عربی فکر حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
اصناف
التي تحدث فيها عن هذه الحركة، ذكرا لشكل السلطة التي كان يستند إليها طانيوس شاهين؛ إذ كان يقول: «بقوة الحكومة الجمهورية»، ويدعو صاحب المخطوطة طانيوس شاهين وجماعته «الجمهور». ويغلب على الظن أن كلمة «الجمهورية» و«الجمهور»، بالمعنى السياسي، عرفها اللبنانيون بتأثير من الثورة الفرنسية الكبرى. وقد رأينا أن أول منشور أذاعه نابليون على المصريين يحمل في فاتحته هذه العبارة: «من طرف الجمهور الفرنساوي المبني على الحرية».
بهذا ينتهي بنا الحديث عن مجاري الثورة الفرنسية إلى الشرق العربي من طريق مصر وفلسطين ولبنان؛ فينبغي لنا أن نحول النظر منذ الآن شطر الشمال، شطر البلقان وتركيا، وكانت هي والشرق العربي داخلة جميعها في نطاق الإمبراطورية العثمانية الضخمة.
ومعلوم أن ريحا من الثورة الفرنسية ما لبثت أن هبت من غرب أوروبا على البلقان في شرقها، فساعدت على إيقاد لهيب من الثورات الوطنية الاستقلالية على الحكم العثماني. وكانت أبعد هذه الثورات صدى في الشرق العربي ثورة اليونان التي حررتهم بعد نضال طويل دام من سنة 1827 إلى سنة 1829. ونفذت لفحات من ريح الثورة الفرنسية إلى صميم الإمبراطورية العثمانية وقاعدة السلطنة.
وغني عن البيان أن الإمبراطورية العثمانية كانت إذ ذاك تحرك رجلا للهبوط في سلم التاريخ. وقد بدأت طلائع فيها من أهل العقول النيرة تشعر بوجوب الإصلاح. والسلطان سليم الثالث الذي ولي الحكم سنة 1789 - وهي أول سني عهد الثورة - ما لبث أن أحس بضرورة شيء من التعديل والتبديل، ولكنه قصر جهده على الجيش، وكان كثير من إصلاحاته مظهريا. ومع ذلك فقد شق عليه جيش الإنكشارية عصا الطاعة، وخلعوه، ثم قتلوه، وألغوا ما سماه «النظام الجديد». وبالطبع إن الثورة الفرنسية وحوادثها قد حملت الأوساط الرسمية العثمانية فورا على اشمئزاز وامتعاض شديدين. وعاطف باشا الذي صادف أن كان رئيس الكتاب (وزير الخارجية) أيام السلطان سليم الثالث علق على الثورة الفرنسية بما يلي:
إن جان جاك روسو وغيره من مشاهير الزنادقة والدهريين قد قاموا بتأليف الكتب الإلحادية المفسدة في سب الأنبياء وإبطال الأديان وذم الملوك والأشراف، ونراهم في هذه الكتب يميلون إلى التهكم، ويستخدمون ألفاظ العوام وأساليبهم حتى يفهم منهم الناس ويتذوقوا طعم المساواة والجمهورية ... وهم الذين دعوا إلى إلغاء أصول الالتزام (أي نظام الإقطاع) الذي يعتبر أساس كل دولة (!) ومدار ارتباطها ونظامها. ثم حرضوا على الإلحاد ونبذ الدين والشرع والمذاهب، وبذلك مهدوا لانقلاب سكان فرنسا إلى هيئة البهائم. وليت الأمر وقف بهم عند هذا الحد، بل إنهم تجاوزوه؛ فقد وجدوا في كل مكان أشياعا مماثلين لهم ترجموا بيانهم المفعم بالطغيان والمسمى ب «حقوق الإنسان» إلى جميع اللغات ونشروه بين عامة الأمم والملل التي كانوا يحرضونها فيه على حكامها.
20
غير أن الطلائع الذين ألمعنا إلى ذكرهم من أهل العقول النيرة في الإمبراطورية العثمانية، لم يكونوا ليوافقوا عاطف باشا ونظراءه على مثل هذه الأحكام والآراء التي تجري مجرى التهم الباطلة. ولم يتحاشوا أن يسددوا سهام نقدهم إلى الحكم السلطاني المطلق ويطالبوا بالدستور. وما زال عددهم يتزايد وتأثيرهم ينمو حتى كانت حركة مدحت باشا ودستوره، ثم الرجعة الحميدية (نسبة إلى عبد الحميد)، ثم حركة تركيا الفتاة، والانقلاب العثماني سنة 1908.
ولا يحتاج إلى قول أن الحركة الدستورية العثمانية، من مدحت باشا
21
إلى شباب تركيا الفتاة،
نامعلوم صفحہ