوص الظلوف، يريد أم غزال صغير.
تجاهد هما بابن يومين شفها
تمد إليه جيدها وتراقبه
وتلقم فاه كلما تاق حافلا
كعروة زر في قميص تجاذبه
حافلا: أي ضرعا ممتلئا لبنا.
بأحسن منها لحظة مستريبة
يغالبها كيد البكا وتغالبه
وما ريح قاع عازب مست الندى
وروض من الريحان طلت سحائبه
عازب: أي بعيد عن الحضر.
فجاءت سحيرا بين يوم وليلة
كما جر من ذيل الغلالة ساحبه
بأطيب من أنفاس عزة موهنا
وقد قام ليل وارجحنت كواكبه
إذا استبدلت بي جانبا من فراشها
تضوع مسكا للضجيع جوانبه
وغنت عقود الحلي تحت ثيابها
كسنبل قيظ حركته جنائبه
ومالت كميل الرمل لبده الندى
بفرع كجلد الليل سود ذوائبه
وما راعني بالبين إلا ظعائن
دعون بكائي فاستجابت سواكبه
بدت في بياض الآل والبعد دونها
كأسطر رق أمرض الخط كاتبه
وهم أتاني طارقا فقريته
مساء وإصباحا تخب ركائبه
وقد رفع الفجر الظلام كأنه
ظليم على بيض تكشف جانبه
ويعجبني في هذا الغرض قول الآخر:
وإصباح فلينا الليل عنه
كما يفلى عن النار الرماد
وقال أيضا:
بدلت من ليل كظل حصاة
ليلا كظل الرمح غير مؤات
وتجارب الإنسان عدة عقله
لحوادث الدهر الذي هو آت
فاشرب على موق الزمان ولا تمت
أسفا عليه دائم الحسرات
الموق: الحمق.
وانظر إلى دنيا ربيع أقبلت
مثل البغي تبرجت لزناة
وللبديع الهمذاني أبيات لطيفة في الشرب على اليأس من الناس وهي:
أذهب الكأس فنور ال
فجر قد كاد يلوح
وهو للناس صباح
ولذي الرأي صبوح
إن في الأيام أسرا
را بها سوف تبوح
فاسقنيها مثل ما يل
فظها الديك الذبيح
إنما الدهر عدو
ولمن أصغى نصيح
ولسان الدهر بالوع
ظ لواعيه فصيح
يا غلام الكأس فاليأ
س من الناس مريح
أنا يا دهر بأبنا
ئك شق وسطيح
وقال أيضا:
أسكنوها في الدن مذ عهد نوح
كظلام فيه نهار حبيس
من شراب القربان يوصي بها الشم
اس خزان بيتها والقسوس
دم عيسى عند النصارى ونار
ليس فيها حر تقول المجوس
أي حسن تخفي الدنان من الرا
ح وحسن تبديه منها الكئوس
وقال أيضا:
من رأى برقا يضيء التماحا
ثقب الليل سناه فلاحا
فكأن البرق مصحف قار
فانطباقا مرة وانفتاحا
وقال أيضا:
فطاف بها والصبح عريان خالع
بقية ليل كالقميص المرعبل
على كل مجرور الرداء سميدع
جواد بما يحويه غير مبخل
قليل هموم القلب إلا للذة
ينعم نفسا آذنت بالتنقل
فإن تطلبه تقتنصه بحانة
وإلا ببستان وكرم مظلل
يعب ويسقي أو يسقى مدامة
كمثل سراج لاح في الليل مشعل
ولست تراه سائلا عن خليفة
ولا قائلا من يعزلون ومن يلي
ولا صائحا كالعير في يوم لذة
يناظر في تفضيل عثمان أو علي
ولا حاسبا تقويم شمس وكوكب
ليعرف أخبار العلو من اسفل
يقوم كحرباء الظهيرة ماثلا
يقلب في اصطرلابه عين أحول
ولكنه فيما عناه وسره
وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل
وقال أيضا:
لمن دار وربع قد تعفى
بنهر الكرخ مهجور النواحي
محاه كل هطال ملح
بوبل مثل أفواه اللقاح
فبات بليل باكية ثكول
ضرير النجم متهم الصباح
وأسفر بعد ذلك عن سماء
كأن نجومها حدق الملاح
سقى أرضا تحل بها سليمى
ولا سقى العواذل واللواحي
مهفهفة لها نظر مريض
وأحشاء تضيع من الوشاح
وفتيان كهمك من أناس
خفاف في الغدو وفي الرواح
بعثتهم على سفر مهيب
فما ضربوا عليهم بالقداح
ولكن قربوا قلصا حثاثا
عواصف قد حنين من المراح
وكل مروع الحركات ناج
بأربعة تطير به نصاح
كأنا عند نهضته رفعنا
خباء فوق أطراف الرماح
وقادوا كل سلهبة سبوح
كأن أديمها شرق براح
سلهبة سبوح: أي فرس سريعة، وأديمها شرق براح: أي كأنه صب عليه الراح، يريد أنها حمراء.
تخلف في وجوه الأرض رسما
كأفحوص القطا أو كالأداحي
أفحوص القطا: حفرة تحفرها في الأرض تبيض فيها، والأداحي نظيرها للنعام.
فكابدنا السرى حتى رأينا
غراب الليل مقصوص الجناح
وقد لاحت لساريها الثريا
كأن نجومها نور الأقاح
وقال أيضا:
أقتلا همي بصرف عقار
واتركا الدهر فما شاء كانا
إن للمكروه لذعة هم
فإذا دام على المرء هانا
وقال أيضا:
ولرب هاجرة يقل
بحرها صبر الركائب
كلفتها وجناء يذ
رع خطوها عرض السباسب
والشمس تأكل ظلها
أكل اللظى عيدان حاطب
وقال أيضا:
وطافت بأقداح المدامة بيننا
بنات نصارى قد برين من الخفر
وتحت زنانير شددن عقودها
زنانير أعكان معاقدها سرر
وقال أيضا:
لاح شيبي فصرت أمرح فيه
مرح الطرف في اللجام المحلى
إن من ساءه الزمان بشيء
لحقيق إذن بأن يتسلى
وقال أيضا في الخط والشكل:
فدونكه موشى نمنمته
وحاكته الأنامل أي حوك
بشكل يؤمن الإشكال فيه
كأن سطوره أغصان شوك
وقال بعضهم: الشكل في الكتاب كالحلي على الكعاب.
وقال أيضا:
ومهمه كرداء النشر مشتبه
قطعته والدجى والصبح خيطان
والريح تجذب أطراف الرداء كما
أفضى الشفيق إلى تنبيه وسنان
حتى طويت على أحشاء ناجية
كأنما خلقها تشييد بنيان
كأن أخفافها والسير ينقلها
دلاء بئر تدلت بين أشطان
لها زمام إذا أبصرت جولته
حسبت في قبضتي أثناء ثعبان
وقال أيضا:
وناقة في مهمه رمى بها
هم إذا نام الورى سرى بها
فهي أمام الركب في ذهابها
كسطر بسم الله في كتابها
وقال أيضا يصف كلاب الصيد:
فقاد مكلبنا ضمرا
سلوقية طالما قادها
معلمة من بنات الرياح
إذا سألت عدوها زادها
وتخرج أفواهها ألسنا
كشق الخناجر أغمادها
فأمسكن صيدا ولم تدمه
كضم الكواعب أولادها
وقال أيضا:
وقفت به عنسا تطير بزجرها
ويأمرها وحي الزمام فترقل
طلوبا برجليها يديها كما اقتضت
يدا الخصم حقا عند آخر يمطل
وقال أيضا:
ومزنة جاد من أجفانها المطر
فالروض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعها في الأرض لائحة
مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
وقال بعضهم:
بين الرياض وبين الجو معترك
بيض من البرق أو سمر من السمر
إن أوترت قوسها كف السماء رمت
نبلا من الماء في زغف من الغدر
لأجل ذاك إذا هبت طلائعها
تدرع النهر واهتزت قنا الشجر
وقال آخر:
حاكت يمين الرياح محكمة
في نهر واضح الأسارير
فكلما صنعت به حلقا
جاد لها القطر بالمسامير
وقال آخر:
أظن اليوم يهطل بالمدام
فإن الأفق محمر الغمام
وقال أيضا:
قد أنكرت هند مشيبا
عم رأسي واستعر
يا هند ما شاب فتى
وإنما شاب الشعر
وقال أيضا:
كن جاهلا أو فتجاهل تفز
للجهل في ذا الدهر جاه عريض
والعقل محروم يرى ما يرى
كما ترى الوارث عين المريض
وقال أيضا:
رعين كما شئن الربيع سوارحا
يخضن كلج البحر بقلا وأعشابا
إذا نسفت أفواهها النور خلتها
مواقع أجلام على شعر شابا
وقال أيضا:
لما رأيت العيش عيش الجاهل
ولم أر المغبون غير العاقل
ركبت عنسا من كروم بابل
فصرت من عقلي على مراحل
العنس الناقة الصلبة.
وقال أيضا:
أعاذل قد كبرت على العتاب
وقد ضحك المشيب على الشباب
رددت إلى التقى نفسي فقرت
كما رد الحسام إلى القراب
وقال أيضا:
خليلي هذي دار عزة فاسألا
مغانيها لو كان ذاك يفيدها
خلت وعفت إلا أثاف كأنها
عوائد ذي سقم بطيء قعوها
وقال أيضا:
ولقد أغتدي إلى طلب الص
يد بذي ميعة كميت مطار
ذي ميعة: يريد فرسا سريعا.
بلل الركض جانبيه كما فا
ضت بكف النديم كأس العقار
وقال أيضا:
سقى الإله سر من را القطرا
والكرخ والخمس القرى والجسرا
قد عجموا عودي وكنت مرا
حرا إذا لم يك حر حرا
لا تأمنوا من بعد حلم شرا
كم غصن أخضر صار جمرا
وقال أيضا:
وماء دارس الآثار خال
كدمع حار في جفن كحيل
طرقت بيعملات ناجيات
وأفق الصبح أدهم ذو حجول
وقال أيضا:
ضعيفة أجفانه
والقلب منه حجر
كأنما ألحاظه
من فعله تعتذر
وقال أيضا:
ولا صيد إلا بوثابة
تطير على أربع كالعذب
الوثابة: يريد فهدة يصيد بها.
تضم الطريد إلى نحرها
كضم المحب لمن قد أحب
الطريد الصيد.
لها مجلس في مكان الرديف
كتركية قد سبتها العرب
وقال أيضا:
وعجت بأعناق المطي كأنها
هياكل رهبان عليها الصوامع
وقال أيضا:
وجردت من أغماده كل مرهف
إذا ما انتضته الكف كاد يسيل
ترى فوق متنيه الفرند كأنما
تنفس فيه القين وهو صقيل
وقال أيضا في أمير أمه سوداء:
وجاءت به أم من السود أنجبت
كليلة سر أنجبت بهلال
وقال أيضا:
شق الجموع بسيفه
وشفى حزازات الإحن
دامي الجراح كأنها
ورد تفتح في غصن
وقال أيضا:
وترى الرياح إذا مسحن غديره
صقلنه ونفين كل قذاة
ما إن يزال عليه ظبي كارع
كتطلع الحسناء في المرآة
من لطيف ما رأيته في المرآة قول القائل:
زهية تشبه كل صوره
أسرارها مستورة مشهوره
نفس أخي الحسن بها مسروره
ومن المعاني الجيدة قول القائل:
تراه عيني وكفي لا تباشره
حتى كأني في المرآة أبصره
وقال أيضا:
جمد الدمع بعد موت ابن وهب
وهدا مضجع وطاب رقاد
يخلق الحزن كل يوم ويبلى
مثل ما يخلق الحديث المعاد
وقال أيضا وذكر الموتى:
وسكان دار لا تزاور بينهم
على قرب بعض في المحلة من بعض
كأن خواتيما من الطين فوقهم
فليس لها حتى القيامة من فض
وقال أيضا في أخوين مات أحدهما وبقي الآخر:
ولقد غبنت الدهر إذ شاطرته
بأبي الحسين، وقد ربحت عليه
وأبو محمد الجليل مصابه
لكن يمنى المرء خير يديه
وقال أيضا:
لما تعرى أفق الضياء
مثل ابتسام الشفة اللمياء
وشمطت ذوائب الظلماء
وهم نجم الليل بالإغفاء
قدنا لعين الوحش والظباء
زاهية محذورة اللقاء
يريد كلبة صيد.
شائلة كالعقرب السمراء
مرهفة مطلقة الأحشاء
كمدة من قلم سوداء
أو هدبة من طرف الرداء
تحملها أجنحة الهواء
تستلب الخطو بلا إبطاء
تمشي الأنكب في الرمضاء
أسرع من جفن إلى إغضاء
ومخطفا موثق الأعضاء
خالفها بجلدة بيضاء
أي: كلبا.
كأثر الشهاب في السماء
ويعرف الزجر من الدعاء
بأذن ساقطة الأرجاء
كوردة السوسنة الشهلاء
ذا برثن كمثقب الحذاء
ومقلة قليلة الأقذاء
الحذاء الإسكاف.
صافية كقطرة من ماء
ينساب بين أكم الصحراء
مثل انسياب حية رقطاء
آنس بين السفح والفضاء
سرب ظباء رتع الأطلاء
في عازب منور خلاء
العازب: الرعي الذي لا تصل إليه الماشية.
أحوى كبطن الحية الخضراء
فيه كنقش الحية الرقشاء
كأنها ضفائر الشمطاء
يصطاد قبل الأين والعناء
خمسين لا تنقص في الإحصاء
وقال أيضا في البازي:
ذو جؤجؤ مثل الرخام المرمار
أو مصحف منمنم بأسطار
ومقلة صفراء مثل الدينار
ترفع جفنا مثل حرف الزنار
وقال آخر في عين العقعق:
يقلب عينين في رأسه
كأنهما قطعتا زئبق
وقال فيه أيضا:
ذو منسر عضب الشباة دام
كعقدك الخمسين بالإبهام
وخافق للصيد ذي اصطلام
ينشره للنهض والإقدام
خافق: أي الجناح.
كنشرك البرد على المستام
وقال أيضا:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
مثل القلامة قد قدت من الظفر
وقال بعضهم:
خط الهلال على الدجى ببنانه
خطا رأيت الكون ضمن بيانه
وقال آخر:
والبدر كالمرآة غير صقلها
عبث الغواني فيه بالأنفاس
والليل ملتبس بضوء صباحه
مثل التباس النفس بالقرطاس
وقال آخر في الشمس:
والشمس كالمرآة في كف الأشل
وقال أيضا في صفة القتال:
قوم إذا غضبوا على أعدائهم
جروا الحديد أزجة ودروعا
وكأن أيديهم تنفر عنهم
طيرا على الأبدان كن وقوعا
وقال أيضا:
وسيوف كأنها حين سلت
ورق هزه سقوط قطار
ودروع كأنها شمط جعد
دهين تضل فيه المداري
الشمط: شعر بعضه أبيض وبعضه أسود.
وقال أيضا:
وأصبح يحدى للنوى كل بازل
سفينة أسفار على الآل تسبح
وقد ثقلت أخفافه فكأنها
من الأين أرحاء تشال وتطرح
وقال أيضا يصف خيل الحلبة:
خرجن وبعضهن قريب بعض
سوى فوت العذار أو العنان
ترى ذا السبق والمسبوق منها
كما بسطت أناملها اليدان
وقال أيضا في قوس البندق:
وماء به الطير مربوطة
تحاكي الحلي بأطواقها
غدونا عليه وشمس النهار
لم تكسه ثوب إشراقها
فظلنا وظلت عيون القس
ي ترمي الطيور بأحداقها
وقال أيضا:
ولقد قضت نفسي مآربها
وقضت غيا مرة ورشد
ونهار شيب الرأس يوقظ م
ن قد كان في ليل الشباب رقد
وقال أيضا:
والآل ينزو بالصحاري موجه
نزو القطا الكدري في الأشراك
والظل مقرون بكل مطية
مشي المهارى الدهم بين رماك
وقال أيضا:
كأن الشمس يوم الغنم لحظ
مريض مدنف من خلف ستر
تحاول فتق غيم وهو يأبى
كعنين يريد نكاح بكر
وقال أيضا في رجل سجد سجدة طويلة جدا:
صلاتك بين الملا نقرة
كما اختلس الجرعة الوالغ
وتسجد من بعدها سجدة
كما ختم المزود الفارغ
وقال أيضا:
وعلى الأرض اصفرار
واخضرار واحمرار
فكأن الروض وشي
بالغت فيه التجار
نقشه آس ونسر
ين وورد وبهار
وقال أيضا:
يا ربما نازعني
روح دنان صافيه
في روضة كأنها
جلد سماء عاريه
كأن آزريونها
غب سماء هاميه
مداهن من ذهب
فيها بقايا غاليه
وقال أيضا:
والبرق يخطف من خلال سحابه
خطف الفؤاد لموعد من زائر
والغيث منهل يسح كأنه
دمع المودع إثر إلف سائر
وقال أيضا:
وجرت لنا سنحا جآذر رملة
تتلو المها كاللؤلؤ المتبدد
قد أطلعت إبر القرون كأنها
أخذ المراود من سحيق الإثمد
وقال أيضا:
كم حاسد حنق علي بلا
جرم فلم يضررني الحنق
متضاحك نحوي كما ضحكت
نار الذبالة وهي تحترق
وقال العباس بن الأحنف:
أحرم منكم بما أقول وقد
نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت
تضيء للناس وهي تحترق
وقال أيضا في سوداء:
يا مسكة العطار
وخال وجه النهار
وأطيب الناس ريقا
لمغتد ولسار
وليس ذا بعجيب
وليس في ذا تماري
لا تشرب الخمر إلا
مبزولة من قار
وقال أيضا يصف قلم القاسم بن عبيد الله:
قلم ما أراه أم فلك يج
ري بما شاء قاسم ويسير
ساجد خاشع يقبل قرطا
سا كما قبل البساط شكور
مرسل لا تراه يحبسه الشك
إذا ما جرى ولا التفكير
كم منايا وكم عطايا وكم
عيش وحتف تضم تلك السطور
نقشت بالدجى نهارا فما أد
ري أخط فيهن أم تصوير
وقال أيضا في الهلال والنجوم:
انظر إلى حسن هلال بدا
يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة
يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقال أيضا يصف جدولا:
يمزق ريا جلود الثمار
إذا مص ماء الثمار العطش
كفيل لأشجارها بالحياة
إذا ما جرى خلته يرتعش
ويعجبني قول بعضهم في وصف نهر:
بها فاض نهر من لجين كأنه
صفائح أضحت بالنجوم تسمر
وقال آخر:
ونهر كالسجنجل كوثري
تعبس وجهها فيه السماء
وقال أيضا في خراب سر من را:
قد أقفرت سر من را
فما لشيء دوام
فالنقض يحمل منها
كأنها الآجام
ماتت كما مات فيل
تسل منه العظام
وقال أيضا في فرس:
وقد غدوت بصهال يجاذبني
كأن آثاره نقش الخواتيم
والليل كالحلة السوداء لاح بها
من الصباح طراز غير مرقوم
وقال أيضا:
اصبر على حسد الحس
ود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
وقال أيضا:
غدا بها صفراء كرخية
كأنها في كأسها تتقد
وتحسب الماء زجاجا جرى
وتحسب الأقداح ماء جمد
وقال أيضا:
ولرب مهلكة يحاربها القطا
مسجورة بالشمس خرق مجهل
خلفتها بشملة تطأ الدجى
مرتاعة الحركات جلس عيطل
ترنو بناظرة كأن حجاجها
وقب أناف بشاهق لم يحلل
وكأن مسقطها إذا ما عرست
آثار مسقط ساجد متبتل
وكأن آثار النسوع بدفها
مسرى الأساود في هيام أهيل
وتسد حاذيها بجثل كامل
كعسيب نخل خوصه لم ينجل
وكأنها غدوا قطاة صبحت
زرق المياه وهمها في المنزل
ملأت دلاء تستقل بحملها
قدام كلكلها كصغرى الحنظل
يريد بصغرى الحنظل حوصلة القطاة.
وغدت كجلمود القذاف تليلها
واف كمثل الطيلسان المخمل
حملتها ثقل الهموم فقطعت
أسبابهن بنا تخب وتغتلي
عن عزم قلب لم أصله بغيره
عضب المضارب صائب للمفصل
حتى إذا اعتدلت عليهم ليلة
سقطوا إلى أيدي قلائص نحل
عليهم: يريد أصحابه السائرين معه. سقطوا: يريد أناخوا إبلهم وناموا على أيديها.
حتى استسارهم دليل فارط
يسمو لغايته بعيني أجدل
يدعى بكنيته لآخر ظمئها
يوما ويدعى باسمه في المنهل
يقول إنهم يكنون في آخر يوم من ظمئهم تبجيلا له وتوسلا إليه؛ خوف أن يضل بهم عن الطريق أو يفتر في السير فيهلكون من العطش، فإذا وردوا الماء دعوه باسمه ولم يحفلوا به.
