Foundations and Principles and Applications of Reflection
القواعد والأصول وتطبيقات التدبر
ناشر
دار الحضارة للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٧ هـ - ٢٠١٦ م
اصناف
كتاب
القواعد والأصول
وتطبيقات التدبر
د/ خالد بن عثمان السبت
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه جُملة من الأصول والقواعد والضوابط وطرق الدلالة المُنوعة، وما له نوع اتصال بذلك مما يُتَوَصَّل به إلى استخراج المعاني والهدايات من القرآن الكريم، مقرونة بتطبيقاتها وأمثلتها التي توضحها وتجليها، إلى غير ذلك مما تجده مسطورًا في هذا الكتاب.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ﵀: «ومن أصول التفسير: إذا فَهِمْت ما دلت عليه الآيات الكريمة من المعاني مُطَابَقَة وتَضَمُّنًا، فاعلم أن لوازم هذه المعاني، وما لا تتم إلا به، وشروطَها وتوابعَها؛ تابعةٌ لذلك المعنى؛ فما لا يتم الخبر إلا به فهو تابع للخبر، وما لا يتم الحكم إلا به فهو تابع للحكم. وأن الآيات التي يُفْهَم منها التَّعَارُض والتناقُض، ليس فيها تَنَاقُضٌ ولا تَعَارُض، بل يجب حَمْل كل منها على الحالة المُنَاسِبة اللائقة بها. وأن حَذْف المُتَعَلَّقَات -من مَفْعُولاتٍ وغيرها- يدل على تعميم المعنى؛ لأن هذا من أعظم فوائد الحذف. وأنه لا يجوز حذف ما لا يدل عليه السياق اللفظي، والقرينة الحالية» اهـ (١).
وقبل الشروع في المقصود، فإني أضع بين يدي القارئ الكريم بعض الجوانب التي ينبغي اعتبارها؛ فمن ذلك:
_________
(١) تفسير السعدي (٩٤١).
1 / 5
أولًا: لم أتعرض لمعنى التدبر وبعض المقدمات المتعلقة به اكتفاء بما ذكرته في الكتاب الآخر الموسوم بـ (الخلاصة في تدبر القرآن) الذي يختص بالجوانب النظرية المتصلة بموضوع التدبر.
ثانيًا: ينبغي أن نعلم أن التدبر لا يخضع لقواعد محددة، لكن إذا كان المُتَدَبِّر مُتَحَقِّقًا بالعلوم التي يُسْتَخْرَج بواسطتها أنواع المعاني والحِكَم والأحكام؛ فإن ذلك يكون أدعى إلى نَظَرٍ أَسَدّ، وتَدَبُّرٍ أَدَقّ، وغَوْصٍ أعمق عند قراءة القرآن الكريم.
ثالثًا: تتنوع مطالب المتدبرين من تدبرهم للقرآن الكريم (١)؛ فمنهم من يقرؤه ليُرَقِّق قلبه، ويقرؤه آخر للوقوف على مواعظه ومواطن العِبَر فيه، ويقرؤه ثالث ليتعرف على مَحَابِّ الله ومَسَاخِطِه، وأوصاف أوليائه، وسِمَات أعدائه، وربما قرأه لمعرفة ربه ومولاه بأسمائه وصفاته ودلائل قدرته وعظمته، أو يقرأ لاستخراج هداياته المتنوعة من الحِكَم والأحكام والآداب وغيرها؛ فإن ذلك لا يُتَوَصَّل إليه إلا بالتدبر، ولا يصح الفصل بين هذه المطالب وبين التدبر بحال.
ولا يخفى أن هذه المطالبَ متفاوتة فيما يتوقف حصولها عليه؛ فمنها ما يفتقر إلى آلة يتمكن معها المُتَدَبِّر من استخراج المعاني والهدايات الدقيقة المبنية على أُسُس وقواعد صحيحة في الاستدلال.
ومن هنا جاءت الإشارة إلى هذه الجملة من طُرق الدلالة والقواعد التي تضبط الفهم.
