الحياة الاجتماعية وتنشئ الحكومة، وتلك فرضية باطلة. والحقيقة أن الإنسانية لم تعرف هذه الحياة الطبيعية أبدًا، وإنما عاشت من البدء حياة اجتماعية ساذجة تتمثَّل في القبيلة والأسرة والجماعة. وهذا الذي يراه العلماء المحدثون مطابق لما جاء في الكتب السماوية.
ولن نفيض في هذا البحث لأنه ليس من غرضنا تحقيق المقال في منشأ الحكومة، ولكن غرضنا عرض مسألة (الوظيفة والموظفين) عرضًا جتماعيًا، وبيان صلتها بالحياة العامة، لتعالج وينظر فيها في هذا العهد الذي تقف فيه مصر والشام وغيرهما من الأقطار العربية على مفترق الطرق تصفِّي حساب الماضي تصفية عامة، فتبقي على الصالح وتلقي الفاسد. لذلك ندع الكلام في منشأ الوظيفة، وننظر إليها نظرنا إلى (ضرورة اجتماعية) نشأت من ميل الإنسان الفطري إلى الحياة الاجتماعية. وما ظهر في هذه الحياة من حاجات جديدة ليست حاجة فرد دون فرد، ولكنها حاجة المجموع، استلزم القيام بها انقطاع جماعة من الناس إليها تكفَّل لهم الناس بالمعيشة وعاهدوهم على الطاعة ليمكِّنوهم من إنجاز عملهم الذي انقطعوا له، على نحو ما يفعل الذين ينتسبون إلى جمعية أو ناد أو شركة، حين ينتخبون جماعة منهم يديرون الشركة أو الجمعية ويجعلون لهم راتبًا معينًا ويعطونهم حقَّ اتخاذ القرارات ويتعهدون بطاعتها وتنفيذها؛ غير أن جماعة الموظفين أو الحكام لم تنشأ بعقد كهذا العقد، ولكنها نشأت بالتدريج وبشكل طبيعي. والراجح أنها كانت تستند في أول أمرها إلى القوة والطغيان، وأنها كانت إرادة طرف واحد، هو الطرف القوي (الحكَّام) اضطر الفريق الثاني (الشعب) إلى قبولها والخضوع لها، لأنه ضعيف ولأنه رأى وجود هذا الحاكم القوي الظالم أخفَّ الضررين وأهون الشرَّين، إذ لولاه لكانت الحالة فوضى وإذن يكون كل قويٍّ حاكمًا على كل ضعيف، فيكون بدل الظالم الواحد ألف ظالم ثم تبدَّل هؤلاء الحاكمون الأقوياء على مرِّ الأيام حتى استحالوا أخيرًا موظفين خاضعين لنوع من الأنظمة والقوانين يختلف رقيّها وشدَّتها باختلاف الممالك والبلدان.
أما طبيعة هذه الوظيفة فليس لها شبيه في الحقوق الخاصة.
1 / 62