32

وبعد، فإن حقا على أهل مصر جميعا، ومياسيرهم بنوع خاص، أن يسجدوا لله تعالى سجدة الشكر كلما أطلت شمس الصباح عليهم؛ اغتباطا بأن علي إبراهيم غير ولوع بجمع المال، فلو كانت لغيره تلك الأصابع التي «تسرق الكحل من العين»، لآثر أن يكون «نشالا»، إذن والله لسل الآلاف، ولأحرز أكثر مما تجدي «الجراحة» أضعاف الأضعاف، ولما أبقى في جيب على كيس، ولا هنئ الناس بكريم ولا نفيس، ولكن قدر فكان، وسبحان من «يعطي الحلقة للي بلا ودان!»

أحمد لطفي السيد بك

لا أدري، أعلمه أوفر من عقله، أم عقله أوفر من علمه؟ إلا أنه أوفى بهما كليهما على الغاية. وهو عالم واسع العلم، وعاقل واثق العقل، وذكي متسعر الذكاء. له عينان حديدتان كأنما تمدهما أشعة «إكس»، فلا يكاد يقوم بينهما وبين ما تريدان حجاب. وإنه ليحاول أن يستر عنك إدراك هذا منه بمنظاره الأسود، كما حاولت الطبيعة أن تكتمه على الناس بما ضيقت في محجريهما تضييقا!

وأحمد لطفي السيد قد بان خطره من يوم نجم، فكان طالبا في مدرسة الحقوق، لا تعنيه مدارسة القانون المدني، ولا يحتفل لقانون تحقيق الجنايات، ولا يهمه أين تقع «نمرته» من سلك التلاميذ في امتحان غاية العام قدر ما تعنيه مدارسة المنطق والفلسفة وعلوم الاجتماع، على أنه كان مجليا في الأولى كما كان مجليا في الثانية. وبهذا، خرج لطفي على غير ما يخرج سائر التلاميذ، خرج وله عرق في الحكمة والمنطق وسائر علوم النظر، لا يتسق في العادة لإخوانه «الحقوقيين».

درج مدرج نظرائه في الحياة العلمية حتى كان نائبا أو رئيس نيابة، على أن خطبه في ذاك لم يكن جليلا، فقد انصرف همه، إلا أقله، إلى تحصيل العلم والأدب، وأخذ العقل بالتدبير وصدق النظر، وأخذ اللسان والقلم بفصاحة القول وقوة البيان بالحديث والخطابة، وبالترجمة والتأليف، وتارة بالكتابة في الصحف في ألوان الموضوعات.

من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم.

ثم كان حزب الأمة وكانت «الجريدة»، وتهاوت الأنظار على من يقوم بها كفاء لمهمها الجسام، فوقعت كلها عند لطفي السيد، وتولى الجريدة فكان كاتبا لا يبارى كما كان صحفيا لا يضارع. وبانت له موهبة جديدة أحوج ما يكون إليها امرؤ يتولى تلك «الجريدة» في ذلك العصر، وهي شدة الطبع والصبر على الخصومة وطول الكفاح. وناهيك بمن يصمد للقتال إذ شيخ الكتاب علي يوسف يتولاه عن يمينه، وإذ فتى الوطنية مصطفى كامل ينقض عليه أحيانا من شماله، وإذ أمامه، ولا أسمي، من لا يشق في الكيد غباره، ولا تصطلى في الجلى ناره، ومهما زعموا أن وراء حزب الأمة كانت قوة تعضده وتشد متنه، فما كان من شأن هذه القوة أن تقرب إلى هوى الناس جريدة، وكانت في الوقت نفسه تتحدث على أماني البلاد، وتطلب أن يسودها حكم الدستور، وإن طلبته دستورا «متواضعا» كما كان يهتف أستاذنا الجليل، ومع هذا فقد تهيأ لمقدرة لطفي أن تستدرج الخاصة وأشباه الخاصة في عامة البلاد، وأضحت دار «الجريدة» منتدى أهل العلم والأدب والرأي الصحيح ينتجعونها من كل مكان.

لم يكن لطفي في سنيه تيك صحفيا فحسب، بل كان أستاذا يشرع في العلم والفلسفة وفنون الاجتماع، وكان له طلاب من الشباب أهل المواهب والذكاء، فما راقك اليوم من علم فلان، وما أعجبك من عقل فلان، وما راعك من أدب فلان، فأولئك، في الحق، أكثرهم من صنعة لطفي السيد في تلك الأيام.

وهو رجل له، أو كانت له، شخصية قوية: له نظره، وله تدليله، وله أسلوبه الكتابي، بل وله إيماءته وحديثه. وإن كثيرا ممن كانوا يطوفون به ليقلدونه في كل ذلك، فمن أعيا عليه تفهم علمه وأدبه راح يقلده في شكله ودله، ويحاكيه في لهجته ومخرج حروفه.

ومن ظريف ما يروى في هذا الباب، أن فتى من أبناء الحكام أصحاب لطفي كان يعجب به هو الآخر طوعا لإعجاب الناس، فكان جهد حيلته في بلوغ بعض شأو لطفي أن ينسل إلى حلاقه، فيسأله أن يسوي له رأسه كما يفعل بشعر الأستاذ سواء بسواء، ثم يغدو على الناس بعد ذلك يقبض صوته ويرسله، ويلويه ويعدله، ويفككه ويلحمه، ويرققه ويفخمه، ويثني عطفيه من زهو واستكبار، ويهز كتفيه من استنكاف واستنكار، ثم يعود إلى نفسه فيراها قد استوت «لطفي السيد» في غير جهد ولا عناء! ... وما دام العلم والفلسفة كلها إنما تتصل «بالحلاقة»، فلماذا يقف صاحبنا عند هذا الحد؟ وإني لأراه يغذ

نامعلوم صفحہ