Friday Sermon and Its Role in Educating the Nation
خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة
ناشر
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٢٢هـ
پبلشر کا مقام
المملكة العربية السعودية
اصناف
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. . . وبعد:
فإن الخطابة إحدى وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي من أهم وسائل التربية والتوحيد والتأثير، لذا فقد كانت جزءا من مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله جل وعلا وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه، وأليم عقابه، ليقلعوا عما هم عليه من ضلال وفساد عقدي، وخلقي، واجتماعي. وما زالت الخطابة- أيضا- وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون، والعلماء، والدعاة، والقادة في كل العصور لتحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة.
جاء في معجم كامبردج لتاريخ الأدب الأمريكي أن الرئيس " لنكولن " صاحب الشعبية الواسعة لم يفز بموقع الرئاسة في حزبه عام ١٨٦٠م بسبب سياساته أو أعماله، وإنما بأسلوبه المؤثر في التخاطب والتعبير، وهكذا الحال في كل الحركات التغييرية، فإن الأقدر على قوة التعبير والخطاب هم الأقدر على القيادة (١) .
وعلى رغم التأثير الكبير لوسائل الإعلام بأنواعها فإن من الباحثين من يذهب إلى أن الحديث المباشر بين الأشخاص، والمخاطبة المباشرة تؤدي إلى تغيير الآراء، والتأثير في الآخرين أكثر من الاستماع إلى الإذاعة، أو مشاهدة التلفاز، أو قراءة الجريدة، أو المجلة ونحو ذلك (٢) .
_________
(١) انظر: دليل التدريب (ص ٦٥) .
(٢) انظر: الاتصال الجماهيري والمجتمع (ص ٢٣٢) .
1 / 5
وكم من خطبة تناقل الناس عباراتها، واحتجوا بأفكارها، وتداولوها بينهم إعجابا واستحسانا بها، وكم من خطبة أحدثت تحولا في عادات الناس وتصوراتهم وكم من خطبة فتحت باب الأمل والتوبة لدى بعض المخاطبين.
غير أنه بالمقابل ربما كان للخطبة آثار سيئة، وأضرار خطيرة على المخاطبين من تهييج أو تيئيس، أو تناقل أخبار من قبيل الشائعات، أو نشر بدعة، وطمس سنة، أو بث فتنة وفساد بين الناس.
فإن المرء لا يكون خطيبا بمجرد صعوده المنبر، ومخاطبة الجموع، فالخطابة لها قواعدها، ومعالمها، وآدابها التي ينبغي أن يحرص عليها الخطيب حتى يكون ناجحا فاعلا مؤثرا، فلا بد أن يأخذ بحظ وافر من المران والممارسة، والتأهل والإعداد والتحضير، والعلم والثقافة المتنوعة.
ولقد كان لعدد من خطباء العرب البارزين في الجاهلية دور كبير جلي في إخماد الفتنة بين القبائل أو إشعالها، وكان لهم أثر واضح في المناسبات الاجتماعية من حض على القتال، وإدراك الثأر، أو الدعوة إلى رفيع الشيم، ومعالي الأخلاق، أو في خطب الوفود أو النكاح، أو المفاخرات والمبارزات الكلامية، مما جعل القبيلة تعتز بخطيبها وتفاخر به القبائل الأخرى تفاخرها بشعرائها أو أشد من ذلك.
وهكذا كانت الخطابة في العصور الإسلامية المتعاقبة، وقد جعل الإسلام أهمية بالغة، ومكانة عظيمة لخطبة الجمعة لما تختص به من خصائص، وتتميز به من مزايا تحتم على الخطيب أن يكون على مستوى هذه المكانة، وتلك الأهمية ليؤتي جهده أكله، ويثمر الثمرات المرجوة.
إن خطبة الجمعة تتميز بمزايا، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى، حيث إنها تمثل شعيرة من شعائر الإسلام، وتتم في جو مهيب خاشع تتهيأ فيه النفوس للتلقي والاستماع، ويشعر المسلم فيه أنه في
1 / 6
صلاة وطاعة لله جل وعلا، كما أنها تتميز بوجوب الإنصات إلى الخطيب. وعدم التشاغل عنه، مما يفردها عن سائر الخطب، والمحاضرات، والندوات التي لا ينطبق عليها الحكم الشرعي نفسه.
