فنون التحرير الصحفي بين النظرية والتطبيق المقال الصحفي
فنون التحرير الصحفي بين النظرية والتطبيق المقال الصحفي
ناشر
مكتبة الأنجلو مصرية
اصناف
"مقدمة":
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين..
وبعد:
فهذا هو كتابنا الأول عن "فن المقال الصحفي" الحادي عشر في حلقات هذه السلسلة التي أطلقنا عليها: "فنون التحرير الصحفي بين النظرية والتطبيق".. وقد أبقينا على تناوله حتى الآن، حيث تصب في بحره، وتتجمع تحت ظلاله الفنون السابقة في مجموعها متفردا بهذه الخاصة هو و"فن التحقيق الصحفي".. وحيث تبدأ هذه الفنون بالخبر وتكون نهايتها "المقال الصحفي" وليس التقرير أو الماجريات كما يقول بعض النظريين.. ولأن المقال -كما ينبغي أن يكون- أعم وأشمل، ومستوياته أكثر حرفية وأقرب إلى الفن، ودوره أبعد تأثيرا وموضوعاته في أغلبها هي الأكثر خطورة ومحرره قد أصبح من مستوى الكتاب الأكثر نضجا وممارسة وثقافة، والأعمق فكرا والأقرب إلى التأثير في الرأي العام.. بعد أن اجتاز إلى ذلك طريقا طويلا وشاقا في مجالات صحفية أو أدبية أو علمية أو فكرية.. أو في هذه كلها، بحيث أصبحت هذه التجارب والممارسات وتأثيراتها التحريرية.. "صك قبول" عند القراء، وسندا يشد أزره.. ويرتبط باسمه في أكثر الأحوال.. وحتى الدارسين له فإن من البديهي -وهذا طابع المقال وتلك خطورته- أن تكون الفنون والأنماط السابقة قد مرت بهم أولا.. وأن يكونوا قد اكتسبوا خلال دراستهم لها ما يؤهلهم لدراسة فن المقال الصحفي، وإذن فإن تأجيل تناوله إلى هذا الحين هو أمر يتفق مع طابعه وأهميته وخطورته ومستويات محرريه، أو هكذا ينبغي أن يكون موقعه من الدراسات الإعلامية عامة والصحفية التحريرية خاصة، وكلنا يشهد أن محرري المقالات أو كتابها هم في أغلب الأحوال وأعمها من طبقة المحررين المتمرسين بفنون العمل الصحفي في مجموعه، أو من هؤلاء الذين دخلوا إلى الصحافة من باب مقدرتهم الكتابية على أي شكل من أشكالها أو الذين ينتسبون إلى هذه الأسرة
1 / 3
الصحفية من خلال هذه الصفات "التحريرية" نفسها وحيث تكون لهم أقلامهم وأفكارهم وأساليبهم المبدعة وبلاغتهم الصحفية التي تؤهلهم لهذا العمل القيادي الفكري الابتكاري الإبداعي معا وفي آن واحد..
على أننا ونحن نتوجه به إلى الدارسين أولا والزملاء الذين يجربون حظهم في هذا الحقل المتسع ثانيا وإلى كتاب المقالات من داخل أو خارج الأسرة الصحفية أو من "المصاحفين" ثالثا.. ونحن نفعل ذلك، إنما نرجو أن يكون مصحوبا بهذه النقاط:
النقطة الأولى: أن هذه الدراسة تتلاءم بالشكل الذي جاءت عليه وباتجاهاتها ومادتها مع طابع المقدمات أو المداخل التعريفية تلك التي تقف من المقالة الصحفية عن قرب، أو تقوم على هامشها.. لبقي بعد ذلك أن يفيد القارئ منها -طالبا أو دارسا أو متدربا أو صحفيا- عن طريق التطبيق، وبواسطة التجربة العملية التي تضع ذلك كله في مجالاتها الحقلية أو المعملية.. أي: إن هذا الذي ننوي الحديث عنه تكمله الخبرة، وتعركه التجربة، وتصيف إليه الممارسة.... فوق الصفحات وفي السطور نفسها..
النقطة الثانية: ومن هنا فنحن نقول أيضا أن حديثنا القادم ليس هو كل ما يمكن أن يقال في هذا المحال، وإنما كان تركيزنا بالدرجة الأولى على:
- ما يمكن أن يفيد في مجالي النظرية والتطبيق.
- ما يمكن أن يخضع لمثل هذه الدراسة، والأكاديمية التدريبية المعملية، وفي ضوئها.
- ما يتلاءم مع طبيعة المرحلة "الفكرية والعلمية"، التي يمر بها الدارس والقارئ عموما وهذه الخطوة التي يجتازها على طريق العمل أو الدراسة.. بالإضافة إلى من ذكروا من غير هؤلاء.
النقطة الثالثة: ومن هنا أيضا فنحن نقول أنها ليست جميع المقالات الصحفية وإنما أبرزها وأهمها، وليصبح عندنا بعد ذلك عدة مقالات أخرى سوف نتناولها -بإذن الله- خلال كتاب قادم.. على أن يكون من أبرزها "المقال التحليلي - المقالات المتخصصة".. وغيرها من أنواع المقالات التي رأينا أن يضمها كتاب
1 / 4
آخر.. وحتى لا يكون تناولنا لها فوق طاقة هؤلاء الذين نتوجه إليهم هنا قبل غيرهم..
النقطة الرابعة: أن اعتمادنا خلال الصفحات القادمة كان كبيرا، وأنه تركز على عدة مصادر نرتبها هنا بحسب أهميتها، والقدر الذي اعتمدنا عليها فيه، ومدى الفائدة المتحققة.
- المادة المقالية المنشورة على صفحات الجرائد والمجلات عربية وأجنبية.
- أفكار وملاحظات ومرئيات عدد من كتاب هذه المقالات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
- المراجع الأجنبية.
