الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
نامعلوم صفحہ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
نامعلوم صفحہ
فدية الشرف
فدية الشرف
تأليف
ألفونس دنري
ترجمة
نقولا رزق الله
يا ابنة الماجد صوني مجده
إن جرح العرض لا يلتئم
وهم الكندي فيما قاله
رب عار ليس يمحوه الدم
نامعلوم صفحہ
الفصل الأول
كان في مدينة نابولي فتى اسمه بيبو، وفتاة تدعى جرجونة، وهما أخوان أمهما امرأة رقاصة، توفيت حين كان عمر بيبو عشرة أعوام وعمر شقيقته خمسة، فأدخل الغلامان مدرسة الأيتام الفقراء، ثم خرجا منها إلى أزقة المدينة يتجولان فيها، فزاول الفتى كل الحرف ولم يفلح في واحدة منها، وإنما بقيت له مزية واحدة هي حسن الخط، ولا يدري أحد كيف حذق الخط وأتقنه!
أما الفتاة فكانت تبيع الأزهار، ولا بد من أن نقول إنها بهية الطلعة لطيفة الشكل. ثم كبر الغلامان، فلما بلغت جرجونة الخامسة عشرة عمدت إلى حرفة أمها - الرقص - تزاولها في أحد الملاهي، لكنها ما لبثت أن تركت حرفة الرقص خيفة السقوط، لا لعفاف؛ ولكنها أبت أن تزل بها القدم دون نفع كبير يذكر أو غنيمة جسيمة تدخر. فاضطر أخوها بيبو إلى الجد والكد؛ لتحصيل رزقه ورزقها معا.
وقد ذكر أنه كان حسن الحظ؛ فاتفق أن كان في المجلس البلدي منصب خال في قلم التسجيل، وقدر الوظيفة - الماهية - أربعون فرنكا في الشهر، فرفع بيبو عريضة بطلب المنصب الخالي، كتبها بخطه الجميل، فحازت القبول.
ولم يلتفت رؤساؤه إلى كسله، وإنما أعجبوا بمحكم تصويره واستواء سطوره، فارتقى إلى منصب رئيس القلم، وصارت وظيفته ستين فرنكا في الشهر.
وكان بيبو كسلان قاعد الهمة يطمئن إلى الخمول، ولا ينهض من فراشه إلا إذا نبهته أخته، وفضلا عن ذلك فقد كان عمله في المجلس البلدي قليلا فزاده كسلا وقعودا، وفي ذات يوم أيقظته شقيقته من نومه وقالت له بغضب: قم فقد أزف الظهر وأنت نائم!
فنهض مستمهلا يتثاءب ويتمطى، ويقول: لماذا أيقظتني؟ وماذا جرى؟ فهل احترق البيت؟! قالت: ليته يحترق وأنت فيه إلى يوم القيامة، ألا تخجل من قعودك وتخلفك عن مكتبك حتى الساعة؟
قال: ما كنت لأبالي بمكتب أكسب من عملي فيه ستين فرنكا، ولئن تخلفت عنه فالمكتب البلدي لا يصاب بالإفلاس. قالت: ليست الستون فرنكا قدرا كبيرا ولكنه كاف لنا، وإلا فماذا يحل بنا إذا طردوك؟ قال: الأمر يسير، تعودين إلى الرقص، فجوقة «سان كارلو» لا تمتنع عن قبولك. قالت: ولكنني أنا أمتنع.
ولبس بيبو ثيابه غير ملتفت إلى شقيقته، إلى أن قال لها: هل عزمت عزما حقيقا على ترك الملاعب؟ أجابت: نعم. قال: إن فتاة حسناء مثلك لا ينبغي أن تتشبث بالفضيلة هذا التشبث.
قالت: ليس امتناعي عن الرقص في الملاعب فضيلة، وما أرى المتاجرة بجمالي عيبا؛ ولكني لا أجد في الملاعب من يصلح لشرائه، فأنا أوثر ما نحن فيه من الفاقة على ذاك الارتزاق القليل، ولما نزل بيبو من البيت التقى بشيخ فقير ضعيف طاعن في السن اسمه الدوق دي لوقا، فحياه وقال له: ادخل لعلك تجد بقية طعام عند جرجونة.
نامعلوم صفحہ
ثم مضى إلى عمله تاركا ذلك الشيخ في موضعه، وكان هذا الرجل دوقا حقيقيا قد تولى أعلى المناصب في بلاط سيسيليا على عهد الملك فردينان الثاني وفرنسوا الثاني ابنه، فلما دخل غالباردي
Joseph Garibaldi
مدينة نابولي في يوم 7 سبتمبر سنة 1860 كان الدوق في خدمة الملك وقد صحبه في فراره، ولما سلمت «جايت» يوم 13 فبراير سنة 1861 بعد حصار أبدى فيه الملك والملكة شجاعة تساويا فيها؛ كان الدوق آخر من خرج من القلعة، وكان سقوط آل بوربون الضربة القاضية على الدوق دي لوقا. أما فرانسوا الثاني الآنف ذكره فكان آخر من استوى على عرش نابولي وسيسيليا؛ لأنهما ضمتا بعده إلى إيطاليا عام 1860 بعدما كانتا مملكة مستقلة منذ نحو عشرة قرون، وكان في وسع الدوق أن يحذو حذو كثيرين من أنسابه، وينضم إلى المملكة الجديدة، إلا أنه كان عنيدا باسلا، فآثر الإفلاس والضنك، وقال: إن الانقلاب صيرني شحاذا، وسأبقى شحاذا حتى أموت.
ومد يده للسؤال أول مرة وهو لا يزال مرتديا بملابس حسنة، فكان الناس يعجبون منه ويتصدقون عليه. فإذا اجتمع له فرنك واحد اكتفى به وترك التسول، وقصد إلى غرفة له حقيرة مجاورة لغرفة الفتيين بيبو وجرجونة، ولكن ما لبث أن ذاق طعم البؤس لما انقطع الناس عن التصدق عليه، وصار معدودا في عامة المتسولين، ولولا أن العناية سخرت له ذينك الفتيين لهلك جوعا؛ وذلك لأن جرجونة وأخاها تعلقا به فكانا يعطفان عليه، ويشاطرانه قوتهما القليل على ما بهما من فقر، وكان هذا الدوق المفلس قد بلغ الثمانين من عمره.