وتتميز خطبة الجمعة أيضا بالاستمرارية والتكرار في كل أسبوع، ففي العام الواحد يستمع المصلي لاثنتين وخمسين خطبة، وهذا يمثل مساقا دراسيا متكاملا، فإذا أحسن إعداده كانت آثاره جليلة، وثمراته عظيمة.
وتتميز خطبة الجمعة إلى جانب ذلك بتنوع الحاضرين إليها، وباختلاف مستوياتهم وطبقاتهم العلمية، والاجتماعية، فإن الخطيب في خطبة الجمعة يخاطب جميع فئات المجتمع، ولا يختص الحضور على فئة دون أخرى، وهذا التنوع يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية، فإن العامل وصاحب العمل، والطالب والمعلم، والموظف والرئيس كلهم يخاطبون في آن واحد، ويوضعون أمام مسؤولياتهم، فلا تخاطب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى.
ومن هنا كانت الكتابة في موضوع خطبة الجمعة ودورها في الأمة على جانب كبير من الأهمية، وتدعو إليه الحاجة الملحة.
لذا فقد رأيت الكتابة في هذا الموضوع الجليل خطره العظيم أثره، مشاركة في الارتقاء بمستوى الخطبة، وإحياء لدورها في الأمة، ونهوضا بمستوى الخطيب، وإبرازا لدوره في إيقاظ الهمم، وشحذ العزائم، في تبصير المسلمين بحقائق دينهم، وعقيدتهم، ومكايد عدوهم، ومما يجب عليهم، وما لا يسعهم جهله.
وقد قسمت هذا الكتاب إلى أربعة فصول رئيسية:
الفصل الأول: مقومات الخطبة المؤثرة، ويشتمل هذا القسم على المباحث التالية:
١ - قصر الخطبة وأثر ذلك.
1 / 7
٢ - اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية، والأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ.
٣ - اشتمالها على ضرب المثل من التاريخ، ومن واقع المخاطبين.
٤ - اختيار موضوع الخطبة وأثر ذلك.
٥ - اشتمالها على الأسلوب الحسن، وذلك يتمثل في الآتي:
(أ) تجنب التخصيص في الخطاب غالبا وأثر ذلك.
(ب) تجنب التجريح سواء للهيئات أم الجماعات أم الأشخاص.
(ج) تجنب المبالغة والتهويل في الخطاب.
(د) تجنب أسلوب التيئيس وما يولد الإحباط عند المخاطبين.
٦ - اشتمال الخطبة على العظة، والحث على التقوى، وما يرقق القلوب ويقوي الإيمان واليقين في النفوس.
الفصل الثاني: مقومات الخطيب المؤثر، وفيه المباحث الآتية:
١ - الإخلاص وصدق اللهجة وأثر ذلك.
٢ - سيرة الخطيب وأخلاقه وأثر ذلك.
٣ - علمه وثقافته.
٤ - لغته وفصاحته.
٥ - نبرة صوته وحركة يده.
٦ - حسن مظهره الخارجي.
٧ - تثبته من المعلومات، والأخبار، والأحكام التي يلقيها للناس.
٨ - حسن عرضه وخطابه للناس.
٩ - تجنبه للتقعر والتكلف، والتقليد في الكلام والحركة.
١٠ - إعداده للخطبة سواء أكان مرتجلا للخطبة أم لا.
١١ - تقويمه لكل خطبة من خطبه.
1 / 8
الفصل الثالث: المخاطبون، وفيه المباحث التالية:
١ - مستواهم من حيث السن والعمل والعرف.
٢ - أمراضهم الاجتماعية، وحسن معالجتها.
٣ - أمراض القلوب وحسن معالجتها.
وبناء الثقة بينهم وبين الخطيب بمخالطتهم وتحسس مشكلاتهم، ومشاركتهم في همومهم وتطلعاتهم، والتواضع لهم.
ورصد انفعالاتهم بالخطبة، ومتابعة تقويم ذلك، وتلمس آثار الخطبة في سلوكهم وعاداتهم وعلاقاتهم المختلفة.
الفصل الرابع: أثر الخطبة في تربية الأمة، وفيه مبحثان:
١ - خصائص خطبة الجمعة.
٢ - بروز آثارها في الواقع.
