القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه
القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه
اصناف
معنى قاعدة الحدود تسقط بالشبهات
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن من فروع وضوابط قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) القاعدة التي تقول: الحدود تسقط بالشبهات.
وعلاقتها بقاعدة: اليقين لا يزول بالشك: أنه إذا كان الأصل براءة الذمة فالمتهم بريء بأدنى شبهة تأتي على الحكم الذي يصدر عليه، فإذا كان الحكم بحد من الحدود، فإن هذا الحد يسقط؛ لأن الأصل براءة الذمة، وقد جاءت الشبهة لتعضد هذا الأصل.
والأحرى أن نقول: هي ضابط وليست قاعدة، وهي فرع من قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، والفرق بين الضابط والقاعدة: أولًا: أن الضابط يكون في باب معين وأما القاعدة فتشمل جميع الأبواب.
ثانيًا: أن القاعدة أغلبية ولها مستثنيات؛ أما الضابط فليس له مستثنيات.
فالأحرى أن تكون هذه القاعدة ضابطًا لقاعدة اليقين لا يزول بالشك، وأصل هذا الضابط الأحاديث المتكلم في أسانيدها، وهي ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، أو قال: (ادرءوا الحدود ما استطعتم)، أو قال كما في حديث أبي هريرة مرفوعًا: (ادفعوا الحدود ما استطعتم)، وعن ابن مسعود أيضًا عنه بسند حسن: (ادرءوا الحدود بالشبهة)، وقد ورد عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ما يعضد هذا الأمر، فـ عمر بن الخطاب يقول: لأن أسقط الحد بشبهة أولى لي من أن أقُيمه، وقال علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه: لأن أخطئ في العفو خير لي من أن أخطئ في الحد، فهذه كلها تنصب تحت قول النبي ﷺ -المتكلم في إسناده-: (ادرءوا الحدود بالشبهة)، أو: (ادرءوا الحدود ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا)؛ لأن الدماء معصومة، والتأصيل العام لذلك أن النبي ﷺ قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وهذه الثلاث لا بد وأن تكون أظهر من شمس النهار- الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فلا يمكن أن يستحل دم امرئ مسلم أو يده أو عضو من أعضائه إلا بإحدى هذه الثلاث.
إذًا: الأصل العام هو أن تدرأ الحد ما استطعت، وهي وإن كانت سنة قولية، وقد تكلم في أسانيدها إلا أن السنة الفعلية تقررها؛ ففي الحديث أن ماعزًا لما جاء النبي ﷺ وأقر بفعل الزنا كان لا بد أن يقام عليه الحد؛ لكن النبي ﷺ كان يلقنه حتى يرجع عن إقراره، والرجوع عن الإقرار في الحدود يورث شبهة لا بد أن يسقط الحد بها، استنبط الفقهاء من ذلك أن للقاضي أن يلقن الذي يقر بأن يتراجع عن إقراره ويتوب إلى ربه أفضل، ولذلك قال له النبي ﷺ: (لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت)، حتى يرجع عن إقراره، والفائدة من تلقين النبي ﷺ أنه لو رجع عن إقراره وقال: نعم لمست، نعم قبلت، وما زنيت، فإن هذه شبهة يدرأ بها حد الرجم عمن أقر بالزنا فهذه سنة فعلية وسنة قولية تضبط لنا هذا الضابط، وتكون دليلًا عليه، وصور هذا الضابط كثيرة جدًا، والفقهاء يستعملونه لدرأ الحدود عن الذين وقعوا فيما يوجب عليهم إقامة الحد.
5 / 2