From the Explanation of Bulugh al-Maram by al-Turayfi
من شرح بلوغ المرام للطريفي
اصناف
شرح
بلوغ المرام
اشرف على تفريغه وإخراجه
حمود المطيري وفقه الله ومن أعانه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
1 / 1
فإن دراسة السنة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله ﷾، وإن من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله ﷾ ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي ﷺ، وكذلك العناية بصحيحها وسقيمها، فإن سنة النبي ﷺ وحي من الله ﷾، أوحاه إلى نبيه ﷺ بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتجاج، ولذا فإنه قد أجمع أهل السنة على أن سنة النبي ﷺ وحي من الله ﷾، وقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم، ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾، وهذا بيان من الله ﷾ على أن سنة النبي ﷺ وحي من الله جل وعلا، وعلى هذا أهل العلم وكذلك صنيعهم دل على ذلك في مصنفاتهم، فالإمام البخاري عليه رحمة الله قد عقد أول كتاب في صحيحه: (كتاب بدء الوحي)، إشارة إلى أن ما يليه من هذا الكتاب إنما هو وحي من الله تعالى على نبيه ﷺ، ولذا قال مشيرًا إلى ذلك في كتاب التوحيد من صحيحه: (باب ذكر النبي ﷺ وروايته عن ربه)، وهذا محل اتفاق عند أهل العلم أيضًا فقد أخرج الدارمي في سننه وأبو داود في كتاب المراسيل والخطيب في الكفاية والفقيه والمتفقه وابن عبد البر في كتابه الجامع والمروزي في كتاب السنة عن الأوزاعي عن حسان قال: كان جبريل ينزل على النبي ﷺ في السنّة كما ينزل عليه بالقرآن.
1 / 2
وقد أخرج الخطيب في كتابه الكفاية عن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هو صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله ﷺ ورسول الله عن جبريل وجبريل عن الله ﷿، أي فهذه شريعة الله ﷾ من كتاب وسنة، إنما يرويها حتى وصلت إلينا صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ عن جبريل وجبريل عن الله ﷿، فلا يقف شيء من وحي الله ﷾ عند أحد من هؤلاء دون الله ﷾ والنبي ﷺ فيما يقوله ويفعله، كله وحي من الله جل وعلا، فالنبي ﷺ إذا سئل في شيء من شرع الله ﷾ وكان لديه وحي من الله تعالى سابق أخبر به، وإن لم يكن لديه وحي من الله جل وعلا فإنه حينئذٍ ينتظر خبر السماء ولا يتكلم من دون الله ﷾.
1 / 3
وقد جاء عن النبي ﷺ في ذلك أخبار تبين وقوف النبي ﷺ وعدم كلامه من تلقاء نفسه، ومن ذلك ما أخرج الشيخان من حديث إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن أميه عن أبيه أنه كان يقول لعمر بن الخطاب ﵁: ليتني أرى نبي الله ﷺ حين ينزل عليه الوحي، قال: فلما كان النبي ﷺ بالجعرانة، وعلى النبي ﷺ ثوب قد أظل به عليه مع إناس من أصحابه فيهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل قد أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ قال: فنظر إليه النبي ﷺ ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي ولم يكن حينئذٍ لدى النبي ﷺ علمًا من الله جل وعلا ووحي سابق، فأشار عمر بيديه إلى يعلى بن أميه أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي ﷺ محمر الوجه يغط ساعة ثم سرّيَ عنه، فقال: «أين الذي سألني عن العمرة؟»، فالتُمِس الرجل فجيء به، فقال النبي ﷺ: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»، فهذا النبي ﷺ لما جاءه ذلك الرجل الذي قد تلبس بعمرة، جاءه ولم يكن لديه علم عما تلبس به، فإنه قد لبس المخيط وهي: الجبة وتضمخ بطيب وهما من محظورات الإحرام، فسأل النبي ﷺ عن ذلك ولم يكن لدى النبي ﷺ وحي من الله جل وعلا سابق، فانتظر الوحي الذي جاءه به جبريل ﵇، والنبي ﷺ قد أخبر أن أخباره وأقواله وأحكامه التي يقولها ويفعلها من أمر ونهي أو فعل وترك ونحو ذلك إنما هي وحي من الله ﷾ بل هي من كتاب الله جل وعلا، فالله ﷾ قد قرن طاعة نبيه
1 / 4
ﷺ بطاعته في غير ما موضع من كتابه ﷾، بل أخبر أن من يعصي رسول الله ﷺ إنما يعصي الله جل وعلا، أخرج الشيخان قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، قال: فقام خصمه الأعرابي الآخر، فقال: صدق يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقال ذلك الأعرابي: إن ابني كان عسيفًا على هذا - يعني أجيرًا يرعى له غنمه - فزنى بامرأته، فقالوا لي على ابنك الرجم، قال: ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي ﷺ: «لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس، فاغدُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، فغدا أنيس إليها فرجمها.