خاتمة: وتتضمن خلاصة الكتاب وبعض التوصيات والمقترحات.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا الكتاب من العلم النافع لكاتبه، وقارئه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، مبرءا من كل شرك أو رياء، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
وكتبه
عبد الغني أحمد مزهر
1 / 9
[الفصل الأول مقومات الخطبة المؤثرة]
[المبحث الأولى قصر الخطبة وطولها]
الفصل الأول
مقومات الخطبة المؤثرة
1 / 11
المبحث الأول
قصر الخطبة وطولها إن الخطبة المؤثرة ينبغي أن تتصف بصفات، وتشتمل على مقومات، ومنها قصر الخطبة، غير أننا لا نستطيع أن نحكم على الخطبة بالجودة والتأثير لمجرد كونها قصيرة وحسب، أو نحكم عليها بالفشل لكونها طويلة فحسب، فإن قصر الخطبة وطولها أمر تحدده عوامل كثيرة، وتدعو إليه أسباب متنوعة، وربما وصفت الخطبة بأنها جامعة مؤثرة مستوفية لموضوعها، مع كونها قصيرة لم تتجاوز دقائق معدودة، وربما وصفت بذلك مع كونها طويلة تجاوزت الوقت المعتاد لمثلها، وإن من العوامل التي تتحكم في وقت الخطبة طولا وقصرا:
- طبيعة الموضوع الذي يتناوله الخطيب، وأهميته بالنسبة للمخاطبين، وكونه مما يحتاج إلى البسط والإيضاح، أو يكفي فيه الاختصار والإيجاز.
- ومن العوامل كذلك سعة المسجد أو ضيقه، وكثرة المصلين أو قلتهم، وكذلك ما يطرأ على الناس من أحوال عامة تؤدي إلى اضطراب نفوسهم، واشتغال أذهانهم وعقولهم، وما يستجد من أحداث لها آثار على عقيدة المسلمين، أو أخلاقهم أو أمنهم واستقرارهم.
فالخطبة وقت النوازل والكوارث والأحداث الجسام تختلف عنها في الأحوال المعتادة، والخطبة في مسجد السوق تختلف عنها في مسجد الحي إذ ينبغي أن يعطي لهؤلاء من الوقت ما يناسبهم.
والخطبة وقت الحرب والدعوة إلى الجهاد تختلف عنها وقت السلم، وهكذا فإن لظرف الزمان والمكان دورا واضحا في تحديد الحاجة إلى الطول، أو الحاجة إلى القصر في الخطبة، غير أننا نقول: إن الرسول ﷺ قد رغب في قصر الخطبة وطول الصلاة بجعله ذلك علامة على فقه الخطيب.
1 / 13
روى مسلم في صحيحه عن واصل بن حيان قال: قال أبو وائل - وهو شقيق بن سلمة - خطبنا عمار ﵁ فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست- أي: أطلت- فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته، مئنة - أي: علامة- من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا» (١) .
فقد أرشد النبي ﷺ إلى خصلتين عظيمتين إذا وجدتا في الخطيب تمكن من حسن الخطاب، وقوة التأثير، وهما: الفقه والعلم الشرعي الذي يمكنه من أداء الصلاة على وجهها قراءة، وخشوعا، وأحكاما، وأداء الخطبة على وجهها، ثم البيان والفصاحة التي تمكنه من جوده الخطاب، ورصانة الأسلوب، وسلامة التعبير، لتقع الخطبة موقعها من النفوس.
إن مراعاة الأحوال المختلفة للمخاطبين، ثم القصد - أي: الاعتدال والتوسط - هو الأفضل بوجه عام، وذلك لأن الطول يفضي في الغالب إلى السآمة والملل بالنسبة للسامعين، وقد يؤخرهم عن بعض أعمالهم، ويشغلهم عن قضاء بعض حاجاتهم، وقد نبه الرسول ﷺ إلى فضل ذلك بالصلاة التي هي أجل شأنا، وأعظم قدرا من الخطبة، فقال: «يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة» (٢) .