لبس الشحوب من الظهائر وجهه
فكأنه ماوية لم تصقل
سار بلحظته إذا اشتبه الهدى
بين المجرة والسماك الأعزل
ولرب قرن قد تركت مجدلا
جزرا لضارية الذئاب العسل
عهدي به والموت يحفز روحه
وبرأسه كفم الفنيق الأهدل
ولقد قفوت الغيث ينطف دجنه
والصبح ملتبس كعين الأشهل
بطمرة ترمي الشخوص بمقلة
كحلاء تعرب عن ضمير المشكل
فوهاء يفرق بين شطري وجهها
نور تخال سناه سلة منصل
يصف الغرة:
وكأنما تحت العذار صفيحة
عنيت بصفحتها مداوس صيقل
وقال أيضا:
يمج إبريقه المزاج كما
امتد شهاب في إثر عفريت
على عقار صفراء تحسبها
شيبت بمسك في الدن مفتوت
للماء فيها كتابة عجب
كمثل نقش في فص ياقوت
وقال أيضا:
وندمان سقيت الراح صرفا
وأفق الصبح مرتفع السجوف
صفت وصفت زجاجتها عليها
كمعنى رق في ذهن لطيف
الباب السابع
فيما اخترناه من شعر ابن الحسين أبي الطيب المتنبي
قال أبو الطيب:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم في شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم من
ه وإن سر بعضهم أحيانا
ربما تحسن الصنيع ليالي
ه، ولكن تكدر الإحسانا
وكأنا لم يرض فينا بريب الد
هر حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
ولو ان الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
يقول الأمر الشديد إنما يصعب على النفس قبل وقوعه فإذا وقع سهل.
وقال أيضا:
إلام طماعية العاذل
ولا رأي في الحب للعاقل
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
وإني لأعشق من عشقكم
نحولي وكل امرئ ناحل
ولو زلتم ثم لم أبككم
بكيت على حبي الزائل
أينكر خدي دموعي وقد
جرت منه في مسلك سائل؟
أأول دمع جرى فوقه
وأول حزن على راحل؟
وهبت السلو لمن لامني
وبت من الشوق في شاغل
كأن الجفون على مقلتي
ثياب شققن على ثاكل
وقال أيضا:
أتراها لكثرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
حلت دون المزار فاليوم لو زر
ت لحال النحول دون العناق
وقال أيضا:
لو كفر العالمون نعمته
لما عدت نفسه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعت
منفعة عندهم ولا جاها
وقال أيضا:
كدعواك كل يدعي صحة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
وقال أيضا يمدح كافورا:
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت سوادا خلفها ومآقيا
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
وقال أيضا:
شامية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محياها
يقول إنه قريب منها بحيث ترى وجهها في ناظره.
فقبلت ناظري تغالطني
وإنما قبلت به فاها
معنى البيت أن الناظر وهو موضع البصر من العين كالمرآة إذا قابله شيء أدى صورته؛ أي أوهمتني أنها قبلت عيني وإنما قبلت فاها الذي رأته في ناظري.
وقال أيضا:
إلف هذا الهواء أوقع في الأن
فس أن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
يقول لا يحسن أن يحزن الإنسان للموت؛ لأنه قد علم أن الحزن على فراق الروح قبل فراقه من العجز، وعلم أيضا أن الحزن على المفارقة لا يكون إلا بعد الموت، وذلك لا يكون.
وقال أيضا:
كم ثراء فرجت بالرمح عنه
كان من بخل أهله في وثاق
والغنى في يد اللئيم قبيح
قدر قبح الكريم في الإملاق
قالوا إن البخيل ينفق في يوم واحد قدر ما ينفقه الكريم طول حياته، وذلك اليوم هو يوم موته.
وقال أيضا يذكر شعب بوان:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
يقول إن مغاني الشعب تفوق سائر الأمكنة طيبا كما يفوق الربيع سائر الأزمنة.
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
قال بعضهم: الكلام بالترجمان كالأكل بالأسنان المصنوعة. وقال آخر: الفرق بين الترجمة والأصل كالفرق بين ظاهر الثوب وباطنه. وقال غيره: إذا كان الترجمان ماهرا كان الأصل والترجمة كالحسناء وخيالها في المرآة. وقال بعضهم: إن الترجمة المحكمة هي التي إن نظرت إليها وإلى أصلها لم تدر أيهما مترجم عن الآخر، فتكون على حد قول القائل:
رق الزجاج وراقت الخمر
وتشابها فتشاكل الأمر
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيه
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
الشرق: الشمس.
لها ثمر تشير إليك منها
بأشربة وقفن بلا أواني
وأمواه يصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
وقال أيضا:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
يقول نحن في قرن من الناس قد تساووا في الشر دون الخير.
وقال أيضا:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله، وخطاب من لا يفهم
والذل يظهر في الذليل مودة
وأود منه لمن يود الأرقم
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقال أيضا:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني
عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا
وقال أيضا:
فإن الناس والدنيا طريق
إلى من ما له في الناس ثان
له علمت نفسي القول فيهم
كتعليم الطراد بلا سنان
يقول علمت النفس القول في الناس بالشعر في مدائحهم كما يتعلم الطعان أولا بغير سنان ليصير المتعلم ماهرا بالطعان بالسنان، كذلك تعلمت الشعر ومدح الناس لأتدرج إلى مدحه وخدمته.
وقال أيضا:
لا يعجبن مضيما حسن بزته
وهل يروق دفينا جودة الكفن
وقال أيضا:
يدفن بعضنا بعضا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
وكم عين مقبلة النواحي
كحيل بالجنادل والرمال
ومغض كان لا يغضي لخطب
وبال كان يفكر في الهزال
وقال أيضا:
حتام نحن نساري النجم في الظلم
وما سراه على خف ولا قدم
ولا يحس بأجفان يحس بها
فقد الرقاد غريب بات لم ينم
تسود الشمس منا بيض أوجهنا
ولا تسود بيض العذر واللمم
العذر جمع عذار.
وكان حالهما في الحكم واحدة
لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
ونترك الماء لا ينفك من سفر
ما سار في الغيم منه سار في الأدم
الأدم جمع الأديم.
لا أبغض العيس لكني وقيت بها
قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
يقول إن إتعابي العيس في السفر ليس من بغض.
طردت من مصر أيديها بأرجها
حتى مرقن بنا من جوش والعلم
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما لقين رضا الأيسار بالزلم
يقول سرت من مصر في غلمة حملوا أرواحهم على الخطر لبعد المسافة وصعوبة الطريق، ورضوا بما يستقبلون من هلاك وغيره كما يرضى المقامر بما يخرج له من القداح.
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة
فعلموها صياح الطير في البهم
يقول تناولوا الرماح فصاحت في أيديهم صياح الطير، يريد صرير الرماح في الأبطال.
وقال أيضا:
توهم القوم أن العجز قربنا
وفي التقرب ما يدعو إلى التهم
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
وقال أيضا:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
وقال أيضا:
واحتمال الأذى ورؤية جاني
ه غذاء تضوى به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
وقال أيضا:
قائدو كل شطبة وحصان
قد براها الإسراج والإلجام
يتعثرن في الرءوس كما مر
بتاآت نطقه التمتام
وقال أيضا:
أخذت بمدحه فرأيت لهوا
مقالي للأحيمق يا حليم
ولما أن هجوت رأيت عيا
مقالي لابن آوى يا لئيم
فهل من عاذر في ذا وفي ذا
فمدفوع إلى السقم السقيم
وقال أيضا:
فلما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
وقال أيضا يصف جيشا:
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه
بناج ولا الوحش المثار بسالم
تمر عليه الشمس وهي ضعيفة
تطالعه من بين ريش القشاعم
إذا ضوءها لاقى من الطير فرجة
تدور فوق البيض مثل الدراهم
ويخفى عليك البرق والرعد فوقه
من اللمع في حافاته والهماهم
يقول لكثرة أسلحة هذا الجيش وبريقها يخفى البرق عليك فلا تعرفه، ولكثرة ما فيه من الأصوات يخفى عليك الرعد.
وقال بعضهم:
ومصقولة دون النبال قواضب
كما لاح ومض البرق من خلل الوبل
وقال أيضا:
سقاك وحيانا بك الله إنما
على العيس نور والخدور كمائمه
وقال أيضا لما بنى سيف الدولة قلعة الحدث الحمراء وأوقع بالروم:
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا
وموج المنايا حولها متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائم
وكان سيف الدولة من أكثر الملوك حبا في الجهاد، وله الغزوات الكثيرة في أرض الروم، وكان جمع ما وقع عليه من غبار الوقائع وأوصى بأن تصنع منه لبنة يوضع عليها رأسه في القبر.
وقال أيضا:
أحق عاف بدمعك الهمم
أحدث شيء عهدا بها القدم
كفاني الذم أنني رجل
أكرم مال ملكته الكرم
يجني الغنى للئام لو عقلوا
ما ليس يجني عليهم العدم
هم لأموالهم وليس لهم
والعار يبقى والجرح يلتئم
من طلب المجد فليكن كعل
ي يهب الألف وهو يبتسم
ويطعن الخيل كل نافذة
ليس لها من وحائها ألم
يقول إن المطعون لا يحس بألم الطعنة لأنها تقتله من قبل أن يصل إليه الألم.
ويعرف الأمر قبل موقعه
فما له بعد فعله ندم
لولاك لم أترك البحيرة والغ
ور دفيء وماؤها شبم
البحيرة هي بحيرة طبرية، يقول لولاك لم أترك البحيرة وماؤها بارد في الحر والغور بلدك دفيء، فلولاك ما جئت لغور لأنه حار.
والموج مثل الفحول مزبدة
تهدر فيها وما بها قطم
القطم شهوة الضراب.
كأنها في نهارها قمر
حف به من جنانها ظلم
شبه الماء في صفائه، وقد أحاط به سواد الجنان وخضرتها بقمر أحاط به ظلم.
تغنت الطير في جوانبها
وجادت الروض حولها الديم
فهي كماوية مطوقة
جرد عنها غشاؤها الأدم
الماوية المرآة. شبه ما حولها من الجنان مع صفاء الماء بالمرآة المطوقة إذا أخرجت من غلافها.
وقال أيضا:
سرى النوم عني في سراي إلى الذي
صنائعه تسري إلى كل نائم
كريم نفضت الناس لما بلغته
كأنهم ما جف من زاد قادم
وقال بعضهم:
طويت إليك الباخلين كأنني
سريت إلى شمس الضحى في الغياهب
وكاد سروري لا يفي بندامتي
على تركه في عمري المتقادم
وقال أيضا أثناء مرئية له في أم سيف الدولة:
وأبرزت الخدور مخبآت
يضعن النقس أمكنة الغوالي
أتتهن المصيبة غافلات
فدمع الحزن في دمع الدلال
وقال أيضا:
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
وقال أيضا:
تلذ له المروة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام
أقامت في الرقاب له أياد
هي الأطواق والناس الحمام
وقال أيضا:
ومن أعتاض عنك إذا افترقنا
وكل الناس زور ما خلاكا
وما أنا غير سهم في هواء
يعود ولم يجد فيه امتساكا
يقول أنا في الخروج من عندك وقلة اللبث في أهلي كالسهم الذي يرمى في الهواء فيذهب ثم ينقلب.
وقال أيضا:
ومن لم يعشق الدنيا قديما
ولكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
وهان فما أبا لي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي
وقال أيضا:
رأيتك في الذين أرى ملوكا
كأنك مستقيم في محال
المعنى أنت تفضلهم فضل المستقيم على المعوج.
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
وقال أيضا:
زودينا من حسن وجهك ما
دام فحسن الوجوه حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدنيا
فإن المقام فيها قليل
من رآها بعينها شاقه القطان
فيها كما تشوق الحمول
يقول من عرف الدنيا حق معرفتها تيقن أن أهلها راحلون لا محالة فلم يجد بين القاطن والراحل فرقا، فهذا يشوقه وهذا يشوقه لأن الرحيل قد شملهما.
وقال أيضا:
وكم عين قرن حدقت لنزاله
فلم تغض إلا والسنان لها كحل
إذا قيل رفقا قال للحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
وقال أيضا:
صلة الهجر لي وهجر الوصال
نكساني في السقم نكس الهلال
يقول كنت صحيح الجسم كامل الخلق فنكسني وصل الهجر وهجر الوصال إلى أن أعادني إلى السقم كما يعاد الهلال إلى المحاق بعد تمامه.
قف على الدمنتين بالدو من ريا
كخال في وجنة جنب خال
الدو الأرض الواسعة، وريا اسم امرأة، والمراد من دمن ريا فحذف للعلم به، ومن ألطف ما قيل في الخال في الوجه الحسن أنه نقطة نقطت من قلم التصوير:
بطلول كأنهن نجوم
في عراص كأنهن ليالي
ونؤي كأنهن عليهن خدام
خرس بسوق خدال
الخدام الخلاخيل، والخدال السمان.
وقال بعضهم:
معاهد أنس عطلت فكأنها
ظواهر ألفاظ تعمدها النسخ
وقال آخر:
وأثاف كأنهن رذايا
وأسارى لا ينظرون فكاكا
وشجيج طم الزمان نواصي
ه كما شعث الوليد السواكا
وقال أيضا يصف كلب صيد:
له إذا أدبر لحظ المقبل
كأنما ينظر من سجنجل
يقول إذا أدبر يرى كما يرى المقبل قدامه، وذلك لسرعة نظره والتفاته، وشبه صفاء حدقته بالمرآة.
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلى جاء المدى، وقد تلي
يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربع مجدولة لم تجدل
فتل الأيادي ربذات الأرجل
آثارها أمثالها في الجندل
ربذات: أي خفيفات. يقول لقوة وطئه على الحجارة أثرت فيها كأمثال مواطئ رجليه.
يكاد في الوثب من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
التفتل الانفتال. يقول يكاد من سرعة وثبه على الصيد يجمع بين صدره وعجزه في حالة واحدة.
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي
الوسمي أول المطر، والولي ما يليه، والحضار الاسم من الحضر، يقال: أحضر الفرس، ضرب هذا مثلا لأول عدوه وآخره، يعني لا يتغير لضبارته وصلابته وأنه لا يفتر ولا يعيا.
كأنه مضبر من جرول
موثق على رماح ذبل
الجرول الحجر، وشبه قوائمه بالرماح.
ذي ذنب أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
الأعزل الذي لا يكون ذنبه على استواء فقاره، وذلك عيب في الخيل والكلاب، ومنه قول امرئ القيس:
بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
يقول إن آثار ذنبه في الأرض كآثار الكاتب إذا خط حساب الجمل؛ لأنه يحكي حروفا غير حروف الكتابة يعلم بها العشور والمئين والألوف، وهو خط قبطي.
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يبلي السوط تحريك بلي
يقول إنه يكثر تحريك ذنبه ثم لا يبليه ذلك، كما أن السوط يكثر تحريكه ولا يبليه التحريك.
يفتر عن مذروبة كالأنصل
لا تعرف العهد بصقل الصيقل
يقول إن هذا الكلب يفتر عن أنياب كالنصال.
كأنه من علمه بالمقتل
علم بقراط فصاد الأكحل
الأكحل عرق في الجسم.
وقال أيضا:
والطعن شزر والأرض واجفة
كأنما في فؤادها وهل
قد صبغت خدها الدماء كما
يصبغ خد الخريدة الخجل
وقال أيضا:
وضرب يعمهم جائر
له فيهم قسمة العادل
وطعن يجمع شذانهم
كما اجتمعت درة الحافل
وقال أيضا:
لبسن الوشي لا متجملات
ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا لحسن
ولكن خفن في الشعر الضلالا
وقال أيضا:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وكل يرى طرق الشجاعة والندى
ولكن طبع النفس للنفس قائد
وقال أيضا:
وما الدهر إلا من رواة قلائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
هذا كقول الآخر:
إذا أنشد حماد
فقد أحسن بشار
ودع كل صوت بعد صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
وقال أيضا في النوق:
كل هوجاء للدياميم فيها
أثر النار في سليط الذبال
من بنات الجديل تمشي بنا في ال
بيد مشي الأيام في الآجال
الهوجاء الناقة التي فيها هوج.
وقال أيضا:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
وإنما يبلغ الإنسان طاقته
ما كل ماشية بالرحل شملال
الشملال الناقة القوية السريعة.
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
وقال أيضا:
والعشق كالمعشوق يعذب قربه
للمبتلى وينال من حوبائه
يريد أن العشق طيب القرب يستعذب كقرب الحبيب وإن كان ينال من نفس العاشق، أي يهلكها.
لو قلت للدنف الحزين فديته
مما به لأغرته بفدائه
يريد أنك لو قلت للدنف ليت ما بك من برح الصبابة والهوى بي لغار من ذلك ووجه غيرته الشح على محبوبه والخوف أن يحل أحد محله فهو على ما فيه لا يسمح لأحد أن يفديه مما به من المشقة.
وقال أيضا:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ومليح قول القائل في هذا الغرض:
إذا وضع الإحسان في الحب لم يفد
سوى جحده والحر يجزي به شكرا
كغيث سقى أفعى فجاءت بسمها
وصاحب أصدافا فأثمرت الدرا
يشير إلى ما يذكره الناس من أن سم الحيات واللؤلؤ أصلهما مطر ينزل في نيسان فتتلقاه الحيات فيصير فيها سما وتتلقاه الأصداف فيصير لؤلؤا.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال أيضا:
عمرك الله هل رأيت بدورا
طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد
ب تشق القلوب قبل الجلود
وقال أيضا:
أنتما ما اتفقتما الجسم والرو
ح فلا احتجتما إلى العواد
وإذا كان في الأنابيب خلف
وقع الطيش في صدور الصعاد
هذان البيتان من قصيدة قالها في كافور، وقد كان وقع بينه وبين ابن سيده خلف ثم اصطلحا، ويعجبني في باب الصلح قول الآخر:
لكم داخل بين الخصيمين مصلح
كما انغل بين الجفن والجفن مرود
وقال أيضا:
كم زورة لك في الأعراب خافية
أدهى، وقد رقدوا من زورة الذيب
يخاطب نفسه ويذكرها شجاعته:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وقال أيضا:
وشعر مدحت به الكركدن
بين القريض وبين الرقى
يعني بالكركدن كافورا الخصي، وشبهه بالكركدن لعظم خلقه وقلة مغناه وسوء خلقه.
وقد ذكر الجاحظ في سوء خلق الخصيان عبارة غريبة ، قال: إنهم لحرمانهم أبغضوا الفحول بأشد من تباغض الأعداء فيما بينهم، حتى ليس بين الحاسد الباغي وبين أصحاب النعم المتظاهرة، ولا بين الماشي المعنى وبين راكب الهملاج الفاره، ولا بين ملوك صاروا سوقة، وبين سوقة صاروا ملوكا، ولا بين بني الأعمام مع وقوع التنافس أو وقوع الحرب، ولا بين الجيران المتشاكسين في الصناعات من التنفير والبغضاء، بقدر ما يلتحف عليه الخصيان للفحول.
فما كان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجو الورى
وقال أيضا:
ما مقامي بأرض نحلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
وقال أيضا:
أرى كلنا يبغي الحياة بسعيه
حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا
وقال أيضا:
طلبتهم على الأمواه حتى
تخوف أن تفتشه السحاب
يهز الجيش حولك جانبيه
كما نفضت جناحيها العقاب
وكيف يتم بأسك في أناس
تصيبهم فيؤلمك المصاب
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
وما جهلت أياديك البوادي
ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال
وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم
وحل بغير جارمه العقاب
وقال أيضا يرثي أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقال أيضا:
تمن يلذ المستهام بمثله
وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا
ولكنه غيظ الأسير على القد
وقال أيضا:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
يقول اترك في الدنيا جلبة وصياحا عظيما وذلك أن الرجل إذا سد أذنه سمع ضجيجا.
وقال أيضا:
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص
على هبة فالفضل فيمن له الشكر
يريد: إذا كان الفضل لا يرفعك عن شكر ناقص مع إحسان منه إليك فإن الفضل لمن شكرته لا لك لأنك محتاج إليه. فالمعنى أنه يحرض على ترك الانبساط إلى اللئيم الناقص حتى لا يشكر فيكون له الفضل، وهذا من قول الحكيم: من لم يرفع نفسه عن قدر الجاهل يرفع قدر الجاهل عليه.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقال أيضا:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته
رغبت عن شعر في الوجه مكذوب
وقال أيضا:
لا بد للإنسان من ضجعة
لا تقلب المضجع عن جنبه
ينسى بها ما كان من عجبه
وما أذاق الموت من كربه
يقول إذا نزل في القبر نسي الإعجاب وما ذاق من كرب الموت.
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هي من كسبه
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يسبه
يقول إن العاشق للشيء المستهام به لو تفكر في منتهى حسن المعشوق وأنه يصير إلى زوال لم يعشقه ولم يملك العشق قلبه، وهذا يطرد في كل شيء، لو فكر الحريص الذي يعدو ويقتل نفسه ويعادي على جمع المال أن آخره إلى زوال، أو أنه يموت عنه لما حرص على جمعه.
