وقد ينظر العالم من هؤلاء إلى رجل قليل النصيب من العلم المدرسي، ولكنه مزاول مداور حول قلب ببداهة الحياة وتجارب الأيام، فيراه خيرا منه وأوفر نصيبا من مطالب الحياة في تلك الأيام، وفي سائر الأيام، فيداخله الشك في العلم الذي تعلمه أو يغتر به غرورا لا يجديه في غير السلوى والعزاء.
ولهذا ساء ظن الأذكياء بالعلوم التي كانت تدرسها الجامعات في ذلك الحين، وتحدث بذلك طلاب الجامعات قبل سواهم كما جاء في رواية الحج إلى پارنساس التي أنشأها أدباء جامعة كمبردج، وكنوا فيها عن جامعتهم باسم پارنساس القديم، وهو الجبل اليوناني المقدس الذي كانوا يزعمون أن أبولون رب الفنون، يأوي إليه مع عرائس الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل.
ففي تلك الرواية شابان يقبلان على الپارنساس طمعا في المجد والجاه، فيلقاهما أستاذ معوز ناقم على العلم والتعليم، فيثنيهما عن هذه النية الخادعة، ويقول لهما: إن رب الفنون أپولون قد أفلس من الذهب والفضة إلا ذهب الكلام الموشى، وفضة الروائع الناصعة، وأما الذهب النفيس والفضة الغالية، فهما من نصيب النساجين وبائعي الحلل والأحذية وسماسرة الأسواق، وإن هوبسون - ساعي كامبردج المعروف - يجمع من المال في ذيول اثنتي عشرة جارية ما يعز على الأستاذ أن يجمعه من مائتي كتاب.
ولم يبالغ أستاذ الرواية في وصف بؤس العلماء وقلة جدواهم من أدب الكتب والدفاتر، فإن المسرحية - وهي عمل نافع في السوق - كانت تباع يومئذ بعشرة جنيهات أو دون ذلك، وكان قصارى ما يطمع فيه الكاتب المسرحي من المورد السنوي، لا يتجاوز الستين أو السبعين من الجنيهات، ولولا الهبات التي كانت تصل إلى الشعراء والأدباء من حماة الآداب ونصرائها لهجروا هذه الصناعة، أو عاشوا في لجة ذلك الرخاء عيشة العظماء والمترفين. •••
ليس أقرب إلى العقل البشري في عصر كهذا من التوجه إلى علم جديد غير علم العزلة وديدان الأوراق، وهو العلم المفيد الذي يمتزج بالمعيشة، ويعين الأفراد والأمم على الحياة، وهذا هو لباب الفلسفة الباكونية، ولباب العصر كله بعلمه وعمله وأخلاقه ومساعيه.
وكانت في العصر بواعث أخرى أعانت طلاب العلوم والمعارف على الطموح إلى المجد الدنيوي، والتطلع إلى المناصب العليا والخوض بعلومهم ومعارفهم في غمار الحياة:
منها أن مناصب الدولة العليا كانت قبل ذلك وقفا على كبار رجال الدين، أو كبار رجال السيف من النبلاء ووراث الألقاب، فلما تحولت البلاد الإنجليزية عن سلطان الكنيسة البابوية خلا مكان الكهان والكرادلة في تلك المناصب، واتسع فيها الأمل لرجال المعرفة والذكاء.
وكانت المجالس النيابية قد أخذت في محاسبة الملوك على الضرائب، ونفقات الخزانة وحقوق الامتياز المشروعة أو غير المشروعة، فاحتاجت الحكومة إلى وزراء من رجال الفقه والمال، وقادة المجالس النيابية، وخلا كذلك مكان الأكثرين ممن كانوا يرتقون إلى كراسي الوزارة من طريق الوظائف العسكرية دون سواها.
وعمت فتنة الذهب والكسب السريع بعد فتح الطريق إلى الهند من المغرب، وبعد الهجرة إلى القارة الأمريكية، فتهافت الناس على الثراء، وأصبحت القناعة عارا على القانعين واسما آخر من أسماء الكسل والعجز وسقوط الهمة، فكان الطموح والاستطلاع سمة العصر كله، وكان العلم المنشود يومئذ بابا من أبواب الطموح والاستطلاع. •••
وتنبه العصر - بطبيعة ما أشرج عليه من الطموح والاستطلاع - إلى أسلوب من أساليب العلم والتثقيف هو بلا ريب من أنفع الأساليب لتوسيع النظر، وترويض العقل على حسن المقابلة بين الأمور، والنفاذ إلى دخائل العادات والشعائر القومية، ونعني به السياحة، وهي أشبه أساليب التعليم والتهذيب بعصر الحركة والكشف، واستقصاء النظر في الأرض والسماء.
نامعلوم صفحہ