1 / 5
ومن تأمل أحكام النبي ﷺ لهذا الأعرابي وخصمه فإنه يجد النبي ﷺ قد حكم أحكامًا ليست في القرآن الكريم بنصها، وإنما هي من النبي ﷺ من وحي الله جل وعلا، الذي هو يعد من سنة النبي ﷺ التي هي قرينة القرآن الكريم من جهة الاحتجاج، فالنبي ﷺ حكم عليه بأن الغنم والوليدة رد عليه؛ لأنها ليست من حكم الله ﷾، وكذلك قد حكم على ابنه جلد مائة، والجلد قد ثبت في كتاب الله ﷾ في سورة النور في قوله جل وعلا: ﴿فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾، وكذلك قد حكم على ابنه بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وتغريب العام أيضًا هو ليس مما نُص عليه في كتاب الله ﷾، وإنما هو من سنة النبي ﷺ مع أن النبي ﷺ قال: «لأقضين بينكما»، وهذا قَسَمٌ منه ﷺ: «لأقضين بينكما بكتاب الله»، وحكم بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وذلك يدل على أن أحكام النبي ﷺ قرينة لكتاب الله ﷾، الذي هو القرآن الكريم من جهة الاحتجاج.
1 / 6
والنبي ﷺ قد أخبر في غير ما موضع أن سنته وما يرد عنه ﷺ من قول أو فعل أنها قرينة لكتاب الله ﷾ يحرم ردها ويحرم الإعراض عنها لقول أحد من الناس، بل أخبر الله ﷾ في كتابه العظيم أن عدم توقير أقوال النبي ﷺ إيذان بإحباط العمل، وقد قال الله جل وعلا في سورة الحجرات: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾، فإحباط العمل هنا ليس من الذي تسبب فيه الكفر، فمعلوم أن الكفر بالله ﷾ يحبط العمل، ولكن هنا من يرفع صوته عند النبي ﷺ قد يكونون هم من أهل الإيمان وارتكبوا هذه المعصية، التي ربما تشعر بعدم إجلال لأقوال النبي ﷺ، ورفع الصوت عند أقوال النبي ﷺ سواء كان في حياته أو بعد مماته عند سماعها ممن يتحدث بها الحكم واحد، فإن ذلك مظنة حبوط العمل والعياذ بالله، وإن لم يكن كفرًا، فما الظن إذًا بمن قدم على قول رسول الله ﷺ ونهجه وهديه قول غيره ونهجه وهديه، أليس هذا قد حبط عمله من غير ان يشعر..!!.
أخرج الشيخان من طريق صالح عن بن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن أبيها الصديق قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله ﷺ يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
وهذا الصديق يخاف إن ترك السنة أن يزيغ فماذا عسى أن يكون من وقت وزمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره ونهيه، ويتنافسون في مخالفته، بل ويسخرون من نهجه..
وقد أجمع المسلمون على أن من ظهر له من السنة شيء لم يحل له أن يدعها لقول أحد كان.
1 / 7
وإذا علم هذا علم عظمة التعبد بالعناية بالوحي وكذلك الاعتناء بما يرد عن النبي ﷺ والتعبد بما فيه، وإذا علم أن سنة النبي ﷺ وحي من الله جل وعلا، فإنه حينئذٍ يعلم شرف ذلك العلم وفضله عند الله ﷾.
وقد كان السلف الصالح عليهم رحمة الله كثيرًا ما يعتنون بمعرفة أحكام النبي ﷺ وأحواله، وكذلك فإن مجالس الذكر إنما هي مجالس الحلال والحرام ليست هي مجالس القصاص ونحوها، إنما هي مجالس الحلال والحرام، معرفة الفقه ومعرفة أحكام القرآن وتفسيره ونحو ذلك، فقد أخرج أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث أبي عبد الملك قال: حدثنا يزيد بن سمرة أبو هزان قال: سمعت عطاء الخرساني يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام.