لم ير قرن الشمس في شرقه
فشكت الأنفس في غربه
يريد أنه لا بد من الفناء، وهذا مثل يريد أن الشمس من رآها طالعة عرفها غاربة كذلك الحوادث منتهاها إلى الزوال لأن الحدوث سبب الزوال.
يموت راعي الضأن في جهله
موتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره
وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه
كغاية المفرط في حربه
وقال أيضا:
ومطالب فيها الهلاك أتيتها
ثبت الجنان كأنني لم آتها
ومقانب بمقانب غادرتها
أقوات وحش كن من أقواتها
المقانب الجماعات من الخيل. يقول تركت الجيش العظيم قوتا للوحش بعدما كانت الوحوش قوتا لها.
أقبلتها غرر الجياد كأنما
أيدي بني عمران في جبهاتها
وقال أيضا يرثي:
سالم أهل الوداد بعدهم
يسلم للحزن لا لتخليد
يريد الذي يبقى بعد الأحبة يبقى للحزن لا للتخليد.
فما ترجي النفوس من زمن
أحمد حاليه غير محمود
يقول لا رجاء عند زمان أحمد حاليه البقاء وهو غير محمود لأن معجله بلاء ومؤجله فناء.
وقال أيضا:
كأن الهام في الهيجا عيون
وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم
فما يخطرن إلا في فؤاد
وقال أيضا:
أذم إلى هذا الزمان أهيله
فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
وقال أيضا:
فلا تغررك ألسنة موال
تقلبهن أفئدة أعادي
وكن كالموت لا يرثي لباك
بكى منه ويروى وهو صاد
يقول كن كالموت يروى بما يشرب وهو مع ذلك عطشان لحرصه على الإهلاك.
وقال أيضا يصف الأسد:
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس
في غيله من لبدتيه غيلا
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
تحت الدجى نار الفريق حلولا
في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا
يطأ البرى مترفقا من تيهه
فكأنه آس يجس عليلا
البرى التراب.
ويرد غفرته إلى يافوخه
حتى تصير لرأسه إكليلا
الغفرة الشعر اجتمع على قفاه.
قصرت مخافته الخطى فكأنما
ركب الكمي جواده مشكولا
ذو الحافر إذا رأى الأسد وقف وبال.
وقال أيضا:
هو الشجاع يعد البخل من جبن
وهو الجواد يعد الجبن من بخل
يعود من كل فتح غير مفتخر
وقد أغذ إليه غير محتفل
وقال أيضا:
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
يقول لا يدرك المجد إلا رجل صفته هذه، ثم شبهه بفاتك، ثم استدرك ذلك بقوله: ودخول الكاف منقصة، إذا قلت هو كفلان فقد جعلت له مثلا، وإنما ذلك مجاز وتوسع كالشيء المستحسن يشبه بالشمس على الظاهر وليس لها مثل.
وقال أيضا:
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه
فما طلبي منها حبيبا ترده
وأسرع مفعول فعلت تغيرا
تكلف شيء في طباعك ضده
وقال أيضا:
وكلام الوشاة ليس على الأ
حباب سلطانه على الأضداد
إنما تنجح المقالة في المرء
إذا صادفت هوى في الفؤاد
وقال أيضا:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئا تتيمه عين ولا جيد
يا ساقيي أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا، ما لي لا تغيرني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
إذا أردت كميت الخمر صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها
أني بما أنا باك منه محسود
وقال أيضا:
وكم من جبال جبت تشهد أنني ال
جبال وبحر شاهد أنني البحر
وخرق مكان العيس منه مكاننا
من العيس فيه واسط الكور والظهر
يقول أنا في وسط ظهور الإبل والإبل في وسط ظهر الخرق.
يخدن بنا في جوزه وكأننا
على كرة أو أرضه معنا سفر
يقول كأننا على كرة ولا ينتهي لنا سير لأن الكرة ليس لها طرف ينتهى إليه أو كأن أرض الخرق تسير معنا حيث كانت لا تنقطع، وإذا أسرع الإنسان في السير رأى الأرض كأنها تسير معه.
وقال يمدح ابن العميد لما وفد عليه:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما
وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
يقول جمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود، فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضل ما كان فيهم، مثل الحساب يذكر تفاصيله أولا ثم تجمل تلك التفاصيل فيكتب في آخر الحساب فذاك كذا وكذا فيجمع في الجملة ما ذكر في التفصيل، كذلك أنت جمع فيك ما تفرق فيهم من الفضائل والعلم والحكمة.
يا ليت باكية شجاني دمعها
نظرت إليك كما نظرت فتعذرا
يقول ليت التي أحزنني دمعها لما فارقتها بالمسير إليك رأت كما رأيت منك فكانت تعذرني على فراقها وركوب الأهوال إليك.
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة
الشمس تشرق والسحاب كنهورا
وقال أيضا:
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
أزالت بك الأيام عتبي كأنما
بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وقال أيضا:
أدرن عيونا حائرات كأنها
مركبة أحداقها فوق زئبق
هذا أحسن ما قيل في العيون الحائرة من الفزع، ومن أحسن ما رأيته في صفة العيون السود قول ابن هانئ:
قمن في مأتم على العشاق
ولبسن السواد في الأحداق
ومن لطيف ما قيل في العيون النعس قول القائل:
أتنكر بأس أحداق العذارى
أما تدري بعربدة السكارى
وقال آخر:
بين السيوف وعينيه مشاكلة
من أجلها قيل للأغماد أجفان
عشية يعدونا عن النظر البكا
وعن لذة التوديع خوف التفرق
وقال أيضا:
وجدت المدامة غلابة
تهيج للقلب أشواقه
تسيء من المرء تأديبه
ولكن تحسن أخلاقه
وأنفس ما للفتى لبه
وذو اللب يكره إنفاقه
وقال أيضا في فرسه:
كأنما الطخرور باغي آبق
يأكل من نبت قصير لاصق
كقشرك الحبر من المهارق
الطخرور اسم فرسه. يريد أن فرسه لقلة المرعى لا يثبت في مكان فكأنه يطلب آبقا وهو يأكل من نبات لاصق بالأرض، فكأنه يقشر خطا عن صحيفة.
وقال أيضا:
ودعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
يقول سماك الأعداء الرئيس وأمسكوا، وسماك الله الرئيس الأكبر، فعلمنا ذلك لما قامت صفاتك الشريفة مقام كلام الله، وهي التي خصك الله بها في الدلالة على أنك أفضل الناس، فصار كأنه دعاك الرئيس الأكبر قولا من حيث دعاك فعلا كالخط؛ فإن من كاتب كمن شافه وخاطب، ومن أعلم خطا فإنه أسمع وأفهم، ومن قرأ الخط امتلأ أذناه بمعناه كأنما سمعه، والمعنى أن الإنسان إذا رأى ما خصك الله من جلال الفضل علم أن الله دعاك الرئيس الأكبر .
وقال أيضا:
كن حيث شئت تسر إليك ركابنا
فالأرض واحدة وأنت الأوحد
يفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم
أيحيط ما يفنى بما لا ينفد
وقال أيضا:
وربما يشهد الطعام معي
من لا يساوي الخبز الذي أكله
ويظهر الجهل بي وأعرفه
والدر در برغم من جهله
وقال أيضا:
وربتما شفيت غليل صدري
بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
الفدام سداد الزجاج.
وقال أيضا:
قد استقصيت في سلب الأعادي
فرد لهم من السلب الهجوعا
رضوا بك كالرضا بالشيب قسرا
وقد وخط النواصي والفروعا
وقال أيضا:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين
صحوت فلم تحل بيني وبيني
هجرت الخمر كالذهب المصفى
فخمري ماء مزن كاللجين
وقال أيضا:
وهجان على هجان تآتيك
عديد الحبوب في الأقواز
يقول رب رجال كرام قصدتك على إبل كرام عدد حبوب الرمل.
صفها السير في العراء فكانت
فوق مثل الملاء مثل الطراز
العراء الأرض الواسعة.
وقال أيضا:
وهل رد عنه باللقان وقوفه
صدور العوالي والمطهمة القبا
قضى بعدما التف الرماحان ساعة
كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا
وقال أيضا:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوب
الجيئة مصدر جاء يجيء، وكذلك الذهوب.
تملكها الآتي تملك سالب
وفارقها الماضي فراق سليب
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
شعوب من أسماء المنية. يقول لولا الموت لما كان للشجاعة والصبر ونحوهما فضل؛ وذلك لو أن الناس أمنوا الموت لما كان للشجاع فضل على الجبان؛ لأنه قد أيقن بالخلود، وكذلك كل الأشياء، فلولا الموت لما كان لهذا كله فضل على غيره، واستوى الشجاع والجبان والصابر والجازع.
وقال أيضا:
أغار من الزجاجة وهي تجري
على شفة الأمير أبي الحسين
كأن بياضها والراح فيها
بياض محدق بسواد عين
وقال أيضا:
كذا الدنيا على من كان قبلي
صروف لم يدمن عليه حالا
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
وقال أيضا:
سلكت صروف الدهر حتى لقيته
على ظهر عزم مؤيدات قوائمه
المؤيدات القويات.
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة
سريت، وكنت السر والليل كاتمه
وقال أيضا:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه في نفسه الزمن
وقال أيضا:
الحب ما منع الكلام الألسنا
وألذ شكوى عاشق ما أعلنا
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى
من غير جرم واصلي صلة الضنا
وقال أيضا:
كل يوم لك احتمال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وقال أيضا:
جاز حدود اجتهاده فأتى
غير اجتهاد لأمه الهبل
أبلغ ما يطلب النجاح به
الطبع وعند التعمق الزلل
وقال أيضا:
حسان التثني ينقش الوشي مثله
إذا مسن في أجسامهن النواعم
يقول: لنعومة أجسادهن ورقتهن يؤثر الوشي فيها مثله إذا تبخترن.
الباب الثامن
فيما اخترناه من شعر أبي العلاء المعري
قال أبو العلاء:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
يقول تطاول ليلي ففزعت إلى أحاديث النفس ومخادعتها بالأماني، ففني ذلك ولم يفن الليل.
إن تناسيتما وداد أناس
فاجعلاني من بعض من تذكران
رب ليل كأنه الصبح في الحس
ن وإن كان أسود الطيلسان
قد ركضنا فيه إلى اللهو لما
وقف النجم وقفة الحيران
كم أردنا ذاك الزمان بمدح
فشغلنا بذم هذا الزمان
فكأني ما قلت والبدر طفل
وشباب الظلماء في عنفوان
أي: لما ذممت العيش في هذا الزمان وانقضى طيب العيش بانقضاء ذاك الزمان، صرت كأني لم أقل رضاء بذلك الزمان ليلتي هذه عروس من الزنج وحال البدر في تلك الليلة أنه طفل أي هو في أول الشهر هلال بعد لم يبدر، وشباب ظلمة الليل في العنفوان أي في أوله لم يقتحم بعد غمرة الليل.
ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان
هذا البيت مقول كأني ما قلت أي كأني لم أقل في وصف تلك الليلة هي عروس زنجية.
هرب النوم عن جفوني فيها
هرب الأمن عن فؤاد الجبان
أي زال عني النوم في تلك الليلة لما دفعت إليه من السرى فيها.
وكأن الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان
قال صحبي في لجتين من الحن
دس والبيد إذ بدا الفرقدان
يقول: قال أصحابي حين تحيرنا في بحرين ظلمة الليل والبرية.
نحن غرقى فكيف ينقذنا نج
مان في حومة الدجى غرقان
وسهيل كوجنة الحب في اللو
ن وقلب المحب في الخفقان
مستبدا كأنه الفارس المع
لم يبدو معارض الفرسان
يسرع اللمح في احمرار كما تس
رع في اللمح مقلة الغضبان
ثم شاب الدجى وخاف من الهج
ر فغطى المشيب بالزعفران
ونضا فجره على نسره الوا
قع سيفا فهم بالطيران
وبلاد وردتها ذنب السر
حان بين المهاة والسرحان
أي: وردتها وقت الصبح.
وعيون الركاب ترمق عينا
حولها محجر بلا أجفان
ترمق عينا: أي عين ماء.
وعلى الدهر من دماء الشهيدي
ن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن وفي أولياته شفقان
ثبتا في قميصه ليجيء ال
حشر مستعديا إلى الرحمن
وقال أيضا:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي
س بصوت البشير في كل ناد
يقول: إذا نظر المرء إلى حال الدنيا وسرعة زوالها يستوي عنده النعي بالميت أو البشارة بالمولود؛ إذ مصير المولود إلى الفناء.
أبكت تلكم الحمامة أم غن
ت على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرح
ب فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطأ ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسا
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
يقول إن الناس خلقوا للبقاء في الدار الآخرة دار الحياة والبقاء، ومن ظن أنهم خلقوا للفناء والنفاد فقد ضل.
إنما ينقلون من دار أعما
ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
وقال أيضا:
ولقد ذكرتك يا أمامة بعدما
نزل الدليل إلى التراب يسوفه
ساف الدليل التراب إذا شمه ليعلم أعلى قصد هو أم على غير قصد؛ يستدل بروائح أبوال الإبل.
والعيس تعلن بالحنين إليكم
ولغامها كالبرس طار نديفه
فنسيت ما كلفتنيه وطالما
كلفتني ما ضرني تكليفه
وهواك عندي كالغناء لأنه
حسن لدي ثقيله وخفيفه
وقال أيضا:
لا تطويا السر عني يوم نائبة
فإن ذلك ذنب غير مغتفر
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وقال أيضا:
يممته وبودي أنني قلم
أسعى إليه ورأسي تحتي الساعي
على نجاة من الفرصاد أيدها
رب القدوم بأوصال وأضلاع
أراد سفينة متخذة من شجر الفرصاد، ورب القدوم يعني النجار.
وقال أيضا يمدح بعض الشعراء:
ردت لطافته وحدة ذهنه
وحش اللغات أوانسا بخطابه
أراد بوحش اللغات الألفاظ الغريبة البعيدة عن الاستعمال؛ أي أنه للطافة طبعه وحدة ذكائه يرد الألفاظ الوحشية المهملة إنسية مستعملة، يعني لحذقه يستعمل اللغة الغريبة فيقربها من الأفهام بحيث تألفها الطباع.
والنحل يجني المر من نور الربا
فيصير شهدا في طريق رضابه
أي إن غريب اللغات ووحشيها يصير باستعماله مألوفا للطباع آنسا لها كما أن النحل يجني الأزهار المرة من الآكام فيأكلها فتصير حلوة في مجاري ريقه؛ أي إن المر بمصاحبة النحل يصير شهدا فكذا الوحش من اللغة يصير آنسا باستعماله.
ومن منثور أبي العلاء في مدح شاعر قوله: لا أعدم الله الشعراء إرشادك، ولا الملوك إنشادك، فلو كان للقريض ولد لكنته، ولو سكن بيت الشعر أحد لسكنته.
وقال أيضا في وصف الدرع:
رهنت قميصي عنده وهو فضلة
من المزن يعلى ماؤها برماد
أراد بالقميص الدرع.
أتأكل درعي إن حسبت قتيرها
وقد أجدبت قيس عيون جراد
أكنت قطاة مرة فظننتها
جنى الكحص ملقى في سرارة واد
الكحص نبت، وجناه حبه.
فليست بمحض ترتغيه مبادرا
ولا بغدير تبتغيه صوادي
ترتغيه: أي تأخذ رغوته. يقول ليست هذه الدرع لبنا تشربه.
إذا طويت فالقعب يجمع شملها
وإن نثلت سالت مسيل ثماد
الثماد جمع ثمد وهو الماء القليل. يقول إذا طويت الدرع صغر حجمها حتى صار القعب يسعها وإن نشرت ولبست سالت على البدن كالماء.
وما هي إلا روضة سدك بها
ذباب حسام في السوابغ شاد
سدك بالشيء أي لزمه.
وقال أيضا:
دع اليراع لقوم يفخرون به
وبالطوال الردينيات فافتخر
فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت
مجدا أتت بمداد من دم هدر
وكل أبيض هندي به شطب
مثل التكسر في جار بمنحدر
ما كنت أحسب جفنا قبل مسكنه
في الجفن يطوى على نار ولا نهر
ولا ظننت صغار النمل يمكنها
مشي على اللج أو سعي على السعر
وقال أيضا:
أنتم ذوو النسب القصير فطولكم
باد على الكبراء والأشراف
معناه أن الرجل إذا كان شريفا اكتفى باسم أبيه، فإذا ذكر أباه وعرف به قصر نسبه وإذا لم يكن شريفا افتقر إلى أن يذكر آباء كثيرة حتى يصل إلى أب شريف.
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت
بأب عن الأسماء والأوصاف
وقال أيضا:
رأوك بالعين فاستغوتهم ظنن
ولم يروك بفكر صادق الخبر
أي إنما رأوك بالأبصار الظاهرة التي لا تدرك إلا جسام الصور والناس فيها سواسية فاستجهلهم الوهم حتى توهموك كبعض من يرونه، ولم يروك بالبصيرة الباطنة التي تدرك المعاني التي هي أرواح الصور، ولم يجيلوا الفكر فيك فيطلعهم على صادق خبرك.
والنجم تستصغر الأبصار صورته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وقال أيضا:
حسنت نظم كلام توصفين به
ومنزلا بك معمورا من الخفر
الخفر شدة الحياء.
فالحسن يظهر في شيئين رونقه
بيت من الشعر أو بيت من الشعر
وقال أيضا يذكر فرسا:
أخف من الوجيه يدا ورجلا
وأكرم في الجياد أبا وخالا
الوجيه فرس من فحول الخيل.
وكل ذؤابة في رأس خود
تمنى أن تكون له شكالا
وقال أيضا:
علوتم فتواضعتم على ثقة
لما تواضع أقوام على غرر
والكبر والحمد ضدان اتفاقهما
مثل اتفاق فتاء السن والكبر
يجنى تزايد هذا من تناقص ذا
والليل إن طال غال اليوم بالقصر
وقال أيضا يصف خيلا:
نشأن مع النعام بكل دو
فقد ألفت نتائجها الرئالا
الدو الأرض المقفرة، ونتائجها مهارها، والرئال جمع رأل وهو ولد النعام.
ولما لم يسابقهن شيء
من الحيوان سابقن الظلالا
ترى أعطافها ترمي حميما
كأجنحة البزاة رمت نسالا
الحميم العرق، والنسال ما ينتثر من ريش الطائر.
وقال أيضا في البرق:
ألاح، وقد رأى برقا مليحا
سرى فأتى الحمى نضوا طليحا
يقول أشفق صاحبي لما رأى برقا لامعا.
كما أغضى الفتى ليذوق غمضا
فصادف جفنه جفنا قريحا
إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا
حسبت الليل زنجيا جريحا
وقال أيضا:
إليك تناهى كل فخر وسؤدد
فأبل الليالي والأنام وجدد
لجدك كان المجد ثم حويته
ولابنك يبنى منه أشرف مقعد
ثلاثة أيام هي الدهر كله
وما هن غير الأمس واليوم والغد
وما البدر إلا واحد غير أنه
يغيب ويأتي بالضياء المجدد
فلا تحسب الأقمار خلقا كثيرة
فجملتها من نير متردد
وللحسن الحسنى وإن جاد غيره
فذلك جود ليس بالمتعمد
له الجوهر الساري يؤمم شخصه
يجوب إليه محتدا بعد محتد
أي جوهره يؤمم: أي يقصد ويجوب إليه أصلا بعد أصل حتى يكون هو من ذلك الجوهر.
ولو كتموا أنسابهم لعزتهم
وجوه وفعل شاهد كل مشهد
وقد يجتدى فضل الغمام وإنما
من البحر فيما يزعم الناس يجتدى
المعنى أن ما يشاهد في هؤلاء من الكرم إنما استفادوه من شرف محتد آبائهم وراثة فالفرع يتبع الأصل.
ويهدي الدليل القوم والليل مظلم
ولكنه بالنجم يهدي ويهتدي
فيا أحلم السادات من غير ذلة
ويا أجود الأجواد من غير موعد
وطئت صروف الدهر وطأة ثائر
فأتلفت منها نفس ما لم تصفد
يريد: أذللت صروف الدهر منها ما صفدته أي أثقلته بالقيود وما لم تقيده أهلكته.
ودانت لك الأيام بالرغم وانضوت
إليك الليالي فارم من شئت تقصد
بسبع إماء من زغاوة زوجت
من الروم في نعماك سبعة أعبد
أي: ارم من شئت بسبع إماء من زغاوة وهي قبيلة من السودان. يريد: سبع ليال أنكحت من سبعة أعبد من الروم، يريد سبعة أيام، أي أن الأيام والليالي عبيدك وإماؤك، والدهر كله مبني من سبعة أيام وسبع ليال.