_________
(١) في الكتاب الآخر (الخلاصة في تدبر القرآن الكريم) جملة من هذه المطالب، فيمكن مراجعتها.
1 / 6
رابعًا: إنما أردت في هذا الكتاب إيراد قدر صالح من طُرق الدلالة وما من شأنه أن يُوصِل إلى المطلوب من المعاني ونحوها؛ ليتعرف به القارئ الكريم على هذه الأصول والقواعد وطُرق الدلالة من جهة، ومن جهةٍ أخرى يربط بين ذلك وبين الجانب التطبيقي؛ ليكون ذلك أوعى وأبين وأرسخ في الفهم.
ولم يكن المقصود الاستيعاب والاستقراء للأصول النظرية، ولا النماذج التطبيقية؛ فذلك مما يفوت الحصر، ولكن أردت ذِكْر طَرَف منها يحصل به المقصود، ويتضح به المراد، ويدل على غيره، فيتتبعه طالب العلم في مَظَانِّه.
خامسًا: انتقيتُ النماذج التطبيقية مما كنتُ أجمعه عند قراءتي في كتب التفسير وغيرها؛ إذ كنتُ أُدَوِّن ما أستحسنه من اللطائف واللفتات الدقيقة المُستخرجة بثاقب النظر والفِكْر مما جَادَتْ به قَرَائح العلماء وفُهومهم، كما قرأت المجموعات الخمس (١) التي صدرت عن (مركز تدبر للدراسات والاستشارات) تحت عنوان (ليدبروا آياته)، وانتقيت بعض الأمثلة منها، فأوردتُّ في هذا الكتاب من هذا وذاك أحسن ما جمعتُ.
سادسًا: رتبتُ الكتاب على طريقة مُتَسَلْسِلة بالنظر إلى الطُّرق التي يُتَوَصَّل بها إلى المُراد من ألوان الدلالات.
وهناك بعض النماذج والأمثلة لا تخضع لشيء من الطُرق والأنواع، فألحقتُها في آخر الكتاب وجعلتُها تحت عنوان يُوَضِّح ذلك.
_________
(١) وقد صدر منها الآن ثمان مجموعات.
1 / 7
ومما يدخل في هذا النوع ما يُسمَّى بـ (التفسير الإشاري).
وهذا النوع من التفسير إنما يُقال له: (تفسير)، على سبيل التَّجَوُّز، وإلا فإنه لا يدخل تحت التفسير، كما أن عامة ما يُذكر فيه لا يصح.
وقد أفردتُّ له عنوانًا في آخر الكتاب وأَوردتُّ فيه نماذج صالحة مُسْتَحْسَنة مما ذكره العلماء الثقات: كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والحافظ ابن كثير، والشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي؛ ﵏، سواء صَرَّحُوا فيه بأنه من قبيل الإشارة، أو لم يُصَرِّحوا بذلك، لكنه داخل تحته.
كما أوردتُّ في آخر الكتاب ما يتصل بالتطبيق والعمل والامتثال؛ لكون ذلك يتصل بالتدبر من جهة أن بعض السلف قد فسَّر التدبر بالعمل به؛ كما أوضحنا ذلك في كتاب (الخلاصة في تدبر القرآن). ولا شك أن من مطالب المتدبرين: العمل والامتثال.
هذا بالإضافة إلى الربط بين تدبُّر الآيات المتلوة، والتفكر في الآيات المشهودة، وقد صار ذلك مُتاحًا لكل أحد بصورة أعمق في هذا الوقت؛ نظرًا لما توفر من الوسائل الحديثة التي يمكن لعموم الناس مشاهدة ذلك من خلالها.
وفي هذا الكتاب أَوْرَدتُّ نماذج من هذا النوع؛ لتدل على غيرها.
