فصل فی ملل

ابن حزم d. 456 AH
79

فصل فی ملل

الفصل في الملل والأهواء والنحل

ناشر

مكتبة الخانجي

پبلشر کا مقام

القاهرة

على الْكَلَام جماعات لَا بصائر لَهُم فِي دين الْإِسْلَام مُنْذُ أَرْبَعمِائَة عَام وَعشْرين عَاما فَمَا مِنْهُم أحد يتَكَلَّف معارضته إِلَّا افتضح وَسقط وَصَارَ مهزأة ومعيرة يتماجن بِهِ وَبِمَا أَنِّي بِهِ ويتطايب عَلَيْهِ مِنْهُم مُسَيْلمَة بن حبيب الْحَنَفِيّ لما رام ذَلِك لم ينْطق لِسَانه إِلَّا بِمَا يضْحك الثكلى وَقد تعاطى بَعضهم ذَلِك يَوْمًا فِي كَلَام جرى بيني وَبَينه فَقلت لَهُ اتَّقِ الله على نَفسك فَإِن الله تَعَالَى قد منحك من الْبَيَان والبلاغة نعْمَة سبقت بهَا وَوَاللَّه لَئِن تعرضت لهَذَا الْبَاب بِإِشَارَة ليسلبنك الله هَذِه النِّعْمَة وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة كَمَا فعل بِمن رام هَذَا من قبلك فَقَالَ لي صدقت وَالله أظهر النَّدَم وَالْإِقْرَار بقبحه قَالَ أَبُو مُحَمَّد ﵁ وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا مشَاهد وَهِي آيَة بَاقِيَة إِلَى الْيَوْم وَإِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا وَسَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء ﵈ قد فنيت بفنائهم فَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا الْخَبَر عَنْهَا فَقَط قَالَ أَبُو مُحَمَّد ﵁ وَقد ظن قوم إِن عجز الْعَرَب وَمن تلاهم من سَائِر البلغاء عَن مُعَارضَة الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ لكَون الْقُرْآن فِي أَعلَى طَبَقَات البلاغة قَالَ أَبُو مُحَمَّد ﵁ وَهَذَا خطأ شَدِيد وَلَو كَانَ ذَلِك وَقد أَبى الله ﷿ أَن يكون لما كَانَ حينئذٍ معْجزَة لِأَن هَذِه صفة كل باسق فِي طبقته وَالشَّيْء الَّذِي هُوَ كَذَلِك وَإِن كَانَ قد سبق فِي وَقت مَا فَلَا يُؤمن أَن يَأْتِي فِي غَد مَا يُقَارِبه بل مَا يفوقه وَلَكِن الإعجاز فِي ذَلِك إِنَّمَا هُوَ أَن الله ﷿ حَال بَين الْعباد وَبَين أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَرفع عَنْهُم الْقُوَّة فِي ذَلِك جملَة وَهَذَا مثل لَو قَالَ قَائِل إِنِّي أَمْشِي الْيَوْم فِي هَذِه الطَّرِيق ثمَّ لَا يُمكن أحدا بعدِي أَن يمشي فِيهَا وَهُوَ لَيْسَ بأقوى من سَائِر النَّاس وَأما لَو كَانَ الْعَجز عَن الْمَشْي لصعوبة الطَّرِيق وَقُوَّة هَذَا الْمَاشِي لما كَانَت آيَة وَلَا معْجزَة وَقد بَينا فِي غير هَذَا الْمَكَان أَن الْقُرْآن لَيْسَ من نوع بلاغة النَّاس لِأَن فِيهِ الْأَقْسَام الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور والحروف الْمُقطعَة الَّتِي لَا يعرف أحد مَعْنَاهَا وَلَيْسَ هَذَا من نوع بلاغة النَّاس الْمَعْهُودَة وَقد روينَا عَن أنيس أخي أبي ذَر الْغِفَارِيّ ﵄ أَنه سمع الْقُرْآن فَقَالَ لقد وضعت هَذَا الْكَلَام على أَلْسِنَة البلغاء وألسنة الشُّعَرَاء فَلم أَجِدهُ يُوَافق ذَلِك أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ فصح بِهَذَا مَا قُلْنَاهُ من أَن الْقُرْآن خَارج عَن نوع بلاغة المخلوقين وَأَنه على رُتْبَة قد منع الله تَعَالَى جَمِيع الْخلق عَن أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ وَلنَا فِي هَذَا رِسَالَة مستقصاة كتبنَا بهَا إِلَى أبي عَامر أَحْمد بن عبد الْملك ابْن شَهِيد وَسَنذكر مِنْهَا هُنَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا فِيهِ كِفَايَة فِي كلامنا مَعَ الْمُعْتَزلَة والأشعرية فِي خلق الْقُرْآن من ديواننا هَذَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم قَالَ أَبُو مُحَمَّد ﵁ فَإِن قَالَ قَائِل أَنه منع المعارضون حينئذٍ من الْمُعَارضَة أَو عارضوا فَستر ذَلِك قيل لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق لَو أمكن مَا تَقول لأمكن لغيرك أَن يَدعِي فِي آيَات مُوسَى ﵇ مثل ذَلِك بل كَانَ يكون أقرب إِلَى التلبيس لِأَن فِي توراتكم أَن السَّحَرَة عمِلُوا مثل مَا عمل مُوسَى ﵇ حاشا الْعِوَض خَاصَّة فَإِنَّهُم لم يطيقوه

1 / 87