وقد أخرج أيضًا أبو نعيم من حديث يحيى بن كثير قال: تعلّم الفقه صلاة، ودراسة القرآن صلاة.
فإذن إذا علم أن سنة النبي ﷺ وحي من الله ﷾ فإنه يُعلم شرف ذلك العلم وعظمة الأجر عند الله ﷾ لمن تتبع سنة النبي ﷺ وتفقه فيها، وسعى في حفظها وفي معرفة صحيحها من سقيمها، والذب عنها، وهذا من أرفع الدرجات عند الله لمن رزق الاخلاص والنية الصالحة، وقد قال يحي بن يحي النيسابوري: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. قيل له: الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه؟، قال: نعم بكثير..
وقد قال ابو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو عندي اليوم أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل.
وهذا يدل على فضل الجهاد كما يدل على فضل السنة حيث وقع التفضيل بينهما لعلو شأنهما في الاسلام.
1 / 8
ونحن في هذه الدرس وما يتبعه من مجالس نشرح كتابًا من أعظم وأنفع الكتب في باب الأحكام، وهو كتاب: (بلوغ المرام للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عليه رحمة الله)، وكتابه بلوغ المرام من أنفع كتب الأحكام فقد جمع عليه رحمة الله مجموعة من أحاديث النبي ﷺ من كثير من كتب السنة، منها الصحيح ومنها ما هو دون ذلك؛ لأنه عليه رحمة الله قصد أن يجمع ما يستدل به أصحاب المذاهب على أقوالهم التي يستدلون بها في أبواب الفقه، فجمع الأحاديث ورتبها على الأبواب، فكان قليل النظير في بابه بل هو من أنفس كتب الأحكام التي صنفها أهل العلم في كتب الأحكام من الأئمة المتأخرين عليهم رحمة الله.
قول الحافظ ابن حجر في مقدمته: (بسم الله الرحمن الرحيم....إلخ)
والمصنف عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد ابتدأ في المقدمة بالبسملة، ويقال للفظ: (بسم الله..) بسمله اختصارًا، ويقال لمن قال: (بسم الله) بسمل أو مبسمل قال عمر بن ابي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها *** فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل.
وابتداء الحافظ بالبسملة هو اقتداء بالكتاب العزيز، وبما جاء عن النبي ﷺ من التسمية من فعله ﷺ في كثير من أحواله كالمكاتبات وغيرها، وقد جاء عنه ﷺ الأمر بالتسمية إلا أنه لا يثبت، فقد رواه الخطيب في جامعه من حديث مبشر بن اسماعيل عن الأوزاعي عن الزهري عن ابي سلمة عن ابي هريرة مرفوعا: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) .
1 / 9
وهو خبر منكر بل موضوع، أعله الحفاظ كالإمام أحمد والدارقطني والصحيح فيه أنه مرسل وبغير لفظ البسمله وهو منكر أيضًا، وهم فيه مبشر بن إسماعيل فرواه بلفظ البسملة وقد رواه جماعة كالوليد بن مسلم وبقية وخارجه بن مصعب وشعيب بن إسحاق ومحمد بن كثير والمعافى بن عمران وعبد القدوس وغيرهم عن الاوزاعي بلفظ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله..) والصحيح في هذا اللفظ الارسال، ووهم من عزاه بلفظ البسملة للسنن كالزيلعي والعراقي والسيوطي وغيرهم، وتساهل بعض المتأخرين فحسنه كالسيوطي وهو من المتساهلين جدا في تقوية الأخبار الضعيفة والواهية، ويقلد في هذا الباب كثيرًا.
إذا فالأمر بالبسملة في الخبر السابق لا يثبت، إلا أنه ثابت عن النبي ﷺ من فعله في المكاتبات، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن أبي سفيان عليهما رضوان الله تعالى أنه قال: كتب النبي ﷺ إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم»، وهذا ثابت عنه ﷺ من فعله.
والابتداء بالبسملة قد جاء عن النبي ﷺ في مواضع عدة الحث بالابتداء بها، فقد جاء عنه في ذلك أحوال عدة من الحث على التسمية في ابتداء الأمور سواء في ابتداء الأفعال أو في ابتداء المكتوب أو في ابتداء بعض العبادات، منها:
أن يبتدأ بالبسملة كاملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقد جاء عن النبي ﷺ ذلك في مواضع عدة: منها ابتداء القراءة قبل الفاتحة بعد تكبيرة الإحرام بالبسملة، كما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان عن سعيد بن أبي الهلال عن نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم ...) الخبر، وفيه قال أبو هريرة والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله ﷺ.