- المراجع العربية.
- ملاحظاتنا ومرئياتنا ونظرتنا الموضوعية إلى هذه المواد كلها.
وإذا كانت هذه النقاط في مجموعها تمثل إضافة ضوئية لا بد منها من أجل مزيد من الوضوح الذي نرجو أن يتهيأ للصفحات القادمة، فإن هذه الصفحات نفسها وكعهدنا في دراساتنا السابقة كانت فاتحتها تمثل إطلالة على مفهوم المقال، ونظرة طائر "خلفية" إلى قصته وماضيه مصريا وعربيا وعالميا، ثم أضفنا إلى هذه المعالم وقفة عند وظيفته أو الدور أو الأدوار التي يقدمها لجميع الأطراف المتصلة به تحريرا ونشرا وقراءة ومتابعة.. وحيث مثلت هذه النقاط مجموعة الفصلين الأول والثاني من هذا الكتاب ...
أما الفصل الثالث فقد تناول أنواع المقال بداية بالمقال "الصحفي العام" الذي يمكن أن يكتبه وأن تنشره الصحيفة أو المجلة لكل صاحب فكر وقلم، خاصة من نجوم المجتمع في الأمور التي تهم أفراده ومرورا "بالمقال الافتتاحي" بموقعه الفريد والمتميز و"الاستراتيجي" من وسيلة النشر، ثم "المقال القائد الموقع".. الذي يعتبر بديلا عن المقال السابق عند البعض، وبعد أن قل الاهتمام به عن ذي قبل على غير ما كان ينبغي أن يحدث..
وبعد ذلك كان حديثنا عن "مقال التعليق" ثم "مقال التفسير" برباطهما
1 / 5
القوي وإلى حد الاختلاط أو الامتزاج أحيانا.. ليكون "مسك الختام" في هذا التناول، وعلى هذه الصفحات نفسها حديثنا عن "المقال العمودي" المعروف بالعمود الصحفي ثم "مقال اليوميات الصحفية".. بمواقعهما الهامة وبجانب "البلاغة الصحفية" المرتبطة بهما.
كل ذلك مع عناية بجوانب تعريف هذه الأنواع وأهم خصائصها وأبرز أنماطها وما يمكن أو تنبغي معرفته عن محررها وأساليب وأطر تحريرها المختلفة.
حتى كان الفصل الرابع والأخير والذي وقفنا فيه عند عدة معالم أساسية كان ينبغي أن يفرد لها مثل هذا الفصل، مثل خطوات تحرير المقال ولغته والعوامل المؤثرة فيه.. وفي النهاية قدمت عددا من النماذج "التدريبية".. مع شرح مختصر يمثل نقطة ضوء عليها.
والله أسأل أن يكون فيه الخير والنفع وما يدخر ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم..
وإلى مؤلف آخر بعون الله وتوفيقه.
محمود أدهم
مصر الجديدة - القاهرة
1 / 6
الفصل الأول: ماهية المقال الصحفي وقصته
مدخل
...
الفصل الأول: "ماهية المقال الصحفي وقصته"
يمثل "المقال الصحفي"١ بتعدد أنماطه، وبكثرة أشكاله، المادة التحريرية الصحفية الأكثر أهمية، وإيجابية، وفعالية، عند "كبريات" الصحف العالمية، والعربية وتمثل صفحاته وأركانه وأعمدته وسطوره وكلماته الدليل المادي، والفكري، على حياة الصحيفة وقيامها بمسئوليتها الوطنية والاجتماعية بطريقة مباشرة. ومن ثم على أثرها وتأثيرها في مجريات الأمور، وعلى قيامها بالدور الذي ينبغي أن تقوم به خدمة لقرائها، وهو هنا دور واضح، ومتميز.. وإيجابي وفعال أيضا.
وما ذلك كله إلا لأن هذا الفن التحريري الصحفي، إنما يمثل عن حق -وكما قال عنه قدامى الكتاب الصحفيين- عقل الجريدة والمجلة، ومن هنا، فإنهما عندما يقدمان إلى قارئهما مقالا من المقالات، فهما يقدمان "آية" ذلك العقل، وصورة من صوره، وأثرا من آثاره، أو -في أسلوب آخر- تقدم الصحيفة بنشرها للمقال على أي شكل من أشكاله رسالة من عقلها إلى عقل قارئها، لينقلها عقل القارئ بعد ذلك إلى مراكز شعوره وإدراكه، وليحس بها في النهاية كل الإحساس..
وما دام المقال رسالة من العقل إلى العقل، فهو الأكثر رقيا، واقترابا من طابع الإنسان الذي ميزه الله بالعقل، وهو أيضا دعوة إلى التفكير والتدبير والتنفيذ والتصرف ومن هنا أيضا كانت "قيمة" وكان "مستوى" وكان "أثر" تلك الصحف التي تحرص على نشره، ونظرة واحدة إلى تاريخ الصحافة العالمية أو العربية، لتؤكد عظم الدور الذي قام به المقال، وكتابه ومحرروه.. وصحفه ومجلاته وحيث أضافت إلى دور "السجل الأمين لأحداث العصر ووقائعه" أدوار
_________
١ Article.
1 / 8
الرصد والتفسير والتحليل واستخلاص النتائج، لهذه الأحداث نفسها وكذا للاتجاهات والآراء والمواقف والقضايا.. تلك التي تصنع وتقود وتوجه الأحداث نفسها على يد كتابها.. هؤلاء الذين كانوا زعماء للفكر والإصلاح معا، والذين نهض العالم كله على أيديهم، وحقق ما حققه من تطور.. وحيث كان لمقالاتهم النقدية والفلسفية والعلمية والاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية والوطنية.. كان لها أبعد الأثر وأعمقه في فكر أمة بأكملها، في عصر بأكمله..
