فتنہ کبریٰ علی و بنوہ
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
اصناف
وجعلت نفوس تتغير تغيرا بطيئا أول الأمر، ولكنه جعل يسرع ويقوى كلما طالت إقامتهم في هذه الآفاق، وقد رأوا حضارة راعتهم، وفنونا من الترف سحرت عيونهم، وألوانا من خفض العيش ورقته لم تكن تخطر لهم على بال، وقد تعلقت نفوس كثير منهم بهذه الطرائف التي رأوها، وتمنت ضمائرهم - شاعرة بذلك أو غير شاعرة به - أن تأخذ من هذه الحياة أطرافا، وأثر هذا كله في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها وتقديرها لقيم الحياة.
وقد بهرهم أول ما بهرهم جلال الملك الذي أزالوه في بلاد الفرس، والذي نقصوه من أطرافه في بلاد الروم، وقارن الأذكياء وأصحاب المطامع منهم بين ما أقبلوا عليه من ذلك وما تركوا وراءهم في المدينة أو في غيرها من حضر البلاد العربية وباديتها، فأكبروا هذا الجديد وصغر قديمهم في أنفسهم، واستحيا أكثرهم من إظهار ذلك، فتناجت به ضمائرهم، وهوت إليه قلوبهم، وجعلوا ينظرون إلى من وراءهم من أولئك الشيوخ أصحاب النبي في كثير من الإجلال والإكبار، ولكن في كثير من الرفق والرثاء أيضا يجلونهم ويكبرونهم لمكانهم من النبي وسابقتهم في الدين ويرفقون بهم ويرثون لهم لأنهم يمثلون جيلا قديما قد انقضت أيامه أو أوشكت أن تنقضي.
وكان الذين يعودون منهم إلى المدينة يلقون عمر فيتكلفون التجمل بسيرته ويحتالون في ألا يظهر على دقائق أمرهم وحقائقه، يلقونه مظهرين الشظف وغلظة الحياة وخشونة العيش ليرضى عنهم ويطمئن إليهم، فإذا خلوا إلى أنفسهم أو خلا بعضهم إلى بعض أخذوا بما ألفوا من لين الحياة، وأشفقوا على عمر من حياته الخشنة تلك، في كثير من الإكبار له والإعجاب به.
فلما كانت خلافة عثمان خفت عليهم مئونة هذا التكلف، فلم يكن عثمان يحب الشظف ولا خشونة العيش، فأظهروا من أمرهم ما كانوا يكتمون، ورقت الحياة في المدينة نفسها حتى دخلها الترف واستقر فيها، وحتى جعلت الدور والقصور ترتفع في المدينة وما حولها، وحتى جعل الشباب يقبلون على ألوان من اللعب لم يكن للعرب عهد بها من قبل، وحتى اضطر عثمان نفسه - على إسماحه وإيثاره للدعة - إلى أن يقاوم هذه الألوان من الفتنة المجلوبة التي جعلت تسلك سبيلها إلى النفوس.
ثم رأى العرب جماعة من شيوخ الصحابة وأصحاب السابقة والمكانة يستكثرون من المال ويقبلون على شيء من اللين، فأقبلوا على ما أقبل عليه أئمتهم ومعلموهم، ثم جلب الفتح إلى الحجاز وإلى بلاد العرب عامة أعدادا ضخمة من الرقيق، على اختلاف أجناسهم وعلى اختلاف طبقاتهم، في حياتهم القديمة التي كانوا يحيونها في بلادهم قبل الفتح، فلم يترك هؤلاء الرقيق من الرجال والنساء أخلاقهم وطباعهم وأمزجتهم وراءهم عند حدود البلاد العربية، وإنما حملوها معهم وأظهروا سادتهم على كثير منها، ثم أغروا سادتهم بكثير منها، فلم يجدوا من سادتهم مقاومة ولا امتناعا، وإنما وجدوا استجابة وإقبالا، فافتنوا فيما أحب سادتهم من هذا كله.
ثم لم يكن هذا كله مقصورا على الرقيق الذين حملوا إلى الأرض العربية، وإنما كان شاملا كذلك للرقيق الذين استقروا مع سادتهم في الأقطار المفتوحة، وكل هذا جدد النفس العربية تجديدا يوشك أن يكون تاما، وباعد بينها وبين الحياة الخشنة القديمة أشد المباعدة.
فلما قتل عثمان وأقبل الخليفة الرابع يريد أن يحملهم على الجادة، وأن يردهم إلى السيرة التي ألفها المسلمون أيام النبي والشيخين، لم ينشطوا لذلك ولم يطمئنوا إليه، وإنما نظروا فرأوا خليفة قديما يدبر جيلا جديدا، ويريد أن يدبره تدبيرا ينافر أشد المنافرة ما أحب من حياة الخفض واللين.
ثم نظروا بعد ذلك فرأوا أميرا آخر قد أقام في الشام، وقد جدد نفسه مع هذا الجيل الجديد، ثم لم يكتف بتجديد نفسه والملاءمة بينها وبين رعيته، إنما يغري رعيته بالتجديد ويعينها عليه بالمال، ويحتج لذلك بما شاء الله من الحجج، فهو مقيم في بلاد مجاورة لبلاد الروم، وهو يريد أن يلقي في روع الروم أنه ليس أقل منهم أبهة ولا أهون منهم شأنا ولا أرغب منهم عن طيبات الحياة، وأن أصحابه يشبهونه في ذلك، ثم هو يحارب هؤلاء الروم فينبغي أن يحاربهم بمثل أسلحتهم، ثم هو يحارب خصمه في العراق، فينبغي أن يكيد له ويغري به ويخذل عنه ويفرق الناس من حوله، كل الوسائل إلى ذلك مستحبة، بل مفروضة لا ينبغي أن يتردد في اتخاذها.
وكذلك جعل معاوية ينفق المال ويتألف الرجال ويكيد للذين يمتنعون عليه، وكل هذه الظروف مجتمعة كانت خليقة أن تقر في نفس علي أنه غريب في العصر الذي يعيش فيه، وبين هذا الجيل الذي يريد أن يدبر أمره من الناس، وأن تلقي في روعه كذلك أنه يحاول أمرا ليس إلى تحقيقه من سبيل.
هذا ابن عمه يخالف عنه إلى حيث يعيش ناعما رضي البال بمكة، وهؤلاء العمال يستخفون بما يستأثرون به من المال إلا أقلهم، وهؤلاء الأشراف يتلقون المال من معاوية ويهيئون له الأمر في العراق، وهؤلاء العامة يؤثرون العافية على الحرب وما تجلب من البلاء والهول، وعلي بين هؤلاء جميعا يدعو فلا يجاب، ويأمر فلا يطاع، حتى يفسد عليه رأيه، وحتى يمل قومه ويملوه، وحتى يسأل الله أن يبدله بهم خيرا منهم وأن يبدلهم به شرا منه، وحتى يتعجل أشقى هذه الأمة الذي ألقى إليه أنه سيقتله، فيقول: ما يؤخر أشقاها؟ وحتى ينتظر القتل بين ساعة وأخرى فيكثر التمثل بهذا الشعر:
نامعلوم صفحہ