1 / 10
ومثله الابتداء بها عند القراءة مطلقًا وفي ابتداء المكتوب وفي ذلك احاديث وأثار صحيحة
* وكذلك من الأحوال أن يبتدأ عمله بالبسملة بـ (بسم الله) من غير إضافة (الرحمن الرحيم)، جاء عن النبي ﷺ في أحوال منها ما أخرجه الإمام مسلم من حديث الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة أنه أكل مع النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: «قل بسم الله، وكل بيمينك»، وجاء في التسمية عند الطعام نصوص أخرى بذكر التسمية تامة
* وكذلك قد جاء عنه ﷺ حالة ثالثة هي التسمية من غير اضافة لفظ: (الرحمن الرحيم) مع زيادة شيء آخر، منها ما جاء عن النبي ﷺ في وضع الميت بالقبر، وأن يقول: «بسم الله وعلى ملة رسول الله»، كما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث شعبة عن قتادة عن أبي الصديق عن عبد الله بن عمر، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن عبد الله بن عباس ﵁ أن النبي ﷺ قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ...» الخبر، كما جاء عنه ﷺ.
وحالة رابعة وهي مجيء لفظ الخبر عن النبي ﷺ بلفظ: (ذكر الله) من غير تصريح.
1 / 11
والسنة في ذلك لزوم ما جاءت به الاحاديث الصحيحة وعدم الزيادة عليها ففي الأحوال التي ثبت فيها الخبر عنه ﵊ القول ببسم الله الرحمن الرحيم تامة لا يتحصل العمل وامتثال السنة إلا بذكرها تامة وإن اقتصر في تلك الأحوال على بسم الله فحسب لا يتحصل له امتثال السنة وفي الأحوال التي ثبت الاقتصار فيها على لفظ بسم الله فالامتثال في تلك الاحوال لزوم قول بسم الله فحسب وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية: يقول عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كاملا فإنه أكمل بخلاف الذبح.
وأما الأحوال التي ثبت فيها النص بذكر بسم الله مع زيادة إضافة لفظ آخر غير لفظ الرحمن الرحيم فالامتثال فيها قول بسم الله مع تلك الزيادة ومن اراد الزيادة بعد بسم الله بلفظ الرحمن الرحيم ثم ذكر الاضافة الاخرى الثابتة بالنص لم يكن ممتثلا، لان هذه أذكار وأدعية الاولى الوقوف عليها كما جاءت.
وأما الأحوال التي ثبت فيها ذكر اسم الله من غير التصريح ببسم الله الرحمن الرحيم أو ببسم الله فحسب فهو مخير بذكر البسملة تامة وهو الاولى أو الاقتصار على قول بسم الله.
1 / 12
وقد أجمع أهل العلم على مشروعية التسمية كما جاء عن النبي ﷺ، إلا أن أهل العلم اختلفوا في ابتداء الشعر بالبسملة، فقد روي عن بعض السلف من التابعين وغيرهم كراهية التسمية في ابتداء الشعر ونحو ذلك، ومن ذلك ما أخرجه الخطيب البغدادي في كتاب الجامع من حديث جنادة بن سلم وهو من ولد جابر بن سمرة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقد أخرجه الخطيب البغدادي من طريق آخر من حديث حفص بن غياث عن مجالد عن الشعبي، قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الأشعار (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذا القول قد قال به أيضًا غير عامر بن شراحيل الشعبي، فقد روي أيضًا عن الزهري عليه رحمة الله، كما أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع أيضًا من حديث عبد العزيز بن عمران الزهري عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: مضت السنة ألا يكتب في الشعر (بسم الله الرحمن الرحيم)، إلا أن هذا القول لا يثبت عن عامر بن شراحيل الشعبي؛ لأن في إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، والذي عليه المحققون من أهل العلم وقد ذهب إليه عامة المتأخرين أن ابتداء الشعر سواءً كان في تصنيف أو في قول أن ذلك من السنة ولا يخرجه من ذلك شيء يثبت عن الرسول ﷺ.