ولولاك لم تسلم أفامية الردى
وقد أبصرت من مثلها مصرع الردى
أفامية حصن سلم بالممدوح من الهلاك ولولاه لالتحقت بمثلها.
فأنقذت منها معقلا هضباته
تلفع من نسج السحاب وترتدي
أي: خلصت من أفامية معقلا كأن هضباته تتخذ السحاب رداء، وقال بعضهم:
سقى الله من أعلام بغداد قلعة
يحوم بها نسر السماء على وكر
نسر السماء هو السماك.
وحيدا بثغر المسلمين كأنه
بفيه مبقى من نواجذ أدرد
أي: بقي هذا الحصن وحيدا بالثغر وهو الدرب الذي بين دار الإسلام والكفر، كان هذا الحصن الفرد بفيه أي بفي الثغر ناجذ واحد بقي في فم أدرد.
بأخضر مثل البحر ليس اخضراره
من الماء لكن من حديد مسرد
أي: بجيش أخضر، يريد من كثرة السلاح يرى كأنه أخضر.
كأن الأنوق الخرس فوق غباره
طوالع شيب في مفارق أسود
الأنوق الرخم وهي توصف بقلة الصوت. شبه الرخم البيض الطائرة فوق الغبار الأسود بالشعرات البيض في مفارق رجل أسود قد شاب مفرق رأسه.
وليس قضيب الهند إلا كنابت
من القضب في كف الهدان المعرد
الهدان الجبان، والقضب هو القت نبت معلوم.
متى أنا في ركب يأمون منزلا
توحد من شخص الرشيف بأوحد
توحد: أي تميز عن سائر المنازل وصار أوحدها لما كان صاحبه أوحد الناس.
على شدقميات كأن حداتها
إذا عرس الركبان شراب مرقد
المرقد دواء يشرب ليرقد صاحبه.
تلاحظ أعلام الفلا بنواظر
كحلن من الليل التمام بإثمد
يخلن سماما في السماء إذا بدت
لهن على أين سماوة مورد
السمام ضرب من الطير.
تظن به ذوب اللجين فإن بدت
له الشمس أجرت فوقه ذوب عسجد
أي: تظن أنت.
تبيت النجوم الزهر في حجراته
شوارع مثل اللؤلؤ المتبدد
فأطمعن في أشباحهن سواقطا
على الماء حتى كدن يلقطن باليد
أي: ظهرت النجوم في الماء حتى أطمعت من رآها، وقال العجاج:
باتت تظن الكوكب السيارا
لؤلؤة في الماء أو مسمارا
فمدت إلى مثل السماء رقابها
وعبت قليلا بين نسر وفرقد
أي: وردت الإبل الماء ومدت أعناقها للشرب إلى مورد مثل السماء لما يرى فيه من النجوم فشربت ماء قليلا بين هذين الكوكبين.
وذكرن من نيل الشريف مواردا
فما نلن منه غير شرب مصرد
المصرد المقلل. يقول لما وردت الإبل الماء ناهلة ذكرت أنها قاصدة هذا الممدوح وهي ترد منهلا من نيله، فقللت شرب الماء لتصيب ريا من موارد نيله وعطائه.
ولاحت لها نار يشب وقودها
لأضيافه في كل غور وفدفد
بخرق يطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زي الراهب المتعبد
الخرق الفلاة، والجنح الليل، ويطيل سجوده، أي يطول لبثه.
فمرت إذا غنى الرديف، وقد ونت
بذكراه زفت كالنعام المطرد
زفت النعامة إذا مشت مشيا سريعا.
يحاذرون وطء البيد حتى كأنما
يطأن برأس الحزن هامة أصيد
وينفرن في الظلماء عن كل جدول
نفار جبان عن حسام مجرد
تطاول عهد الواردين بمائه
وعطل حتى صار كالصارم الصدي
أي أن هذا الجدول لم يرده الواردون وعلا ماءه الطحلب.
إلى بردى حتى تظل كأنها
وقد كرعت فيه لواثم مبرد
يقول ينفرن في الظلماء عن كل جدول رغبة عنه سائرة إلى بردى لتشرب منها، وبردى نهر معروف.
وقال أيضا:
شكوت من الأيام تبديل غادر
بواف ونقلا من سرور إلى هم
وحالا كريش النسر بينا رأيته
جناحا لشهم آض ريشا على سهم
وقال أيضا:
حتى بدا الفجر به حمرة
كصارم غير منه الدم
وقال بعضهم في صفة الفجر:
كأن سواد الليل والصبح طالع
بقايا مجال الكحل في الأعين الزرق
وقال آخر:
وأذاع بالظلماء فتق واضح
كالطعنة النجلاء يتبعها الدم
وقال آخر:
وقد لاح فجر يغمر الجو نوره
كما انفجرت بالماء عين على الأرض
وقال آخر:
والفجر فيه كأنه مطر الندى
ينهل من سح الغمام المغدق
وقال آخر:
وابتل سربال النسيم وبرد
والفجر في ليل الظلام يتقد
وقال أيضا:
تبوح بفضلك الدنيا لتحظى
بذاك وأنت تكره أن تبوحا
وما للمسك في أن فاح حظ
ولكن حظنا في أن يفوحا
وقال أيضا:
كم صائن عن قبلة خده
سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده
وكان يشكو الضعف من عقده
وقال أيضا:
يا من له قلم حكى في فعله
أيم الغضى لولا سواد لعابه
عرفت جدودك إذ نطقت وطالما
لغط القطا فأبا ن عن أنسابه
وذلك أنه إنما سمي القطا قطا لحكاية صوته قطاقطا، ولهذا قيل في المثل: أصدق من القطا لدلالة صوته عليه.
وقال أيضا:
غمر النوال ولن تبقى على أحد
حتى توقى بجود ضد محتبس
لن تبقى: أي الدنيا.
والنفس تحيا بإعطاء الهواء لها
منه بمقدار ما أعطته من نفس
لما ذكر في البيت الذي تقدمه أن بقاء الدنيا بالجود بها ضرب لها مثلا بالنفس وحياتها، وهو أن النفس إنما تحيى باستنشاق الهواء والاستمداد منه، ولكن إنما تستمد من الهواء بقدر ما تعطيه من نفسها.
وقال أيضا يصف درعا:
هينمة الخرصان في عطفها
هينمة الأعجم للأعجم
مستخبرات ما حوى صدرها
فأعرضت عنها ولم تفهم
أي: إنما تهينم الخرصان لتعلم خبر ما حوى صدر الدرع أي لتصل إلى لابسها فترجع خائبات أي لا تسلكها الرماح.
تزاحم الزرق على وردها
تزاحم الورد على زمزم
وقال أيضا يصف درعا:
كأنها والنصال تأخذها
أضاة حزن تجاد بالديم
أو منهل طافت الحمام به
فالريش طاف عليه لم يصم
وقال أيضا:
لو عرف الإنسان مقداره
لم يفخر المولى على عبده
لولا سجاياه وأخلاقه
لكان كالمعدوم في وجده
تشتاق أيار نفوس الورى
وإنما الشوق إلى ورده
يريد: كما أن النفوس إنما تشتاق إلى الربيع لما فيه من الزهور لا لعين الزمان بل لطيبه فكذلك الإنسان إنما يشرف ويعتد به لأوصافه الجميلة لا لذاته وصورته.
وقال أيضا يصف درعا :
بيضاء خضراء مثل الماء طحلبه
مر الزمان وما في اللون من صدإ
كأنما النبل في الهيجاء رجل دبا
طارت إليك، وقد ظنتك من كلإ
وقال أيضا:
وأرض بت أقري الوحش زادي
بها ليثوب لي منهن زاد
فأطعمها لأجعلها طعامي
ورب قطيعة جلب الوداد
وقال أيضا يصف درعا:
وهي بيضاء مثل ما أودع الصيف
حمى الوهد نطفة الشؤبوب
فإذا ما نبذتها في مكان
مستو هم سردها بالدبيب
كهلال الحياة أو كقميص
لهلال الحيات غير مجوب
الهلال الماء، والهلال الثاني ذكر الحيات.
وإذا صادفت حدورا جرت في
ه إراق الشريب ماء الذنوب
كف ضرب الكماة في كل هيج
فضلات من ذيلها المسحوب
نثرة من ضمانها للقنا الخطي
عند اللقاء نثر الكعوب
النثرة الدرع.
مثل وشي الوليد لانت وإن كا
نت من الصنع مثل وشي حبيب
الوليد هو البحتري.
تلك ماذية وما لذباب الصيف
والسيف عندها من نصيب
الماذية الدرع البيضاء، والماذي العسل، وذباب السيف حده، وذباب الصيف واحد الذبان.
وقال أيضا:
فيا قلب لا تلحق بثكل محمد
سواه ليبقى ثكله بين الوسم
فإني رأيت الحزن للحزن ماحيا
كما خط في القرطاس رسم على رسم
ومن منثور أبي العلاء قوله: وحزني لفقده كنعيم أهل الجنة كلما نفد جدد.
وقال أيضا:
فما كبروا حتى يكونوا فريسة
ولا بلغوا أن يقصدوا فينالوا
فإن أبا الأشبال يخشاه مثله
ويأمن منه آرض ونمال
الآرض ضرب من الدود. يقول لم يبلغ الروم قدرا يصلحون أن يكونوا لك صيدا، بل هم أقل وأحقر، وصغر شأنهم آمنهم منك، ثم ضرب مثلا وهو أن الأسد إنما يخشاه مثله لأنه عرضة لقصده، أما الآرض والنمال فلا تخشى الأسد لخستها وأنها لا تصلح فرائس للآساد.
وقال أيضا:
نكست قرطيك تعذيبا وما سحرا
أخلت قرطيك هاروتا وماروتا
لو قلت ما قاله فرعون مفتريا
لخفت أن تنصبي في الأرض طاغوتا
وقال أيضا:
وكلامك المرآة تصدق في الذي
تحكي وأنت الصارم المصقول
وقال أيضا يصف درعا:
أضاة لا يزال الزغف منها
كفيلا بالإضاءة في الدياجي
غدير نقت الخرصان فيه
نقيق علاجم والليل داج
العلاجم الضفادع.
وقال أيضا يصف درعا:
هازئة بالبيض أرجاؤها
ساخرة الأثناء بالأسهم
لو أمسكت ما زل عن سردها
لأبصر الدارع كالشيهم
الشيهم ذكر القنافذ.
وقال أيضا ينعت درعا:
ودلاص كأنها
بعض ماء الثماد
الدلاص الدرع البراقة.
حلة الأيم خيطت
بعيون الجراد
حلة الأيم: يريد سلخ الحية.
خلتها والنبال تهو
ي كرجل الجراد
شيهما أو هي
القتادة لا كالقتاد
الشيهم ذكر القنافذ.
تلك في الطي قدر
مشرب ظمآن صاد
وقد شبه بعضهم وجه الفارس باديا من الدرع بالقمر طالعا من الماء.
وقال أيضا على لسان درع:
تضيفني الذوابل مكرهات
فترحل ما أذيقت من لماج
تقول الدرع تصيبني الرماح فلا تؤثر في.
تفيء غروبهن الزرق عني
بلا كرب يعد ولا عناج
يقول ترجع أسنة الرماح الزرق مكسرات.
فلو كان المثقف جملة اسم
أبى الترخيم صار حروف هاج
أي: لو كان الرمح اسما لا يحتمل الترخيم - يريد صلبا مندمجا - ثم قارع هذه الدرع لصار حروفا متفرقة يتهجاها الإنسان واحدا واحدا؛ أي انكسر الرمح وصار قطعا متفرقة.
كبيت الشعر قطعه لوزن
هجين الطبع فهو بلا انتساج
شبه الرمح بعد تقطعه بمقارعة الدرع ببيت من الشعر قطع بميزان العروض ليعرف وزنه رجل هجين الطبع أي بليده.
المختار من لزوميات أبي العلاء المعري
قال:
بعدي من الناس برء من سقامهم
وقربهم للحجى والدين أدواء
كالبيت أفرد لا إيطاء يدركه
ولا سناد ولا في اللفظ إقواء
وقال أيضا:
أقضية لا تزال واردة
تحار من كونها الألباء
جد مقيم وخاب ذو سفر
كأنه في الهجير حرباء
وقال أيضا:
تواصل حبل النسل ما بين آدم
وبيني ولم يوصل بلامي باء
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
بعدوى فما أعدتني الثوباء
على الولد يجني والد ولو انهم
ولاة على أمصارهم خطباء
وزادك بعدا من بنيك وزادهم
عليك حقودا أنهم نجباء
يرون أبا ألقاهم في مؤرب
من العقد ضلت حله الأرباء
وقال أيضا:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
يقول لكم غدوت بلا كساء
وفي لذاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى
فمن جهتين لا جهة أساء
وقال أيضا:
إنما هذه المذاهب أسباب
لجذب الدنيا إلى الرؤساء
فانفرد ما استطعت فالقائل الصا
دق يضحي ثقلا على الجلساء
وقال أيضا:
لعل أناسا في المحاريب خوفوا
بآي كناس في المشارب أطربوا
إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها
فتاركها عمدا إلى الله أقرب
فلا يمس فخارا من الفخر عائد
إلى عنصر الفخار للنفع يضرب
قوله: إلى عنصر الفخار، الفخار هو الخزف أو الطين المطبوخ.
لعل إناء منه يصنع مرة
فيأكل فيه من أراد ويشرب
ويحمل من أرض لأخرى وما درى
فواها له بعد البلى يتغرب
وقال آخر:
يحسن مرأى لبني آدم
وكلهم في الذوق لا يعذب
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب
وقال أيضا:
دنياك دار إن يكن شهادها
عقلاء لا يبكوا على غيابها
ومن العجائب أن كلا راغب
في أم دفر وهو من عيابها
وقال أيضا:
للمليك المذكرات عبيد
وكذاك المؤنثات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر
قد والصبح والثرى والماء
والثريا والشمس والنار والنث
رة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عابك
في قول ذلك الحكماء
خلني يا أخي أستغفر الله
فلم يبق في إلا الذماء
ويقال الكرام قولا وما في
العصر إلا الشخوص والأسماء
هذه الشهب خلتها شبك الد
هر لها فوق أهلها إلماء
إن دنياك من نهار وليل
وهي في ذاك حية عرماء
وقال أيضا:
سيان من لم يضق ذرعا بعيد ردى
وذارع في مغاني فتية سحبا
الذارع زق الخمر. يقول إن المرء بعد الموت يكون هو والزق سيان.
فافرق من الضحك واحذر أن تحالفه
أما ترى الغيم لما استضحك انتحبا
وقال أيضا:
فاهجر صديقك إن خفت الفساد به
إن الهجاء لمبدوء بتشبيب
والكف تقطع إن خيف الهلاك بها
على الذراع بتقدير وتسبيب
وقال أيضا:
تقادم عمر الدهر حتى كأنما
نجوم الليالي شيب هذي الغياهب
وإن قطوف الساع فيما علمته
أحث مرورا من وساع السلاهب
وقال أيضا:
لا تلبس الدنيا فإن لباسها
سقم وعر الجسم من أثوابها
ولتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابها
وقال أيضا:
خف دنيا كما تخاف شريفا
صال ليث الشرى بظفر وناب
والصلال التي يخاف رداها
شرها في الرءوس والأذناب
وقال أيضا:
أيا جسد المرء ماذا دهاك
وقد كنت من عنصر طيب
تصير طهورا إذا ما رجعت
إلى الأصل كالمطر الصيب
قال بعض الحكماء: كانت الروح في المحل الأرفع طاهرة خالصة حتى تلبس بها هذا الجسم فتلطخت بحمأته، ثم جاء الموت فاستلها منه وردها إلى أصلها بيضاء نقية، فمثلها مثل نقطة صافية من الغيث في مزنها نزلت في صبيب المطر فاختلطت بطين الأرض وتلوثت به، وبينا هي كذلك إذ طلعت الشمس وقرعها شعاعها فاجتذبها مما هي فيه وردها إلى ما كانت عليه خالصة صافية.
وما لك مال وإن حزته
فأعط عفاتك أو خيب
وقال أيضا:
دهري قتاد وحالي ضالة ضؤلت
عما أريد ولوني لون لبلاب
وإن وصلت فشكري شكر بروقة
ترضى ببرق من الأمطار خلاب
البروقة شجيرة إذا غامت السماء اخضرت بدون مطر، ومنه المثل: أشكر من بروقة.
وقال أيضا:
وما العلماء والجهال إلا
قريب حين تنظر من قريب
متى ما يأتني أجلي بأرض
فناد على الجنازة للغريب
وقال أيضا:
وجانب الناس تأمن سوء فعلهم
وأن تكون لدى الجلاس ممقوتا
لا بد من أن يذموا كل من صحبوا
ولو أراهم حصى المعزاء ياقوتا
وقال أيضا:
أغنى الأيام تقي في ذرى جبل
يرضى القليل ويأبى الوشي والتاجا
وأفقر الناس في دنياهم ملك
يضحي إلى اللجب الجرار محتاجا
وقال أيضا:
أتعوج أم ليس المشوق بعائج
هاجت وساوسه لبرق هائج
سبحان من برأ النجوم كأنها
در طفا من فوق بحر مائج
وقال أيضا:
البابلية باب كل بلية
فتوقين هجوم ذاك الباب
جرت ملاحاة الصديق وهجره
وأذى النديم وفرقة الأحباب
أم الحباب وإن أميت لهيبها
بمزاجها وافت كأم حباب
وقال أيضا:
أصاح هي الدنيا تشابه ميتة
ونحن حواليها الكلاب النوابح
فمن ظل منها آكلا فهو خاسر
ومن راح عنها ساغبا فهو رابح
وقال أيضا:
عجبي للطبيب يلحد في الخالق
من بعد درسه التشريحا
رب روح كطائر القفص المس
جون ترجو بموتها التسريحا
وقال أيضا:
دعوا وما فيهم ذاك ولا أحد
يخشى الإله فكانوا أكلبا نبحا
وليس عندهم دين ولا نسك
فلا تغرك أيد تحمل السبحا
وقال أيضا:
هي الراح أهلا لطول الهجاء
وإن خصها معشر بالمدح
قبيح بمن عد بعض البحار
تغريقه نفسه في قدح
عد: أي أجاز.
وقال أيضا:
لا يفقدن خيركم مجالسكم
ولا تكونوا كأنكم سبخ
ولا كقوم حديث يومهم
ما أكلوا أمسهم وما طبخوا
وقال أيضا:
إن كان قلبك فيه خوف بارئه
فلا تجاوز حذار الله بالحسد
هما نقيضان لا يستجمعان به
والظبي غير مقيم في ذرى الأسد
والروح في حب دنياها معذبة
حتى يقال لها بيني عن الجسد
ما لا تطيق هلاك حين تحمله
والدر يهلك دون النظم في المسد
وقال أيضا:
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة
أي المعاني بأهل الأرض مقصود
لم تعطنا العلم أخبار يجيء بها
نقل ولا كوكب في الأرض مرصود
وابيض ما اخضر من نبت الزمان بنا
وكل زرع إذا ما هاج محصود
وقال أيضا:
وأنا نبات والزمان حصادنا
أليس يوافي كل شهر بمنجل
وقال أيضا:
لا شام للسلطان إلا أن يرى
نعم البداوة كالنعام الطارد
ويكون للبادين عذب مياهه
مثل المدامة لا تحل لوارد
وتظل أبيات لهم شعرية
كبيوت شعر في البلاد شوارد
ويقوم ملك في الأنام كأنه
ملك يبرح بالخبيث المارد
صنع اليدين بقتل كل مخالف
بالسيف يضرب بالحديد البارد
وقال أيضا:
قلدتني الفتيا فتوجني غدا
تاجا بإعفائي من التقليد
ومن الرزية أن يكون فؤادك ال
وقاد في جسد عليه بليد
وحوادث الأيام تولد جلة
وتعود تصغر ضد كل وليد
وقال أيضا:
من يوق لا يكلم وإن عمدت
له نبل تغادر شخصه كالقنفذ
بلغته مرهفة النصال وأثبتت
فيما عليه وكلها لم ينفذ
وقال أيضا:
متى ما فعلت الخير ثم كفرته
فلا تأسفن إن المهيمن آجر
فنزه جميلا جئته عن جزاية
تؤمل أو ربح كأنك تاجر
وقال أيضا:
حاجي نظيم جمان والحياة معي
سلك قصير فيأبى جمعها القصر
أما المراد فجم لا يحيط به
شرح، ولكن عمر المرء مختصر
والدهر يخطب أهل اللب مذ عقلوا
ما خاف عيا ولا أذرى به الحصر
والغي في كل شيء ليس يعدمه
باغيه حتى من الأعتاب يعتصر
وقال أيضا:
من يخضب الشعرات يحسب ظالما
ويعد أخرق كالظليم الخاضب
الظليم ذكر النعام، والخاضب هو الظليم إذا اغتلم واحمرت ساقاه وأكل الربيع فاحمر ظنبوباه.