ومن هنا أيضا كان حرص الصحف "الأكثر احتراما والأكثر استشعارا لدورها الوطني والاجتماعي" على أن يقوم كتابها -من داخل أسرتها أو خارجها- بتحرير المقالات ونشرها، متوجهة بها نحو قارئها.. إلى "عقله" أولا، ليقبل عليها في البداية، وفي المحل الأول دائما، ذلك العدد من القراء "العقلاء أولا" الذين يرون الأمور بعقلهم، ويتعهدونها بفكرهم ويكون للعقل دوره في حركاتهم وسكناتهم وجميع تصرفاتهم التي بها يسود كل منهم ويحرز التفوق وبها يتقدم الصفوف قبل غيره من الذين يقدمون العاطفة، أو يتبعونها أو يبحثون عما يخاطبها من المواد..
وليس معنى ذلك -بالطبع- أن المقال الصحفي لا يعترف بالعواطف، ولا مكان فيه أو عند كتابه للإحساسات والمشاعر، وإنما معناه أنه -المقال الصحفي- يخاطب العقل أولا ويتخذ من مخاطبته له طريقا إلى مخاطبة العواطف السامية والاتقاء بالإحساسات النبيلة، كل ذلك عن طريق دعوته إلى إعمال الفهم، ودفع الفكر، وتفسير المحسوس، وشرح المؤثر والربط بين هذه كلها، وبين الفكرة التي يتناولها، والنتيجة التي يمكن أن يصل إليها.
وليس معنى ذلك أيضا.. أن فنون التحرير الصحفي الأخرى، وأن أشكاله وأنماطه المتعددة كالخبر والموضوع الإخباري والقصة الإخبارية والحديث والتحقيق والتقرير والماجري.. تقتصر على مخاطبة العواطف والإحساسات وحدهما ولا تخاطب العقل، وإنما معناه أن هذه الفنون تخاطب العقل والعاطفة معا، ولكن فنون الخبر تخاطب العقل من خلال "ما هو كائن" أو "ما هو جار" وكذلك من خلال "ما يمكن أن يحدث أو ما يمكن أن يجري".. ثم تتوقف عند ذلك، لتخطو الفنون الأخرى خطوة إيجابية، أو أكثر من خطوة تؤكد رؤية المحرر وذاتيته وكيانه وتعكس فكره ورأيه وموقفه.. ولكنها -وبعضها كالتحقيق الصحفي
1 / 9
يعتبر عند عدد من العلماء نوعا من أنواع المقالات الوصفية أو الموضوعية أو مقالات المجلة بمعناها الشامل- تتوقف عند هذه الخطوات في أغلب الأحوال، ولا تواصل الشوط حتى النهاية.. شوط الخروج من دائرة وحدود "ما هو كائن".. إلى عمق وجوهر: "ما يجب أن يكون" بما يتصل بذلك من تفسير لما هو كان وتحليل له، وتوقع واستكشاف وتحذير ودعوة واستقطاب وهجوم ورد. وما إلى ذلك كله من أمر أكثر إيجابية، أكثر مضيا في دعوتها إلى أعمال الفكر واتخاذ المواقف، ودعوة إلى التغيير أيضا، وهو ما لا يمكن أن تقدمه المادة الإخبارية البحتة، على أي شكل من أشكالها وما يمكن أن تقدمه "بقدر" وبقدر محسوب، الفنون الأخرى التالية للخبر.. باستثناء فن المقال الصحفي طبعا.. الذي يقف كتابه عند قمة "الهرم الصحفي" بما وصلوا إليه خلال مسيرتهم الطويلة، أو خلال طريق الصعود إلى القمة، من تمرس بالتفكير، وتمرس بالتعبير أنتجا ما يتاح لهما مما لا يتاح لغيرهما من حرية مخاطبة القارئ والتوجه إلى عقله وإلى فكره بغية التأثير الإيجابي عليه، وعلى إدراكه، ومن ثم على دوافعه وسلوكياته كلها في النهاية.. من تصرفات وتحولات ومواقف مختلفة، يتفاعل خلالها من أحداث مجتمعه الصغير أو الكبير أو هما معا.. بتأثير مقال من المقالات التي سنتعرض لها خلال الصفحات القادمة بإذن الله.
وإذا كان للمقال الصحفي كل هذه الخطورة، وإذا كنا سوف نعود مرة أخرى -بإذن الله- إلى تناول مهامه ووظائفه.. فقد حان الوقت للتعريف به وبماهيته، وبقصته أيضا.
أولا: ماهية المقال الصحفي ما يزال تعبير "المقال الصحفي" يغلف بنوع من الغموض، ويدل عند البعض على مواد عديدة بعضها واضح تماما، والآخر ينقصه الوضوح الكامل، كما أن بعضها غير محدد المفهوم، أو الطول، أو المساحة أو اللغة.. وما إلى ذلك كله، وربما كان هذا هو السبب في أن عددا ممن تناولوا فن المقال، قد أحجموا عن كتابة تعريف واضح ومباشر له، أو جامع مانع، أو أي تعريف على الإطلاق١، بينما اكتفى البعض بذكر تعريفين أو ثلاثة تعريفات من تلك التي أوردتها الكتب الأجنبية، دون أن يحاول تقديم تعريف من عنده، يعكس مفهومه في ذهنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. مع أنه _________ ١ مثل د. حسنين عبد القادر.