وقد روي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره من التابعين كما روى الخطيب البغدادي أيضًا من حديث محمد بن مصعب عن جبلة بن أبي سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: لا يصلح كتاب إلا أوله (بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كان شعرًا، فهذا يدل على مشروعية ابتداء التسمية في جميع الأعمال، وأن ذلك هو السنة لا يستثنى من ذلك شيء، فإن النبي ﷺ لم يستثن من ذلك شيئًا ﷺ.
وقد صنف اهل العلم في البسملة واحكامها مصنفات منهم الحافظ ابن عبد البر فله جزء فيها، وابن الصبان وهو من المتاخرين.
1 / 13
والمصنف الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في كتابه بلوغ المرام قد وقع له اصطلاحات وقد نص عليها في مقدمته، فقد ذكر أنه إذا قال أخرجه السبعة أنه يريد بذلك: أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد عليهم رحمة الله، وإذا قال أخرجه الأربعة فإنهم: أصحاب السنن، وكذلك الستة هم: البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، ثم ذكر بقية ما وضعه من اصطلاحات، بعضها يعتبر خاص به عليه رحمة الله، فاصطلاحات الحافظ ابن حجر في كتاب بلوغ المرام هنا اصطلاحات ينبغي لطالب العلم معرفتها قبل أن يبتدأ في بلوغ المرام، فإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعرف اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم لكي لا يقع في توهيم أهل العلم وتخطئتهم من غير بينة، فإن لكل عالم من أهل العلم شيء من الاصطلاحات في كتابه إما أن يذكرها في مقدمته، وإما أن تعلم بالسبر والنظر لذلك الكتاب الذي صنفه، فإنه حينئذٍ يستخلص ويستخرج اصطلاحات من كتابه ذلك.
فالحافظ ابن حجر عليه رحمة الله مثلًا في قوله: (متفق عليه) هنا أي أنه أخرجه البخاري ومسلم، مع أنه يوجد عند بعض أهل العلم من أمثال هذا الاصطلاح يعد غير ما أراد به الحافظ بن حجر البخاري ومسلم فحسب، فمثلًا صاحب المنتقى المجد ابن تيمية عليه رحمة الله إذا قال: (متفق عليه) فإنه يريد به أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد.
1 / 14
وكذلك فإن أبا نعيم الأصبهاني عليه رحمة الله في كتابه حلية الأولياء له شيء من الاصطلاحات في ذلك، فإنه عليه رحمة الله إذا أطلق (متفق عليه)؛ فإنه لا يريد به في كثير من الأحيان أنه أخرجه البخاري ومسلم، وإنما يريد به أنه توفرت فيه شروط الصحة، فإنه قد أطلق هذه الكلمة (متفق عليه) في كتابه حلية الأولياء، في أحاديث ليست بنادرة أو بالقليلة، ووجدت أنها ليست في البخاري ولا مسلم عليهما رحمة الله، أو توجد في أحد الصحيحين وليست في الآخر، وهذا يدل على أن له اصطلاح غير ما اصطلح عليه بعض أهل العلم، وأخذه عمن اصطلح عليه عامة المتأخرين، فمثلًا الحافظ أبو نعيم عليه رحمة الله يورد بعض الأحاديث ويقول (متفق عليه) وليست هي في البخاري ومسلم أصلًا، منها ما أخرجه أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ﵁، أن النبي ﷺ قال: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين»، قال أبو نعيم عليه رحمة الله بعد إخراجه لهذا الخبر قال: صحيح متفق عليه، وهذا الخبر ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، فإن المصنف عليه رحمة الله أراد بذلك أنه توفرت فيه شروط الصحة، وقال هذه الكلمة في غير ما خبر، منها ما أخرجه أيضًا من طريق أبي داود الطيالسي عن سفيان عن أبي إسحاق عن البراء، قال: كان النبي ﷺ إذا قدم من سفر قال: «آيبون تائبون لربنا حامدون»، وهذا ليس في الصحيحين ولا في أحدهما، وإنما مراد المؤلف عليه رحمة الله في أمثال هذه المواضع أن هذه الأحاديث قد توفرت فيها شروط الصحة التي اشترطها أهل العلم، ومراده أن ذلك أعلى درجات الصحة عنده عليه ﵀.
1 / 15
إذًا فينبغي على طالب العلم أن يعلم اصطلاحات أهل العلم في مصنفاتهم، ليكون على بينة من أحكامهم، ولكي لا يقع في شيء من الخطأ في فهم مراد الحفاظ عليهم رحمة الله.
١- عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ في البحر: «هو الطهور الماؤه، الحل ميتته» أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي.