والشيب في لون الحسام فلا تدع
جسد النجيع على الحسام القاضب
الجسد الدم.
عمري غدير كل أنفاسي به
جرع تغادره كأمس الناضب
وقال أيضا:
قد صحبنا الزمان بالرغم منا
وهو يردي كما علمت الصحابا
والجسوم التراب تحيى بسقيا
فلهذا قلنا سقيت السحابا
وقال أيضا:
حديث فواجر وشراب خمر
وقتلى يطرحون لأم عمرو
ومهلك دولة وقيام أخرى
كذاك الدهر أمر بعد أمر
وقال أيضا:
ما أجهل الأمم الذين عرفتهم
ولعل سالفهم أضل وأتبر
يدعون في جمعاتهم بسفاهة
لأميرهم فيكاد يبكي المنبر
ما قيل في عظم المليك وعزه
فالله أعظم في القياس وأكبر
وكأنما دنياك رؤيا نائم
بالعكس في عقبى الزمان تعبر
فإذا بكيت بها فتلك مسرة
وإذا ضحكت فذاك عين تعبر
سر الفتى من جهله بزمانه
وهو الأسير ليوم قتل يصبر
لعبت به أيامه فكأنه
حرف يلين في الكلام وينبر
النبر الهمز.
شرف اللئيم وكم شريف رأسه
هدر يقط كما يقط المزبر
المزبر القلم.
والشر يجلبه العلاء وكم شكا
نبأ علي ما شكاه قنبر
وقال أيضا:
لا تدنون من النساء
فإن غب الأري مر
والباء مثل الباء تخف
ض للدناءة أو تجر
وقال أيضا:
كأن وليدا مات قبل سقوطه
على الأرض ناج من حبالته ظفرا
تمنيت أني بين روض ومنهل
مع الوحش لا مصرا أحل ولا كفرا
وقال أيضا:
يا ساكني الأرض كم ركب سألتهم
بما فعلتم فلم أعرف لكم خبرا
زالت خطوب فلم تذكر شدائدها
والعود ينسى إذا ما أعفي الدبرا
وقال أيضا:
والسعد يدرك أقواما فيرفعهم
وقد ينال إلى أن تعبد الحجرا
وشرفت ذات أنواط قبائلها
ولم تباين على علاتها الشجرا
وقال أيضا:
وكم ساع ليخبر في بناء
فلم يرزق بما يبنيه حبرا
كأم القز يخرج من حشاها
ذرى بيت لها فيعود قبرا
وقال أيضا:
لقد عجبوا لأهل البيت لما
أتاهم علمهم في مسك جفر
ومرآة المنجم وهي صغرى
أرته كل عامرة وقفر
وقال أيضا:
ويدلني أن المماة فضيلة
كون الطريق إليه غير ميسر
لولا نفاسته لسهل نهجه
كأذى الضعيف على لئيم المكسر
يقال لئيم المكسر لمن يوجد لئيما عند الخبرة.
وقال أيضا:
قدم الفتى ومضى بغير تئية
كهلال أول ليلة من شهره
لقد استراح من الحياة معجل
لو عاش كابد شدة في دهره
وقال أيضا:
ما بال هذا الليل طال، وقد يرى
متقاصرا عن جلسة السمار
أتروم فجرا كالحسام ودونه
نجم أقام تمكن المسمار
وقال أيضا:
حادث كتابك فهو آمن جانبا
من أهل تسبيد وأهل وفار
وفوائد الأسفار جمع السفر في الد
نيا تفوق فوائد الأسفار
وقال أيضا:
الدهر يصمت وهو أبلغ ناطق
من موجز ندس ومن ثرثار
يمشي على قدمين من ظلمائه
ونهاره ما همتا بعثار
وقال أيضا:
أحسن جوارا للفتاة وعدها
أخت السماك على دنو الدار
كتجاور العينين لن تتلاقيا
وحجاز بينهما قصير جدار
وقال بعضهم:
أجاور من أهوى ولا وصل بيننا
كأني ومن أهواه ثغر مفلج
وقال أيضا:
كنت طفلا في المهد والآن لا
أهوى رجوعا إليه فاعجب لأمري
ولعلي كذاك في داري الأخرى
إذا ما ادكرت ريق عمري
وقال أيضا:
أوجز الدهر في المقال إلى أن
جعل الصمت غاية الإيجاز
منطقا ليس بالنثير ولا الشعر
ولا في طرائق الرجاز
وعدتنا الأيام كل عجيب
وتلون الوعود بالإنجاز
هي مثل الغواني إن تحسن الأ
وجه منها فالثقل في الأعجاز
من يرد صفو عيشة يبغ م
ن دنياه أمرا مبين الإعجاز
فافعل الخير إن جزاك الفتى
عنه وإلا فالله بالخير جازي
لا تقيد علي لفظي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
وقال أيضا:
الوغد يجعل ما أنيل غنيمة
ويغير في الأطماع كل مغار
والحر يجزي بالصنيعة مسديا
فكأن فعلهما نكاح شغار
وقال أيضا:
تحفظ بدينك يا ناسكا
يرى أنه رابح ما خسر
فلست كغيرك أطلقت في
حياتك بل أنت عان أسر
وللسبك رد كسير الزجاج
ولا يسبك الدر إن ينكسر
ولا تيأسن من الملك أن
يعود إذا جيش قوم كسر
فقد يرجع القمر المستنير
مقتبلا بعد أن يستسر
هو الدهر يفنى ونفسي على
وناها وكون مناها عسر
وكم فيك يا بحر من لؤلؤ
ولكن لجك لا ينحسر
فأكره على الخير مجبولة
على غيره في علان وسر
فلم يجعل التبر حلي الفتاة
حتى أهين وحتى كسر
وقال أيضا:
والصبح قد غسل الدجى بمعينه
إلا بقية إثمد الأشفار
وقال أيضا:
الدين إنصافك الأقوام كلهم
وأي دين لآبي الحق إن وجبا
والمرء يعييه قود النفس مصحبة
للخير وهو يقود العسكر اللجبا
وقال أيضا:
على الموت يجتاز المعاشر كلهم
مقيم بأهليه ومن يتغرب
وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي
فتأكل من هذا الأنام وتشرب
وقال أيضا:
وما دفعت حكماء الرجال
حتفا بحكمة بقراطها
ولكن يجيء قضاء يريك
أخا غيها مثل سقراطها
وقال أيضا:
من الناس من لفظه لؤلؤ
يبادره اللقط إذ يلفظ
وبعضهم قوله كالحصا
يقال فيلغى ولا يحفظ
وقال أيضا:
كأن إبارا في المفارق خيطت
برود المنايا والليالي سلوكها
وقال بعضهم:
لما رأيت البياض حين بدا
في أسود الشعر صحت وا حزني
هذا وحق الإله أحسبه
أول خيط سدي من الكفن
فلا ترغبوا في الملك تعصون بالظبا
عليه فمن أشقى الرجال ملوكها
وقال أيضا:
والمرء مثل الحرف بين سهاده
وكراه يسكن تارة ويحرك
قد يدرك الساعي لباريه رضا
ورضى البرية غاية لا تدرك
وقال أيضا:
إذا قال فيك الناس ما لا تحبه
فصبرا يفيء ود العدو إليكا
وقد نطقوا مينا على الله وافتروا
فما لهم لا يفترون عليكا
وقال أيضا:
وجدتكم لم تعرفوا سبل الهدى
فلا توضحوا للقوم سبل المهالك
أخير على مجرى قديم كلهذم
يفرج للخطي ضيق المسالك
إذا كان هذا الترب يجمع بيننا
فأهل الرزايا مثل أهل الممالك
وقال أيضا:
وبين بني حواء والخلق كله
شرور فما هذي العداوة والذحل
تق الله حتى في جنى النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل
وقال أيضا:
جهلت أقاضي الري أكثر مأثما
بما نصه أم شاعر يتغزل
وكم من فقيه خابط في ضلالة
وحجته فيها الكتاب المنزل
وقارئكم يرجو بتطريبه الغنى
فآض كما غنى ليكسب زلزل
فما لعذاب فوقكم لا يعمكم
وما بال أرض تحتكم لا تزلزل
وقال أيضا:
وقت يمر وأقدار مسببة
منها الصغير ومنها الفادح الجلل
والله يقدر أن يفني بريته
من غير سقم ولكن جنده العلل
وقال أيضا:
يتحارب الطبع الذي مزجت به
مهج الأنام وعقلهم فيفله
ويظل ينظر ما سناه بنافع
كالشمس يسترها الغمام وظله
وقال أيضا:
ما لي غدوت كقاف رؤبة قيدت
في الدهر لم يقدر لها إجراؤها
يشير إلى أرجوزة رؤبة التي أولها: وقاتم الأعماق خاوي المخترق.
أعللت علة قال وهي قديمة
أعيى الأطبة كلهم إبراؤها
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
فرقا شعرت بأنها لا تقتني
خيرا، وأن شرارها شعراؤها
وإذا النفوس تجاوزت أقدارها
حذو البعوض تغيرت سجراؤها
كصحيحة الأوزان زادتها القوى
حرفا فبان لسامع نكراؤها
سبحان خالقك الذي قرت به
غبراء توقد فوقها خضراؤها
هل تعرف الحسد الجياد كغيرها
فالبهم تحسد بينها غراؤها
ووجدت دنيانا تشابه طامثا
لا تستقيم لناكح أقراؤها
هويت ولم تسعف وراح غنيها
تعبا، وفاز براحة فقراؤها
وتجادلت فقهاؤها من حبها
وتقرأت لتنالها قراؤها
وإذا زجرت النفس عن شغف بها
فكأن زجر غويها إغراؤها
وقال أيضا:
لو تعلم النحل بمشتارها
لم ترها في جبل تعسل
والخير محبوب ولكنه
يعجز عنه الحي أو يكسل
والأرض للطوفان مشتاقة
لعلها من درن تغسل
وقال أيضا:
والأرض غذتنا بألطافها
ثم تغذتنا فهل أنصفت؟
تأكل من دب على ظهرها
وهي على رغبتها ما اكتفت
هذا كما قيل: إنى آكل التفاحة لأنها ستأكلني.
وقال أيضا:
خير لعمري وأهدى من إمامهم
عكاز أعمى هدته إذ غدا السبلا
من اهتدى بسوى المعقول أورده
من بات يهديه ماء طالما تبلا
وقال أيضا:
ورب شهادة وردت بزور
أقام لنصها القاضي عدوله
ومن شر البرية رب ملك
يريد رعية أن يسجدوا له
وقال أيضا:
إذا طرق المسكين دارك فاحبه
قليلا ولو مقدار حبة خردل
ولا تحتقر شيئا تساعفه به
فكم من حصاة آيدت ظهر مجدل
وقال أيضا:
أعجبت للطفل الوليد بمهده
لم يخط كيف سرى بغير رواحل
قد عاش يوميه وعمر ثالثا
ثم استراح من المدى المتماحل
كم سار من سنة أبوه فيا له
قطع المسافة في ثلاث مراحل
وقال أيضا:
غلت الشرور ولو عقلنا صيرت
دية القتيل كرامة للقاتل
وقال أيضا:
لا تطلبن بغير حظ رتبة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
وقال أيضا:
أتى ولد بسجل العناء
فيا ليت وارده ما وصل
يريد بسجل العناء الدنيا.
وإن أنظرته خطوب الزما
ن عض بناب شديد العصل
وريع من الغير الطارقا
ت بالرمح صر وبالسيف صل
وقال له صل داعي الهدى
وقال له ملحد لا تصل
وشب وشاب وأفنى الشباب
وسقيا له من خضاب نصل
ومن بعد ذاك يجيء الحمام
فانظر على أي شيء حصل
فيا راحة النفس عند الممات
إن كان هذا الحساب انفصل
وقال أيضا:
لقد صدأت أفهام قوم فهل لها
صقال ويحتاج الحسام إلى الصقل
وكم غرت الدنيا بنيها وساءني
مع الناس مين في الأحاديث والنقل
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا
وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي
ومن كان في الأشياء يحكم بالحجا
تساوى لديه من يحب ومن يقلي
وقال أيضا:
يخونك من أدى إليك أمانة
فلم ترعه يوما بقول ولا فعل
فأحسن إلى من شئت في الأرض أو أسئ
فإنك تجزى حذوك النعل بالنعل
وقال أيضا:
ماذا يريبك من غراب طار عن
وكر يكون به لباز مسقط
وا فضحتا لك في شمالك غاديا
عود المراة وفي يمينك ملقط
أوما قرأت سجل دهرك ناطقا
بالهلك يشكل بالخطوب وينقط
عود المراة: يريد المرآة التي ينظر فيها صورته وما بدا عليه من الشيب. وعلى ذكر المرآة أذكر عبارة لطيفة وجدتها في أوراق أعجمية؛ وهي أن بعض الشعراء كان يهوى غانية حسناء ولا يعلمها بذلك وإنما يذكر لها أنه يهوى حسناء صفتها كذا وكذا وينعتها بكل نعت جميل ووصف نبيل، فسألته ذات يوم أن يريها محبوبته تلك التي يصف، فأبى عليها ذلك، فقالت: فأرني صورتها إذن، فقال: أما صورتها فأرسلها لك غدا، ثم أرسل لها في غده «مرآة».
وقال أيضا:
بقيت وإن كان البقاء محببا
إلى أن وددت العيش لا يتزيد
وما العمر إلا كالبناء فإن يزد
على حده يهو الرفيع المشيد
وقال أيضا:
المال يسكت عن حق وينطق في
بطل وتجمع إكراما له الشيع
وجزية القوم صدت عنهم فغدت
مساجد القوم مقرونا بها البيع
وقال أيضا:
وخف بالجهل أقوام فبلغهم
منازلا بسناء العز تلتفع
أما رأيت جبال الأرض لازمة
قرارها وغبار الأرض يرتفع؟
وقال أيضا:
الدهر كالشاعر المقوي ونحن به
مثل الفواصل مخفوض ومرفوع
ما سر يوما بشيء من محاسنه
إلا وذاك بسوء الفعل مشفوع
وقال أيضا:
فإن أكدى المنيل فلا تلمه
فقد تخلو من الرسل الضروع
وذكر بالتقى نفرا غفولا
فلولا السقي ما نمت الزروع
وقال أيضا:
إن شقا يلوح في باطن البرة
قسم بيني وبين الضعيف
وقال أيضا:
صحبنا دهرنا دهرا وقدما
رأى الفضلاء أن لا يصحبوه
وغيظ به بنوه وغيظ منهم
فعذب ساكنيه وعذبوه
فإن يأكلهم أسفا وحقدا
فقد أكل الغزال مرببوه
رجوا أن لا يخيب لهم دعاء
وكم سأل الفقير فخيبوه
ألظوا بالقبيح فتابعوه
ولو أمروا به لتجنبوه
وقال أيضا:
إن صح عقلك فالتفرد نعمة
ونوى الأوانس غاية الإيناس
أبلست من وسواس حلي خلته
إبليس وسوس في صدور الناس
وقال أيضا:
يا رب أخرجني إلى دار الرضا
عجلا فهذا عالم منكوس
ظلوا كدائرة تحول بعضها
من بعضها فجميعها معكوس
وأرى ملوكا لا تحوط رعية
فعلام تؤخذ جزية ومكوس
وقال أيضا:
يسوسون الأمور بغير عقل
وينفذ أمرهم فيقال ساسه
فأف للأنام وأف مني
ومن زمن رياسته خساسه
وقال أيضا:
لا يستوي ابناك في خلق وفي خلق
إن الحديدة أم السيف والجلم
من أحسن ما قيل في شقي الجلم قول القائل:
ومصطنعين ما اتهما بعشق
وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اجتمعا لشيء
سوى معنى القطيعة والفراق
اضرب وليدك تأديبا على رشد
ولا تقل هو طفل غير محتلم
فرب شق برأس جر منفعة
وقس على شق رأس السهم والقلم
وقال أيضا:
تباركت أنهار البلاد سوائح
بعذب وخصت بالملوحة زمزم
هو الحظ غير البيد ساف بأنفه
خزامى وأنف العود بالذل يخزم
وقال أيضا:
توهمت خيرا في الزمان وأهله
وكان خيالا لا يصح التوهم
فما النور نوار ولا الفجر جدول
ولا الشمس دينار ولا البدر درهم
وقال أيضا:
وكل يوصي النفس عند خلوه
بزهد ولكن لا تصح العزائم
وأين فراري من زماني وأهله
وقد غص شرا نجده والتهائم
وفي كل شهر تصرع الدهر جنة
فتعقد فيه بالهلال التمائم
وقال أيضا:
الموت نوم طويل لا هبوب له
والنوم موت قصير بعثه أمم
وفي الخمول حمام والفتى قبل
وفي النباهة عيش والفتى رمم
وقال أيضا:
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
وقال أيضا:
دنياك أشبهت المدامة ظاهر
حسن وباطن أمرها ما تعلم
أنفق لترزق فالثراء الظفر إن
يترك يشن ويعود حين يقلم
وقال أيضا:
إذا ألف الشيء استهان به الفتى
فلم يره بؤسى تعد ولا نعما
كإنفاقه من عمره ومساغه
من الريق عذبا لا يحس له طعما
وما ارتاب في لقيى الردى وكأنه
حديث أتى من كاذب يبطل الزعما
وقال أيضا:
جاران شاك ومسرور بحالته
كالغيث يبكي وفيه بارق بسما
وقال أيضا:
الجسم والروح من قبل اجتماعهما
كانا وديعين لا هما ولا سقما
تفرد الشيء خير من تألفه
بغيره وتجر الألفة النقما
وقال أيضا:
اسمع مقالة ذي لب وتجربة
يفدك في اليوم ما في دهره علما
إذا أصاب الفتى خطب يضر به
فلا يظن جهول أنه ظلما
قد طال عمري طول الظفر فاتصلت
به الأذاة وكان الحظ لو قلما
وقال أيضا:
اصدق إلى أن تظن الصدق مهلكة
وعند ذلك فاقعد كاذبا وقم
فالمين ميتة مضطر ألم بها
والحق كالماء يجفي خيفة السقم
وقال أيضا:
من لي بناجية سفيهة مدلج
فالعيس لم تحمد ذوات حلوم
روح الظلوم إذا هوت فإذا ارتقت
فكأنما هي دعوة المظلوم
وقد أهدى بعض الأمراء فرسا لشاعر فمات الفرس ليلة وصوله، فكتب إليه الشاعر يقول: إنه لا شيء أسرع من الفرس الذي أهديته إلي، فقد وصل من الدنيا إلى الآخرة في ليلة واحدة.
وقال أيضا:
كأن نجوم الليل زرق أسنة
بها كل من فوق التراب طعين
ولائح هذا الفجر سيف مجرد
أعان به صرف الزمان معين
وقال أيضا:
ما كان في الأرض من خير ولا كرم
فضل من قال إن الأكرمين فنوا
أعفى المنازل قبر يستراح به
وأفضل اللبس فيما أعلم الكفن
وقال أيضا:
بئست الأم للأنام هي الد
نيا، وبئس البنون للأم نحن
كلنا لا يبرها بمقال
فاعذروها إذ ليس بالفعل تحنو
فسد الأمر كله فاتركوا الإع
راب إن الفصاحة اليوم لحن
وقال أيضا:
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم
لما رأيت بني الإعدام شاكينا
فإن تعش تبصر الباكين قد ضحكوا
والضاحكين لفرط الجهل باكينا
وقال أيضا:
فأودعن فاتكا حصاة
وأودعن ناسكا جمانه
كلاهما ليس بالمؤدي
إليك في المودع الأمانه
وقال أيضا:
يشقى الوليد ويشقى والداه به
وفاز من لم يوله عقله ولد
إذا تلبس بالشجعان جبنهم
وبالكرام أسروا الضن أو صلدوا
وقال أيضا:
أرى حيوان الأرض غير أنيسها
إذا اقتات لم يفرح بظلم ولا جدا
أتعلم أسد الغيل بعد افتراسها
تحاول درا أو تحاول عسجدا
وما اتخذ الأبراد سرحان قفرة
ولا شب نارا أين غار وأنجدا
وأضعف من تلقاه من آل آدم
إذا ما شتا يبغي وقودا وبرجدا
البرجد كساء مخطط.
وقال أيضا:
اصمت وإن تأب فانطق شطر ما سمعت
أذناك فالفم نصف اثنين في العدد
واجعله غاية ما يأتي اللسان به
وإن تجاوز لم يقرب من السدد
وقال أيضا:
تمنت شيعة الهجري نصرا
لعل الدهر يسهل فيه حزن
الهجري هو القرمطي الخارجي المشهور.
وقد أضحت جماعتهم شريدا
فلا يفنى لهم أسف وحزن
وقالوا إنها ستعود يوما
فتثبت ما سقى الآفاق مزن
أي أنهم يقولون بأن الدولة ستعود لنا وتثبت فينا وأن تفرقنا الآن ليس إلا أمرا مؤقتا.
