عربی فکر حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
اصناف
وهنالك ناحية من أعمال المؤتمر الوطني يحب السكوت عنها كثير من المؤرخين، ويسير منهم من يذكركها، ألا وهي ناحية العلاقة بين الدولة المركزية ومستعمرات فرنسا القليلة إذ ذاك.
كان معظم سكان هذه المستعمرات من العبيد الأرقاء، فلما وصلتهم طلائع أنباء الثورة أملوا خيرا وتهيئوا لاستقبال عهد جديد تقوم فيه العلاقة بينهم وبين الدولة المركزية على أساس جديد. ولم يلبث أعلام الثورة أن وجدوا أنفسهم في موقف حرج؛ فهم أمام تعاليم الفلاسفة الذين يستوحونهم ومبادئ حقوق الإنسان لا يستطيعون أن ينكروا على العبيد وأهل المستعمرات حقوقهم، إلا أنهم (الكثيرين منهم) إنما قصدوا بهذه المبادئ الإنسانية المطلقة أن تكون سلاحا ضد ذوي الامتيازات في الداخل، أما أن يستعمل العبيد وأهل المستعمرات تلك المبادئ سلاحا حقوقيا يتقوون به فهذه مسألة أخرى. وانشق أعلام الثورة إلى أقسام: قسم يرفض مطالب المستعمرات والعبيد، وقسم يتردد، وقسم يرى من الضروري الاعتراف بهذه المطالب وفقا لشعارات الثورة، فلما كان عهد المؤتمر الوطني، عمل روبسبيير على إلغاء الرق بغير تحفظ،
24
وهو لا يبالي بما اتهم به من تضييع الحقوق المسماة «حقوق فرنسا»؛ أي حقوق تجار الرقيق وكبار أهل الجاليات. وكانت النتيجة عجيبة؛ إذ إن عبيد المستعمرات وأبناء الشعب من الجاليات الفرنسية انتظموا في صفوف واحدة، ودافعوا بمؤازرة من رسل «الكونفانسيون» عن أرض المستعمرات دفاعا رائعا طرد جيوش التدخل الأجنبية وأعوانهم من تجار الرقيق وكبار أهل الجاليات، وأبقوا هذه الأرض تابعة لفرنسا التي أصبحت لهم وطنا أما حقيقيا بعد تطبيق قوانينها الثورية عليهم وعلى الفرنسيين سواء بسواء. وفي هذا العهد برز الزعيم الأسود الكبير توسان لوفرتور، فأنشأ في سان دومنغ كلها حكومة حرة في نطاق الكيان الفرنسي (بعد أن طرد الإسبان من قسمهم في الجزيرة)، وأبدى هو وأعوانه العبيد من الكفاءة ما نقض الزعم القائل بأن العبيد لا قدرة لهم على مماشاة التمدن وخلقه، وبالتالي نقض كل زعم يقول بضرورة سيطرة عرق بشري على عرق آخر. وكذلك أيدت تدابير المؤتمر الوطني الرأي القائل بأن اعتراف الشعوب بعضها بحقوق بعض يقرب بينها ولا يباعد.
ولا جدال في أن المؤتمر الوطني الفرنسي يحتل أجرأ صفحة، وأبكر صفحة، في تاريخ إلغاء الرق وتحرير العبيد. ومعظم الاهتمام بقضية الرق والعبيد كان من قبل مصروفا إلى إرشاد الأسياد وترقيق قلوبهم، أو إلى منع الاتجار بالسود «المساكين».
25
على أنها صفحة مجيدة للمؤتمر الوطني لم يطل أمدها؛ فإن الرجعة النابليونية طوتها، ونابليون هو صاحب الكلمة «الرق شر ضروري.» ويمكن القول إن خطوة المؤتمر الوطني تلك لم تقع بعدها حتى اليوم خطوة تاريخية تعادلها جرأة في الدول التي تتعلق بها قضية عبيد أرقاء.
26
وهناك ناحية أخرى يحب أكثر مؤرخي الثورة السكوت عنها إذ يتحدثون عن المؤتمر الوطني، وهي: ناحية التموين وتوفير الإعاشة في وقت من أوقات الحرب كان عصيبا جدا على فرنسا. ولم يقف روبسبيير عند حد في كبح جماح الذين لا يرون في الأحوال العصيبة إلا فرصة للانتفاع الخاص، وكثير من الحملة على العهد الروبسبييري يرجع إلى ذكريات مزعجة تركها هذا العهد لمجوعي الشعب فخافوا أن تصبح خطته سنة تتبع.
وبعد عهد المؤتمر الوطني يقبل المؤرخون على عهد الإدارة
نامعلوم صفحہ