الحديث الأول الذي أورده المصنف عليه رحمة الله هو حديث أبي هريرة ﵁ وهو ما يسميه أهل العلم بحديث البحر.
قوله عليه رحمة الله: (كتاب الطهارة):
الكتاب أصل كلمة: كتب، والمراد بها الجمع، يقال " تكتب بنو فلان "، إذا تجمعوا؛ وسميت الكتيبة كتيبة لاجتماع أفرادها بعضهم مع بعض، وكذلك يسمى الكتاب كتابًا لاجتماع أوراقه والتصاقها بعضها مع بعض، وكذلك يسمى المكتوب مكتوبًا لاجتماع الحروف في ذلك المكتوب، وإن كانت ورقة واحدة فإنها تسمى كتابًا إذا كان مكتوب فيها، ولا تسمى الورقة الواحدة كتابًا حتى يكتب فيها، فإن المراد بالكتب هنا الجمع، كما قال الشاعر:
لا تأمنن فزاريًا خلوت به ......على قلوصك واكتبها بأسيارِ
قوله عليه رحة الله: (الطهارة):
والطهارة في لغة العرب تطلق على: النَظافة والنزاهة طَهر الثوب من القذر، يعني: تنظيف. وتنزه منه
وفي اصطلاح الشارع تطلقُ على معنيين
الأول: معنوي، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي اهم من طهارة البدن وأولى بالعناية والملاحظة والتدارك
الثَّاني: حسي، وهي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخَبث.
قوله عليه رحمة الله: (باب المياه):
1 / 16
المراد بالباب هنا هو: ما يخرج منه ويدخل منه، وهذا معلوم في لغة العرب، وأهل العلم قد اصطلحوا على هذه المسميات: (الكتاب والباب)، على أنها في الغالب عند أهل العلم أن (الكتاب) هو: ما يجمع أبوابًا من مسائل العلم أو من أحاديث النبي ﷺ، ومنها قول المصنف عليه رحمة الله (كتاب الطهارة)، أراد بالكتاب هنا: الجمع، أي جامع لأحاديث الطهارة وأخبارها التي جاءت عن النبي ﷺ أو أصحابه عليهم رضوان الله تعالى.
وإيراد المصنف عليه رحمة الله لهذا الخبر خبر أبي هريرة - هو أول حديث في هذا الباب - أراد به بيان طهورية ماء البحر، وأن ماء البحر إذا كان طاهرًا فإن غيره أولى منه، وقد جعل أهل العلم هذا الخبر من أصول الطهارة في الشريعة.
وهذا الخبر قد أخرجه كما ذكر المصنف الإمام أحمد وأصحاب السنن، وكذلك قد أخرجه مالك وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن، وكذلك قد رواه جماعة من أهل العلم، كلهم رووه من حديث صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمه عن المغيرة بن أبي بردة أنه سمع أبا هريرة ﵁ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضأنا به عطشنا! أفنتوضأ به؟، فقال ﷺ: «هو الطهور مائه الحل ميتته» .
1 / 17
وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، وقد صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام البخاري كما في علل الترمذي المفرد والترمذي وابن خزيمة والدارقطني جوده كما في علله، وكذلك البيهقي وابن عبد البر والحاكم وابن حبان وغيرهم من أهل العلم، وقد صححه جماعة من أهل العلم يزيدون على ثلاثين إمامًا، ولم أرَ أحدًا من أهل العلم ضعّف هذا الخبر سوى ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي، فإنهما قد أعلاه بسعيد بن سلمة وقالا بجهالته، فإن سعيد بن سلمة قد قال عن النسائي عليه رحمة الله: ثقة، وذكره ابن حبان في كتابه الثقات، إلا أن المجاهيل أو من هو مستور الحال عند أهل العلم لا يرد حديثه مطلقًا، وإنما يعتبر في بعض الأحوال بأحاديثه وتقوى أحاديثه ببعض القرائن، وإنما قبل أهل العلم حديث سعيد بن سلمة في هذا الخبر؛ لأن أهل العلم قد تلقوا خبره بالقبول، وشاع عندهم فكان قرينة لقبول الخبر، وأهل العلم في بعض الأحيان يعتمدون على شهرة الخبر عن الاحتجاج بالإسناد وهذا في أحوال نادرة، وأيضًا فإن الحفاظ يقوون في الأحيان أحاديث من لا يعرف فيه جرحًا ولا تعديلا، في بعض ما يرويه إذا إحتفت القرائن على صدقه بحيث