وبيت الشعر قطع لا لعيب
ولكن عن تصحيح ووزن
وقال أيضا:
لا يتركن قليل الخير يفعله
من نال في الأرض تأييدا وتمكينا
فالطبع يكسر بيتا أو يقومه
بأهون السعي تحريكا وتسكينا
وقال أيضا:
تشاءم بالعواطس أهل جهل
وأهون إن خفتن وإن عطسنه
وأعمار الذين مضوا صغارا
كأثواب بلين وما لبسنه
وقال أيضا:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير معرى أو أمير مدوج
مدوج: لابس الدواج.
وقد يرزق المجدود أقوات أمة
ويحرم قوتا واحد وهو أحوج
وقال أيضا:
وقلما تسعف الدنيا بلا تعب
والدر يعدم فوق الماء طافيه
ومن أطال خلاجا في مودته
فهجره لك خير من تلافيه
الخلاج الاضطراب وعدم الاستقامة.
ورب أسلاف قوم شانهم خلف
والشعر يؤتى كثيرا من قوافيه
عجبت للمالك القنطار من ذهب
يبغي الزيادة والقيراط كافيه
وكثرة المال ساقت للفتى أشرا
كالذيل عثر عند المشي ضافيه
وقال أيضا:
تمنيت أني من هضاب يلملم
إذا ما أتاني الرزء لم أتألم
فمي أخذت منه الليالي وإنني
لأشرب منه في إناء مثلم
وقال أيضا:
ومن الرزايا ما يفيء لك العلا
كالمسك فاح بموقع الأفهار
وقال أيضا:
والدهر أرقم بالصباح وبالدجى
كالصل يفتك باللديغ إذا انقلب
وأرى الملوك ذوي المراتب غالبوا
أيامهم فانظر بعينك من غلب
وقال أيضا:
لا تقسني على الذي شاع عني
إن دنياك معدن للخلاب
قد يسمي الفتى الجبان أبوه
أسدا، وهو من خساس الكلاب
وقال أيضا:
استنبط العرب في الموامي
بعدك واستعرب النبيط
كأن دنياك ماء حوض
آخره آجن خبيط
وقال أيضا:
إذا انفرد الفتى أمنت عليه
دنايا ليس يؤمنها الخلاط
فلا كذب يقال ولا نميم
ولا غلط يخاف ولا غلاط
وكم نهض امرؤ من بين قوم
وفي هاديه من خزي علاط
العلاط سمة تكون في العنق.
وقال أيضا:
إذا أعمل الفكر الفتى جعل الغنى
من المال فقرا والسرور به حزنا
يكون وكيلا للبرية باذلا
وللوارثيه إن أراد له خزنا
وقال أيضا:
فيا دار الخسار ألي خلاص
فأذهب في الجنوب أو الشمال؟
وظلم أن أحاول فيك ربحا
ولم أخرج إليك برأس مال
وقال أيضا:
تحاربنا أيامنا ولنا رضا
بذلك لو أن المنايا تهادن
إذا كان جسمي للرغام أكيلة
فكيف يسر النفس أني بادن
وقال أيضا:
ألم تر عالما يمضي ويأتي
سواه كأنه مرعي بقل
وكيف أجيد في دار بناء
ورب الدار يؤذنني بنقل
وقال أيضا:
يود الفتى أن الحياة بسيطة
وأن شقاء العيش ليس بعيد
كذاك نعام القفر يخشى من الردى
وقوتاه مرو بالفلا وهبيد
المرو الحجارة، والهبيد حب الحنظل.
وقد يخطئ الرأي امرؤ وهو حازم
كما اختل في وزن القريض عبيد
عبيد هو عبيد بن الأبرص الشاعر المشهور، يشير إلى قصيدته التي أولها:
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
وفيها أبيات خارجة عن الوزن منها قوله:
والمرء ما عاش في تكذيب
طول الحياة له تعذيب
وقال أيضا:
أعد لبذلك الإحسان فضلا
وكم من معشر بخلوا وسادوا
فجد إن شئت مربحة الليالي
فما للجود في سوق كساد
أبيت المال بيت من مقال
متى ينقص يلم به الفساد
يريد: ليس بيت المال كبيت الشعر الذي يفسد إن نقص منه حرف.
وقال أيضا:
والخير يجلب شرا والذباب دعا
إلى الجنى أنه في الطعم قنديد
وأشرف الناس في أعلى مراتبه
مثل الصديد ولكن قيل صنديد
وقال أيضا:
اصغر لتعظم كم تجمع واثب
ثم استعز فعز بعد صغار
فصل فيما اخترناه من رسائل أبي العلاء المعري
إن لأبي العلاء رسائل كثيرة في الأدب كأحسن ما كتب الكاتبون، وقد نحا فيها منحى الشعر من الإكثار من التشبيهات والمعاني المخترعة وغيرها من المحسنات، وربما أطال القول في بعضها حتى تكون الرسالة الواحدة كتابا مستقلا، وقد أشار إلى ذلك في آخر رسالة مطولة له كتبها جوابا عن رسالة مختصرة جاءته من بعض الوزراء فقال: «ولا ينكر الإطالة علي؛ فإن الخالص من النضار العين طالما اشتري بأضعافه في الزنة من اللجين.» وقد اخترت بعض هذه الرسائل وألحقته بجملة المختار من كلامه لما تضمنه من البلاغة الفائقة والأغراض البعيدة وشرحته شرحا شاملا يبين مقاصده ويوضح معانيه، وهذا أوان الشروع في ذكره فأقول:
رسالة المنيح
1
كتبها إلى أبي القاسم الحسين بن علي المغربي:
2
إن كان للآداب - أطال الله بقاء سيدنا - نسيم يتضوع، وللذكاء نار تشرق وتلمع، فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه، ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه، وخول الأسماع شنوفا غير ذاهبة، وأطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة؛ وذلك أنا معشر أهل هذه البلدة وهب لنا شرف عظيم، وألقي إلينا كتاب كريم، صدر عن حضرة السيد الحبر، ومالك أعنة النظم والنثر. قراءته نسك، وختامه بل سائره مسك،
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
3
أجل عن التقبيل فظلاله المقبلة، ونزه أن يبتذل فنسخه المبتذلة، وإنه عندنا لكتاب عزيز، ولولا الإلاحة على ما ضمن من الملاحة، والخشية على دجى مداده من التوزع، ونهار معانيه من التشتت والتقطع، لعكفت عليه الأفواه باللثم، والموارن بالانتشاء والشم، حتى تصير سطوره لمى في الشفاه، وخيلانا على مواضع السجود من الجباه.
4
ولولا ما حظره الدين من القمار، وعابه من رأي الجهلة الأغمار، وأن شريعة الإسلام، اعترضت دون إجالة الأزلام، لضربنا عليه بالسبعة الفائزة، والثلاثة التي ليست لحظ بالحائزة، ومعاذ الأحلام أن يطمئن خلد المنافس الشحيح، إلى أحكام النافس والمنيح، وإنما كانت أولياء سيدنا جعل الله لشانئه كوكب الرجم، وحادي النجم، تيسر على إقامة الصحيفة في المنازل للأنس المطلوب، لا على مقادير السحا من ذلك الطرس المكتوب، وأحسبهم يوقعون عليها السهمة الواقعة على كفالة البتول، والحاكمة في السفر بين صواحب الرسول.
5
فيا شرفه من صك بالفخر، يبجح به على النظراء حيري الدهر، موشحا بكل شذرة أعذب من سلاف العنقود، وأحسن من الدينار المنقود، فجاء كلوائح البروق، أو يوح عند الشروق.
6
ولم يزل لوليه إلى جنابه جنب الفانية، إلى عيش الغانية، وأنضاء الإعلال، إلى إفضاء الإبلال، ولو أن شوقه إلى حضرته الجليلة تمثل، فمثل وتجسم، حتى يتوسم، لملأ ذات الطول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يكتف حتى يكلف الخطوة، أن تسع صهوة، والراحة أن تكون مثل الساحة.
7
وبلغ وليه السلام الذي لو مر بسلمة وارية لأغدقت، أو سلمة عارية لأورقت. فحمل فؤادي من الطرب على روق اليعفور، بل فوق جناح العصفور، فكأنما رفعني الفلك، أو ناجاني الملك، جذلا بما لو جاز تبدل الغريزة، وتحول النحيزة، لنقلني من آلي العامة، إلى عالي السامة، نقل الكيمياء، ما خالط من المزأبق الجائز، إلى جملة النضار الممايز.
8
وكدت لولا اشتمال المخاوف على هذه المحلة، واشتغال الضمائر بقبس الغلة، أحسب سلامه السلام الذي ذكره البارئ جل اسمه في قوله:
ادخلوها بسلام آمنين . أفبلدتنا جنان، أم وضح لأهلها الغفران، أم نشروا بعدما قبروا، أم جزوا الغرفة بما صبروا، فهم يلقون فيها تحية وسلاما، وإن نالوا بمنه أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد نزلت بهم خلة من خلال الأشقياء الكفار؛ وذلك أنهم بأسد البلاغة افترسوا، وبأسبابها عقدت ألسنتهم عن الجواب فخرسوا، فكأنما قيل لهم هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
9
وإنما غرقوا في لج التبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفتوا، فقلم كاتبهم عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت، على أنهم قد راموا تصريف الخطاب فصرفوا، وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مبارك العروج، فلمحوه في مآرك البروج، واستنهضتهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التبلد فأنجزوا، ولن توجد آثار النوق، في أوكار الأنوق،
10
فهم يتأملون وميضه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيدهم من الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليم كالغدير المسمى بالغدر، وإلحاق السهى بالقمر ليلة البدر.
11
ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرازم، فكيف بمن امتطى عزمه كتد الريح، وحكم له سعده بالسعي النجيح، وخصه بارئه تقدست أسماؤه بطبع راض، صعاب الأغراض، حتى ذللها، وأبس بوحوش اللغات فأهلها، فصار حزن كلام العرب إذا نطق به سهلا، وركيكه إن أيده بصنعته قويا جزلا. فمثله مثل جارسة الكحلاء، تسمح بالمسائب الملاء، تطعم الغرب، وتجود بالضرب، وتجني مر الأنوار، فيعود شهدا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهب لا أعتقده، وقول سواي من يسدده يجتذب أجزاء البخار، فيسقي من تحته عذب الأمطار.
12
ومن لنا بأن اللفظ المشوف، يمثل عليه التمثيل على الحروف، فتكلف ألبابنا اقتضاب العسير، وركوب ما ليس بيسير، فعساها تبل بفقرة زاهرة، أو تظفر باستخراج لؤلؤة فاخرة.
على أنه من العناء سؤال البرم، ورياضة الهرم، وهيهات بعدت محال الغفر الطالع، عن مزال الغفر الظالع، وأعجز البارق يد السارق، وجلت الشموس، عن سكنى الرموس، ولو اجتهد الخزز مدى عمره ما أشبه ضغيبه زئير الأسد، ولن يصير سوط باطل في القوة كالمسد،
13
ولوددت لو رزق لامه، ما رزق كلامه، لينال خلود الزمان، وتعطيه الحوادث أوكد أمان. فإنه أولى الناس، بإضاءة النبراس؛ إذ كان في زكاء الهمة مغرسه، وبأجذال الحكمة مذ نشأ تمرسه، حتى علا منها سراة المنبر، وركب طالبه أصول السخبر،
14
وقد كان فيمن مضى قوم جعلوا الرسائل كالوسائل، وتزينوا بالسجع، تزين المحول بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدما على محجته، لكنهم تعاينوا فما تباينوا، وتناضلوا فلم يتفاضلوا، ولو طمعوا في الوصول إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرتب على الرتب، ورضوا اعتساف السبيل وارتعاء الوبيل، ليدركوا بطلبهم ما أدركه عن غير جد، واغترفه من بديهه العد، وكلهم لو شاهده لرضي بأن يدعى السكيت في حلبة سيدنا فيها سابق الرهان، وتمنى أن يكون زجا في قناة هو منها موضع السنان.
15
ولما وردت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة، والقلائد المنفسة، كانت بمنزلة الآيات التسع التي ألقاها الرحمن على ابن عمران. أبطلت كيد السحار، وعصفت بهشيم الأشعار، وورد في ألواحه عصوان الميمية، والواوية، فوجد في وطنه أشباح أوزان تتخيل، وأنقاء أذهان تتهيل،
فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون .
16
ما خبر عبده حتى اختبر، ولا عبر إلا بعدما اعتبر. شاهدنا فيما سمعناه المعنى الحصير، في الوزن القصير، كصورة كسرى في كأس المشروب، وتمثال قيصر في الإبريز المضروب، لم يزر به ضيق الدار، وقصر الجدار. إن تغزل فحنين العود، أو تجزل فهدير الرعود،
17
وإن كان أدام الله شرف الدنيا به استصغر من ذلك ما استكبرناه، واستنزر من أدبه الذي استغمرناه. فالسرب الوحشي يعجب من وقوف الأجدل على شرفات المجدل، وهو غير حافل بما أتى، ولا معتقد أنه استعلى.
18
وإن كان في وانية آدابنا بقية إرقال، ولآنية أفهامنا خفية صقال، فسوف تنتفع، وهو أدام الله عزه ذريعة الانتفاع، وتضيء بما أهدى إليها من الشعاع، إضاءة الصفر، بما قابل من النيرات الزهر.، وقد يرى خيال الجوزاء على رفعتها، في أضاة المرآة مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتفيض الردهة، عن نوء الجبهة.
19
ولو تفوه بمقال جامد، وهم باختيال هامد، لنشرت المعرة صحف الافتخار، وسحبت ذيل العظمة والاستكبار؛ عجبا أن فكره يلحظها لحظ الساهي السامد، لا يلفظ بذكرها لفظ الحامد العامد،
20
وإنما هو في الرحيل عنها كجسم ذي روح، نقل من الغرقئ إلى اللوح، وهى بعده كقسيمة الوسيمة ذهب عطرها، وبقي نشرها.
21
وإنما شرفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها؛ لإقامته بها في تلك الأيام، وإنامته عن أهلها نواظر أزام، فعرفت عند ذلك به، ونالت خيرها من حسبه، كما تنال كل دار يحلها، وإنما المنازل التي ينزلها كالشهب الشآمية واليمانية، الموفية على العشرين بثمانية، نزل بها الزبرقان فاشتهرت، ونسبت العرب إليها كل سحابة أمطرت، وكم في أديم الخضراء من أشباح مضيئة زهراء اجتنبها في السير فخملت، ولم ينسب إليها قطر سحابة هملت.
22
ورأي عبده أن ضربة اللازم، على المتأدب الحازم، اتخاذ آثاره - عاش حاسده بالخلق الشكس والجد المنعكس - مشاهد للأدب محضورة، ومحافل بالمذاكرة معمورة، كما يتخذ تقي الخلف، مواطئ زكي السلف، مواقف يتخيرها لطهارتها، ومساجد يتديرها لأثارتها، وإنما فضل الطور بالكليم، والمقام بابرهيم، ولقد سمونا بمجاورته قبل محاورته، سمو اليثربي، بجوار النبي.
23
ولعل المعرة قد نظرت أصح النظر، وفكرت فيما لا ينتقض من الفكر، فعلمت أنه عقد لا يصلح لمقلدها، وسوار يرتفع لجلالته عن يدها، وتاج لا يطيق حمله مفرقها، وجونة يشرق بذرورها مشرقها، وهو - أدام الله تأييده - مثل ما نقل من المحار، إلى مفرق الملك الجبار، ومغانيه الأولى كالشجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة، والكنانة الخالية من السهام، والعنانة الجالية في الجهام. ولم يخف علينا أن الغيث من الدجون، في مثل السجون، وأن موضع الزهرة، أعلى العبهرة، وأن القمر، لم يخلق للسمر، وليس للمستعير أن يحسب العارية هبة، ولا يظن ردها إلى المعير مثلبة، لكن شرف للصعلوك، العارية من الملوك،
24
وقد أفادت هذه البقعة الصيت البعيد، وانقادت لها أزمة الجد السعيد. ليالي أمنتها المكارم عليه، واستودعتها البراعة حدة أصغريه، فظعن وأرجه مقيم، وارتحل وللثناء تخييم.، فهي كشهري ربيع سميا مع الشهور، في أوائل الدهور، ثم انتقلا من الجدة، إلى الشدة؛ وكان معهما جماديان فصارتا بعد الجمد، إلى الومد، وأبت الألقاب، التغير بممر الأحقاب، فنفدت الرسوم، وخلدت الوسوم.
25
ولولا جفاء التربة والأحجار، عن التخلق بأخلاق الجار، لأصبحت ساحتها للتأدب مختارة، والفصاحة من عند أهلها ممتارة. فقد قيل إن أصل الطيب عند عبدة الأبداد، أن آدم
صلى الله عليه وسلم
هبط في تلك البلاد، ولكن أبى الجلمود، قبول الطبع المحمود، وعذرت الكابية في الهمود، والإنس باجتذاب الخليقة أخلق، وحواسهم بطلاب الفضيلة أولى وأليق.
26
فلولا تنبهوا، وقد نبهوا، وأشبهوا المرئي إذ تشبهوا، وما هم ابن داية، بصيد الجداية، فكيف يلتقط القار بالمنقار، ويستر القرواح بالجناح، أم كيف يمد الطراف من النسع، ويقد النجاد من الشسع. هذا ما لا يكون، ولا تسبق إليه الظنون، والظلم البين، والخطب الذي ليس بهين، تكليف القطب النابت، مداناة القطب الثابت، وإلزام نسر الحافر، مرام النسر الطائر.
27
وإذا غلا المرجل، من عدو الأرجل، وخلا الفقير بالوقير، فإنما ذاك اتفاق، لا إحقاق، وغاية ليس وراءها نهاية. وقد ضم المسان ومهارة ميدان القياس، وشمل الخشاش وجوارحه جو المراس، فسبق الغذوي، واقتنص القمري، وإن قيل فلان أديب، وفلان أريب، فإن وفاق الأسماء، لا يمنع الفراق عند الرماء. العرادة سمية الجرادة، والذباب سمي طرف القرضاب، وقد تدعى الثمامة جليلة، وبعض الهامة قبيلة.
28
وليس كل مثوب مبشرا، ولا كل متثائب مؤشرا، أعرض شأو لا يتعلق بنصبه، وعن أمد لا يتعب في طلبه، وإنما يحكم بثمر الجبار، لمن أصلحه في وقت الإبار، ويصيد ظليم المقاء، من زهد في ظليم السقاء. نام والله اللاغب، وأدلج الراغب:
تسألني أم وهيب جملا
يمشي رويدا ويكون الأولا
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وليس حسن الظاهر للمتظاهر، ولا البهار بالباهر، ومن الزور ادعاء المشاء للنزور، وإن جنت الرياض في الأنواض، واعتم العقيق بالشقيق، فإن الأبا رق، لم تبسط بالنمارق، والقري لم يفرش بالعبقري.
29
ونحن على شحط المعان، واعتراض السهوب دوننا والرعان، لا نعدم من قبله تثقيف المائل، والإرشاد إلى المنار الماثل، بكتاب حكمة يوفده، وعهد بصيرة يعهده، والمشتري والزهرة وإن نأيا، يبلغان المحاب من توليا، في زعم المنجمين، وبعض الفلاسفة المتقدمين. نعوذ بالله من هذه المقالة، ونستكفيه الإيغال في طرق الجهالة، ولكن المثل مضروب، والخلق مدبر مربوب.
30
وإن ضرب أرواق التئية بمصر، واستخف من الأشغال السنية كل إصر، فمزالفنا بإذن الله مما يرعاه، ومزارعنا أحد ما يكلؤه ويتولاه. فالسيار الفرد عندهم يشتمل بولايته على الأقطار المتنائية، وينتظم بها أقاليم ضد المتساوية.
31
وكل خالص السام، وقديم سمى الحسام، وأخي حشاشة من اللب يستنجدها، وفراشة من التمييز يسترفدها، مذ رأى ريق سامه، واجتلى بالتدبر رونق حسامه، كالسرطان في انقطاع الصوت النابس، وزحل في المزاج القارس. فعيهم أطول من رداء العروس، ووعيهم أبكأ من در الخروس. فليتهم كذوات الأصوات المتنصفة، والناطقين بأسل منحرفة. فإن العجمة لأسهل من البكمة، والحبسة أقل ضررا من الخرسة، وتمني الفائت، كمحاولة إحياء المائت، ومن يجعل الربوة روبة، والسبت عروبة، وضائع أداء الفروض قبل دخول الأوقات، والإحرام بعد مجاوزة الميقات،
32
وإن كان ما اختلس منهم لا قيمة له في النقيمة، ولا إشارة إليه من أهل الشارة، فارتياح اللاقطة بساقطة النقد، كارتياح الماشطة بواسطة العقد، ولا يزين لأم السمجة، مقتها حسن البهجة، ولكن تحنو عليها طول الحياة، وتحزن لفقدها عند الممات.