وكان يسمع شكاة الفتاة الحسناء من سوء الحال ويرق لها. قالت في ذلك اليوم: لقد سئمت عيشتي هذه، ومن كانت مثلي يشق عليها احتمال الفاقة. قال: أصبت والله، فأنت لم تخلقي لهذا الشقاء، ويعز علي أن يعبث بهاتين العينين الساحرتين، او بهذا الشعر الفاحم، وبهذه القامة الهيفاء، ممثل لا يرى السعادة إلا من وراء ستار، إنما أنت ربة تستحقين ما هو أسمى وأشهى. قالت: فما عسى أن أفعل؟ فأطرق الشيخ، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: وايم الحق إذا تم ذلك كان عجبا!
وسمعته فقالت: ما معنى هذا الكلام؟ أجاب: هو خاطر خطر لي. قالت: تكلم. قال: لا يروعني خوفا عليك إلا ضعة نسبك، فهو يحول دون ارتقائك بسهولة. قالت: إني أدعى جرجونة، وحسبي بهذا الاسم نسبا. قال: نعم؛ أي إنك «لا شيء»، فلو كنت ذات اسم يدل على محتد كريم لكان لك شأن آخر. قالت: وما فائدة هذا التمني؟ فنهض الشيخ وانحنى أمامها وقال لها: إن أنا إلا متسول مثلك يا جرجونة، وقد بلغت الثمانين من عمري ... غير أنني مركيز دي كوريولو، وكونت دي كاستلو، ودوق دي لوقا، وهذه ألقاب شريفة ورثتها عن آبائي، فهل يعجبك أن تكوني كونتة، ودوقة، ومركيزة؟ هل تريدين أن تكوني زوجتي؟
فظنت أولا أنه يمزح، لكنها عرفت من لهجته أنه يقول الجد، فصاحت تقول: أتدري ما أفعل باسمك لو دعيت به؟ لو دعيت به لاستخدمته ليرفعني لا ليخفضني، وربما اتخذته سلاحا أضرب به، ولكني لا أريد أن تناله مني غضاضة أو يمسه خزي وعار. فأبق اسمك لنفسك يا سمو الدوق، فهو لا يصلح لي، ولئن صرت امرأة ساقطة فاسم جرجونة لا يعاب بل يبقى اسمي وأعتذر به، ومهما أفعل فإنني أرجع إلى حيث كنت وكانت أمي من قبل! ولكنني إذا حملت اسم دوقة دي لوقا عددت امرأة سافلة، وآذيت كل شريف في شرفه!
فأثر هذا الكلام في الشيخ وقابل بينه وبينها، فرأى أنه أحط قدرا من تلك الابنة المتشردة، وفهم أن العظمة قد تكون في النفوس الخاملة، فخجل من نفسه وطرأ انقلاب على فكره، فضم الفتاة إلى صدره سرورا بنزاهة ضميرها وسمو خلقها، ثم تركها ومضى إلى غرفته المجاورة فانطرح على فراشه، وقد خارت قواه عقيب ذلك الانفعال، فأحس بأنه مشرف على الموت، ولم تمض بضع دقائق على هذا الحادث حتى دخل بيبو البيت، فصاحت شقيقته تقول له: ما بالك رجعت؟! إنك تسرق مال الحكومة! فلم يجب بل أوصد الباب وراءه وأقبل عليها، فقالت له: لعلك خائف من اللصوص؟
أجابها: ربما ...
وجاء فوضع محفظته على خوان وقال: هنا عشرون مليونا؟ فبهتت ثم جعلت تكرر قوله: هنا عشرون مليونا! أرني إياها.
نامعلوم صفحہ
فأمسك ساعدها، وقال: اصمتي واخفضي صوتك لئلا يسمعنا سامع، فالعشرون مليونا ها هنا إنما هي مدفونة، ولا بد من الحفر لاستخراجها، قالت: لم أفهم مرادك!
فبدأ يشرح لها الخبر ومؤداه أنه وردت مراسلة خطيرة إلى رئيس مكتب السجلات البلدية في نابولي، أي إلى بيبو، وأجاب عليها بما عن له أن يجيب، وذلك أن رجلا من باريس كان وكيل أشغال معينا رئيس محكمة السين في باريس ومديرا قضائيا، وكان قد كتب إلى بلدية نابولي يخبرها بأنه عهد إليه بتصفية شركة رجل توفي عن مال كثير، واسم هذا الرجل «جياكومو بلميري»، وقد ترك وصية يذكر فيها أصله ونسبه، ويقول: إنه ينتمي إلى قوم فقراء من نابولي لم يبق منهم إلا هو وشقيق له أصغر منه سنا اسمه أنطونيو بلميري، وكابد الأخوان نكد الأيام دهرا ثم عزما على المهاجرة لعلهما يصيبان ثروة، وكانا قد تعاهدا على السفر معا غير أن الأحوال قضت بافتراقهما، فسافر جياكومو إلى أوروبا وارتحل أنطونيو إلى آسيا، فأقام الأول في باريس ومكث الثاني في كلكتا، وتراسلا بضعة أعوام تراسلا غير منقطع، ثم بدأ التواني في المراسلة وأدى أخيرا إلى الانقطاع التام.
ويقول جياكومو في وصيته إن آخر نبأ تلقاه من أخيه أنه تزوج امرأة إيطالية اسمها نينا ألسندرى، ورزق منها غلاما دعاه أنيبال، وابنة دعاها كلوديا. ثم كتب جياكومو إلى أخيه مرتين وثلاثا فلما لم يرد عليه جواب، وأخيرا مل المكاتبة وتوقف عنها، ثم شغلته الشواغل فخدم مصرفا فأظهر نشاطا في الخدمة وكفاءة وأمانة في العمل فاكتسب ثقة رؤسائه، ثم صار شريكا لهم إلى أن ابتاع منهم حصصهم واستأثر بالمصرف وحده، وفي أقل من خمسة عشر عاما أصاب ثروة جسيمة، إلا أن دأبه في العمل أثر في جسمه، فاعتل واشتدت عليه العلة، فذكر حبه لأخيه وأنه رزق ولدين، غلاما وابنة، فكتب وصيته وبها يأمر بالتفتيش عن أخيه أنطونيو بلميري الذي سافر إلى الهند الإنكليزية في وقت كذا، ثم أقام في كلكتا، فأوصى بثروته من بعده لأخيه إذا كان حيا أو لأرملته وولديها إذا كان ميتا، أما إذا لم يوجد منهم أحد في قيد الحياة فثروته تنفق على الأعمال الخيرية.