أولا: ماهية المقال الصحفي ما يزال تعبير "المقال الصحفي" يغلف بنوع من الغموض، ويدل عند البعض على مواد عديدة بعضها واضح تماما، والآخر ينقصه الوضوح الكامل، كما أن بعضها غير محدد المفهوم، أو الطول، أو المساحة أو اللغة.. وما إلى ذلك كله، وربما كان هذا هو السبب في أن عددا ممن تناولوا فن المقال، قد أحجموا عن كتابة تعريف واضح ومباشر له، أو جامع مانع، أو أي تعريف على الإطلاق١، بينما اكتفى البعض بذكر تعريفين أو ثلاثة تعريفات من تلك التي أوردتها الكتب الأجنبية، دون أن يحاول تقديم تعريف من عنده، يعكس مفهومه في ذهنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. مع أنه _________ ١ مثل د. حسنين عبد القادر.
1 / 10
كان يستطيع ذلك ويقدر عليه أيضا١.. تماما كما أن البعض الأخير قد قدم عددا في خصائص المقال، ووصف أنواعه على أنها تعريفه الكامل والشامل٢.
على أن ذلك لم يكن حال المراجع العربية وواقعها وحدها، أو لم تكن هي فريدة في هذا المجال، ذلك أن أكثر المراجع الأجنبية أيضا قد وقفت مثل هذا الموقف.
بل إن من العجيب أن هذه المراجع الأخيرة فقد قدمت "مئات" من التعريفات لفنون التحرير الصحفي الأخرى، خاصة الخبر، ثم وجدناها بخيلة في تعريفها لهذه المادة الأخيرة للأسباب نفسها "تشعبه وامتداده إلى فنون أخرى وكثرة تنوعه واختلاف معالمه وملامحه". ومن هنا كانت صعوبة التعريف.. الذي يمكن أن نستند إليه في مثل هذه الدراسة، استمرارا لطريقتنا التي تعتمد هذا الأسلوب..
ومن الغريب أن يكون الأصل في كلمة "مقالة" هي الكلام "المنطوق" أو الشفهي الذي يقصد به إحداث تأثير معين، قبل أن تأخذ شكلها المدون، من خلال نشاط ديواني "الإنشاء والرسائل" وحيث برزت الحاجة إلى تسجيل وتدوين وحفظ هذا اللون الفكري الأدبي أولا.. يدل على ذلك ورود الكلمة بهذا المعنى منذ "العصر الجاهلي" وفي مجالي الشعر والنثر معا فاستخدمت كثيرا تعبيرات مثل "مقالة حق، مقالة صدق، مقالة سوء، مقالة خير، مقالة شر ... إلخ" ومن ذلك -مثلا- قول الشاعر:
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ويقول أوس بن حجر:
ويكفي المقالة أهل الدحا ... ل غير معيب ولا غائب
كما استمر استخدامها في صدر الإسلام ضمن ما يطلق على "الخطية" وقد فعل ذلك "ابن هشام" في سيرته أكثر من مرة وكثر ترديدها في الأحداث التي صاحبت وفاة محمد رسول الله ﷺ وبيعة أبي بكر الصديق وجاء في خطبة عمر بن الخطاب ﵄: "أما بعد: فإني قائل لكم اليوم مقالة قد قدر لي أن أقولها ... إلخ".
وقد دار التعبير كثيرا على ألسنة الكتاب والمتحدثين والأدباء.. كما ورد مرات عديدة ضمن سطور كتب الأدب العربي.. ففي "كليلة ودمنة" مثلا وجدناها تتردد "فلما فرغ بيدبا من مقالته، فلما سمع كسرى أنوشروان والعظماء مقالته ... إلخ"٣.
_________
١ مثل أ. د. عبد اللطيف حمزة.
٢ مثل أ. أحمد رشدي صالح.
٣ بيدبا ترجمة عبد الله بن المقفع: "كليلة ودمنة" ص١٠ - ص٢٠.
1 / 11
ولعل ذلك هو ما جعل تعريف "المقالة الأدبية" يطغى على تعريفات الأنواع الأخرى من المقالات.. حتى على الصحفية والعلمية.. فنجد على سبيل المثال لا الحصر تعريف "الموسوعة الثقافية" الذي يقول عن المقال أنه:
"فن من فنون التأليف الأدبي يكتب نثرا ويعطي أفكار المؤلف ومشاعره في أي موضوع من الموضوعات"١.
كما وردت تعريفات عديدة أخرى مماثلة لهذا التعريف الأدبي الطابع، تؤكد انتماء المقال أولا إلى الأدب، وامتداد هذه النظرة إلى الآداب الغربية أيضا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- المادة الكتابية النثرية التي يخاطب فيها الكاتب القراء مقدما لهم أفكاره وآراءه وخواطره، وما يتصل برؤيته للناس والحياة في مجتمعه أو المجتمعات الأخرى.
- كل كلام مكتوب قصد به التأثير في قارئه وإحداث انفعال ما مؤقت أو مستمر.
- من تجارب وقراءات ومعايشات ورؤية الكاتب الخاصة والموجودة ضمن إطار إنشائي معين تتكون أغلب المقالات.
- والمقالة أيضا عند البعض الآخر عبارة عن: "وثبة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام وهو قطعة إنشائية لا تجري على نسق معلوم، ولم يتم هضمها في نفس صاحبها، أما الإنشاء المنظم فليس من المقال في شيء٢.
- أهم الفنون الأدبية على الإطلاق في عالم اليوم.. أن أغلب الكتب الصادرة هي مجموعة من المقالات فالنقد والتأليف والتاريخ والاجتماع والرحلات.. كلها مقالات في مقالات وحتى القصة القصيرة أيضا فإن شكل "المقال القصصي" الذي يتناول حدثا أو شريحة من الناس أو المجتمع، هو نوعية أخرى من هذا الإنتاج المقالي الأدبي الرفيع.
وقريب من هذه النظرة الأدبية نفسها تعريف "قاموس اكسفورد" لهذا الفن والذي
_________
١ حسين سعيد وآخرون: "الموسوعة الثقافية" ص٩٣٥.
٢ عبد العزيز شرف: "فن المقال الصحفي" ص٧، عن د. جونسون.