33
وجور نحر الأفيل، إذا لم يستقل بعبء الفيل، وهدم سخيفات الدور، إذا فرعتها منيفات القصور، وكسر المرماة، لقصرها عن القناة، ودفن الناب، إذا لم تلحق بالشواب. ولولا ذلك لوجب ترك النغم، إلا ما كان كلا ونعم، يخبر به عن الإرادة، ويمنع قليله من الزيادة، ولحرم إجلالا لما قال سجع الكلمتين، وتقفية البيتين.، وقد كانت المتحمسة في جاهليتها، وسدنة الأوثان على أوليتها، لا تتخذ بيتا مربعا، إجلالا للكعبة وتورعا.
34
وهل طالب ذلك سواه إلا كمفني الشبيبة في نسج السبيبة، ومضيع الشرخ في التماس البرم والمرخ، والسحم لا يقطع الوحم، والنشم لا يحسب من الرشم، وكلهم غيره ينفق من رأس مال نزر، ولا يحكم على مده بالجزر. لكن ينفد الثغب، بالنغب، ويفنى الشمع، بخفيات اللمع.
35
وهم في هذا الصقع، كأسنان المسارح، ونواجذ القمر القوارح، تنكبهم الفوائد تنكب السهم العائر، والركب الجائر:
بناحية أما العدو فنازل
مطيف بها في مثل دائرة المهر
يحول فيها الجريض، دون القريض، والحذار دون أداء الاعتذار. فقد أدمى الخف، وطء القف، وذهب الخارب، بذي الغارب، وإنما هو رفق ثم اقتسار، وليس بعد السلب إلا الإسار. فهم يتوقون كفة الحابل، ويتوقعون رشق النابل. على أن القارب، أخو الشارب، والهبع، طريد الربع. ما أقرب طسما من جديس، وأدنى البازل من السديس!
36
لا يزالون يمارسون جابة، تنفي النجابة، نفي الدبر، للوبر، والسبع، لابن الضبع، ويبين الزلل، فيهم من خوف الثلل، كما بان القلح، من وراء الفلح، فقليل العلم منهم يستطرف، ويستغرب ولا يكاد يعرف، كالشنوف، على الأنوف، والحقاب، في وسط العقاب، والودع، في عنق الصدع، والفور، بين أهل الكفور. لأن سالمهم هامة اليوم أو غد، وإن لم يكن ما خاف فكأن قد.
37
ولو رحلوا قبل أن يوحلوا، وتوكلوا على الله في المسير قبل أن يوكلوا، لنفع الفرار الفرار، واستراح الفقار إلى وضع الأوقار، وكم مصابرة الذرع، لابس الدرع، والبر، الهر، وإن كان دون كسب العتاد، ممارسة خرط القتاد، فقتد المالع، أوطأ من العتد ذي القالع، والمرقد، جاف على ابن أنقد.
38
وإنما يشدو بالترنم شاديهم، ويغدو في أولى الدعوى غاديهم، بين أناس يقظة أحدهم أقصر من لحظته، وسنته أطول من سنته، وحلية الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحسن اليراعة، أحسن البراعة. فإذا جاء بعضهم بسمار، ومارى بتفضيله ممار، فقد سجد السفساف، لإساف، وأهدي الهنم، للصنم، والسرفة تتخذ لمنفعتها الغرفة، وربما عنت القرارة، بالعرارة، وجعل الخمار على وجه الحمار، وليس الضريع، بالمرعى المريع. على أن التفكير، قبل التكبير، والخطبة، ثم الخطبة. فأما بحضرة سيدنا - بقي ووقي حتى يلب الهجر، إلى ضياء الفجر، ولوب صلاة العصر، من القصر - فما يسعهم غير الاستماع، والتسليم بعد الإجماع.
39
فإن ذكر له أدام الله تأييده أن حافر القليب، أنبط المحض من الحليب، وأن الرسل، حلب العسل، وأن نجلا من راح، ظهر في هجل براح. فعارضته أعلم بالمعارضة، وأربة أربته أقدر على المناقضة، حسب التربة نطفة، تشفي الكربة، والناقة، علبة عند الإفاقة، والجمجمة النيابة عن السحابة المثجمة.
40
وذكره عبده بما يشبه مننه صنيعة يضيق عنها باع الشكر، وأبعث وهي مني على ذكر. غرست السرور في سريرتي، وعلمت النفاسة نفسي، وخلدت الغبطة في خلدي، إلى أن أمسي خبي الرامس، ونجي هند الأحامس. هضب حسي بعدما نضب، وبغش نسيسي، وقد نس فانتعش، وعرتني الأريحية، المشتقة من الرياح العرية، فملأت الصدر، وأمرتني بمجاوزة القدر. لأن الجنوب، تهيج نقع الجبوب، والشمال، تحرك ساكن الرمال. حتى عاتبت الضمير، والتفت إلى السر الخمير، فقلت السمة، في القسمة، أزين من الأشر، للبشر، وطالما عصف النسيم فقصف، ولن أكون كالغبار ثار من الملاطس، فزار المعاطس. أسكران أنا، أم هكران؟ إن كنت انتشيت فالثمل يقوي الأمل، أو أغفيت فالوسن ، يري الحلم الحسن.
41
هذا مع إحاطة اليقين أن الغذمة، لا تشد منها الوذمة، وأن البرق، لا يستحق كسوة السرق، وأن البديع، لا يملأ من رسل الصديع، تزيد المرارة، بسقيا المرارة، وري المقر، لا يخلع عليه لون الشقر، ومن أنا حتى يصفني بالنقال، ويزن بي الثقال. البرير، يسود فم الفرير، وأنى بالنئور للنوار، وصوار الطيب للصوار. هل أدبي في أدبه إلا كالقطرة، في المطرة، والنحلة، عند النخلة، وإنما صاحب الدرهمين غني عند صاحب الدرهم، والأفطس أشم في تخيل الأكشم. فأما شداد بن عاد، وعاقر الجياد، فالبدي توهمهما الثراء، اليدي عند جالب العضد، وبائع الخضد.
42
فضاق ذرعي في جزاء ما تطول به ضيق ذرع النملة، باتخاذ الشملة، والحمنانة، بثقب الجمانة. فليته أدام الله عزه اطلع من عبده على كنين الاعتقاد، وجنين السواد، فيعلم أن الروع، وجوانح الضلوع، مفعمة له بالإعظام، مترعة بمحبته إتراع الجام، لا لأنه جعل حصاتي كثبير، وخلط عثيري بالعبير، ولا لأن سيدنا الرئيس الأجل والده، أدام الله سلطانه سبق، من الإفضال بما ربق، وقدم منه ما كان نشره السدم ولكن لما أوتي أقاليد الحوار، ونطق بفرود حضار، وعلمت أنه في صاغية الأدب، كتبع في طاغية العرب. لهجت بحبه لهج السوقة، بحب المليك الروقة؛ إذا أخذ بالفضل، وحكم بالقضاء الفصل.
43
ونصحت له نصح الهدهد لسليمان، وشيعت ما أذكر من نبله بالأيمان. أصف وكل وصفي صحيح، وأحلف وحلفي تسبيح، حتى استجهلني الذي لا يعلم، وتكلم في تضليلي من تكلم؛ لأني ما اقتنعت بتفضيله على الأحداث، دون سكان الأجداث، ولا غلبته على الغابر، دون الكابر، ولكن وجبت الشخير، ورجبت الطرف الأخير، وليس النصر، بقدم العصر، ولا التجويد، بذهاب أبد الأبيد، الروي بعد التوجيه، وأخدر أقدم من الوجيه، وإن كانت السير، بغير غير، والخبر، فاقدا للحبر، فالحبة بعد الحبة، والضياء تالي الكهبة.
44
وما جحد أحد ضحاه، ولا وحى مخلوق مثل ما وحاه، ولكن للمهج بالفارط لهج، والإحادة عن العادة، تخلط المور بالتأمور، وتباشر ظلام اللوب، بظلام القلوب، وقد أنكر من أعظم العزى واللات ، ما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم
من الآيات. فلم أفتأ والله شهيد أصبغ الأفق بالشفق، وأدبغ الأديم بالسديم، حتى أصبح اليافع النافع، والهم المدرهم، ومن بينهما من وارف في السن، وكهل مقسئن، أحد رجلين: إما عالم، فهو من الجهل سالم، وإما بليد، اهتدى بالتقليد.
45
وهو أدام الله قدرته الفرع الذي نبع من أصل زاك، فسمق إلى السماك، وحفظ التوم، قبل أن يلفظ بالمكتوم، ولم يزل ضب الآفن، لعب الصافن، وإهواء الرادس، لإرواء القادس، حتى التأمت اللامة من الزرد، وتألفت الغمامة من القرد.
46
ولقد هممت باسترفاد حضرته البهية من بدائعه ما يفضل المال، ويكون الجمال، فعداني عن ذلك إعظامي له واستحقاري نفسي، وارعوت بي الهيبة إلى إرمامي وكفي، وأبى الله أن يكون التفضل إلا من قبله، فوعد التشريف بما سنح من المنثور والمنظوم، فللقلوب إلى وعده هيام الظامية، إلى النطفة الطامية، ولا تزال تقتضيناه اقتضاء المدنف العافية، والبيت القافية، ومن للعفر بالذفر، والقفر بإلمام السفر.
47
وأقدمت على خدمة حضرته بالمكاتبة لأنهي إليها ما أنا عليه لا تكثرا برصف المنطق عنده، وهل أبلغ أن أدعى في تأليف القول عبده، وقد تقبل صلاة الأمي، ويسمع دعاء الأعجمي، ونقده - أدام الله تأبيده - يكبر عن تصفح أمري، وتجاوزه يستر زللي وعثري. لأن المدية، لا تصل إلى ضب الكدية، إلا بعد التبريح، بذوات التسريح، والإتيان على مال الفتيان، والله أستجير من كلمة، كطوق العكرمة، يحسب لها كالزينة، وكأنه من حداد الحزينة، فقد حليتها بعبقر، وخليتها ترعد من القر، من دونها يظهر الضفدع، تحت الشبدع، ويحكم بالجلسام، على الأجسام، والعناية، بجارم الجناية، تمنع الرواجب، من البت بالحكم الواجب.
48
وأتبع قولي لما مضى، وأشيعه إذا انقضى، بأن أقول إن كنت أوطأت نفسي في تفضيله عشوة، أو بغيت على إظهار الحق رشوة، فمنيت بالحاصب، والعذاب الواصب. ليل الخرص، أنعم من ليل المتخرص، ونهار الكاذب، أبأس من نهار العاذب، وغناي في تقريظه عن المين، ومساواة القين، غناء الوصيف، عن لبس النصيف، والغلام، عن الاختضاب بالعلام.
49
وأنا على إسهابي كخابط الظلماء، وباسط اليد الجذماء، ولو جئت من الزرق بكر، ما كافأت على الفريدة من الدر، وليس سرب القطا وإن كثر، بمقاوم البازي ولو لطف وصغر، ومن الغباوة مباهاة الشمس بسراج، ومواهاة عطالة بالزجاج، وإن أدبي لينظر إلى أدبه نظر جرباء العنوق، إلى جرباء العيوق، وأين الماء، من السماء، وموقع السيل، من مطلع سهيل، والنعائم الشاردة، من النعائم الصادرة والواردة، وتالله أساجل بثمدي بحره، ولن يهلك امرء عرف قدره، والسلام.
50
نسخة رسالته المعروفة برسالة الإغريض إلى أبي القاسم المغربي لما أنفذ إليه مختصر إصلاح المنطق الذي ألفه، وفيها وصف المختصر، والثناء بفضله، والتنبيه على كثرة فوائده:
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليك أيتها الحكمة المغربية، والألفاظ العربية. أي هواء رقاك، وأي غيث سقاك، برقه كالإحريض، وودقه مثل الإغريض، حللت الربوة، وجللت عن الهبوة؛ أقول لك ما قال أخو نمير، لفتاة بني عمير:
زكا لك صالح وخلاك ذم
وصبحك الأيامن والسعود
لأنا آسف على قربك من الغراب الحجازي، على حسن الزي، لما أقفر، وركب السفر، فقدم جبال الروم في نو، أنزل البرس من الجو، فالتفت إلى عطفه، وقد شمط فأسي، وترك النعيب أو نسي، وهبط إلى الأرض فمشى في قيد، وتمثل ببيت دريد:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل ابعد
وأراد الإياب، في ذلك الجلباب، فكره الشمات، فكمد حتى مات؛ ورب ولي أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السأم، لا إبرام السلم.
51
فحرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء، فتلك حراسة بغير انتهاء؛ وذلك أن هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاو وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس؛
52
وجعل الله رتبته التي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا. فقد جعلني إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لم يجهل مكاني، كيا في النداء، والمحذوف من الابتداء؛ إذا قلت: زيد أقبل، والإبل الإبل، بعدما كنت كهاء الوقف إن ألقيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب.
53
إني وإن غدوت في زمن كثير الدد، كهاء العدد، لزمت المذكر، فأتت بالمنكر، مع إلف يراني في الأصل، كألف الواصل، يذكرني بغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصامت الرصين، فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التصغير، ردت المستحلس إلى حليس، وقابوسا إلى قبيس. لأمد صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن حضرة سيدنا الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر. إن كاتبت فلست ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلست طالب ثواب، حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه،
54
أدام الله لهما القدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحا، والمنسرح خفيفا سريحا؛ وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن، قبض العروض من أول وزن، وجمع له المهانة إلى التقييد، كما جمعا في ثاني المديد، وقلم قلم الفسيط، وخبل كسباعي البسيط، وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزو، عصب الوافر الثالث وهو مجزو، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل، وعداه أمل الآمل،
55
وسلم سيدانا أعز الله نصرهما ومن أحباه وقرباه سلامة متوسط المجموعات، فإنه آمن من المروعات؛ فقد افتننت في نعمهما الرائعة، كافتنان الدائرة الرابعة؛ وذلك أنها أم ستة موجودين، وثلثة مفقودين، وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عدة ثريا الليل، وثريا سهيل، هذه القمر، وتلك عمر، وأعظمه في كل وقت، إعظاما في مقة وبعض الإعظام في مقت؛ فقد نصب للآداب قبة صار الشأم فيها كشامة المعيب، والعراق كعراق الشعيب؛ أحسب ظلالها من البردين، وأغنت العالم عن الهندين، هند الطيب، وهند النسيب، ربة الخمار، وأرباب قمار، أخدان التجر، وخدينة الهجر.
56
ما حاملة طوق من الليل، وبرد من المرتبع مكفوف الذيل، أوفت الأشاء، فقالت للكئيب ما شاء؛ تسمعه غير مفهوم، لا بالرمل ولا بالمزموم؛ كأن سجيعها قريض، ومراسلها الغريض؛ فقد ماد لشجوها العود، وفقيدها لا يعود؛ تندب هديلا فات، وأتيح له بعض الآفات، بأشوق إلى هديلها من عبده إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه، وليس الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند الساجعة، عبرة متراجعة، إنما رأت الشرطين، قبل البطين، والرشاء، بعد العشاء، فحكت صوت الماء في الخرير، وأتت براء دائمة التكرير، فقال جاهل فقدت حميما، وثكلت ولدا قديما، وهيهات يا باكية أصبحت فصدحت، وأمسيت فتناسيت، لا همام لا همام، ما رأيت أعجب من هاتف الحمام: سلم فناح، وصمت وهو مكسور الجناح؛ إنما الشوق لمن يدكر في كل حين، ولا يذهله مضي السنين.
57
وسيدنا أطال الله بقاءه، القائل النظم في الذكاء، مثل الزهر، وفي البقاء، مثل الجوهر، تحسب بادرته التاج. ارتفع عن الحجاج، وغابرته الحجل، في الرجل؛ يجمع بين اللفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأفعون في لعابه بين القلة، وفقد البلة؛ خشن فحسن، ولان فما هان؛ لين الشكير، يدل على عتق المحضير، وحرش الدينار، آية كرم النجار. فصنوف الأشعار بعده كألف السلم، يلفظ بها في الكلام، ولا تثبت لها هيئة بعد اللام، خلص من سبك النقد خلوص الذهب، من اللهب، واللجين، من يد القين، كأنه لآل، في أعناق حوال، وسواه لط في عنق ثط، ما خانته قوة الخاطر الأمين، ولا عيب بسناد ولا تضمين، وأين النثرة، من العثرة، والفرقد، من الغرقد! والساعي في أثره فارس عصا بصير، لا فارس عصا قصير.
58
وأنا ثابت على هذه الطوية ثبات حركة البناء، مقيم تلك الشهادة بغير استثناء، غني عن الأيمان فلا عدم، مقسم على ما قلت فلا حنث ولا ندم، وإنما تخبأ الدرة، للحسناء الحرة، ويجاد باليمين، في العلق الثمين. ما أنفسه خاطرا امترى الفضة، من القضة، والوصاة، من مثل الحصاة، وربما نزعت الأشباه، ولم يشبه المرء أباه؛ ولا غرو لذلك: الخضرة أم اللهيب، والخمرة بنت الغربيب، وكذلك سيدنا ولد من سحر المتقدمين، حكمة للحنفاء المتدينين؛
59
وكم له من قافية تبني السود، وتثني الحسود، كالميت، من شرب العاتقة الكميت: نشوره قريب، وحسابه تثريب. أين مشبهوا الناقة بالفدن، والصحصح برداء الردن، وجب الرحيل ، عن الربع المحيل. نشأ بعدهم واصف، غودروا له كالمناصف، إذا سمع الخافض صفته للسهب الفسيح، والرهب الطليح، ود أن حشيته بين الأحناء، وخلوقه عصيم الهناء، وحلم بالقود، في الرقود، وصاغ برى ذوات الأرسان، من برى البيض الحسان، شنفا لدر النحور، وعيون الحور، وشغفا بدر بكي، وعين مثل الركي، وإعراضا عن بدور، سكن في الخدور، إلى حول، كأهلة المحول؛ فهن أشباه القسي، ونعام السي.
60
وإن أخذ في نعت الخيل فيا خيبة من شبه الأوابد بالتقييد، وشبه الحافر بقعب الوليد، نعتا غبط به الهجين المنسوب، والبازي اليعسوب؛ إذ رزق من الخير، ما ليس لكثير من سباع الطير؛ وذلك أنه على الصغر، سمي بعض الغرر؛ وقد مضى حرس، وخفت جرس؛ وللقالع، أبغض طالع، والأزرق، يجنبك عنه الفرق. فالآن سلمت الجبهة من المعض، وشمل بعضها بركات بعض، فأيقن النطيح، أن ربه لا يطيح، والمهقوع، نجاء راكبه من الوقوع، فلن يحرب، قائد المغرب، ولن يرجل، سائس الأرجل، والعاب، وإن لحق الكعاب، ناكب، عن ناقلات المراكب، وقالت خيفانة امرئ القيس: الدباءة، لراعي المباءة، والأثفية، للقدر الكفية، نقما على جاعل عذرها كقرون العروس، وجبهتها كمحذف التروس، وأنى للكندي، قواف كهجمة السعدي:
إذا اصطكت بضيق حجرتاها
تلاقى العسجدية واللطيم
فالقسيب في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب؛ ليس رويه بمقلوب، ولكنه من إرواء القلوب.، وقد جمع أليل ماء الصبا، وصليل ظماء الظبا؛ فالمصراع كمرآة الغريبة، حكت الزينة والريبة، وأرت الحسناء سناها، والسمجة ما عناها.
61
فأما الراح فلو ذكرها لشفت من الهرم، وانتفت من الكرم إلى الكرم، ولم ترض دنان العقار، بلباس القار، ونسج العناكب، على المناكب، ولكن تكسى من وشي ثيابا، ويجعل طلاؤها زريابا، ولقد سمعته ذكر خيمة يغبط المسك جارها من الشيام، ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام.
62
ووقفت على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسمات الأبواب، يغني عن سائر الكتاب، فعجبت كل العجب من تقييد الأجمال، بطلاء الأحمال؛ ونقل قلت البحر، إلى قلت النحر، وإجراء الفرات، في مثل الأخرات؛ شرفا له تصنيفا شفى الريب، وكفى من ابن قريب، ودل على جوامع اللغة بالإيماء، كما دل المضمر على ما طال من الأسماء. أقول في الإخبار: أمرت أبا عبد الجبار؛ فإذا أضمرته، عرف متى قلت: أمرته؛ وأبل من المرض والتمريض، بما أسقط من شهود القريض؛ كأنهم في تلك الحال، شهدوا بالمحال، عند قاض، عرف أمانتهم بالانتقاض، على حق علمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كل بيان،
63
وقد تأملت شواهد إصلاح المنطق فوجدتها عشرة أنواع في عدة إخوة الصديق، لما تظاهروا على غير حقيق، وتزيد على العشرة بواحد، كأخ ليوسف لم يكن بالشاهد، والشعر الأول وإن كان سبب الأثرة، وصحيفة المأثرة، فإنه كذوب القالة، نموم الإطالة، وإن قفا نبك على حسنها، وقدم سنها، لتقر بما يبطل شهادة العدل الرضى، فكيف بالبغي الأنثى؟! قاتلها الله عجوزا لو كانت بشرية، كانت من أغوى البرية،
64
وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجز الضب، وإن معدا من ذلك لجد مغضب؛ أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأحناش الأرض. ما رؤبة عنده في نفير، فما قولك في ضب دامي الأظافير؟
65
ومن نظر في كتاب يعقوب وجده كالمهمل إلا باب فعل وفعل، فإنه مؤلف على عشرين حرفا: ستة مذلقة، وثلثة مطبقة، وأربعة من الحروف الشديدة، وواحد من المزيدة، ونفيثين: الثاء والذال، وآخر متعال، والأختين العين والحاء، والشين مضافة إلى حيز الراء. فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدا، أو احفاظ حسدا؛ سبق ابن السكيت ثم صار السكيت، وسمق ثم حار وتدا للبيت. كان الكتاب تبرا في تراب معدن، بين الحت وبين المتدن؛ فاستخرجه سيدنا واستوشاه، وصقله فكره ووشاه، فغبطه النيرات على الترقيش، والآل النقيش؛ فهو محبوب ليس بهين، على أنه ذو وجهين؛ ما نم قط ولا هم، ولا نطق ولا أرم، فقد ناب في كلام العرب الصميم، منال مرآة المنجم في علم التنجيم؛ شخصها ضئيل ملموم، وفيها القمران والنجوم.