ولما طالع وكيل الأشغال تلك الوصية رأى أن يفتش أولا في مدينة نابولي؛ لأنها الوطن الأصلي لأنطونيو بالميري.
ووصلت هذه المراسلة إلى بيبو فكتب إلى وكيل الأشغال ينبئه بوصولها، ثم عمد إلى الاستعلام رأسا فكتب إلى قنصل إيطاليا في كلكتا طالبا إليه أن يبعث إليه بالإيضاحات والأوراق التي تتعلق بهذه الشركة. ثم لم يعد يفكر في هذه المسألة. فلما وصل بيبو إلى هذا الموضع من خبره صاحت به أخته تقول له: وأين العشرون مليونا؟! فقال لها: صبرا حتى أستوفي كلامي. قالت: فامض فيه عاجلا.
وقال: في هذا اليوم تلقيت جوابا من قنصل إيطاليا في كلكتا وفيه هذه الأوراق التي ترينها أمامك، وهنا يجب أن تعلمي أن قنصل إيطاليا في كلكتا رجل إنكليزي، وهذا أمر يحدث كثيرا في البلاد النائية، إلا أن الأوراق مكتوبة باللغة الإيطالية وعليها توقيع ذلك القنصل، وفي رسالته أن أنطونيو بلميري وزوجته نينا ألسندرى أقاما في كلكتا معا بعد أن تزوجا على يد القنصل، ثم رزقا ولدين هما أنيبال وكلوديا إلا أنهما توفيا إلى رحمة الله. قالت جرجونة: من الذي توفي؟ أجاب بيبو: كل العيلة، أي: الوالدان والولدان بالوباء الذي تفشى في الهند منذ خمسة عشر عاما.
قالت: هذا فظيع. قال: بل هذا بديع؛ انظري هذا الغلاف الكبير المعنون باسم: «حضرة رئيس قلم السجلات في بلدية نابولي» فهو يحوي أوراقا، وهي:
أولا:
عقد اقتران أنطونيو بلميري بنينا ألسندرى.
ثانيا:
نامعلوم صفحہ
شهادة بمولد أنيبا بلميري وكلوديا بلميري.
ثالثا:
شهادة بوفاة الوالد والوالدة.
رابعا:
شهادة بوفاة كل من الولدين.
فهذه سبع أوراق.
قالت: إذن لم يبق إلا إيداع العشرين مليونا أحد المستشفيات الخيرية؛ لأن الوارثين الشرعيين أموات، أجاب: نعم، إلا إذا اعترضنا ضياع العشرين مليونا على هذا الوجه، قالت: أوضح، أجاب: الأمر يسير، فاسمعي وافترضي أولا: أن ولدي أنطونيو بلميري ونينا ألسندرى لم يموتا، وأن لا وجود لشهادتي وفاتهما بين هذه الأوراق، وافترضي أيضا أنهما أقبلا على المجلس البلدي ليثبتا حقيقة نسبهما ووفاة والديهما، وافترضي كذلك أنهما بالشهادتين اللتين معهما أثبتا حقهما في إرث جياكومو بلميري، فماذا يحدث إذ ذاك؟
أجابت: يحدث أن الحكومة تعطيهما العشرين مليونا ولا شك في ذلك ولا ريب، ولكن لسوء حظهما أنهما ماتا، وأن الافتراض لا يغني ولا يجدي فتيلا!
قال: بقي عليك أن تفترضي أيضا أنني أنا بيبو أدعى أنيبال بلميري، وأنك جرجونة تدعين كلوديا بلميري أختي، فمن يستطيع أن يقول عكس ذلك؟ أجابت: كل نابولي تعرفنا. قال: نعم، كل نابولي ولكن كل باريس تجهلنا، وإنما يكون تسليم الإرث في باريس لا في نابولي. قالت: إذا كنت قد فهمت كلامك فخطتك تقضي بأن تحل محل ولدي بلميري الميتين وتقبض إرثهما. أجاب: هو ذاك. قالت: ولكن هذه سرقة. قال: هبي أنها سرقة فهي لا تضر أحدا، ولو لم يوجد الوارثان لآل الإرث إلى الحكومة، وأنت تعلمين أن سرقة الحكومة لا تحسب سرقة؛ لأنها لا تضر أحدا ...
فأطرقت جرجونة تفكر. فقال لها أخوها: ما بالك؟ أجابت: افترض أنت كذلك أننا فعلنا كل ما قلته وأخذنا جميع هذه الأوراق بدلا من أن نحبسها في محافظ المجلس البلدي، وسافرنا إلى فرنسا ولقينا وكيل الأشغال، وقلنا له نحن أنيبال وكلوديا، وأبرزنا له هذه الأوراق، فهل يقتنع أنها أوراقنا، أو لا يقول لنا ربما تكونان سارقين إياها؟ وإذ ذاك يبدأ التحري والتحقيق ولا يكون نصيبنا من تلك الملايين إلا الخيبة فالسجن بضع سنين!
نامعلوم صفحہ
فتبسم بيبو وقال: يا لك من فتاة ساذجة، لماذا لا تثقين بأخيك؟ انظري إلى هاتين الورقتين، فما هما؟ أجابت: هما جوازان إذا امتلأ الفراغ الذي فيهما ووقع في ذيلهما، أما في هذه الحالة فلا فائدة منهما. قال: أصبت، ولذلك عزمت على إملاء الفراغ فيهما.
وجلس إلى الخوان لساعته، وأخذ يكتب الجوازين وفيهما وصف بيبو وأخته وصفا تاما، وقد ذكر اسميهما أنيبال وكلوديا، ثم قلد التواقيع التي يجب تذييل الجوازين بهما، فدهشت جرجونة وقالت: لله درك يا أخي! ما أقدرك على الإتقان! والآن فما عسى أن نفعل؟ أجاب: لا شيء سوى حمل هذه الأوراق ما عدا شهادتي وفاة الولدين، فإنهما تحترقان على مذبح ثروتنا الجديدة.
