وكان الذي فرضوا له بُرْدَيه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره (دابَّته) إذا سافر، ونفقته على أهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف؛ فرضي بذلك (١).
وهذا الأسلوب طبيعي ومقبول، ولكنه شخصي لا يصحُّ اتخاذه قاعدة عامة، لأنه يؤدي إلى الفوضى، ولا يجعل للرواتب أسلوبًا معروفًا، ولا أصلًا ثابتًا، ثم إن فيه حَيْفًا على الموظفين المقتصدين الذين كانوا يعيشون قبل الوظيفة عيشة ضيِّقة أو النابغين المفلسين الذين لا يجدون قبل الوظيفة ما ينفقون، كما أن فيه منفعة للمُسْرفين وتشجيعًا لهم على إسرافهم. وقد يرد هذا الاعتراض الأخير بأن الموظف لا يعطى إلا ما فيه تأمين حاجاته الضرورية، غير أن في ذلك ظلمًا للموظف ظاهرًا.
فما هي القاعدة المقبولة إذن في هذه الرواتب؟ ..
هي أن يعطى الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع أن يحصِّله من العمل الحر، أو ما يحصله رجل مكافئٌ له في المواهب والسجايا والكفاءة من عمل مشابه لعمله؛ وهذا تقدير معقول دائم الاعتبار يختلف باختلاف البلدان والشعوب، وغناها وفقرها، ورقيها وانحطاطها، وكون ما يُعطاه الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع تحصيله في العمل الحر، ناشئ عن فكرة الدوام في الوظيفة بالنسبة للعمل الحر والراحة والاطمئنان فيها؛ فالتاجر لا يضمن لنفسه مقدارًا من الربح كل شهر، كما تضمن الدولة للموظف راتبه، والتاجر مهدد بالإفلاس والضياع، وليس على الموظف شيء من ذلك. ثم إن الدولة توفر للموظف من راتبه قسطًا كبيرًا يكفيه ويغنيه أيام مرضه وتقاعده عن العمل، والتاجر موكول إلى نفسه. وللرواتب ضابط آخر هو ألَّا تزيد نسبتها في الميزانية العامة عن الخُمْس (عشرين في المئة) وهذا طبيعي لأن الغاية من الحكومة ضمان المنفعة العامة، وهؤلاء الموظفون وسيلة إلى هذه الغاية، أفيعقل أن تكون الوسيلة غاية؟ أيعقل أن يأخذ
_________
(١) أبو بكر الصدِّيق للطنطاوي، ص ١٩٩.
1 / 65