قال ابن القيم ﵀: «والتفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مُراد الرب تعالى منه، وتَفَكُّر في معاني ما دعا عباده الى التَّفَكُّر فيه؛ فالأول: تَفَكُّر في الدليل القرآني، والثاني: تَفَكُّر في الدليل العياني؛ الأول: تفكُّر في آياته المسموعة، والثاني: تفكُّر في آياته المشهودة؛ ولهذا أنزل الله القرآن ليُتدبَّر، ويُتفكَّر فيه، ويُعمَل به» اهـ (١).
_________
(١) مفتاح دار السعادة (١/ ٥٣٦ - ٥٣٧).
1 / 8
وحاصل ذلك جاء مستوفى في ستة أبواب ومقدمة وخاتمة؛ وإليك مجملها:
الباب الأول: النظر الكلي - الإجمالي - لآيات السورة؛ وذلك يشمل:
١ - تدبر الآيات إجمالًا للتوصل إلى الموضوع أو الموضوعات التي تدور حولها الآيات في السورة.
٢ - تدبر الآيات إجمالًا للتوصل إلى مقاصد السورة.
٣ - تدبر المعنى العام للآية للتوصل إلى المعنى الأساسي الذي نزلت لتقريره.
الباب الثاني: في المعاني والهدايات المستخرجة وفق القواعد والأصول المعتبرة:
فمن ذلك:
أولًا: إعمال أنواع الدلالة في استخراج الهدايات من الآيات الكريمة؛ وذلك نوعان:
النوع الأول: دلالة المنطوق؛ وهو قسمان:
١ - المنطوق الصريح؛ وهو نوعان:
١) دلالة المطابقة.
٢) دلالة التَّضَمُّن.
٢ - المنطوق غير الصريح (دلالة الالتزام)؛ ويدخل تحتها ثلاثة أنواع:
الأول: دلالة الاقتضاء.
1 / 9
الثاني: دلالة الإشارة؛ وله صورتان:
الثالث: دلالة الإيماء والتنبيه.
النوع الثاني: دلالة المفهوم؛ وهو قسمان:
١ - مفهوم الموافقة.
٢ - مفهوم المخالفة.
ثانيًا: العموم والخصوص.
ثالثًا: الإطلاق والتقييد.
رابعًا: ما يُسْتَفَاد من بعض القواعد في التفسير.
خامسًا: القواعد القرآنية.
الباب الثالث: النظر والتدبر في المناسبات.
الباب الرابع: ما يتوصل إليه بالنظر إلى النواحي اللغوية والجوانب البلاغية:
فمن ذلك:
١ - الحقيقة والمجاز (عند القائل به).
٢ - ما يتصل بمرجع الضمير.
٣ - ما يُؤْخَذ من الإظهار في موضع الإضمار، وعكسه.
٤ - الالتفات.
1 / 10
٥ - الفروق اللفظية.
٦ - المتشابه اللفظي.
٧ - دلالات الجملة (الاسمية والفعلية).
٨ - ما يرجع إلى تصريف اللفظ.
٩ - ما يرجع إلى معاني الحروف، ودلالاتها، والتضمين.
١٠ - التقدير والحذف والزيادة، والتكرار، والتقديم والتأخير والترتيب بين الأمور المذكورة في الآية.
١١ - الإيجاز والبسط والاستطراد.
١٢ - الأمثال والتشبيهات.
الباب الخامس: ما لا يدخل في شيء مما سبق؛ وهو نوعان:
الأول: صور من التدبر لا تخضع لشيء مما سبق.
الثاني: التفسير الإشاري.
الباب السادس: التدبر العَمَلي؛ وهو نوعان:
الأول: التطبيق والعمل والامتثال.
الثاني: النظر في الكون والآيات المشهودة.
الخاتمة.
1 / 11
سابعًا: تجد في هذا الكتاب تخريج الأحاديث تخريجًا موجزًا، فما أخرجه الشيخان أو أحدهما اكتفيتُ به، وإن لم يكن فيهما فأكتفي بتخريجه من بقية الكتب الستة، فإن لم يكن في شيء منها فمن بقية الكتب التسعة، فإن لم يكن في شيء منها خَرَّجْتُه من غيرها.