1 / 12
جاء به: "المقال هو إنشاء كتابي معتدل الطول في موضوع ما، وهو دائما يعوزه الصقل ومن هنا يبدو أحيانا أنه غير مفهوم ولا منظم"١.
ويحاول ناقد أدبي أن يجمع بين الزاويتين الأدبية والصحفية في تعريف له جاء فيه قوله أن المقال هو "شكل أدبي يستخدم للنثر عادة في توصيل الفكر من خلال طول معتدل يدور حول موضوع محدد، ويكون الموضوع عادة إخباريا أو تعليميا أو تحليليا، أي: إنه يجمع بين الرأي والخبر"٢.
أما المقال الصحفي -من حيث هو- فقد وردت عنه بعض التعريفات كما أمكننا الحصول على عدد آخر منها.. ومن بين هذه وتلك أنه:
- "الأفكار والخواطر والآراء ووجهات النظر المتصلة بفكر الكاتب من جهة وبنبض القراء واهتماماتهم من جهة أخرى.. وهو يكتب للنشر في الصحف والمجلات أولا، في وقت معين، وتختلف أطواله من مقال إلى آخر ... وفق نوعية وطبيعة المادة المطروحة به"٣.
- "ما يمثل جانب الرأي الحر في الصحف والمجلات بقلم محرر كبير أو كاتب من أعضاء الأسرة الصحفية أو خارجها يطرح فيه ما يعتقد أنه في حاجة إلى شرح وتعليق"٤.
ومن التعريفات "التقليدية" له أنه:
- "إنشاء متوسط الطول يكتب للنشر في الصحف ويعالج موضوعا معينا بطريقة مبسطة وموجزة على أن يلتزم الكاتب حدود الموضوع"٥.
- "المقال اسم يطلق على الكتابات التي لا يدعي أصحابها العمق في بحثها أو
_________
١ عبد اللطيف حمزة: "المدخل في فن التحرير الصحفي" ص٢٢٧.
٢ نبيل راغب: "دليل الناقد الأدبي" ص١٨٩.
٣ من حديث خاص مع الأستاذ "أحمد رشدي صالح" آخر ساعة ١٩٧٧.
٤ من حديث خاص مع الأستاذ "أبو الخير نجيب" نقابة الصحفيين بمصر ١٩٨١.
٥ تعريف دائرة المعارف البريطانية.
1 / 13
الإحاطة التامة في معالجتها ذلك أن كلمة مقال تعني محاولة أو خبرة أو تطبيقا مبدئيا أو تجربة أولية"١.
وهناك تعريف آخر يقول:
"في ظننا أن المقال الصحفي هو المقال الذي تنشره الجريدة لتغطية تساؤلات أو اهتمامات ذات صفة حالية مرتبطة بالأحداث الهامة أو المشكلات الهامة أو القضايا الهامة بالفعل في حياة قرائها أو تلك التي يمكن أن تجري في حياتهم في المستقبل القريب، وهذا المقال يمتاز ببلاغته الصحفية ويتخذ الصيغة المميزة لطابع الصحيفة التي تنشره أو الصيغة المميزة للمدرسة أو للمذهب الصحفي الذي ينتمي إليه كاتب المقال"٢.
- أما عن تعريفنا الخاص للمقال الصحفي والذي نقدمه في إطار هذه الدراسة، وبالاتصال بأبرز مبادئ التحرير الصحفي العام، ومن خلال نظرة تجمع بين النظرية والتطبيق فقد سبق لنا أن قدمنا أكثر من تعريف من بينها ما يقول إن المقال الصحفي هو:
- "فكرة يقتنصها الكاتب الصحفي خلال معايشته الكاملة للأنباء والأراء والقضايا والاتجاهات والمواقف والمشكلات المؤثرة على القراء وفي حركة المجتمع، يقوم بعرضها وشرحها وتأييدها أو معارضتها في لغة واضحة وأسلوب يعكس شخصيته وفكره وتنشر في الوقت المناسب وفي حجم يتلاءم مع نوعيتها وأهميتها ونتائجها المستهدفة".
- "المادة التحريرية التي يقدمها كاتب صحفي في شكل فني معين وحجم مناسب ولغة واضحة وذلك للنشر الحالي بجريدة أو مجلة في إطار تفسيري أو توجيهي أو نقدي أو تحليلي أو بالجمع بين هذه الأطر، متناولة الأحداث والقضايا والمواقف والأشخاص والأفكار من أجل توعية القراء وتأكيدا لمسئوليته الاجتماعية، ولدور الصحيفة أو المجلة كوسيلة نشر".
- "المادة التحريرية التي يقدمها كاتب صحفي استنادا إلى فكرة يحصل عليها من
_________
١ تعريف معجم "لاروس".
٢ جلال الدين الحمامصي: "الصحيفة المثالية" ص٢٠٣ فن مقال بقلم "أحمد رشدي صالح".
1 / 14
خلال حضوره الذهني الصحفي ومعايشته للأحداث وعلاقاته الاجتماعية واتصالاته وقراءاته وخطابات القراء ومكالماتهم الهاتفية وما يرد عبر الأثير وذلك في إطار يفسرها للقراء ويحيطهم بأبعدها ويوجههم بشأنها، وقد يقوم بتأييدها أو معارضتها بطريقة تحمل طابعه في التفكير وأسلوبه في التعبير، وذلك للنشر في الوقت المناسب متلائمة مع طابع الصحيفة أو المجلة واهتمامات القراء وصالح الفرد والمجتمع".
تدريب عملي "١":
١- ما الذي يمكن أن تستنتجه من هذه التعريفات كلها؟
"اكتب في حدود ٣٠ سطرا".
٢- قم بمحاولة لوضع تعريف من عندك للمقال الصحفي.. واذكر لماذا هذا التعريف؟
٣- ارتكازا إلى دراساتك السابقة في فن التحرير الصحفي.. قارن بين تعريفات كل من:
أ- الخبر. ب- التحقيق الصحفي. جـ- المقال.