قال هذا القول وتناول الشهادتين فأحرقهما في الحال، ثم قال: بقي علي أن أكتب إلى وكيل الأشغال في باريس بتوقيعي الحقيقي، وصفتي الرسمية، فأخبره بقرب قدوم أنيبال وشقيقته كلوديا بلميري إلى باريس، وهما الوارثان اللذين يبحث عنهما، ويحضران معهما جميع الأوراق الدالة على صحة نسبهما، وبعد ثمانية أيام نسافر أنا وأنت، وإذ ذاك نقبض العشرين مليونا ونتسمى باسمي بلميري.
قالت: لا بأس بالثروة أما الاسم فلا يعجبني، فنظر إليها وهو حائر، فقالت: ألا تراني أستحق تاج دوقة؟ أجاب: بلا شك، بل تستحقين تاج إمبراطورة، ولكن يهمنا أن نجد دوقا أو إمبراطورا يقدم لك تاجه. قالت: ولكن الدوق دي لوقا نفسه يقدم لي تاجه. قال: لله دره ما أكرمه! فهل عانقته مكافأة له على هذه العطية؟ أجابت: بل رفضتها، أما الآن بعد حدوث ما حدث فلست أرفض، وها أنا ذا ذاهبة لأخبره بقبولي عطيته، وسوف ترى.
وهنا حدثت بيبو بما دار بينها وبين الشيخ الضعيف، فهز رأسه وقال: عسى أن لا يكون المسكين قد عدل عن رأيه، فتبسمت الفتاة وقالت: تعال معي إذن، ودخلا في الغرفة المجاورة، وكان الشيخ دي لوقا مضطجعا مغمض العينين، فألقت جرجونة يدها على كتفه، ففتح عينيه وقال لها: لقد سرني أن أراك أيتها الحبيبة، وأن أرى أخاك أيضا؛ لأن ساعاتي معدودة، وقد اقترحت عليك منذ هنيهة أن تكوني زوجتي فلو رضيت لصرت أرملة بعد وقت قصير جدا. فأجابته: إنني أتيت راضية بالاقتراح، فأنا أريد أن أصير زوجتك.
فنظر إليها مستفهما، فقالت: لقد انكشف لي سر عظيم، وظهرت لي أسرة غنية. قال: لست أريد أن أسألك، ولكن رجلا مثلي ينتسب إلى آل لوقا لا يرجع عن كلامه، إذن ثقي بأنك ستدعين الدوقة دي لوقا، وفي اعتقادي أنك تحرصين على شرف هذا الاسم حرص أصحابه عليه من قبل، ولكن لا بد من التعجيل، والذي أراه أن للحكام الحق في عقد مثل هذا الزواج غير العادي ... فليأت بيبو بواحد منهم ويقل له إنه يوجد رجل مشرف على الموت وهو يدعوه، ثم فليدع لي قسيسا بعد ذلك.
فمضى بيبو والحمى تفترس الشيخ، وجرجونة تعطف عليه، وتبلل شفتيه بالماء البارد، إلى أن عاد بيبو ومعه موظف كبير وأربعة شهود وقسيس، فكتب العقد وتمكن الدوق المحتضر من التوقيع عليه بيد مرتجفة، أما جرجونة فوقعت عليه باسم كلوديا بلميري، ولما سألها الموظف عما يثبت نسبها أرته عقد مولد كلوديا بلميري المصدق عليه من قنصل إيطاليا في كلكتا، فلم يخامر الرجل شك في صدقها، وشهد مع الشهود الذين جمعوا من قارعة الطريق، ثم خرج الكل وبقي القسيس عند الدوق الشيخ فسمع اعترافه.
وبعد يومين قضى الرجل وعيناه محدقتان إلى وجه تلك الفتاة الحسناء التي ترك لها لقبه، وهو كل ما يمتلك من دنياه.
أما بيبو وجرجونة فلم يقيما في نابولي إلا أياما، فركبا القطار إلى باريس، وجرجونة تقول: أما الآن فإنني دوقة عظيمة؛ لأنني أمتلك الملايين! •••
فلندع الأخوين سائرين في طريق الغنى ولننتقل والقارئ إلى مدينة بوندشيري في الهند؛ وهي عاصمة الأملاك الفرنساوية، فندخل قصر حاكم المستعمرة وهو الكونت دي موري، نجد في إحدى غرفه فتاة في الخامسة عشرة من العمر هي ابنة حاكم المستعمرة، واسمها الآنسة بوليت دي موري، وكانت مضطجعة على مقعد، متشحة بثوب من الموصلينا البيضاء، صفراء اصفرارا رائعا كأنها مائتة، ويؤكد الطبيب روبلين أنها نجت من خطر الموت، ولا يتم لها الشفاء إلا بالحمية الطويلة الأمد والوقاية الشديدة، وكان والدها قرب فراشها وقد داخل نفسيهما شيء من الاطمئنان بعد طول القلق والانزعاج.
نامعلوم صفحہ
وكانت على مقربة منهما شقيقة الكونت دي موري، وقد تعودا أن يدعوها: «العمة باسيليك»، وهي فتاة عانس رغبت عن الزواج، وبقيت في بيت أخيها فصحبته إلى تلك البلاد النائية، وقبل أن يخرج الطبيب من غرفة الفتاة المريضة قالت الكونتة: يجدر بنا الحصول على إجازة بضعة شهور نسافر فيها إلى فرنسا، فهواؤها ينفع ابنتي نفعا جزيلا، فقال لها الطبيب: حاذروا أن تفعلوا؛ فالخطر كل الخطر على المصابين بالحميات الهندية في الارتحال عن هذه البلاد قبل أن يتم لهم الشفاء؛ لأن الداء يعود إلى بدء اشتداده ثم يتعذر شفاؤه. فلا بد من معالجته في موضع ظهوره، وإتمام المعالجة عندما يتفق للمصاب به الشفاء وهو أمر نادر جدا! والرأي السديد أن تمكثوا ها هنا ستة شهور أيضا بل سنة، ثم لا أعترض على سفركم.