وعن جابر بن عبد الله ﵄ قال: «كان معاذ بن جبل ﵁ يصلي مع النبي ﷺ، ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف الرجل، فكأن معاذا تناول منه، فبلغ النبي ﷺ فقال: " فتان، فتان، فتان " (ثلاث مرار) أو قال: "فاتنا، فاتنا، فاتنا" وأمره بسورتين من
_________
(١) رواه مسلم (الجمعة- ٦ / ١٥٣) .
(٢) رواه البخاري (الأذان، تخفيف الإمام- ٧٠٢)، ومسلم (الصلاة، أمر الأئمة بتخفيف الصلاة- ٤٦٦) وهذا لفظه من حديث أبي مسعود الأنصاري ﵁.
1 / 14
أواسط المفصل.» (١) .
وعن جابر ﵁ أنه قال: «اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى» (٢) .
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف، والسقيم، والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء» (٣) .
ومع أمره ﷺ لمعاذ بالقراءة بأواسط المفصل، إلا أنه كان يؤم الصحابة فيطيل في بعض الأحيان، ويسمع صراخ الصبي وهو يريد أن يطول في صلاته، فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه (٤) .
واختيار مسلك التوسط والاعتدال في الخطبة يمنع أن تكون الخطبة قصيرة قصرا مخلا بموضوعها، حائلا دون تحقيق الفائدة والثمرة المرجوة منها، ويمنع كذلك من طروء السآمة والملل على نفوس المصلين مع إعطاء الموضوع حقه في التفصيل والبيان.
وقد نبه الرسول ﷺ بقوله: «فإن خلفه الضعيف، والكبير، وذا الحاجة» إلى تنوع الحاضرين إلى الصلاة، واختلاف طاقتهم وقوتهم، ففيهم الشاب، وفيهم الشيخ الكبير، وفيهم المتفرغ من الشواغل، وفيهم العامل وذو الحاجة، فعلى الإمام أدن يراعي هذا التنوع والاختلاف في قدرات الناس.
والحاضرون إلى صلاة الجمعة وخطبتها هم كذلك تتعدد مشاربهم وثقافاتهم فعلى الخطيب أن يتنبه لذلك ويعطيه حقه.
عن جابر بن سمرة ﵁ قال: «كنت أصلي مع النبي ﷺ،
_________
(١) رواه البخاري (الأذان- ٧٠١) بهذا اللفظ.
(٢) رواه مسلم (الصلاة- ٤٦٥) .
(٣) رواه البخاري (الأذان- ٧٠٣)، وهذا لفظه، ومسلم (الصلاة- ٤٦٧) .
(٤) رواه البخاري (الأذان- ٧٠٧)، ومسلم (الصلاة- ٤٧٠) من حديث أنس ﵁.
1 / 15
فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا» (١) .
والقصد والاعتدال نهج إسلامي أصيل، حث عليه الرسول ﷺ في الأمور كلها، بل جعله جزءا. من أجزاء النبوة.
روى الترمذي من طريق عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس ﵁ أن النبي ﷺ قال: «السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» (٢) .
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لن ينجي أحدا منكم عمله، فقالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» (٣) .
ومن المعلوم أن خطبة الجمعة هي غير المحاضرة، أو الندوة، أو الدرس الذي يتطلب البسط والشرح غالبا، والوقوف عند أهم العناصر والأفكار والاستعانة بكثير من التكرار الذي يساعد على تثبيت المعلومة عند السامعين، وتقريبها.
وكلما كان الخطيب أوسع فقها، وأدق فهما، وأرحب ثقافة، وأملك لناصية البيان والفصاحة، كانت خطبته موجزة بليغة عظيمة الواقع على قلوب المخاطبين، ولا يخفى أنه قد تدعو الحاجة أحيانا إلى الإطالة في الخطبة، وذلك لأمور تعرض، أو أحداث تقع، فليس ثمة ما يمنع ذلك، وعلى الخطيب أن يكون لبقا، ذا فراسة في وجوه المصلين ومعرفة تعابيرها، فيراعي أحوالهم في
_________
(١) رواه مسلم (الجمعة- ٦ / ١٥٨) .
(٢) الترمذي (البر- ٢٠١٠) وقال: حسن غريب، وأخرجه أحمد (١ / ٢٩٦)، وأبو داود (الأدب- ٤٧٧٦) من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس بلفظ: الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة. وقابوس فيه لين.