ثم اذكر ما يمكن أن تقدمه لك هذه المقارنة من نتائج.
1 / 15
ثانيا: المقال: تاريخ وصور
- وإذا كان من الصحيح أن الشكل الأول من أشكال المقالة الحديثة قد ظهر على يد الكاتب الفرنسي "ميشيل دي مونتاني" عندما نشر عام ١٥٨٠ كتابه الذي أطلق عليه اسم "محاولات"١.
وكانت هذه أول مرة يطلق فيها هذا التعبير.. بما زخر به من مادة قريبة من "المحاورة" بما تقيمه من جسور بينه وبين القارئ.. نفذ من خلالها بكتاباته الذاتية عن عواطف الآباء تجاه الأبناء وعن الضمير والبطالة والفراغ والغرور إلى غير ذلك من موضوعات "وجدانية".
- وإذا كان من الصحيح أيضا أن الإنجليزي "فرنسيس بيكون ١٥٦١-١٦٣٦" هو الذي قام بنقلها أو على الأصح زحزحتها من المجال الذاتي إلى الممارسة الموضوعية العلمية بما وضعه لها من أساس أو "تقاليد" من أهمها التركيز على الفكرة الأساسية، وتحديد زاوية التناول أو المعالجة.. وما إلى ذلك.
ثم تنتقل المقالة بعد ذلك إلى المجال "العملي" أو "الدوري" وهو نفسه المجال "الصحفي" على يد قادة الفكر الصحفي الإنجليزي في القرن الثامن عشر لا سيما "دانيال ديفو" و"ستيل"٢ وغيرهما من الكتاب الذين شعروا بجسم الصحفي.. حاجة القراء إلى هذا اللون الجديد من المادة المقالية.
- إذا كان ذلك كله صحيحا.. فمن الصحيح أيضا أن يقال إن الحضارات
_________
١ "essays".
٢ لمزيد من المعلومات عن هذا الموضوع ننصح بقراءة: "إبراهيم إمام: تطور الصحافة الإنجليزية - عباس محمود العقاد، يسألونك - محمد عوض محمد، فن المقالة الأدبية - محمد يوسف نجم: فن المقالة".
1 / 16
العالمية في عصور ازدهارها المختلفة لم تعدم وجود لون من الإنتاج الفكري الذي يمكن اعتباره من المقدمات الأولى لفن المقالة، أو من جذورها الضاربة في أعماق الفكر البشري، كما نحب أن نستخدم هذا التعبير.. وذلك على الرغم من:
- عدم وجود المطبعة.
- عدم معرفتنا بأسماء الكتاب إلا فيما ندر.
- عدم استخدام كلمة مقالة أو معرفتها أصلا.
وهكذا كان الحال بالنسبة لعدد كبير من ألوان الإنتاج الفكري القديم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر هذه الصور والمشاهد كلها:
١- ما يؤكده "ألن شورتر" من أن المصريين القدماء: "كانوا يغرمون دائما بالتعبير عن أفكارهم عن السلوك الشخصي في صورة نصائح مثل كتاب الأمثال في التوراة، وكان من عادة الكاتب أن يضعها على لسان رجل عظيم من عصر قديم يكون قد اشتهر بالحكمة"١.. ولعل من أقدم ما وصلنا عن هذه الحكم "المواعظ التي تمثل أقدم جذور لفن المقال بأنواعه المختلفة نصائح الوزير القديم جدا "كاجمني" أو "كاجمنا".. الذي كان وزيرا للبلاط الملكي في عهد الملك "سنفرو" -الذي تتخذ محافظة بني سويف من صورة هرمه شعارا لها- وهو من الأسرة الثالثة، وله كتابات عديدة من هذا الطراز تتصل بآداب السلوك الإجماعي والذوق العام وآداب الزيارة والمائدة ومن النوع الأخير -آداب المائدة- قوله في هذه العبارة:
"إذا جلست مع أشخاص كثيرين فاصطنع كراهية الطعام حي ولو كنت شديد الرغبة فيه، إن الأمر لا يستلزم وقتا طويلا لضبط النفس وإنه لمن المشين أن تكون نهما، تعس هذا الرجل الشره من أجل جسده"٢.
٢- على أن أهم هذه النوعية وأبعدها أثرا -من الجذور المصرية القديمة- ما عرف
_________
١ ألن شورتر: ترجمة نجيب ميخائيل إبراهيم: الحياة اليومية في مصر القديمة" ص١٢٢.
٢ المصدر السابق ص١٢٣.
1 / 17
باسم "نصائح بتاح حتب" التي وجدها فلاح أقصري وباعها للعالم الأثري الفرنسي "بريس"١ الذي نشرها عام ١٨٤٧ وأهداها للمكتبة الأهلية في باريس وهي تشمل على ١٨ صفحة مكتوبة بالخط الهيراطيقي بالحبر الأسود والأحمر.. وقد ترجمت إلى لغات العالم كما درست بالمدارس الإنجليزية.. وحيث نقدم هنا صفحتها، "المقالية، الأولى والتي جاء فيها"٢:
من حكم بتاح حتب:
"إذا كنت رئيسا فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق، واعلم أن مرؤوسك هو عضدك وساعدك، وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه ويختم على قلبه فيخفي عنك ما قد يفيدك العلم به، أما إذا استعبدته بالحسنى فلعله يبوح لك بما يضمر ويفتح لك خزائن قلبه وعوده الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك، ولا يخدعك فيما يضرك وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه بل كن شفيقا صبورا وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ فخير البر عاجله، وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك، واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.
إذا شئت أن تستبقي حب أخيك وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء؛ لأنها مجلبة الشر في كل زمان ومكان، واعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين وتورث آلاما تبقى مدى الحياة.
