الفريق الثاني من رعية عثمان الأنصار، ومكانهم في الإسلام معروف، وثناء الله عليهم في القرآن محفوظ، وأمر النبي برعايتهم موروث. وقد رأيت أن الخلافة قد صرفت عنهم حين روى أبو بكر أن الإمامة في قريش، وأن أبا بكر قال لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقد كان أبو بكر يستشيرهم كما يستشير غيرهم من المهاجرين، وكان عمر يستشيرهم كذلك. ولم يقصر عثمان في استشارتهم، ولكن هؤلاء الأئمة الثلاثة إنما كانوا يستشيرون أصحاب النبي من الأنصار، فأما الشباب الناشئون الذين لم يكن لهم خطر يذكر أيام أبي بكر وقد أخذوا يعقلون أنفسهم أيام عمر، ثم عرفوا أنفسهم حق معرفتها أيام عثمان - فلم يكن لهم شأن يميزهم من سائر الناس. وقد سن عمر في تولية الولاة واستعمال العمال ألا يلتمسهم عند قريش وحدها، وإنما يلتمسهم في العرب كافة. وكان خليقا لو عاش أن يظهر لهؤلاء الشباب من أبنا الأنصار أنهم كغيرهم من الناس لا تقصر الدولة بهم عن بعض حقهم، وعن حقهم في الولاية والحكم خاصة. وما من شك في أن شيوخ الأنصار وذوي المكانة منهم قد أخلصوا الرضا برأي أبي بكر وبسيرة عمر، ولكن ما من شك في أن عامة الأنصار والشباب منهم خاصة قد ضاقوا بهذه الأرستقراطية القرشية الجديدة، وهم الذين ضربوا قريشا على الإسلام في بدر، وهم الذين دخلوا مع المهاجرين مكة من أقطارها، وكان يعزيهم عن هذا أن عمر كان يشتد على قريش ولا يؤثرها بشيء من دون المسلمين، فكان موقف الأنصار بعد أن استخلف عثمان رهينا بسيرة الخليفة في قريش، فإن سار فيها سيرة عمر نال الأنصار حظهم من شئون الدنيا كما يناله غيرهم من سائر المسلمين، وإن آثرهم وحاباهم عرف الأنصار أنهم الأرستقراطية الجامحة المستأثرة، وأن مكانهم من قريش مكان المغلوبين لا مكان الذين يشاركونهم في غير الإمامة من الأمر شركة سواء. وسترى أن عثمان آثر قريشا راضيا أو كارها، وأن إيثاره لقريش وقع من نفوس الأنصار موقعا أليما كان له أثره الخطير في الفتنة، ثم فيما استتبعته الفتنة من الأحداث.
الفريق الثالث في رعية عثمان عامة العرب، أولئك الذين أسلموا طوعا أو كرها، ثم دفعهم أبو بكر وعمر إلى الفتح فبلغوا منه ما بلغوا، ثم استقروا في أمصارهم وثغورهم ردءا للمسلمين يذودون عنهم العدو من جهة، وجندا للمسلمين يفتحون عليهم أرض العدو من جهة أخرى، وهؤلاء العرب قد وعدهم الإسلام المساواة التامة بينهم، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.
وهم بعد هذا مادة الإسلام كما كان عمر يقول، وهم الذين فتحوا الأرض، وأذلوا العدو، ونشروا دين الله في الآفاق، فلهم بهذا كله الحق في ألا يستأثر بالأمر من دونهم أحد. ثم هم بعد هذا كله حديثو عهد بالإسلام وقريبو عهد بالجاهلية، لم ينسوا ما كان بينهم من خصومة وعصبية وتفاخر وتكاثر بالأحساب والأنساب، وقد أضافوا إلى مفاخرهم التي حفظوها عن جاهليتهم مفاخر جديدة أعظم منها خطرا وأرفع منها شأنا. فالسياسة الملائمة لهؤلاء الناس هي التي تنسيهم عصبيتهم الجاهلية أولا، وتنشئهم تنشئة إسلامية خالصة ثانيا، وتصدق لهم ما وعدهم الله من المساواة بينهم والعدل فيهم. وقد سلك عمر هذه الطرق كلها، فقاوم العصبية ما وسعته مقاومتها حتى أخاف الشعراء الذين كانوا يذكرون مآثر الجاهلية فيما كانوا ينشئون ويتناشدون، وجعل في الأمصار معلمين من أصحاب النبي يقرئون أهلها القرآن ويبصرونهم بالسنة ويفقهونهم في الدين، وينشئونهم هذه التنشئة الإسلامية الخالصة. ثم لم يميز منهم فريقا على فريق، ولم يؤثر بأمور السلطان منهم حيا دون حي، وإنما أشاع فيهم المساواة والعدل الحازم، واختار ولاته من مضر وربيعة واليمن، وراقب هؤلاء الولاة جميعا أشد المراقبة. وقد رأيت فيما روينا من كتب عثمان أنه قد أخذ نفسه وولاته في هذه الكتب بسيرة عمر. ولكنك سترى أن وصية عمر بإقرار العمال على أعمالهم عاما، لم تكد تبلغ أجلها حتى أقبل عثمان على سياسة أخرى راضيا عنها أو مكرها عليها، وإذا قريش تميز من العرب وتسلط عليهم، وتستأثر من دونهم بأجل الأمصار خطرا وأرفع المناصب شأنا.