(٣) أخرجه البخاري (الرقاق- القصد والمداومة على العمل ٦٤٦٣) بهذا اللفظ ومسلم (صفات المنافقين- لن يدخل أحد الجنة بعمله ٢٨١٦) .
1 / 16
الخطبة والصلاة، بحيث لا يشق عليهم فيوقعهم في الضيق والحرج، وأن يعتذر لهم في لطف قبل أن يبتدئ الخطبة أو في نهايتها، وأنه ما لجأ إلى الإطالة إلا لخطورة الموضوع الذي يتناوله، والمهم أن قصر الخطبة وإطالة الصلاة هي الحالة الفضلى إذا تمكن الخطيب من الإتيان بمعاني الخطبة أو أفكارها ضمن ذلك، وإلا فالتوسط والقصد مع مراعاة أحوال المصلين والظروف العامة التي تحيط بهم.
قال الشيخ عبد الله البسام: " إن قصر الخطبة، وإطالة الصلاة دليل على فقه الخطيب والإمام، فإنه استطاع أن يأتي بمعاني الخطبة بألفاظ قليلة، وبوقفة قصيرة، أما تشقيق الكلام وتطويله فهو دليل على العي والعجز عن الإبانة، فخير الكلام ما قل ودل " (١) .
والجمعة ليست مهرجانا للخطابة وإبراز القدرة على البيان والفصاحة، بل كلمات قليلة تشتمل على التذكرة، والعظة، والتبصرة بالواقع، وترقيق القلوب وزيادة الإيمان.
_________
(١) توضيح الأحكام (٢ / ٣٣٣) .
1 / 17
[المبحث الثاني اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية]
[المطلب الأول اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية]
المبحث الثاني
اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
المطلب الأول
اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية مهما ملك الخطيب من أسباب البيان، وبلاغة الخطاب، ومهما كانت قوة عباراته وجزالة أسلوبه، فلن يصل إلى درجة تأثير القرآن في القلوب، وقرعه للعقول، وأين كلام البشر من كلام الله تعالى؟!!
ولذا كان جديرا بالخطيب أن يضمن خطبته الآيات القرآنية التي تزين خطبته، وتجلي حجته، وتجعله ينطق بالحق، فإن الاستشهاد بالآية، وتلاوتها في الوقت المناسب والموضع المناسب، إقامة للحجة، وبيان وبرهان يأخذ بمجامع القلوب، ويشنف الأسماع، ويقرع العقول.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الزمر: ٧١]
قال ابن كثير: ﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٧١] أي: يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه (١) .
وإن أظلم الظلمة من يعرض عن آيات الله تعالى بعد أن تتلى عليه، ويذكر بها فيولي مستكبرا كأن لم يسمعها، قال جل وعلا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [الكهف: ٥٧] وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة: ٢٢] (٢) قال الحافظ ابن كثير ﵀: " أي: لا أظلم ممن ذكره الله بآياته، وبينها له
_________
(١) تفسير ابن كثير (٤ / ٦٦) .
(٢) السجدة: ٢٢.
1 / 19
ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها، قال قتادة: " إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرر" (١) .
وقد كان رسول الله ﷺ في كثير من الأحيان يجعل خطبته أو جلها تلاوة سورة من القرآن لما يشتمل عليه من ابتداء الخلق والبعث، والحساب، والجنة، والنا ر، والترغيب والترهيب.
أخرج مسلم في صحيحه عن عمرة بنت عبد الرحمن رحمها الله عن أخت لها كانت أكبر منها قالت: «أخذت ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: ١] من في رسول الله ﷺ يوم الجمعة، وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة» .
وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ﵂ قالت: «لقد كان تنورنا وتنور رسول الله ﷺ واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة، وما أخذت ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: ١] إلا عن لسان رسول الله ﷺ يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» .
وعن صفوان بن يعلى عن أبيه ﵁: «أنه سمع النبي ﷺ يقرأ على المنبر ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ﴾ [الزخرف: ٧٧]» (٢) . الزخرف-٧٧.
قال النووي ﵀ في شرحه: " فيه القراءة في الخطبة، وهي مشروعة بلا خلاف، واختلفوا في وجوبها، والصحيح عندنا وجوبها، وأقلها آية " (٣) .
