نشأ فرنسيس باكون في إبان عصر الرشد، بعد تمهيد غير قصير في طريق اليقظة والاستطلاع والكشف والتجربة.
ونسميه عصر الرشد؛ لأن العصور التي قبله كانت عصورا قاصرة يفكر فيها العقل البشري بهيمنة من الوحي المسيطر عليه، ولا يجرؤ على التفكير لنفسه والاستقلال برأيه وعمله.
فلما نشأ باكون كانت القارة الأوروبية قد مضت شوطا بعيدا في التفكير المستقل والبحث الطريف والاستطلاع الذي لا يحجم عن مسلك من المسالك في عالم المجهول أيا كان وحيثما كان: في السماء أو في الأرض، وفي أعماق الفكر، أو في أغوار الضمير.
كان كوبرنيكوس وجاليليو قد عرفا سر الشمس، ووضعا الأرض في مكانها من السماء أو من المنظومة الشمسية.
وكان كولمبس قد كشف الأرض لنفسها، وجمع بين شطريها بعد طول افتراق وانفصال.
وكانت النهضة قد عمت القارة الأوروبية بين شرقها وغربها، وهجمت عليها هجوم الجيش المحاصر من جميع منافذها: فمن الشرق جاءها الرهبان بعد فتح القسطنطينية يحملون كتب الإغريق وكتب العرب وسائر الكتب التي اجتمعت لطلاب المعرفة من نساك الأديرة في العصور الطويلة، ومن الجنوب جاءتها فلول الصليبيين تنقل عن الشرق كل ما اقتبسته من صناعاته ومصنوعاته، ومن الغرب سرت فيها بقايا الحضارة الأندلسية، بعد أن تفرق مريدوها وتلاميذها في الأقطار الأوروبية، ومنهم قسيسون ورهبان، ومرتابون في العقائد والأديان.
وعكف الإنسان على أغوار ضميره ينقب فيها، ويكشف عن خوافيها ... فاستنقذ ضميره من سلطان الجمود الديني، ونهج له نهجا في محاسبة نفسه وانتظار الحساب من ربه يخالف ما درج عليه الأولون مئات السنين، وتلك هي الحركة المعروفة باسم الإصلاح، وما تفرع عليها من المذاهب والنظم والأخلاق.
فهو كما أسلفنا كشف شامل لأجواز السماء وأرجاء الأرض، وفجاج الفكر ودخائل الضمير.
وهو عصر الرشد الذي يرى فيه الإنسان بعينيه بعد أن رأى طويلا بعيني أبويه، وهما مغلقتان لا تبصران.
وكان للبلاد الإنجليزية شأن في ذلك العصر غير سائر الشئون.
نامعلوم صفحہ