اجتنب جلساء السوء فإن في بعدهم غنما وفي قربهم غرما. إذا شئت أن تكون صادقا في قولك أمينا في عملك فطهر نفسك من أدران العناد والطمع واحذر الشراهة والجشع، وإن كنت خلوا من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به، واعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد والولد
_________
١ Prisse.
٢ من ترجمة قديمة جدا نشرتها مجلة "البيان" عام ١٩١٢ للأستاذ "محمد لطفي جمعة".
1 / 18
وتشتت شمل الجماعات وتبدد أوصال الصداقات وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة وتغرس بذور النفور والبغض".
٣- ولعلنا نجد صورة أخرى من صور هذه الجذور المصرية القديمة ممثلة في تلك الكلمات التي كان كثير من "علية القوم" في مصر القديمة ينقشونها على شواهد قبورهم -كما فعل عرب جنوب شبه الجزيرة بعد ذلك- وحيث كان بعضها إخباري الطابع، والآخر يمت بصلة نسب قديمة جدا إلى الأحاديث الصحفية.. وبعضها الثالث والذي نحن بصدده، يمت بمثل هذه الصلة، ولكن إلى مقال "الاعترافات" من جانب، وإلى "الترجمة الشخصية" من جانب آخر.
وقد أشار إلى ذلك أحد الأساتذة حين قال: "لعل أقدم صورة للترجمة الشخصية تلك الكلمات التي كان ينقشها القدماء على شواهد قبورهم، فيعرفون بأنفسهم، وقد يذكرون بعض أعمالهم، واشتهر المصريون في عصور الفراعنة بكثرة ما نقشوا على قبورهم وأهراماتهم وفي معابدهم وهياكلهم من تواريخهم وأفعالهم"١ وحيث نذكر هنا أمثلة قليلة لهذه الجذور المقالية الكثيرة جدا:
- بعض ما جاء في "متون الأهرام" عن حياة الملك.
- ما تركه أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين ق. م، حيث كتب على قبره عن حياته: "لقد أعطيت خبزا لكل الجائعين في جبل الثعبان -ضيعته- وكسوت كل من كان عريانا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير.. ولم أظلم أحدا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكو بي.. إلخ"٢.
- ومن أبرز هذه الجذور ما كتب على مقبرة "حرخوف"، الرحالة المعروف -من القرن السادس والعشرين ق. م- والذي نقش على واجهة مقبرته بأسوان قصة حياته المليئة بالمخاطرات، والتي يهدد فيها من يحاول سرقة هذه المقبرة قائلا: "ولقد أعطيت خبزا للفقير وملابس للعريان وعديت من لا قارب له، وأنتم أيها
_________
١ شوقي ضيف: "الترجمة الشخصية" ص٧.
٢ ج. هـ. برستيد - ترجمة سليم حسن: "فجر الضمير" ص١٣٧.
1 / 19
الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر سواء أكنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه.. قولوا ألف رغيف وألف إناء جعة تقدم لصاحب هذه المقبرة، وأما من يدخل هذا القبر مدعيا ملكيته الجنائزية، فإنني سأقبض عليه كما يقبض على طائر يرى وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم ... إلخ"١.
٤- ما سجله "يوليوس قيصر" في كتابه الذي أطلق عليه المتخصصون اسم "التعليقات" مما يتناول حروبه في بلاد الغال والحرب الأهلية بينه وبين بومبي -أحد القادة المنافسين له- وإلى جانب عرضه عرضا بارعا يصور الدسائس والمؤامرات التي كان ينسج خيوطها من حوله الأصدقاء والأعداء على السواء، وهي المؤامرات التي انتهت بقتله بعد ذلك على يد ابن زوجته وربيب نعمته "بروتس"٢.. وحيث يمكن اعتبار هذه الكتابات من جذور مقالات "الاعترافات" و"السيرة الذاتية".. أيضا، مثلها في ذلك مثل هذه الجذور السحيقة المصرية الطابع.
٥- وبالمثل، وقريب من ذلك كله، ومما يمت بمثل هذه الصلة إلى هذه المقدمات نفسها تلك الصورة من صور "الوصايا" التي كان ملوك الفرس القدماء يوجهونها إلى أبنائهم، تعظهم وتقدم لهم تجربة الآباء والجدود، وتوضح سياستهم، وقد نقلها الغرب عنهم "وفي كتاب -تجارب الأمم- لمسكويه أن كسرى أنو شروان ألف كتابا في سيرته وسياسته، واكتفى مسكويه في التعريف به ببعض صفحات من هذا الكتاب تصور حروبه وانتصاراته على الروم والترك والديلم كما تصور سياسته الداخلية ونشره للعدل في رعيته وتخفيفه لمغارم الضرائب عنها حتى تقوى على عمارة الأرض واستخراج ثمارها"٣.
٦- وإذا كنا قد أشرنا -ومن قبلنا وولزلي ود. حمزة إلى اعتبار بعض "محاورات أفلاطون" من جذور الأحاديث الصحفية، فإن قراءتنا لهذه المحاورات٤ تظهر بما لا يدع مجالا للشك أن بعض فقرات هذه المحاورات الفلسفية القديمة
_________
١ المصدر السابق ص١٣٩.
٢ يمكن العودة إلى هذه القصة خلال سطور المقال الأول من كتابنا السابق "هم والصحافة".
٣ شوقي ضيف، مرجع سابق، ص٧.
٤ من ترجمة أ. د. زكي نجيب محمود.
1 / 20
هي الجد الأكبر لشكل من أشكال المقالات هو ذلك الذي يعرف باسم "المقال الحواري".