قال الشيخ عبد الله البسام: " وفيه مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وهي واجبة عند بعض العلماء، ومنهم الحنابلة، فلا بد من قراءة آية من كتاب الله، وفيه استحباب ترديد المواعظ لتذكير الناس في الخطبة، وأنفع
_________
(١) تفسير القرآن العظيم (٣ / ٤٦٣) .
(٢) مسلم (الجمعة- ٦ / ١٦٠- ١٦٢) .
(٣) شرح مسلم (٦ / ١٦٠) .
1 / 20
ما يوعظ به العامة والعصاة هو ذكر الموت والبعث والجزاء " (١) .
ومما ينبغي التنبيه له عند الاستشهاد بالآيات القرآنية في الخطبة ونحوها ما يلي:
١ - الحذر من الخطأ في تلاوة الآية، فإن هذا مما يعيب الخطيب، ويفسد عليه جمال أفكاره، وأهمية موضوعه، ويصرف السامع عن التأثر بالخطبة إلى التصحيح والنقد، وتتبع الأخطاء، فينبغي على الخطيب حفظ الآيات التي يستشهد بها في الخطبة حفظا دقيقا وسليما، فإن لم يتيسر له ذلك فلتكن مكتوبة يرجع إليها عند الحاجة، حتى ولو كان مرتجلا لخطبته ارتجالا.
٢ - الحذر من قراءة الآية بقراءة غير معروفة ولا مشهورة لدى السامعين، وإن كانت قراءة سبعية، فهذا من شأنه أن يشوش أذهان السامعين، ويصرفهم عن تدبر المعنى إلى الوقوف عند اللفظ، ومن كان محدثا للناس فليحدثهم بما يعرفون، وليترك ما ينكرون.
قال علي ﵁: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله " (٢) .
فإن أحب الخطيب أن يلفت النظر إلى معنى يكون في قراءة دون أخرى فلينبه إلى أن ذلك في قراءة " فلان " وهي قراءة سبعية.
٣ - الحذر من الاستشهاد بالآية في غير موضعها، وإنزالها على غير واقعها، والتكلف في حمل الآية على حادثة معينة، أو على جماعة معينة، أو واقع معين مما يعد من التحريف، وتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، وعلى ذلك فلا بد من الاطلاع على تفسير الآيات من كتب التفسير المعتمدة، فلا أقل من أن يطلع على تفسير واحد من هذه التفاسير حتى يكون على علم
_________
(١) توضيح الأحكام (٢ / ٣٣٤) .
(٢) رواه البخاري (العلم- / ١ ٢٧٢) .
1 / 21
بفهم السلف للآيات وتأويلها، مما يقيه من التأويلات الباطلة، والأقوال الواهية في ذلك، وليحذر من الاعتماد على تفاسير المبتدعين، من الباطنية والصوفية، والرافضة ونحوهم.
٤ - الحذر من إقحام الآيات المتشابهة أو المحتملة المعاني في مواطن الخلاف بين المذاهب، والجماعات الإسلامية، وجعلها نصا قاطعا في الرد على بعضها، أو نصا له فيما يذهب إليه من رأي، وإنما حسبه في ذلك أن يبرز دلالة الآية القرآنية كما فهمها سلف الأمة، وليكن دور الخطبة هو جمع الأمة وتأليف القلوب على منهج علماء الأمة وسلفها، لا في تفتيت صفها، وتمزيق وحدتها، وهذا يتطلب سعة صدر وحكمة.
٥ - الحذر من إقحام الآيات في مجال المخترعات الحديثة أو الصناعات والوسائل العلمية المستجدة ما لم يكن ذلك نصا أو معنى راجحا مرضيا من العلماء الأخيار، فإن ولوج ذلك الباب لا يخلو من التكلف والتعسف في لي النصوص وتحميلها ما لا تحتمل من المعاني، وهذا باب يستهوي كثيرا من الخطباء رغبة في التميز، وإعجاب الناس بسعة علمه، وثقافته، ودقة نظره، واستنباطه للطائف المعرفة، وهو أمر محفوف بالمخاطر، ربما فتح الباب للتأويلات الفاسدة، والتجرؤ على الخوض في أمور من العلم لا يحسنها.
٦ - الحذر أيضا من التكلف في تطويع الآيات للمناسبات المختلفة سواء أكانت مناسبات عامة أو خاصة.