ولقد شغل مرض الفتاة والدها الكونت عن الاعتناء بأعماله فأحل محله نائبه وهو المسيو جاستون دي فاليير، وكان فتى شهما كريما كثير التردد إلى بيت الكونت، فلما اطمأن فؤاد الكونت من نحو ابنته أراد انتهاز الفرصة ومشاهدة حفلة تقام في ضاحية المدينة، ونعني بها الحفلة الزراعية التي تقام مرة في كل عام، ولوجود الحاكم الفرنسي فيها وقع حسن العائدة على النفوذ الفرنسي، فأمر باستعداد حاشيته لمرافقته، ثم مضى يتبعه «ملطار» خادمه المخصوص بخدمته أو حاجبه، وكان هنديا جامعا لفضائل الهنود، خاليا من عيوبهم، مخلصا لسيده ولآل بيته إخلاصا نادرا. فوصل الكونت إلى مكان الاحتفال، وأراد تأدية الاحترام الواجب لديانة الهنود ومراسيمها؛ فظل متعرضا لحرارة الشمس المحرقة حتى قلق رجال حاشيته، لكنهم لم يجترئوا عليه بإبداء ملاحظة، وقال له ملطار: ليس من الحكمة يا سيدي أن تطيل وقوفك ها هنا، فأجابه الكونت إلى ما أراد وأشار إشارة الانصراف، ولما رجع رأى ابنته أحسن حالا، ولما انقضى قسم من الليل أحس الكونت ببرد شديد، ومن العجب أنه شعر أيضا بأن ألسنة من نار تمر في عروقه كل هنيهة، فنام مضطربا، وأصابه بحران، ولما كان الصباح دخل عليه ملطار، فتراجع عنه مذعورا؛ لأنه رأى وجهه متغيرا وسمعه يشكو من آلام مجهولة، وطالما رأى ذلك الخادم أوروبيين يصابون بذلك الداء الخبيث، وتبدو عليهم أعراضه ثم يهلكون به، وهو قد شاهد منذ ثلاثة شهور تلك الأمراض التي ظهرت على ابنة الكونت، فسارع إلى الطبيب فأقبل من فوره، ولما شاهد الكونت علم أنه أصيب بالحمى الهندية الخبيثة، لكنها لم تظهر بعد، فلا بد من مهاجمتها بالعلاج قبل ظهورها الذي يعقبه استفحالها فاستعصاؤها.
فخطر للطبيب أن يستدرك الخطر بالفرار منه، فطلب مقابلة الكونتة، فقالت له: لقد أبكرت في الزيارة أيها الطبيب، فأجابها: ما أتيت هذه المرة لأعود الآنسة بوليت، فاصفر وجهها وقالت: إذن لأجل من أتيت؟ أجاب: لأجل زوجك، فقد أصبح مريضا، ولا مرض حتى الآن باد، ولكن يبدو بعد حين قصير، ويظهر الخطر إذا نحن لم نستدركه في الحال، قالت: فما عسى أن يكون مرضه؟ أجاب: إنه الذي أصاب ابنتك، قالت: وا حرباه وامصيبتاه!
قال: مهلا ولا تيأسي، وما دامت أعراض الحمى غير ظاهرة فالرجاء باق، ولكن لا بد من ارتحال زوجك في الحال حتى يخلص من تأثيرات جو البلد، ولا بد من سفره بعد ساعة واحدة، وفي هذا اليوم؛ بل بعد ساعة تقلع باخرة مسافرة إلى أوروبا، فلا ينبغي أن يفوته السفر عليها، لئلا يضطر إلى الانتظار أسبوعين حتى يحل موعد سفر باخرة أخرى.
قالت: ولكن زوجي يمتنع عن السفر اليوم، قال لها: لا ينبغي الالتفات إلى إراداته، قالت: وكيف ذلك؟ أجاب: لا بد من تلافي الخطر سريعا. قالت: هيهات، فإنك لا تستطيع التغلب عليه. قال: بل أرى تنويمه، ولا تنكري علي اقتراحي، فهو غريب والعمل به يلقي علينا تبعة ثقيلة، أما أنا فإنني راض بتحملها لأنقذ الكونت، قالت: وأنا أرضى لأنقذ زوجي. قال: إذن أنا أسقيه مخدرا فتأهبي للسفر، واعلمي أن حياة زوجك تصبح غدا في خطر إذا لم يسافر في هذا النهار، وأن حياة ابنتك تصبح كذلك إذا هي سافرت أيضا فتدبري. قالت: ويلاه! لست أستطيع ترك زوجي يسافر بدوني وهو في هذه الحال، ولا مفارقة ابنتي وهي في دور النقاهة. قال: أما ابنتك فلا خوف عليها ما دامت مقيمة ها هنا، والرأي عندي أن تتركي عمتها عندها وتسافري مع زوجك، والوقت لا يتسع للجدال فأسرعي.
وإذ ذاك دخلت العمة باسيليك فأطلعها الطبيب على ما جرى فوافقته على رأيه، وقالت: سافري يا لورانس مطمئنة القلب مع من يهمك شفاؤه، وأما أنا فأبقى قرب ابنتك، وهي الآن نائمة فلا توقظيها ولا تدعيها تعرف بسفرك الآن، بل أنا أمهد السبيل لإخبارها؛ لئلا تزعجها معرفة الحقيقة.
قالت: بل أدخل مخدعها وأقبلها وهي نائمة ثم أمضي، قالت: لا بأس، إنما حاذري أن تستيقظ.
فدخلت الوالدة مخدع ابنتها ولثمت جبينها بطرف شفتيها، ثم اجتذبتها العمة باسيليك، وبعد أقل من ساعة كان الكونت دي فوري وزوجته مسافرين على باخرة قاصدين إلى فرنسا.
وفي ذلك الوقت كان بيبو وشقيقته جرجونة مسافرين على مركبة السكة الحديدية إلى فرنسا أيضا.
الفصل الثاني
نامعلوم صفحہ
كان حمى الكونت دي موري رجلا تتيه به البحرية الفرنساوية؛ لأنه مثال الشرف والإقدام، واسمه الأميرال فيرمن دي لامارش، بلغ الثمانية والستين من عمره، وعمل أعمالا كانت بحار الدنيا ميادينها، فما مر به عام منذ حداثته إلا وشن فيه حربا على الرجال أو على العناصر، فكان السابق إلى أهوال القتال، وكان السابق إلى الخطر والمجد، فلا ترد صفحة من تاريخ البحرية الفرنساوية إلا واسمه مدون فيها بأحرف من ذهب، وزد على ذلك أنه كان طيب القلب، سخي الكف، عادلا، وديعا، محبوبا ومن الضباط التابعين له.