الفريق الرابع من رعية عثمان هم هؤلاء المغلوبون من أهل البلاد التي فتحت على المسلمين. والسنة الإسلامية في سياستهم معروفة، وهي أن يؤخذوا بما عليهم من الحق، فإن أدوه فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد عرف عثمان هذه السيرة وأخذ نفسه وولاته بها فيما روينا من كتبه آنفا.
ولم يظهر أثناء خلافته لأهل الذمة شأن فيما كان من الاختلاف، لا لأن السياسة المرسومة قد اتبعت فيهم ولم يكن عنها انحراف، بل لأنهم كانوا مغلوبين لم يتح لهم بعد أن يشاركوا في السياسة مشاركة ذات خطر، وإلا فقد نحب أن نفهم ما كان بين عثمان وعمرو بن العاص من الحوار ذات يوم حين قال عثمان لعمرو: «قد درت تلك اللقاح بعدك يا عمرو.» فأجابه عمرو: «نعم وهلكت فصالها.» فليس لهذا الحديث إلا معنى واحد وهو أن خراج مصر قد عاد إلى بيت المال أيام ابن أبي سرح بأكثر مما كان يعود به أيام عمرو بن العاص، هذا معنى ما قال عثمان، وأن زيادة الدخل هذه لم تأت إلا عن إرهاق المعاهدين من أهل الذمة أيام ابن أبي سرح، هذا ما أراد إليه عمرو بن العاص. وليس من هذا مخرج إلا إحدى اثنتين: الأولى أن يكون عمرو بن العاص قد كان يحتجز لنفسه شيئا من الخراج دون بيت المال. الثانية أن ابن أبي سرح كان يأخذ من المعاهدين أكثر من الحق. وكلا الأمرين شر . ثم لا يقف الأمر في سياسة الرعية عند هذه الحدود التي رسمناها، فقد كان عمر شديدا على قريش كلها يسوي بينها وبين العرب لا يميزها منهم، ثم لا يميز حيا من أحيائها على غيره. ولم يستطع عثمان أن يحتفظ بهذه المساواة، فآثر قريشا من دون العرب عن عمد أو غير عمد. ثم لم يستطع أن يسوي بين قريش نفسها، فآثر فريقا منها على فريق راضيا بذلك أو كارها له. ويقال إن عمر قد خاف شيئا من هذا الإيثار، فتقدم إلى عثمان إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وتقدم إلى علي إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني عبد المطلب وبني هاشم على رقاب الناس. ولم يستطع عثمان أن يستجيب لعمر، فحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس، ما في ذلك شك. وقيل: إن عليا نفسه حين ولي الخلافة لم يستجب لعمر، فولي ثلاثة من بني عمه العباس، البصرة ومكة واليمن، حتى قال مالك الأشتر: ففيم قتلنا الشيخ إذن! ولكني على ذلك أفرق أشد التفرقة بين ما صنع عثمان وما صنع علي؛ فقد لام علي نفسه عثمان في أمر الولاة، فاحتج عثمان بأن عمر قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، والمغيرة بن شعبة ليس هناك، وبأن عمر قد ولى معاوية، فقال له علي: إن عمر كان يراقب ولاته ويخيفهم، وإن ولاتك يستبدون بالأمر من دونك، ويصدرون الأمر من عند أنفسهم ويحملونه عليك فلا تستطيع له تغييرا. فسيرة علي مع ولاته من بني عمه هي سيرة عمر، كان شديدا عليهم مراقبا لهم، لا يتحرج من عزلهم إن قصروا أو انحرفوا دون أن يكرهه على هذا العزل أحد، على حين لم يعزل عثمان واليا من بني أمية وآل أبي معيط إلا حين أكرهته الأمصار على ذلك إكراها.