قال الأستاذ نذير مكتبي: " إن من أقبح ما يقع فيه كثير من الوعاظ والخطباء إساءة قراءة النص القرآني، وعدم الاهتمام بأحكام التجويد وآداب الترتيل، فنجد أحدهم يتلو الآية أو الآيتين كأي كلام آخر غير القرآن، فلا يبالي بأي خطأ يعتري قراءته، إن رفع أو خفض أو غير أو بدل، أو أخرج الحرف من غير مخرجه، ولا ضير على الخطيب إذا لم يستوثق من متانة حفظه للشاهد القرآني
1 / 22
أن يكتبه على ورقة، ويقرؤه منها على الناس. . . وليس ثمة عيب في الخطبة إذا لم يستظهر الخطيب الآيات التي يوردها في خطبته.
إذا قرأ الخطيب نصا قرآنيا، وكان فيه كلمة أو أكثر خفي معناها، فمن المستحسن بالخطيب أن يفسر معاني تلك الكلمات بأسلوب حكيم لا يخرج النص عن كونه شاهدا، حتى لا يبقى السامع في غموض عن إدراك المعنى المراد من السياق (١) .
إن كتاب الله تعالى هو الشفاء، وهو الدواء الناجع لكل أمراض الأمة، وعللها، ولكن الدواء إذا وقع في يد متطبب لا يحسن الطب فإنه ربما كان ضره أكبر من نفعه، ومن هنا فإن الفرق الضالة والمبتدعة ترتكز في مناهجها ومسالكها المبتدعة على التأويل الفاسد لكلام الله ﷾.
[المطلب الثاني اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية]
المطلب الثاني
اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية لا يقل الاستشهاد بالحديث النبوي أهمية عن الاستشهاد بالقرآن، فإن السنة شارحة للكتاب العزيز، مفصلة ومبينة لمجمله، مخصصة لعامه، ولا يستغني الخطيب عن دعم رأيه، وتقوية حجته بحديث النبي المعصوم ﷺ، لكن عليه أن يراعي الأمور التالية عند الاستشهاد بالحديث النبوي:
١ - تجنب ذكر الأحاديث الموضوعة، والواهية، فإنه لا خير فيها، ولا نور عليها، بل إن ذكرها وحملها وتبليغها إلى الناس له دور خطير في نشر العقائد الفاسدة، والبدع والضلالات، لا سيما وأن العامة لا تمحيص ولا تثبت لديهم، فسرعان ما تنتشر مثل هذه الأمور فيما بينها لتعلقها بالغرائب، مع الاستهانة بما يترتب عليها من مفاسد.
ولا يعفى الخطيب من التبعة أن يكون حسن النية سليم القصد، هدفه التأثير في القلوب، والترغيب في الإصلاح فإن الغاية المشروعة لا تسوغ الوسيلة
_________
(١) خصائص الخطبة والخطيب (ص ٦٢- ٦٣) .
1 / 23
المحرمة، وقد وقع قوم من جهلة العباد والمتنسكة في هذه الخطيئة حيث زعموا أنهم يكذبون لرسول الله ﷺ لا عليه، ويكذبون للإصلاح لا للإفساد، ويكذبون حسبة للخير كما فعل نوح بن أبي مريم، وهو الذي وضع الأحاديث في فضائل القرآن سورة سورة (١) .
قال النووي ﵀ في التقريب: " والواضعون أقسام: أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه حسبة ".
قال السيوطي ﵀: " أي احتسابا للأجر عند الله تعالى في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونا إليهم، لما نسب إليهم من الزهد والصلاح "، ولهذا قال يحيى القطان (١٩٨هـ): " ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير ".
ومن أمثلة ما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم (١٧٣هـ) " من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة " (٢) .
٢ - تجنب الأحاديث الضعيفة؛ لأن في الصحيح غنية عن الضعيف، ولا يخفى ما في نشر الأحاديث الضعيفة من آثار سيئة على الأمة في عقيدتها وفي سلوكها، فكم من حديث ضعيف أو واه، تناقله الناس محتجين به اعتمادا على إيراد الخطيب له، وكم من عادة تشبث بها الناس كان مستندها حديثا ضعيفا.