66
وأقول بعد في إعادة اللفظ: إن حكم التأليف في ذكر الكلمة مرتين، كالجمع في النكاح بين أختين: الأولى حل يرام، والثانية بسل حرام. كيف يكون في الهودج لميسان، وفي السبة خميسان! يا أم الفتيات حسبك من الهنود، ويا أبا الفتيان شرعك من السعود؛ عليك أنت بزينب ودعد، وسم أيها الرجل بسوى سعد؛ ما قل أثير، والأسماء كثير. مثل يعقوب مثل خود كثيرة الحلي ضاعفته على التراق، وعطلت الخصر والساق.
67
كان يوم قدوم تلك النسخة يوم ضريب حشر الوحش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس؛ ولم يحكم على الظباء بالسباء، ولا رمى الآجال بالأوجال؛ ولكن الأضداد تجتمع، فتستمع؛ وتنصرف بلذات، من غير أذاة، وإن عبده موسى لقيني نقابا، فقال: هلم كتابا؛ يكون لك شرفا، وبموالاتك في حضرة سيدنا أطال الله بقاءه معترفا. فتلوت عليه هاتين الآيتين:
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ، وأحسبه رأى نور السؤدد فقال لمخلفيه ما قال موسى عليه السلام لأهله:
إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ، فليت شعري: ما يطلب؟ أقبس ذهب، أم قبس لهب؟ بل يتشرف بالأخلاق الباهرة، ويتبرك بالأحساب الطاهرة:
باتت حواطب ليلى يقتبسن لها
جزل الجذى غير خوار ولا دعر
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوة من نار، إن لمست فنار إبراهيم، أو أونست فنار الكليم؛
68
واجتنى بهارا حيت به المرازبة كسرى، وحمل في فكاك الأسرى، وأدرك نوحا مع القوم، وبقي غضا إلى اليوم؛ وما انتجع موسى إلا الروض العميم، ولا اتبع إلا أصدق مقيم.
69
وورد عبده الزهيري من حضرته المطهرة كأنه زهرة بقيع، أو وردة ربيع، كثيرة الورق، طيبة العرق؛ وليس هو في نعمته كالريم، في ظلال الصريم، والجاب، في السحاب المنجاب؛ لأن الظلام يسفر، والغمام ينسفر؛ ولكنه مثل النون في اللجة، والأعفر تحت جربة،
70
وقد كنت عرفت سيدنا فيما سلف أن الأدب كعهود في أثر عهود، أروت النجاد، فما ظنك بالوهود؟ وأني نزلت من ذلك الغيث ببلد طسم، كأثر الوسم؛ منعه القراع، من الإمراع. يا بؤس، بني سدوس، العدو حازب، والكلأ عازب؛ يا خصب بني عبد المدان؛ ضأن في الحربث وضأن في السعدان. فلما رأيت ذلك أتعبت الأظل، فلم أجد إلا الحنظل، فليس في اللبيد، إلا الهبيد؛ جنيته من شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. لبن الإبل عن المرار مر، وعن الأراك طيب حر. هذا مثلي في الأدب،
71
فأما في النشب، فلم تزل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيدنا بلغتان: بلغة صبر، وبلغة وفر، أنا منهما بين الليلة المرعية، واللقوح الربعية، هذه عام، وتلك مال وطعام، والقليل، سلم إلى الجليل، كالمصلي يريغ الضوء، بإسباغ الوضوء، والتكفير، بإدامة التعفير، وقاصد بيت الله يغسل الحوب، بطول الشحوب، وأنا في مكاتبة حضرة سيدنا الجليلة، والميل عن حضرة سيدنا الأجل والده - أعز الله سلطانه - كسبإ بن يعرب، لما ابتهل في التقرب، إلى خالق النور، ومصرف الأمور، نظر فلم ير أشرق من الشمس يدا، فسجد لها تعبدا.
72
وغير ملوم سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربعية، ومدائحه اليربوعية؛ مللا من أهل البلد المضاف إلى هذا الاسم؛ فغير معتذر، من أبغض لأجلهم بني المنذر، وهم إلى حضرته السنية رجلان: سائل، وقائل؛ أما السائل فألح، وأما القائل فغير مستملح،
73
وقد سترت نفسي عنها ستر الخميص، بالقميص؛ وأخي الهتر، بسجوف الستر، فظهر لي فضله الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرف الحيوان في شئونه فخرج من بيته اليربوع، وبرز الملك من أجل الربوع، وقد يولع الهجرس، بأن يجرس، في البلد الجرد، قدام أسد ورد، وإني خبرت أن تلك الرسالة الأولى عرضت بالوطن الكريم، فأوجب ذلك رحيل أختها، متعرضة لمثل بختها؛ وكيف لا تنقع، وفي اليم تقع، وهي بمقصد سيدنا فاخرة، ولو نهيت الأولى لانتهت الآخرة.
74
وكتب إلى بعض أولياء السلطان يشفع في صديق له كان عاملا يعرف بالحسين بن عنبسة بن عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتابي أطال الله بقاء سيدي الأستاذ مالكا خزائم الأمور، واطئا أعناق الدهور، عن حال تشكر، ونعمة لا تنكر، أنا معهما بالتقصير عن واجباته مقر، ولشرف أخلاقه مظهر ومسر، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على صفوته المنتخبين .
75
وأحلف بالقسم العازم، والنذر اللازم، ما ذات طوق لا تنزعه، وبرد من الربيع ليست تخلعه، جاد الوسمي لها فأرنت، وبكت شجوها لا تغنت؛ عالية ذؤابة فنن غض، فهي لا في السماء ولا في الأرض، تكرر القيل، وتنطق الخفيف والثقيل، بأشوق إلى هديلها مني إلى مشاهدته، ولا آسف على خليلها من قلبي على فائت خدمته،
76
وإن عققت نفسي بترك المكاتبة، عقوق الضب ولده، والسارق يده، فإنما ذلك لهم واغل، وخطب شاغل، وتوخيا للتخفيف، وتنكبا عن التكليف، وإني لأصبو إلى لقائه صبابة العود إلى وطنه، وذي الشجن إلى شجنه، وأحن في خلال ذلك إلى مناجاته، حنين الشوارف إلى السقاب، والهوائف إلى ورود النقاب.
77
إذ كان ضيفه لا يبيت مبيت القفر، وغير جاره مرادسا خلب الجفر، وأنتشي أخباره الطيبة انتشاء الزهر، وأستافها كل عشي وسفر، ولي بها وجد الصادية، بماء الغادية، لا يزال يبهجني بها باكر مع الشارق، وآئب إياب الطارق، جعلها الله أبدا ضاحكة البشير، سارة للصديق والعشير.
78
وإني لأشتهر بمودته اشتهار الأبلق العقوق، وأستدل بمعرفته استدلال شائم البروق، ولو كتمتها نم بها الخلد نميمة الزجاج بالراح، والنخلة بنفسها في البراح، وكيف يستتر من قاد البازل، ويستسر من طوى المنازل، والنظرة من ذي علق كافية، والنهلة بعد طلق شافية،
79
وقد علمت أن الثاوي بساحته لا تسنح له الظباء، ولا يهتك عليه الخباء، ولا يصادفه ورد نطاة، ولا الشافعة لدائرة اللطاة؛ لكن ينام لأمنه نوم الجارية، عن سوم السارية، ويطرح الهموم فكرة اطراح الآبق إبالته، والمخفق حبالته، وأن نزيل غيره كالأشقر إن تقدم نحر، وإن تأخر عقر.
80
وكان سيدي أبو فلان لا يفتأ لهجا بما أولاه سيدي الأستاذ أدام الله عزه، وإنه بعنايته سلم، بعدما كلم، واستنقذ، بعدما وقذ؛ ولولا ذلك لعد جناة الرائد، وحصاة الذائد، ولسقي بكدر، وترك على مثل ليلة الصدر. فأنجاه الله جل اسمه على يديه من صفر الإناء، ومعر الفناء، فأضاف الله له الأجر الآجل، إلى الشكر العاجل. فقد منعه أن يجذ جذ الصليانة، ويقترف اقتراف الصربة، ويسقط سقوط ناب المخلف، ويلتمع التماع شفافة السعن البديع؛ وتلك عرى انعقدت، وأسباب توكدت. لما كانت عناية سيدي أيده الله منه على طرف الثمة، ودون القمة، فآنسه بين سمع البيد وبصرها، ومراشح العين لجآذرها، شراب بأنقاع، موقد ناره باليفاع:
تؤنسه دائرة لا تفزع
عند اللقاء وخطيب مصقع
سواء عليه أي حين أتيته
أساعة بؤسي تتقى أم بأسعد
81
وفي كل ثلاث ترد كتبه محيطة من شكر مننه بالأوقار، متصلة بذلك ذات المرار، وهل جرى على غريب شاكلة، أو سار في دارس محجة، إنما اتبع طريقا لأسرته، كقرا الثعبان وباري الصناع:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل
وغير ملوم من عشق الثناء لأنه أحسن حبيب مزور، وأبقى منفس مذخور، وأوفاك مثن ما أسديت، وجزاك معترف الذي أوليت.، وقد بث أهل أبي فلان الدعاء في كل ريع، ورجوه رجاء الربيع:
لزغب كأولاد القطا راث خلفها
على عاجزات النهض حمر حواصله
82
فأنا أطال الله بقاء سيدي وهذا الرجل فرعا سمرة، وقضيبا أراكة، وطائرا وكر، وأليفا واد، تنصرنا الغمامة الواحدة، وتضيء لنا اللمعة الفاردة. بل نزيد على هذا التمثيل، فنكون بناني يد، وريشتي جناح، وشعبتي غصن إذا أماله النسيم ملت، وإن اعتدل له اعتدلت؛ فلساني ينطق عن ضميره نطق المزمار عن فم القاصبة، والأوتار عن أنامل الضاربة.، وقد كنت عجزت عن أداء حق سيدي عجز روق الفناة، دون إدراك القناة، وضمين الوجذ المورود، عن تغمير نعم مطرود. فما تراني الآن أقول على أي صرعي أقع، وفي أي وجه أبقع. حياك من خلا فوه لا أحدث عريبا، ولا أسئل مجيبا. حسب اللسان تقريظ المنعم، والجنان مقة المتفضل المكرم.
83
ولست أدع امتراء كرمه وإن كفى، ولا اختفاء در مناقبه وإن طفا، وإتمام الصنيعة إتباع الفرس لجامها، والناقة زمامها، وإسعاد أبي فلان باللفظة وراء اللفظة، والمشورة تلي المشورة، حتى يقدم على أطفاله، فهم لغيبته مبتئسون، وبشئونه كل وقت يتساءلون، سؤال المجدب بالكلإ، والمستوحش من الوحدة عن الملإ، ويرقبون طلوعه عليهم، ترقب مخلفات السرب، موافاة الأمهات بالشرب ، وبقاؤه الحاجة العظمى، والنعمة ليس مثلها نعمى، وإن كانت له شهلاء شرفني بذكرها ونقع غلتي بالخدمة فيها متطولا إن شاء الله.
84
وكتب إلى أبي طاهر المشرف بن سبيكة وهو ببغداد يذكر له أمر شرح السيرافي وما جرى فيه من التعب:
بسم الله الرحمن الرحيم. لله الحمد، ما أحصي خطاء وعمد، وصلى الله على محمد ما التأم شعب، وعلا كعبا كعب.
85
شوقي إلى سيدي الشيخ، شوق البلاد الممحلة، إلى السحابة المسحلة؛
86
وانتفاعي بقربه، انتفاع الأرض الأريضة، بالأمواه الغريضة، وتشوفي لأخباره، تشوف راعي أنعام، أجدب في عام بعد عام، لبارق يمان، هوله مرتقب ممان،
87
وأسفي لفقده أسف وحشية، رادت بالعشية، فخالفها السرحان، إلى طلا راد فحان، فهي تطوف حول أميل، وترى صبرها ليس بجميل،
88
وتذكري لأوقاته تذكر الفطيم ثدي الوالدة، والمقسم بالملح لبني خالدة، وانتظاري لقدومه انتظار تاجر مكة وفد الأعاجم، ورب الماشية ظهور النبت الناجم،
89
وفزعي إلى نجدته، فزع الغرق إلى سيف دان، والفرق إلى سيف ليس بددان، واعتذاري من التثقيل عليه اعتذار الورقاء من الغدر، وأبي جهل من حضور بدر،
90
وثقتي بمكارمه ثقة راكب الماء بالعامة، والحرث بالنعامة، وشكري على أياديه حبيس ليس بمحتبس، بل يتجدد مع النفس.
91
وفي هذا اليوم، وهو يوم كذا وصل كتابه فسررت به سرور الظمآن ورد نميرا، والساهر صادف سميرا؛ وكأن ما ضمنه من سلامته، بشرى لها تخف الأحلام خفة القائل ولا يلام: يا بشراي هذا غلام، والله يمن باجتماع، ليس بعده من إزماع.
92
وفهمت ما ذكره من أمر النسخة المحصلة، وهو أدام الله عزه الكريم المتكرم، وأنا المثقل المبرم. جرى في التفضل على الرسم، وألححت إلحاح الوسم، فأما الشرح إن سمح به القدر، وإلا فهو هدر، وقد كنت قلت في بعض كتبي إلى سيدي إن كانت الخطوط مختلفة، والأبواب مؤتلفة، فلا بأس يغني عن لبس السرق، ثوب جمع من شتى خرق، ما عدا خط علي بن عيسى؛ فإنه رجل اتكل على ما في صدره، فتهاون بإحكام سطره، وإنما رجوت ببركته أن يتفق أناس كما قال الله تعالى:
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ، فأما أنا فلا أقول أبدا عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.
93
وأما ما ذكره من فساد الناس فأحلف ما حلم الأديم، وإن ذلك لداء قديم، النمرة بنت النمرة، والقتادة أخت السمرة، وهو أدام الله تأييده من الملامة، في أحصن لامة، فلا يبعثه تعذر الحاجة، على اللجاجة. أهو الكتاب المكنون، الذي لا يمسه إلا المطهرون! إنما هو أبا طيل إياة، وتعلل في أيام الحياة،
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .
94
فأما سيدي الشيخ أبو عمر ثابت فإن اسمه وافق آية، بلغت بفألها النهاية، وهي قوله جل اسمه:
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا والجماعة نهدي إلى سيدي الشيخ وإلى جميع أصدقائه سلاما تأرج الكتب بحمله، وتروض المجدبة من سيله، وحسبي الله.
وكتب إلى صديق له سأله أن ينقصه في ترتيب المكاتبة:
كتابي أطال الله بقاء الرئيس الفاضل بلا استثناء، والمشتمل بحلة الثناء، من المستقر المأنوس، بحسن ذكره، المأهول بحملة شكره، عن قلب يعوم في ولائه عوم الحجاة في الغدير، والقطرة في حوض الصبير، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خيرته المنتخبين، وشوقي إلى حضرته السعيدة كرحيق إذا عتق جاد، وراوي أثر كلما قدم ساد؛ شوق لا تحسنه باكية هديل، ولا نامية إلى جديل.
95
وكان كتابه لما ورد كطائر بشارة وقع، وماء سرارة فوجئ فنقع، والإطناب في صفة ما عرفت حقيقته خلق مجتنب، وترك البيان لما ظهر أجدر وأوجب، وفضضته عن عتائر اللطيمة، ومقاطر الأطيمة، وعظمت نعمة الله جل اسمه علي لما ذكره من أن السلامة عليه جلباب، والنعمة له منزل وجناب. لأني جعلته أدام الله عزه الجنة الواقية، والعدة الباقية، وإذا تضوع لمكارمه أرج، واتصل من أغصان مناقبه حرج. أظهرت المرح، وأضمرت القرح، كالأمة تفخر بحدج ربتها، والمعزبة بنعم أهل بيتها،
96
وقد علمت أن تأخير الجواب، إنما كان لإلحاق حس الشر بأسه، ورد غائلة الغلط على نفسه، لأني كتبت بعدما حلم الأديم، وبلي الرديم، وأبطأ الغروب، أملؤها من شفاء المكروب، والعشار الهجان، أثقل ما زجره الفتيان، وقد أيقنت أن رسل نصيحته ليس بسمار، وأن صواب رأيه عن غير ائتمار، ولم أكتب في أمر أبي فلان إلا متشكرا، ثم ثنيت باسترفاد المعونة مذكرا. إذ كان أدام الله عزه لا يشير لسائله إلى الأفد البعيد، ولا يضرب لراجيه رءوس المواعيد:
أرخ يديك واسترخ
إن الزناد من مرخ
فأما تداركه ما جرى من الوهم، فإذا أعطيت القوس باريها، والخيل فوارسها، والقناة مصرفها، دحضت قدم الباطل بثبات الحق، وزالت حنادس المين بإشراق شموس الصدق، وما استند أبو فلان إلا إلى هضب متالع، واعتصم بغرز جواد غير ظالع، ما هز نابيا، ولا أرسل إلى الغاية كابيا، ولولا عنايته لاعتمد على اليرمع بكفيه، واتبع اليلمع بناظريه، ولقي أم الربيق على أريق.
97
ولو لم يتعب سيدي أنامله بالمكاتبة، وقلمه في الإجابة، لكانت دلائل صنائعه ناطقة، ومخايل إحسانه مخبرة صادقة. يريك بشر، ما أحار مشفر، كفى بضيائها هاديا، وبنشرها مناديا، وأما تجميله أمر الجماعة بحضرة الرئيس أبي فلان فنعمة وليت نعما، وكرم أردف كرما؛ وتلك حضرة يألفها الخير إلف الإبل السعدان، والمحار العدان، والجماعة أولياء فضلها، وغراس أهلها.
98
وأما الفصل في ترتيب الخطاب، فلا غرو لمن نزل إلى درجات، أن أرتفع إليه درجة، ولمن سلك نحوي المشبهات، أن أسلك نحوه المحجة؛ وذاك فعل مدل، وجهد مقل. فأنا حينئذ كمن قام ليتلقى الغمام، شوقا إلى عذب ماء، قطع إليه ما بين الأرض والسماء. وقد والله العظيم أردت سؤاله في الرجوع إلى مرتبته في المكاتبة، وإجرائي على مقداري في المناجاة والمحاورة، فخشيت أن يسبق إلي ظن أنا منه بري، وبسواه جدير حري، وكان التأخر عن ذلك زلة، والترك لتنجزه غفلة؛ لأنه كلفني إقلاق ثبير، ولحاق البدر المنير، فما بال العلاوة بين الفودين، والبنانة بعد اليدين. لا معتبة إن جازيت ببكي الفطر، عن زكي القطر؛ هو بدأني بما لا أستحق، فأجبت بما أوذمه علي الرق، ولم أكن كعاقر الرمل، أمطر فلا أروض، وكحفير الميت أعوض ولا أعوض. لا أقل من كوني مثل وذيلة الغريبة، وزلفة المضر الأريبة، يطلع فيها ذو الوجه الجميل، فتجتهد له في التمثيل، ولابتدائه على مكافأتي شف الطلعة البهية، على صورتها في المرآة الجلية. فإذا راع في لفظه إلى اليفاع وعدل في الكلام فاعتدل، آض وليه فلزم الانخفاض، وفاء فأخذ اللفاء.
99
وسيدي أبو فلان فرقد حندسي، وكوكب ربيعي، وروضة أملي، ولما كان هو وسيدي قمرين في طفاوة، وشمسين في هالة، وبشريين في كلمة، اقتصرت على الكتاب إلى أحدهما دون الآخر، وأنا أهدي إلى حضرتهما ثناء مسكيا، وسلاما زكيا، يبقيان ما رسا العلم، وأورق السلم، إن شاء الله. (انتهى الكتاب)
هوامش
نامعلوم صفحہ