أما زوجته فكانت أصغر منه سنا، ولا تزال عليها لمحة من الحسن الباهر، وكأنها متوجة من شعرها بتاج ناصع البياض، ولم يرزق هذان الزوجان إلا ابنتهما لورانس، زوجة الكونت دي موري، ولا تسل عن شدة حزن تلك الوالدة لما علمت بأن صهرها سيرتحل إلى الهند ليتقلد منصبه فيها، لكنها لم يسعها إلا الامتثال بحكم القدر، ولما وردت رسالة برقية على زوجها الأميرال عن قدوم صهرهما الكونت مع ابنتهما قال الأميرال لزوجته: هل تعلمين من أين جاءت هذه البرقية؟ فأجابته: نعم، فسؤالك يدل على أنها واردة من بوندشيري.
قال: نعم، فهي من ابنتك، ولكنها لم ترد من بوندشيري، أما بوليت، وكانت مريضة كما تعلمين، فهي أحسن حالا، بيد أنها باقية في الهند مع عمتها، أما مصدر الرسالة التلغرافية فمدينة عدن، فاختطفت الرسالة البرقية من يدها وقرأتها وهذه صورتها:
إننا سافرنا فجأة من بوندشيري؛ لأن زوجي روجر أصيب بمرض هائل وقد زال عنه الخطر، وبقيت بوليت مع عمتها في بوندشيري، وهي تتماثل إلى العافية، وسيكون وصولنا إلى مرسيليا يوم 20 يونيو، ونراكم بخير.
لورانس
فعزمت مدام دي لامارش على السفر إلى مرسيليا لتستقبل ابنتهما وصهرهما، أما الأميرال فإن عمله في باريس قضى عليه بالبقاء فيها، فسمح لزوجته بالسفر وحدها.
وبعد تبادل القبلات والتحيات رأت لورانس أن تشاور الطبيب في أمر مرض زوجها خيفة أن يضر به سرعة السفر إلى باريس، فأشار عليه بأن لا يسافر إليها ولكن يقصد إلى هيار، أو نيس، أو مانتون، أو كان، وآثر له المدينة الأخيرة وقال له: أقم في رأس أنتيب؛ فهناك فندق الكاب، وهو يجمع بين الراحة وجودة الخدمة والزخرفة وجمال الموقع والإتقان في كل شيء؛ ولهذا يقصد إليه السياح من كل فج، فأعجبوا بهذا الرأي، ولما انصرف الطبيب كان قد تقرر السفر، وفي اليوم التالي سافروا إلى رأس أنتيب فاكتروا لهم جناحا في هذا الفندق المتسع، وكانت نوافذه تشرف على الخليج وجزر سنت مرغريت ومدينة «كان» وبيوتها البيضاء والوردية اللون، وجبال الألب يتوج الثلج قممها فتتألق تحت نور الشمس كأنها تيجان هائلة الحجم، مرصعة بكتل ضخمة من ألماس، وهو مشهد ساحر لا تمله الأبصار، وكان حول الفندق بستان، فحقول خضراء زبرجدية، ورائحة زهر الليمون والبرتقان تتضوع في أرجاء الفضاء، وحاصل القول: إن ذلك الموضع جنة من جنات عدن، يزيدها رونقا وبهاء كثرة المتنزهين فيها من نساء وأولاد يملئونها بهجة وسرورا.
وكانوا يجتمعون عند المساء فيجلسون إلى موائد الفندق في شرفاته، وينفقون قسما من الليل في أبهاء متألقة بالأنوار، حافلة بالأزهار، غناء بالألحان الموسيقية، والمراقص تتوالى، والحفلات تقام، وبالاختصار كانت أسباب السرور كثيرة، ولا عجب، فالنازلون في رأس أنتيب من كبار السياح وأشراف الناس، وهم سواء في كرم المحتد وسلامة الذوق وسعة الثروة.
وفي أول يوم من وصولهما اتفق أن جلس الكونت دي موري وأسرته قرب امرأة حسناء، لفت جمالها الأبصار ومعها رجل، ظن روجر وزوجته لأول وهلة أنه زوجها، غير أن خدم الفندق كانوا يدعونه عند الخدمة بيا سيدي، ويدعون المرأة بيا سيدتي الدوقة، وبعد العشاء استفهم الكونت دي موري فقيل له: إنهما إيطاليان وإنهما أخوان، واسم الرجل أنيبال بلميري، وأما المرأة فهي أرملة غنية واسمها: الدوقة دي لوقا.
وهنا يجدر بنا أن نخبر القراء كيف وصل بيبو وشقيقته جرجونة إلى هذا الفندق، واختلطا بكبراء الناس، فنقول بالاختصار: إنهما ورثا جياكومو بلميري وقبضا الأموال بعد وصولهما إلى باريس، فاستأجرا قصرا مفروشا، وبدآ يعيشان عيشة أهل الترف والثروة. فلما وافى فصل الشتاء سلكا سبيل الأغنياء والسياح فقدما إلى فندق كاب أنتيب، وطابت لهما الإقامة فيه بين أولئك الأقوام إلى أن انقضت شهور وأشرف الموسم على الانتهاء، وأخذت الدوقة دي لوقا تتأهب للرحيل، وأنبأت أخاها بعزمها، وكان كارها للسفر يقول: حرام مفارقة هذا المكان، فقالت له شقيقته: لا بد من رحيلنا بعد ثلاثة أيام، وكان هذا الحديث ليلة وصول الكونت دي موري وزوجته ووالدتها التي هي زوجة الأميرال دي لامارش.
نامعلوم صفحہ
وقد اتصل بمسامع الدوقة شيء من شهرة الأميرال، فودت لو تعرفت بصهره، وفيما كانت تتنزه في حديقة الفندق في اليوم التالي، تلاقت بالكونت دي موري، فأعجبها حسن منظره وهيبة طلعته، ولم تكن تعرفه، فوقفت، ووقف هو كذلك عند عطفة من عطفات مماشي الحديقة ينظر إليها ويعجب بمفاتنها؛ لأنه لم يتفق له أن رأى من تحاكيها في محاسنها الفتانة. نعم، كانت زوجته ذات حسن وكمال، وكان يحبها حبا شديدا ويحترمها، إلا أن تلاقيه بهذه المرأة أثر فيه تأثيرا لم يستشعره في نفسه قبلا. ذلك لأن الدوقة ذكرت وقتئذ أنها «جرجونة»، فاتقدت عيناها ورنت إليه فكأنها رشقته بسهم نافذ، فلم يتمالك أن مد يده إلى قبعته للتحية، ورفعها إجلالا لما وقع عليه بصره من جمال رائع.