إن الخطب إذا لم يكن من أهل العلم فعليه أن يرجع إلى كتب الحديث التي
_________
(١) انظر تدريب الراوي (١ / ٢٨١- ٢٨٢) .
(٢) تدريب الراوي (١ / ٢٨١- ٢٨٢) .
1 / 24
تقتصر على الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة التي تكون الأحاديث فيها مخرجة تخريجا علميا.
٣ - تجنب التحريف في المعنى والتكلف في حمل الحديث على غير ما يحتمله معناه لتقوية رأي، أو مذهب، أو جماعة، أو نصرة فئة على فئة، فإن بعض الخطباء يبالغ في مثل هذا فيشعر السامعين أن الحديث إنما ورد في بيان قوة هذا الرأي، أو في بيان فساد تلك الجماعة بعينها.
قال ابن القيم ﵀ في إيضاح هذا المعنى: " أن يفهم عن الرسول ﷺ مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدل عنه من الضلال، والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع في محنة الدين وأهله.
وهل أوقع القدرية، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والجهمية، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن بعدهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه، ولا يرفع هؤلاء به رأسا " (١) .
ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المجال، الحذر من التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب والمواعظ دون بيان لحالها، وعدم مراعاة للضوابط والشروط التي وضعها العلماء لرواية الضعيف في فضائل الأعمال، وكذلك ما يكثر لدى بعض الخطباء من إيراد الحديث الواهي مع
_________
(١) الروح (ص ١١٣- ١١٤) .
1 / 25
تصحيح معناه، فيقولون حديث ضعيف لكن معناه صحيح، وربما كان الحديث ضعيفا جدا أو موضوعا، وهذا تساهل ومجازفة ينبغي الحذر منها، وعدم التهاون فيها.
فإن هذا يفتح باب التساهل في رواية الأحاديث الواهية، والموضوعة، وتناقلها، وتداولها بين العامة، مع نوع من التأييد لها بحجة صحة معناها، وليعلم الخطيب أن كثيرا من الناس ينقل عنه، يصحح ما صحح ويضعف ما ضعف، ويحتج بما أورد، وإن هذا العلم دين، ثم ليحذر من التساهل في ذكر المنامات والرؤى والقصص الواقعية، أو القصص التي لم تقع في زماننا، والحكايات والمواقف المختلفة، فلا يذكرها حتى يتفحصها ويقلبها ويمحصها، ويدرس الآثار التي يمكن أن تنعكس على الناس من جرائها في اعتقادهم، وتصوراتهم وأخلاقهم، ولا يكن همه لفت أنظار الناس، ونيل إعجابهم بهذا الإغراب مهما كانت نتائجه وآثاره.
1 / 26
[المبحث الثالث اشتمال الخطبة على الأمثال والأشعار والقصص]
[المطلب الأول اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال]
المبحث الثالث
اشتمال الخطبة على الأمثال والأشعار والقصص
المطلب الأول
اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال المراد بضرب المثل هنا سوق الصور، والقصص، والوقائع المتشابهة، ليستدل بالحاضر على الغائب، وبالمحسوس على غير المحسوس، أو بالمحسوس من الصور الوقائع على نظائرها وأشباهها، والمقصود من ضرب المثل تقريب الأمر للمخاطب، وترسيخه في ذهنه لتحصل العبرة والعظة من ذلك (١) .
ولذا نجد أن القرآن الكريم أكثر من ضرب الأمثال، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الروم: ٥٨] (٢) .
وقال جل وعلا في تمثيل الحق والباطل: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: ١٧] (٣) .
وضرب الله تعالى المثل بالعنكبوت، والبعوضة، والذباب، وغير ذلك، وكل أمثال القرآن عظيمة مؤثرة، تأخذ بالقلوب، وتهز النفوس، وتجسد المعاني في صور ماثلة للعيان كأن المرء يحسها ويلمسها بيده.
والخطيب لا يستغني في خطبته عن ضرب الأمثال لما فيها من قوة التصوير والتأثير، ولذلك كانت الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت فيها بكناية من غير تصريح، فيجتمع لها
_________
(١) وفوائد المثل كثيرة منها نزهة البال وترويح الخاطر، ومنها استقصاء الحكم (جواهر الأدب / ١٢٦٠) .
(٢) الروم: ٥٨.
(٣) الرعد: ١٧.
1 / 27