ومهما يكن من شيء فقد كانت رعية عثمان هي رعية عمر، لم تكد تتغير إلا قليلا حتى تقدم الزمن بعثمان. وكانت سياسة عمر هي السياسة الوحيدة التي كانت تصلح لضبط هذه الرعية وتدبير أمرها وحملها على الجادة.
ولكن الناس كلهم لا يستطيعون أن يسيروا سيرة عمر؛ لأنهم لم يركبوا كما ركب، ولم يتح لهم ما أتيح لعمر من هذه الشدة التي لا تعرف هوادة في الحق، ولا تأخذها في العدل والمساواة لومة لائم. وكان عثمان نفسه يعرف ذلك حق المعرفة! فكان مرة يقول لمحدثيه إذا حضروا طعامه اللين: ومن ذا يطيق ما أطاق عمر! وكان مرة يقول للائميه في صلة رحمه من بيت المال: ومن لنا بمثل عمر، وكان مرة أخرى يقول لعائبيه من فوق منبر النبي: لقد وطئكم ابن الخطاب برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضون مني؛ لأني كففت عنكم يدي ولساني. فهناك فرق خطير بين الرجلين في الطبيعة والمزاج وفي السن أيضا، ولكن هذا الفرق أو هذه الفروق لم تكن وحدها مصدر الشر والفرقة، وإنما كان للشر والفرقة مصادر أخرى لم يكن عثمان يستطيع لها تغييرا. وسنرى بعض هذه المصادر فيما سنستأنف من الحديث.
الفصل السابع
فلم يكد عثمان ينفق العام الأول من خلافته ويخرج مما التزم من وصية عمر بإقرار العمال عاما على أعمالهم، حتى باشر سلطته الطبيعية في التولية والعزل. وكان في مباشرته لهذه السلطة شيء من العجلة، وكثير مع ذلك من الأناة. فهو أولا لم يلق بالا إلى العمال الذين كانوا ينهضون بالأمر في الولايات التي لم يكن لها خطر في سياسة أو إدارة أو حرب، وإنما ترك عمال عمر في هذه الولايات، ولم يغير منهم إلا قليلا حين دعت الحاجة إلى هذا التغيير. ولم يحتفل لهذا التغيير كثير احتفال، وإنما سارت فيه سيرة هينة سواء. وقد كانت الولايات تختلف فيما بينها اختلافا شديدا؛ لبعضها خطر في السياسة والإدارة والحرب، وهي الولايات التي فتحت على المسلمين، واقتطع بعضها من الروم وغلب الفرس على سائرها، وكانت هذه الولايات الخطيرة أربعا: الشام ومصر والكوفة والبصرة، وكانت أمام كل واحدة من هذه الولايات ثغور يجب أن تحمى ، ودار حرب يجب أن يمعن فيها المسلمون؛ فكان البحر وبلاد الروم نفسها أمام الشام، وكان البحر وشمال إفريقية بإزاء مصر، وكان ما فتح وما لم يفتح بعد من بلاد الفرس أمام المصرين العراقيين: الكوفة والبصرة.
وكانت هذه الولايات الأربع موطن القوة الإسلامية، فيها الجند المقيمون، وبإزائها الثغور التي يقيم فيها ويخرج منها ويسعى إليها الجند المحاربون. وكانت هذه الولايات الأربع مصدر ثراء المسلمين؛ فيها الحضارة المستقرة المترفة، وفيها الأرض الخصبة التي تغل ما شاء الله أن تغل من الثمرات، وتؤتي ما شاء الله أن تؤتي من الخراج، وفيها المعاهدون الذين يؤدون الجزية. ثم هي بعد ذلك وجوه الفتح ومصادره، إليها تجلب الغنائم التي يغنمها الفاتحون في كل عام، ومنها ترسل الأخماس إلى المدينة. فإذا كان العرب مادة الإسلام ومصدر قوته العسكرية، فقد كانت هذه الولايات مادة الإسلام ومصدر قوته المالية. فلا غرابة في أن يعنى بها الخليفة عناية خاصة لا تقاس إليها عنايته بغيرها من الولايات التي لم يكن لها من الخطر والامتياز وارتفاع الشأن ما كان لهذه الولايات. فمكة والطائف واليمن ولايات لها مكانتها ولها قدرها، ولكنها لا تواجه ثغورا للحرب، ولا تغل كثيرا من مال، وليست هي مواطن القوة والأيد التي تعتز بها الدولة الناشئة.
نامعلوم صفحہ