فانحنت أمامه الدوقة، ومرت به وهو واقف مبهوت، إلى أن جلست على شرفة الفندق، وإذا بامرأة اسمها اللادي هلتون، وهي أرملة ضابط في البحرية الإنكليزية، جاءت فجالست الدوقة وحادثتها، وهذه متململة تود أن تخلو إلى نفسها، وفيما كانت تهم بالنهوض رأتها تضع منظارها أمام عينيها وسمعتها تقول: هذه صديقتي زوجة الأميرال دي لامارش.
فانثنت الدوقة فأبصرت امرأتين مقبلتين، وبعد هنيهة عرفتها السيدة الإنكليزية بزوجة الكونت دي موري وأمها، ثم أقبل زوجها الكونت، فتم لهما التعرف بالدوقة دي لوقا على يد حماته.
وبعد حديث دار بين المتنزهين قالت الكونتة لزوجها: ألا تصعد معي يا روجر؟ فقال: إني أفضل أن أبقى هنا، إن الجو رائق، وسألحق بك قريبا.
فانصرفت الكونتة وأمها ومعهما اللادي هيلتون، وبقي الكونت دي موري مع الدوقة دي لوقا منفردين، فلبثا صامتين والهوى يتكلم، إلى أن قالت جرجونة: لماذا لبثت ها هنا؟ وكان مطرقا ينكت الأرض بعصاه فلم يرفع بصره إليها، وأجابها: بقيت لأشكرك ... قالت: وأي صنيع صنعت حتى تقابله بالشكر؟ أجاب: إن جمالك زاد حسن هذه الخليقة البديعة.
ورفع بصره إليها في هذه المرة، فأطرقت هي، فقال أيضا: انظري إلى هاتيك الجبال والغابات والبحار، وكل ما تتجلى فيه عظمة الخالق ويعجب به المخلوق، إنني لم أر شيئا من ذلك قبل أن أراك، أما الآن فيلوح لي أن الأمواج الزرقاء، والأشجار الخضراء، والصخور البيضاء، آيات ناطقة بفضلك، وكأنها تقول لك: أنت أجمل وأبدع. أما أنا الرجل الذي وصل بالأمس، بل الضعيف الصغير بالقياس إلى هذه الأشياء العظيمة؛ فإن فؤادي تعصف به عاصفات الأمواج، وتهب فيه أهوية الجبال التي تطأطئ لها رءوس السنديان فأثني على جمالك الباهر؛ لأن بصري يتمتع به ويثمل.
ولو سمعت الدوقة دي لوقا هذه الكلمات من عاشق آخر لما اكترثت لها، إلا أن عاطفة الهوى أثرت فيها أيضا، فوقعت كل كلمة وقعا شائقا في نفسها، فنسيت أنها الدوقة دي لوقا، ولم يخطر لها ما يجب على من تدعى بهذا الاسم، فاسترسلت إلى اضطراب لذيذ لم تعرفه قبلا وهي لم تعرف الحب الحقيقي، ولم تعجب من ذلك الإقرار المفاجئ، فدار بينها وبين الكونت حديث هوى ومغازلة إلى أن نهضت جرجونة، فأبقى يده في يدها كأنه يعاهدها على دوام ذلك الهوى الجديد. ثم افترقا وقد فهم كل منهما أن تلك الساعة التي أنفقاها معا ستعد من ساعات العمر النادرة، وكل منهما مقتنع أن ذلك الشرر لا ينطفئ دون إحداث حريقة هائلة.
وهكذا أقامت الدوقة دي لوقا في الفندق مدة شهرين أيضا، وقد توطدت بينها وبين القوم أركان صداقة ثابتة متينة، وولاء دائم ... فرجع الكل إلى باريس في قطار معا، ثم اكترت الدوقة مسكنا في شارع فارين، هو ملك الكونت دي موري، وفوق منزله، وكان سروره بذلك الجوار لا يوصف.
الفصل الثالث
أما جرجونة فإنها نزلت في ذلك المسكن القديم وهي لا تسعها الدنيا من فرحها بذلك الفوز العظيم، ولا بد من القول أن الكونت دي موري أجفل من ميل فؤاده إلى الدوقة دي لوقا، وحرص على ما بينه وبين زوجته من الحب الذي أتى عليه ثمانية عشر عاما وهو ثابت على السراء والضراء، ورأت جرجونة منه العفاف والفضيلة، فثار ثائرها وانجرحت كبرياؤها، إلا أنها وثقت من نفسها بالفوز لا سيما وأن من تستوهيه قد غدا على مقربة منها لا يحول دونهما حائل كما كان الأمر في فندق أنتيب، فأخذت تهاجم العلاقة التي بين الزوجين بما لديها من أسباب الفتنة والاختلاب، والحق يقال: إنها كابدت عناء شديدا في الهجوم والنضال؛ لأن تلك الأسرة كانت تتصف بالصدق والفضيلة فلم تضعف عزيمة الكونت دي موري.
نامعلوم صفحہ
أما أخوها فقد عاش بين القوم عيشة الفلاسفة، وكان يجالس الأميرال حمو الكونت، ويتبسط معه في التحدث عن سلك الأبحر والأساطيل البحرية ومقاومة الزوابع والأعاصير ومقاتلة الأعداء، إلى غير ذلك مما يتوق إليه الأميرال، وكان الكل يصغي إلى مثل هذه المحادثة.
وفي ذات يوم كان الأميرال يتكلم، فخرجت زوجته إلى غرفة لتنفرد فيها، وكانت تلك عادتها في كثير من الأحيان، فقال الأميرال: إن زوجتي تحب الوحدة والاعتزال أحيانا، وقد وقع لها ذلك من زمن طويل حتى أشفقت في بدء الأمر على صحتها، ولكنني تعودت ذلك منها وإن لم يذهب قلقي تماما.