كما عَرَّفْتُ بالمصطلحات العلمية التي يحتاج القارئ إلى معرفة المراد بها، وترجمتُ لغير المشاهير من الأعلام ترجمةً مُوجَزَة.
وألحقت بالكتاب فهرسًا للمصادر، وآخر للموضوعات.
وقد أسميتُه بـ (القواعد والأصول وتطبيقات التدبر).
هذا، وأسأل الله تعالى أن يتقبله بقبول حسن، وأن يجعله ذخرًا لي يوم أن ألقاه؛ إنه سميع مجيب.
وكتبه: خالد بن عثمان السبت
٠٥/ ٠٩/١٤٣٦ هـ
Khaled ٢٢٢٤@gmail.com
1 / 12
الباب الأول
النظر الكلي -الإجمالي- في آيات السورة (١)
_________
(١) تُعدُّ المطالب الداخلة تحت هذا الباب من الأمور المهمَّة في التدبُّر.
1 / 13
١ - تدبر الآيات إجمالًا للتوصل إلى الموضوع أو الموضوعات التي تدور حولها الآيات في السورة (١).
التطبيق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «وقد ذكرتُ في مواضع ما اشتملت عليه (سورة البقرة) من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله تعالى افتتحها بذِكْر كتابه الهادي للمتقين، فوَصَفَ حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين؛ فهذه (جمل خبرية). ثم ذكر (الجمل الطلبية)، فدعا الناس إلى عبادته وَحْده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فَرْش الأرض، وبناء السماء، وإنزال الماء، وإخراج الثمار رِزْقًا للعباد، ثم قَرَّر الرسالة، وذَكَر الوعد والوعيد، ثم ذَكَر مَبْدَأ النبوة والهدى، وما بَثَّه في العالَم من الخلق والأمر، ثم ذَكَر تعليم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لِمَا شَرَّفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجِنْس ما بُعِث به محمد ﷺ من الهدى ودين الحق، فَقَصّ جِنْس دعوة الأنبياء.
ثم انتقل إلى خطاب بني إسرائيل وقصة موسى معهم، وضَمَّن ذلك تقرير نبوته؛ إذ هو قرين محمد ﷺ، فذكر آدم الذي هو أول، وموسى الذي هو نَظِيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قَتَل نفسًا فغُفِر له، وآدم أَكَل من الشجرة فتاب عليه، وكان في قصة موسى رَدٌّ على الصابئة ونحوهم ممن يُقِرّ بجنس النبوات، ولا يُوجِب اتّباع
_________
(١) موضوعات السورة: هي القضايا التي تناولتها السورة من القصص والأخبار والوقائع، أو الأحكام، أو الأوصاف، أو الوعد والوعيد ... إلى غير ذلك. والسورة قد تكون ذات موضوع واحد؛ كسورة الإخلاص، وقد تكون ذات موضوعات متعددة؛ كسورة البقرة وآل عمران، وغيرهما كثير.
1 / 15
ما جاؤوا به، وقد يتأوَّلُون أخبار الأنبياء، وفيها ردٌّ على أهل الكتاب بما تَضَمَّنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد ﷺ، وتقرير نبوته، وذِكْر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذِكْر النَّسْخ الذي ينكره بعضهم، وذِكْر النصارى، وأن الأُمَّتَين لن يرضوا عنه حتى يَتَّبِع مِلَّتَهم؛ كل هذا في تقرير أصول الدين؛ من الوحدانية والرسالة.
ثم أخذ سبحانه في بيان شرائع الإسلام التي على مِلَّة إبراهيم، فَذَكر إبراهيم الذي هو إمام، وبناء البيت الذي بتعظيمه يَتَمَيَّز أهل الإسلام عما سواهم، وذَكَر استقباله، وقَرَّر ذلك؛ فإنه شعار المِلَّة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يُقَال: أهل القبلة، كما يُقال: «مَن صلَّى صلاتنا، واستقبل قِبْلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو المُسْلِم» (١).
