39
وقفت في الدنيا على مستسرة،
40
ذلك أن الضحك سر من الأسرار الكبار، التي تبعث على الإجلال والإكبار، فقد كنت في الدنيا متى أحسست من أناس شموخا وكبرياء وإزراء بي وإعراضا عني، فانبعثت ضاحكا كأنني أنكرهم ولا أكترث لهم ولا أعبأ بهم، كأن لم يكونوا شيئا، لا يلبثون أن تستقيم أخادعهم،
41
ويطأطئوا من كبريائهم ... وكنت كلما استغربت في الضحك واستغرقت - على شريطة أن أكون صادقا لا يرى علي أدنى تعمل - تحاقرت إليهم نفوسهم، وامتلأت بي عيونهم، وانبسطوا إلي، وأقبلوا بنشاطهم علي، وهلم حتى أطولهم وأركب يافوخهم وأستولي على الأمد ... فعليك في دار النفاق بالضحك؛ فإنه أمضى سلاح تنتضيه كلما أنست ممن حولك شيئا من الزهو والعجرفة ... ولذلك سبب: هو أن الضحك عنوان الهناءة والسعادة، فإذا ضحكت بكل قلبك كان هذا الضحك منبهة للناس على جليل خطرك ورفعة شأنك، فتراهم بعد أن كانوا يرحمونك، يحسدونك، وبعد أن كانوا يحقرونك، يكبرونك:
إذا شئت أن تلقى الأنام معظما
فلا تلقهم إلا وأنت سعيد
وسبب آخر: هو أن الضحك دليل الثقة بالنفس والاعتداد بها والإدلال بقيمتها، فإذا ضحكت فإنما ذلك لأنك بنفسك وثقت، ولا شيء يبعث على تعظيم قدرك مثل ثقتك بنفسك، وعلى العكس من ذلك كله: الإطراق والاكتئاب.
قال الأديب: وكذلك كان إمام، فقد كان دائما طلق المحيا، ضاحك السن، ظريف المحاضرة، بديع النادرة، فكه الأخلاق، خفة روح الزمان، تراح له القلوب، ويمازج الأرواح، وتشربه الضمائر. وإذا صح أن للضحك أمة، فقد كان إمام نبي أمة الضحك، وكانت معجزته أنه ما من إنسان، كان ما كان، من الخشونة والوقار، والعبوس والاكفهرار، والإطراق والانقباض، والحزن والارتماض، ثم رأى إماما، قبل أن يتدفق كلاما، إلا سرى عنه الهم، وتبسم قلبه قبل الفم، ناهيك بعد ذلك بمجونه وطرفه، ونوادره وملحه، التي كانت تفعل بسامعيها فعل الراح بشاربيها، وإنها لنعمة من نعم الله الكبرى أن وجد في عصرنا مثل إمام ...
نامعلوم صفحہ