٧- بل ولماذا لا نعتبر كتابات "أرسطو" شكلا من أشكال "المقالات الفلسفية والنقدية" لا سيما تلك الكتابات التي أودع فيها آراءه النقدية التي ضمنها كتابيه "الشعر - الخطابة"؟ إلى جانب تناوله لبعض أسس العلوم الأخرى إلى حد اعتباره واضعها وهي هنا علوم "المنطق، الحيوان، النبات، ما وراء الطبيعة".. وعلى الأخص، وبما يشبه المقالات الحديثة، قيام هذه الكتابات على أساس من منهجه العام، منهج الاستنباط الذي ينتهي إلى قواعد عامة.
٨- وقد أشار إلى مثل هذه الكلمات ناقد متابع حين قال في كتاب له: " ... فكتاب العالم القديم مارسوا كتابة أشكال أدبية مشابهة لكنهم لم يطلقوا عليها اصطلاح مقالة، فمن الممكن أن يحتوي المفهوم العام للمقالة أشكال الحوار التي برع فيها أفلاطون والآراء التي عبرت عنها شخصيات ثيوفرا ستوس ورسائل بليني وسينكا وكتابات بلوتارك الأخلاقية ومجادلات شيشيرون وتأملات ماركوس أوريليوس وأبحاث أرسطو الفلسفية وغير ذلك من الكتابات التي تدور حول موضوع محدد وذات طول معتدل١.
٩- على أن مؤرخ "فنون المقال" عامة، والصحفي خاصة، لا بد له من التوقف مرة أخرى عند عدد من "المقدمات" ذات الأطر والموضوعات الأدبية العربية، خاصة تلك التي سادت خلال "العصر العباسي" سواء ما يتصل بألوان وأغراض وأساليب الكتابة الفنية "الإنشائية" التي سادت في صدر الدولة، أو ما يطلق عليه مؤرخو الأدب "العصر العباسي الأول" بمدرسته الأولى النثرية التي تزعمها "ابن المقفع" أو مدرسته الثانية التي تزعمها "الصحفي الأول" وأعني به هنا الجاحظ، أو بالنسبة لألوان الكتابة التي سادت "العصر العباسي الثاني" لا سيما كتابات "عبد الحميد" وابن العميد، ولكل منهما مدرسته العلمية الكتابية المكملة للأخرى، والتي قيل عنها ضمن ما ذكرته كتب الأدب العربي:
_________
١ نبيل راغب: "دليل الناقد الأدبي" ص١٩٠.
1 / 21
"فتحت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد".
أقول إن مؤرخ المقال لا بد وأن يتوقف عند هؤلاء، وبالذات عند عدد من نتاجهم الذي كان يمكن -وببساطة- أن ينشر ضمن صفحات الرأي وأبواب وزوايا المقالات الأدبية والنقدية والاجتماعية ومقالات الخواطر والتأملات ومقالات الفقرات وما إليها مما تنشره صحف اليوم باستثناء لغة العصر وأسلوبه، وحيث نتوقف هنا عند ملامح عدد من "مقدمات المقالة" عند اثنين من هؤلاء:
- عبد الله بن المقفع: أول ما يهمنا من كتاباته أن اهتمامه بعنصر "الفكرة" أو الموضوع كان كبيرا بحيث طغى في أحيان كثيرة على عنصر "الأسلوب" ويلي ذلك اهتمامه بالكتابة "الهادفة" فهي ليست بذات التأثير اللغوي البلاغي فقط، وإنما لها تأثيراتها الاجتماعية والإصلاحية أيضا، كما أن من أبرز خصائص كتابته المتصلة بالكتابة الصحفية عامة، والمقالية خاصة أنه وضع قاعدة هامة تنادي بأن يكون في صدر الكلام ما يدل على غرضه، ويهمنا ذلك من ثلاث زوايا:
أ- أنه يعني وصوله إلى تقسيم الكتابة إلى صدر وجسم أو مقدمة وصلب على نحو ما نفعل الآن.
ب- أنه توصل إلى أهم معالم العنوانات والمقدمات وهي: الاتصال بالنص والقيادة إليه ولفت الأنظار إلى مضمونه ومادته عموما والإعلان عنه.
جـ- أن ذلك يدخل في معرفته بما أسماه البلاغيون ورجال التحرير الصحفي بعد ذلك "براعة الاستهلال" وهي من الخصائص الفنية لأنواع الكتابة أدبية وصحفية.
- عبد الحميد بن يحيى الكاتب: ويهمنا من كتاباته -ومما يتصل بالمقدمات المقالية نفسها- معرفته بأن "لكل مقام مقال" أي: أن يكون نوع ولغة وطول الكلام على قدر مضمونه وأفكاره وأهميته عامة.. ثم حسن تقسيمه لرسالته، والترتيب الدقيق لأفكاره، والاهتمام بالخاتمة أو النهاية إلى جانب المقدمة أو الصدر كما كانت عباراته قصيرة، دقيقة ومتماسكة، كل ذلك إلى جانب ميله إلى تقديم الحجج القوية والبراهين التي تؤدي إلى إقناع القارئ بما يقول، كما كان يبتعد عن اللفظ الغريب، والوحشي أو السوقي، وكلها من خصائص "المقالة" ذات الصلة القوية بالمقالة الصحفية عامة.
1 / 22
تدريب عملي "٢":
١- قم بالحصول على كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ واستخرج منه ما يمكن اعتباره من جذور المقال الصحفي، وذلك من وجهة نظرك الخاصة.
٢- ادرس نصا للكاتب "عبد الله بن المقفع" وقم بنقده وتحليله في ضوء التعريفات السابقة للمقالات، وحدد كيف يمكن اعتباره من بين جذور المقال، أو من غيرها.
٣- قارن بين نصين أحدهما للجاحظ والآخر لعبد الحميد الكاتب، وكتب مرئياتك لهما في ضوء هذه التعريفات نفسها.
1 / 23