لا يأتي بما ينكر، ولا يغرب بالألفاظ وقد صحح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة والدارقطني لجماعة لم يوجد فيهم جرح ولا تعديل، وذلك بعد سبر حديثهم فوجد مستقيمًا، ولا يعد هذا تساهلًا منهم، وذلك أن جهلهم بحال الراوي لا يعني جرحًا حتى يخشى من التقوية له، ومعرفة صدق الراوي وضبطه وعدالته تكون بسبر حديثه وتتبعه كما تكون بملاصقته واختباره، والتساهل إنما هو بتقوية أحاديث الضعفاء وبتصحيح خبر المجاهيل مع غرابة حديثهم ونكارته وتفردهم به مع أن احوال المجاهيل تختلف من شخص لآخر، ومن طبقة لأخرى ومن بلد لآخر، وبحسب الرواة عنهم أيضا فمجاهيل متقدمي التابعين ليسوا كمن بعدهم ومن روى عنه الشعبي وابن سيرين ليس كمن روى عنه
1 / 18
أقل منهم حفظا وتثبتا وان كثر عددهم مع قرائن كثيرة يُعملها الحفاظ في قبولهم لحديث بعض المجاهيل، ولذا لا تجد للائمة الحفاظ منهجا واحدا يعملونه في قبول ورد روايات المجاهيل كما لا يخفى فتجدهم يصححون حديث ويوثقون من لا يعرف له إلا حديث واحد وهو معدود في المجاهيل من جهة قلة روايته وتجدهم يردون من له أكثر من حديثين او ثلاثه او اربعة او خمسة وذلك لتفاوت القرائن المحتفة بكل واحد منهم فلأسود بن سعيد لا أعلم له غير حديث (تقتل عمار الفئة الباغية) مع هذا وثقه يحي بن معين وابن حبان ونحوه هارون بن رئاب وهو من المقلين جدًا، قال سفيان بن عيينة: (كان عنده أربعة أحاديث) ومع هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحي ابن معين والنسائي، بل قد أخرج الشيخان لمن هو من المستورين ولا يعرف بجرح ولا تعديل كإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة فقد أخرج له البخاري ولا أعلم من وثقه، وقد أخرج مسلم من حديث أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال أن رجلا سأل رسول الله ﷺ: أأتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا توضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل. وجعفر بن أبي ثور لا أعلم له موثق سوى ابن حبان، ومع هذا أخرج له مسلم في صحيحه وتقلى الأئمة الحفاظ حديثه بالقبول حتى قال الحافظ ابن خزيمه في صحيحه: لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل. وفي الصحيحين من الرواة عدد غير قليل ممن هم في عداد المستورين.
1 / 19
فعلى هذا يُعلم أن أمر المجهول يتفاوت بحسب ما ذكرناه فقد يكون الراوي عند الأئمة الحفاظ مجهولا على الرغم من رواية أكثر من واحد عنه، وقد يكون عندهم معروفا بل يكون ثقة وصحيح الحديث مع كونه لم يرو عنه إلا راو واحد فحسب، على هذا لا تكون مسألة المجهول ورفع الجهالة عنه متوقفة على عدد من روى عنه كما يذكره كثير من أهل الاصطلاح والأصول،.
وإعلال ابن القطان الفاسي وابن دقيق لحديث ماء البحر بجهالة راويه فيه نظر فابن القطان الفاسي ممن يتشدد جدا في هذا الباب ويعمل الاخذ بظاهر الاسانيد وهو قليل الاخذ بالقرائن كحال جمع من اهل العلم كابن حزم والخطيب وكثير من المتأخرين.
وطهورية ماء البحر هي مما لا خلاف فيها عند أهل العلم إلا قول يسير يروى عن بعض أصحاب النبي ﷺ.
وقوله هنا في ابتداء الخبر: (إنا نركب البحر)، فيه دليل على إباحة ركوب البحر، وأن الأصل فيه الجواز والإباحة، وهذا الذي يدل عليه كتاب الله ﷾، فإن الله جل وعلا قد ذكر ركوب الفلك وركوب البحر في غير ما موضع من كتابه ﷾،قال الله تعالى: ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر﴾، والمسير هو: ركوب الدابة في البر، وكذلك السير على الأقدام، وكذلك المسير في البحر المراد به: ركوب الفلك والسفن، وكذلك قوله ﷾: ﴿والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس﴾ .
1 / 20