فتنہ کبریٰ علی و بنوہ
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
اصناف
وكذلك استقبل علي خلافة المسلمين بما لم يستقبلها أحد من الذين سبقوه، فلم يخالف أحد من أصحاب النبي عن أبي بكر إلا ما كان من سعد بن عبادة رحمه الله، ولم يخالف أحد منهم عن عمر ولا عن عثمان، ولكن عليا يرى جماعة من خيار أصحاب النبي الذين مات وهو عنهم راض وشهد لكثير منهم بالجنة يخالفون عن بيعته، منهم من يريد اعتزال الفتنة، ومنهم من يريد أن ينصب له الحرب.
ولعل الحسن بن علي قد أصاب الحق حين تحدث إلى أبيه في طريقهما إلى البصرة بأنه كان قد أشار عليه أن يعتزل أمر عثمان، فيترك المدينة أيام الفتنة، فيلحق بمكة - في بعض الروايات - أو يلحق بماله بينبع - في رواية أخرى - فأبى علي إلا أن يشهد أمر الناس. ثم أشار عليه بعد مقتل عثمان أن يعتزل الناس إلى حيث شاء من الأرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحلامها، وقال له: لو كنت في جحر ضب لاستخرجوك منه فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم. ثم هو يشير عليه في طريقه تلك بألا يأتي العراق مخافة أن يقتل بمضيعة لا ناصر له فيها، ولكن عليا لم يقبل من ابنه شيئا مما أشار به؛ لم يكن ليترك الناس في فتنتهم دون أن يؤدي ما أخذه الله به من أمر بمعروف ونهي عن منكر، فنصح للخليفة، يلين له مرة ويخشن عليه مرة أخرى، ونصح للرعية ينهاها عن الإثم والعدوان ويعينها على أن تبلغ من خليفتها الرضى، ثم هو لم يطلب إلى الناس أن يبايعوه على ما كان يرى لنفسه من حق في الخلافة، وإنما استكرهه الناس على البيعة استكراها، استكرهه الثائرون بعثمان ليأمنوا بعض عواقب ثورتهم، واستكرهه المهاجرون والأنصار ليقيموا للناس إماما ينفذ فيهم أمر الله.
ولم يكن يستطيع أن يبقى في المدينة منتظرا حتى يغزوه فيها معاوية وأهل الشام، ولا أن يبقى في المدينة منتظرا حتى يبلغ طلحة والزبير العراق، فيحتازا ما وراءه من الثغور وما فيها من الفيء والخراج، ثم يكرا عليه بعد ذلك ليغزواه في المدينة.
لم يكن له بد إذن من أن يستعد للخروج إلى الشام حين أبى معاوية عليه البيعة، وحجته على معاوية ظاهرة؛ فقد بايعته الكثرة الكثيرة من المسلمين في الحجاز والأقاليم، وأصبحت طاعته لازمة. وكان الحق على معاوية - لو أنصف وأخلص نفسه للحق - أن يبايع كما بايع الناس، ثم يأتي إلى علي مع غيره من أولياء عثمان فيطالبوا بالإقادة ممن قتله، ولكن معاوية لم يكن يريد أن يثأر لعثمان بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن علي؛ وآية ذلك أن الأمر استقام له بعد وفاة علي - رحمه الله - ومصالحة الحسن إياه، فتناسى ثأر عثمان ولم يتتبع قتلته؛ إيثارا للعافية وحقنا للدماء وجمعا للكلمة.
ولم تكن حجة علي على طلحة والزبير وعائشة أقل ظهورا من حجته على معاوية؛ فقد بايع طلحة والزبير، وكان الحق عليهما أن يفيا بالعهد ويخلصا للبيعة التي أعطياها، فإن كرها الإذعان لعلي أو معونته على بعض ما كان يريد، فقد كانا يستطيعان أن يعتزلا كما اعتزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وغيرهم من خيار أصحاب النبي، فلا ينصبا حربا ولا يدفعا الناس إليها ولا يفرقا المسلمين على هذا النحو المنكر الذي ستراه.