وذَكَر من المناسك ما يختص بالمكان؛ وذلك أن الحج له مكان وزمان، والعمرة لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شُرِع فيه ولا يتقيد به ولا بمكان ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر سبحانه هذه الأنواع الخمسة: من العكوف، والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج؛ والطواف يختص بالمكان فقط، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت، من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابًا لما كان عليه الأنصار في الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمَنَاة، وجوابًا لقوم تَوَقَّفُوا عن الطواف بهما. وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المُتَعَلِّقة بالبيت -بل وبالقلوب والأبدان والأموال- بعد ما أُمِرُوا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللَّذَين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل المِلَل لا يُخَالِفُون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه.
_________
(١) أخرجه البخاري (٣٩١) من حديث أنس ﵁.
1 / 16
وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبيَّن ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أُعْطِيَت ما لم تُعْطَ الأممُ قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها؛ كالعبادات المُتَعَلِّقة بالبيت؛ ولهذا يَقْرِن بين الحج والجهاد؛ لدخول كل منهما في سبيل الله؛ فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج في الأصح؛ كما قال: «الحج من سبيل الله» (١). وبيَّن أن هذا معروف عند أهل الكتاب، بِذَمِّه لكاتِم العلم.
ثم ذكر أنه لا يقبل دينًا غير ذلك؛ ففي أولها: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)﴾ (البقرة)، وفي أثنائها: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا﴾ (البقرة: ١٦٥)، فالأول نهي عام، والثاني نهي خاص، وذَكَرَها بعد البيت ليُنْتَهَى عن قَصْد الأنداد المُضَاهِيَة له، ولِبَيْتِه من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووَحَّد نَفْسه قبل ذلك، وأنه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)﴾ (البقرة).
ثم ذَكَر ما يَتَعَلَّق بتوحيده من الآيات؛ ثم ذكر الحلال والحرام، وأَطْلَق الأَمْر في المَطاعِم؛ لأن الرسول بُعِث بالحَنِيفيَّة وشعارها؛ وهو البيت، وذَكَر سَماحَتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شَرَعه من القِصَاص، ومن أَخْذ الديّة؛ ثم ذكر العبادات المُتَعَلِّقة بالزمان؛ فذكر الوصية المُتَعَلِّقة بالموت، ثم الصيام المُتَعَلِّق برمضان وما يتصل به من الاعتكاف ذَكَرَه في عبادات المكان، وعبادات الزمان؛ فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحبابًا أو وجوبًا بوقت الصيام، وَوَسطه أولًا بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تُشْرَع في جميع
_________
(١) أخرجه أبو داود (١٩٨٩) من حديث أم معقل ﵂، وصححه ابن خزيمة (٢٣٧٦)، والألباني في صحيح أبي داود (١٧٣٦).
1 / 17
الأرض، والعكوف بينهما. ثم أتبع ذلك بالنهي عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المُحَرَّم نوعان: نوع لعَيْنِه؛ كالميتة، ونوع لكَسْبه؛ كالربا والمغصوب، فأَتْبَع المعنى الثَابِت بالمُحَرَّم الثابِت تحريمه لعَيْنِه، وذكر في أثناء عبادات الزمان المنتقلِ الحرامَ المُنْتَقِلَ؛ ولهذا أَتْبَعَه بقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ﴾ الآية (البقرة: ١٨٩)، وهي أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس في أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تَحُجُّه الملائكة والجن، فكان هذا أيضًا في أن الحج مُوَقَّت بالزمان، كأنه مُوَقَّت بالبيت المكاني؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان مع أن المكان من تمام الحج والعمرة.
