وهل يرتاب أحد أنه لو خلت العقول الآدمية من خواطر الغرور، وملق الآمال وزيف الأقدار والقيم، وهواجس التخيل على حسب الهوى والمشيئة، ونظائر ذلك من التعاليل، لانقبضت تلك العقول وامتلأت بالكدر والسوداء؟
قال بعضهم: «إن الشعر خمر الشيطان.» لأنه يملأ الخواطر، وهو ظل الأكاذيب ولكن الأكذوبة التي تعبر بالعقل لا تضيره، وإنما تضيره الأكذوبة التي تتغلغل فيه، وتستقر في أطوائه.
والحق بعد ليس له من ميزان يوزن به غير ميزانه، وبه وحده نعلم أن طلب الحق - وهو خطبة جماله - وعرفان الحق - وهو وصله وحضوره، والإيمان بالحق - وهو المتعة به واحتواؤه، ذلك هو الخير الأوفى والرفعة العليا في طبيعة بني الإنسان.
وقد كان نور الحس أول خلائق الله في الأيام الستة، وكان ختامها نور العقل والرشاد، وكان يوم السبت - يوم الراحة - نور البصيرة والروح.
ففي بداية الأمر بث - سبحانه وتعالى - نوره على وجه الماء أو العماء، ثم بث نوره على وجه الإنسان، ولا يزال - جل جلاله - يبث نوره في وجوه المختارين من عباده.
وكان الشاعر الذي زان أصحابه - الأبيقوريين - على تخلفهم بالقياس إلى غيرهم يقول: «جميل أن تقف على شاطئ البحر، وتنظر إلى السفن غاديات رائحات عليه، وجميل أن تقف على شرفات القلعة وتنظر إلى حومة الحرب وما يجري فيها، ولكنه لا جمال يعدل جمال الوقوف على ساحة الحق، حيث يصفو الجو ويعتدل أبدا لينكشف لك الخطأ والضلال، وما هنالك من الغواشي والأعاصير تحت قدميك.»
وينبغي أن يضاف إلى ذلك أن يكون نظر الإنسان إلى ما يراه هنالك، بعين الرحمة والعطف، لا بعين الزهو والكبرياء، فإنه لكالسماء على الأرض أن يمضي عقل الإنسان في الخير، ويستريح في الحكمة، ويدور أبدا حول قطب من الحقيقة.
وإذا تحولنا من حقائق العقائد الدينية والآراء الفلسفية إلى حقائق المعيشة والعمل، رأينا الاعتراف عاما بين من يمضي على هذه السنة ومن يحيد عنها بأن المعاملة الصراح هي شرف الطبيعة الإنسانية، وأن الخلط والتمويه إنما هما كالمعدن، الذي يشاب به الذهب والفضة، فتروج بهما العملة ولكنها تخس وتنقص، وما كان التلوي والاعوجاج إلا كحركة الثعبان، الذي يزحف على بطنه ولا يتحرك على القدمين، وما من رذيلة تجلل صاحبها بالعار كافتضاحه بالكذب والخيانة، وقد أصاب مونتين حين تساءل: ما بال الكلمة الكاذبة تعاب هذا العيب وتزري بصاحبها هذه الزراية، فقال: «حين يقال: إن رجلا يكذب، فكأنما قيل: إنه جريء على الله جبان بين يدي خلقه؛ لأنه يواجه الله بالكذب، ويفر به من الناس.»
وإن الشر الذي تنطوي عليه الخيانة، لن يتجلى في عبارة كتجليه في العلم بأنها هي النذير الأخير، الذي تستحق به أجيال البشر قضاء الله يوم القيامة، فقد جاء في التنزيل أن المسيح يعود إلى الأرض حين تفارقها الأمانة والإيمان.
الحب
نامعلوم صفحہ