وأما عائشة، فقد أمرها الله فيمن أمر من نساء النبي أن تقر في بيتها، وكان عليها أن تفعل أيام علي كما كانت تفعل أيام الخلفاء من قبله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر دون أن تخالف عما أمرت به من القرار في بيتها لتذكر ما كان يتلى عليها من آيات الله والحكمة ولتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كما فعل غيرها من أمهات المؤمنين. ولو قد أبت أن تبايع عليا أو تؤمن له بالخلافة لما وجدت منه شيئا تكرهه؛ فهي أم المؤمنين وحبيبة رسول الله وبنت أبي بكر، وكان من الطبيعي أن تلقى من علي مثال ما لقي المعتزلون على أقل تقدير؛ وآية ذلك أنها لم تلق منه بعد يوم الجمل إلا الكرامة والإكبار.
وقد يقال إن القوم لم يكونوا يغضبون لعثمان فحسب، وإنما كانوا يريدون أن يختار الخليفة عن مشورة بين المسلمين، وكانوا يكرهون أن يفرض الثائرون بعثمان عليهم إماما بعينه، ولكن أبا بكر لم يبايع بالخلافة عن مشورة من المسلمين، وإنما كانت بيعته فلتة وقى الله المسلمين شرها، كما قال عمر. كما أن عمر نفسه لم يبايع عن مشورة من المسلمين، وإنما عهد إليه أبو بكر فأمضى المسلمون عهده ثقة منهم بالشيخين وحبا منهم لهما. ولم تكن الشورى التي تمت بها خلافة عثمان مقنعة ولا مجزئة؛ فقد اختص عمر بها ستة من قريش على أن يختاروا واحدا منهم، فاختاروا عثمان. وأكبر الظن أنهم نصحوا للمسلمين وتجنبوا الفتنة والخلاف جهدهم.
فكان الحق على طلحة والزبير والمعتزلين أيضا أن يمسكوا الأمر ما استمسك، وأن يبايعوا لعلي عن رضى لا عن كره، وأن يجتهدوا معه بعد ذلك في إصلاح ما أفسد الثائرون من جهة، وفي وضع نظام مستقر دائم لاختيار الخليفة وتدبير أمور الدولة بحيث لا يتعرض المسلمون لمثل ما تعرضوا له من الفتنة والمحنة أيام عثمان من جهة أخرى. ولكن القوم كانوا يفكرون بعقول غير عقولنا، ويشعرون بقلوب غير قلوبنا، ويجتهدون لدينهم ولأنفسهم ما استطاعوا.
وقد لقي أبو بكر في أول خلافته شيئا يشبه من بعيد ما لقيه علي؛ فقد انتفضت عليه عامة العرب ورفضوا أن يؤدوا إليه الزكاة، ولكن أبا بكر وجد من أصحاب النبي جميعا أعوانا وأنصارا، فما أسرع ما أخمد الفتنة! ثم رمى بالعرب وجوه الأرض فشغلهم بالفتح. وجاء عمر فدفعهم إلى الفتح دفعا، وسار عثمان على سنة الشيخين، فأمعن المسلمون في الفتح صدرا من خلافته.
أما علي فلم يكد يرقى إلى الخلافة حتى تنكر له قوم من الذين كانوا يعينون أبا بكر وعمر، ثم لم يلبث الأمر كله أن انتشر وأصبح المسلمون حربا على المسلمين، ووقف أصحاب الثغور عند ثغورهم لا يتجاوزونها فاتحين، بل ترك بعض أصحاب الثغور في الشام ثغورهم ليقاتلوا إخوانهم من أصحاب علي، حتى طمع الروم في استرجاع ما أخذ منهم المسلمون، وهموا أن يغيروا على الشام لولا أن اشترى معاوية منهم السلم بما كان يؤدي إليهم من المال، حتى فرغ لهم بعد اجتماع الكلمة.
نامعلوم صفحہ