وذكر المُحْصَر، وذَكَر تقديم الإحلال المُتَعَلِّق بالمال -وهو الهدي- عن الإحلال المُتَعَلِّق بالنَّفْس -وهو الحلق- وأن المُتَحَلِّل يَخْرُج من إحرامه، فيَحِلّ بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يَحِل عين الوطء؛ فإنه أعظم المحظورات، ولا يَفْسُد النُّسُك بمحظور سواه.
وذكر التمتع بالعمرة إلى الحج لتَعَلُّقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون مُتَمَتِّعًا حتى يُحْرِم بالعمرة في أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضري المسجد الحرامَ -وهو الأُفُقِيّ- فإنه الذي يَظْهَر التَّمَتُّع في حقه؛ لتَرَفُّهِه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسِيَّانِ عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج.
ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإن هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ (البقرة: ١٩٧)، ولم يقل: والعمرة؛ لأنها تُفْرَض في كل وقت، ولا ريب أن السُّنَّة فَرْض الحج في أشهره، ومن فَرَض قبله خالف السُّنَّة؛ فإما أن يلزمه ما التزمه
1 / 18
كالنذر -إذ ليس فيه نَقْض للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت- وإما أن يَلْزَم الإحرام، ويَسْقُط الحج، ويكون مُعْتَمِرًا؛ وهذان قولان مشهوران.
ثم أمر عند قضاء المناسك بذِكْره، وقضاؤها -والله أعلم- قضاء التَّفَث والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ (البقرة: ٢٠٣)، وهذا أيضًا من العبادات الزمانية المكانية؛ وهو ذكر الله تعالى مع رمي الجمار، ومع الصلوات، ودلّ على أنه مكاني قوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ الآية (البقرة: ٢٠٣)، وإنما يكون التعجيل والتأخير في الخروج من المكان؛ ولهذا تُضَاف هذه الأيام إلى مكانها فيُقال: أيام منى، وإلى عملها فيُقال: أيام التشريق، كما يُقال: ليلة جَمْع، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة؛ فُتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابِع للحركة، والحركة تابعة للمكان.
فتدبَّر تناسب القرآن، وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذَكَر أحكام الحج فيها في موضعين: مع ذكر بيته، وما يتعلق بمكانه، ومَوْضِعٍ ذَكَر فيه الأَهِلَّة، فذكر ما يتَعَلَّق بزمانه، وذكر أيضًا القتال في المسجد الحرام، والمقَاصَّة في الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلَّق بالزمان المُتَعَلِّق بالمكان؛ ولهذا قَرَن سبحانه ذِكْر كون الأهلة مواقيت للناس والحج وذِكْر أن البِرّ ليس أن يُشْقِي الرجلُ نَفْسَه، ويفعل ما لا فائدة فيه؛ من كونه يَبْرُز للسماء فلا يَسْتَظِلّ بسَقْف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذي جُعِل مِيقاتًا للحج شَرْعٌ مثل هذا، وإنما تَضَمَّن شَرْعَ التقوى.
1 / 19
ثم ذكر بعد ذلك ما يتَعَلَّق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلَّق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المُتَضَمِّن وَضْع الآصار والأغلال، والعفو والمغفرة، والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شَرَعَه من الدين في كتابه المبين. والحمد لله رب العالمين» اهـ (١).
وقال الشاطبي ﵀: «ثم لما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة، وهي التي قرَّرَت قواعد التقوى المَبْنِيَّة على قواعد سورة الأنعام؛ فإنها بَيَّنَت من أقسام أفعال المكلفين جُمْلَتها، وإن تَبَيَّن في غيرها تفاصيل لها؛ كالعبادات التي هي قواعد الإسلام، والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما، والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دَارَ بها، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها.
وأيضًا؛ فإن حِفْظ الدين فيها، وحِفْظ النَّفْس والعقل والنسل والمال مُضَمَّن فيها، وما خرج عن المُقَرَّر فيها فبحكم التَّكْمِيل، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مَبْنِي عليها، كما كان غير الأنعام من المَكِّي المُتَأخِّر عنها مَبْنِيًّا عليها، وإذا تَنَزَّلْت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب؛ وجدتَّها كذلك، حذو القُذَّة بالقُذَّة؛ فلا يَغِيبَنّ عن النَّاظر في الكتاب هذا المعنى؛ فإنه من أسرار علوم التفسير، وعلى حَسَب المعرفة به تَحْصُل له المعرفة بكلام ربه سبحانه» اهـ (٢).
_________
(١) مجموع الفتاوى (١٤/ ٤١ - ٤٧).
(٢) الموافقات (٤/ ٢٥٧).
1 / 20
٢ - تدبر الآيات إجمالًا للتوصل إلى مقاصد السورة (١).
التطبيق:
١ - (سورة العنكبوت):
قال ابن القيم ﵀: «فمضمون هذه السورة هو سِرُّ الخلق والأمر؛ فإنها سورة الابتلاء والامتحان، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة، ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمها، وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان، ووسطه صبر وتوكل، وآخره هداية ونصر» (٢).
٢ - (سورة الرحمن):
قال ابن القيم ﵀: «تأمل قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)﴾ (الرحمن)، كيف جعل الخلق والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة مُتَعَلِّقًا باسم الرحمن، وجعل معاني السورة مُرتبطة بهذا الاسم، وختمها بقوله: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)﴾ (الرحمن)، فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتَتَح به السورة؛ إذ مجيء البركة كلِّها منه، وبه وُضِعَت البركة في كل مبارك، فكل ما ذُكِر عليه بُورك فيه، وكل ما خَلِيَ منه نُزِعَت منه البركة» (٣).
_________
(١) مقصود السورة: هو القضية الكُلِّية والمِحْوَر الأساس الذي تدور عليه الآيات وتَلْتَئِم عليه موضوعاتها.
(٢) شفاء العليل (١/ ٢٤٧).
(٣) مختصر الصواعق المرسلة (ص ٣٦٩).
1 / 21
٣ - (سورة الليل):
«عن ابن عباس ﵄ قال: «إني لأقول: هذه السورة نزلت في السماحة والبخل» (١).
٤ - (سور: الكافرون، الإخلاص، المعوذتان):
فمقصود سورة الكافرون: تقرير البراءة من عبادة الكافرين ومن معبوداتهم؛ فهي في توحيد الطلب والقصد (توحيد العبادة).
أما سورة الإخلاص، فمقصودها: تقرير الوحدانية لله تعالى بذكر صفاته الدالة على ذلك؛ فهي في توحيد الإثبات والمعرفة (الأسماء والصفات).
وأما المعوذتان، فمقصود سورة الفلق: الاستعاذة من جميع الشرور.
وأما الناس: فالاستعاذة من شر الوسواس الخناس.
_________
(١) الدر المنثور (٨/ ٥٣٣)، وعزاه لابن مردويه.
1 / 22
٣ - تدبُّر المعنى العام للآية للتوصُّل إلى المعنى الأساسي الذي نزلت لتقريره
وهذا أمر لابد من مراعاته؛ ذلك أن المعنى المقصود أصالةً، قد يُفْقَد عند تَتَبُّع اللَّطائف البلاغية، والمُلَح التدبُّريَّة في وجوه التعبير المتنوعة؛ ولذا نجد أن ابن جرير ﵀ يُورِد المعنى العام بعد الآية مباشرة، ثم يذكر التفاصيل والأقوال بعد ذلك.
وهذا وسط بين رأي من أنكر الاشتغال بالمناسبات والدقائق واللطائف، ومن أغرق في ذلك على حساب المعنى الأصلي للآية، مما يصرف القارئ عن ملاحظته (١).
_________
(١) انظر: الموافقات للشاطبي (٤/ ٢٦١). وانظر كلام الشوكاني في المناسبات في كتابه: فتح القدير (١/ ٨٥ - ٨٧)، وانظر: الفوز الكبير في أصول التفسير ص ٦٧.
1 / 23