فقالت زوجة الكونت في نفسها: لا شك في أن لوالدتي شأنا آخر يجهله والدي وهي تكتمه عنه وعني إيضا ... فلماذا لا تثق بي وتبوح لي بسرها؟
ولقد سنحت لها الفرصة فأمكنها الاطلاع على سر والدتها؛ وذلك لأنها لزمتها منذ وصولها إلى باريس، وأرادت أن تخفف عنها وطأة الشجن، فما لبثت أن غدت سكرتيرتها تراسل عنها الجمعيات الخيرية العديدة، وتفتح الرسائل التي ترد باسم والدتها دون أن تشاورها، وتجيب عنها.
وفي ذلك اليوم بعد المحداثة التي أشرنا إليها في عرض الحديث، تلقت نحو عشر رسائل من البريد واردة باسم والدتها، فلما افتضت ختم الرسالة الثالثة وطالعتها، أخذها انفعال واضطراب وامتقع لونها.
ولقد قرأت لورانس تلك الرسالة مرارا، وها نحن نوردها للقراء بنصها وعنوانها:
إلى السيدة زوجة الأميرال غيرمين دي لامارش
سيدتي
كاتب هذه الرسالة رجل لا تعرفينه، ولكنه يستحق منك الرأفة ويروم مقابلتك.
اسمي يا سيدتي روبر بوريل، وأنت لم تسمعي بهذا الاسم، ومع ذلك فأنا ابن البارون دي كورديو.
نامعلوم صفحہ
ومن ذكر أمامك هذا الاسم كان مذكرا إياك بأمور وأمور!
والذي أراه أنك لا تودين أن أزور منزلك؛ لئلا أنبه فيك تلك الذكرى.
إذن تفضلي إلى بيتي فهو في ناحية دراجون رقم 20 على بعض خطى من شارع فاين.
نعم، أرى الأفضل أن تأتي إلي، فذلك خير من أن أزورك في منزلك؛ إذ يصعب عليك ولا شك أن توضحي لزوجك الأميرال السبب في حضوري.
ومهما يكن من ذلك، يوجد أمر لا بد من إقناعك به؛ هو أن صيتك وهناءك يتعلقان بكيفية تلقيك لهذه الرسالة من المطيع الخاضع.
روبر بوريل
فلما فرغت من قراءة هذه الرسالة قالت في نفسها: «الظاهر أن كاتبها نذل تكفي معاقبته بالسكوت والاحتقار، والأحسن تمزيقها وطرحها في النار. إلا أنها رجعت في الحال عن هذا العزم، وتذكرت ما اشتملت عليه الرسالة من وعيد خفي، وكانت تجهل من هو البارون دي كورديو الذي تعرفه والدتها، فخطر لها خاطر، قالت: إن الله أراد أن أكون المطلعة على هذه الرسالة دون أمي، فلماذا لا أجلو الغامض دون أن أدعها تفهم شيئا؟ فأنا أحل محلها في الزيارة التي تشير الرسالة إليها، والناحية قريبة.
ونهضت لساعتها فخرجت من المنزل قاصدة إلى شارع فارين، ومنه إلى ناحية دراجون، ووصلت إلى البيت الذي عليه رقم 20 وهو بيت حقير جدا، فترددت لما شاهدت من حقارته، لكنها ما لبثت أن طرقت الباب، فسمعت قائلا يقول لها: افتحي.
فدفعت الباب فانفتح، ودخلت بجرأة، فإذا بها ترى أمامها شابا ينظر إليها وهو مدهوش حائر، وبعد ارتباك ظاهر قال لها: من تكونين يا سيدتي؟
فلم تجبه على سؤاله، ولكنها قالت له: أأنت المسيو روبر بوريل؟ فأجابها: نعم، فاجلسي، وأدنى لها كرسيا وحيدا في غرفته، فقالت له: إنك تنتظر زوجة الأميرال فيرمن دي لامارش؟
نامعلوم صفحہ
أجاب: نعم، وإن سرني أن ألقاك، لكنني أعيد سؤالي عليك فإنك لم تجاوبيني عليه حتى الآن، ولا أدري لماذا عهدت إليك زوجة الأميرال بالحلول محلها في المهمة التي استقدمتها لأجلها، ومن مصلحتها أن لا يعلم شخص ثالث بما بيني وبينها، قالت: إنها تجهل زورتي هذه، وستظل جاهلة إياها كما أرجو، وأنا التي فتحت رسالتك، أنا الكونتة دي موري ابنتها.
قال الشاب: عجبا! إذن أنت أختي؟
فظنت لورانس أنه مجنون، ولم تخف بل سرت سرورا كبيرا لانجلاء الغامض، وأيقنت أن كاتب الرسالة المزعجة كان ضائع الرشد، فلطفت صوتها وجاملت من حسبته مجنونا؛ لتعلم ما صوره له ذهاب عقله، فقالت: لم أكن أدري أنني أختك يا مسيو بوريل، فأوضح لي هذه المسألة؛ لأن أبي وأمي نسيا أن يخبراني أن لي أخا ...
فنظر إليها متعجبا من سكينتها، وتوهم في أول الأمر أنها تسخر به، لكنه آنس شفقة في بصرها فأدرك الحقيقة، فقال لها: أنت تحسبينني مجنونا ... أم سكران! ولكنك واهمة، فإن هذه الغرفة الحقيرة لم تدخلها زجاجة خمر من عهد بعيد ... ومع ذلك فإن الفقر والشقاء لم يذهبا برشدي حتى الآن، فأنا لم أقل إلا الحق، وأنا أخوك حقا.
ثم أبرز لها رسائل مكتوبة بخط والدتها، فقرأتها وهي مرعوبة، فلم يبق في نفسها أثر للشك، وإليك تلخيص الخبر: إن زوجة الأميرال فارقها زوجها فيما مضى من صباها ثلاثة أعوام؛ إذ كان في مداغسكر يقوم بمهام منصبه، فارتحلت في تلك الأثناء إلى مسكن قديم لأسرتها في قرية من قرى لورين، فأقامت فيه وحيدة منفردة، ورآها ذات يوم جار لها اسمه دي كورديو، فافتتن بها، وفي ذات ليلة فاجأها وهي في مضجعها فاغتصبها وفر هاربا خجولا من فعلته. إلا أن ذلك الذنب لم ينقض بسفره؛ لأن زوجة الأميرال حملت من دي كورديو وولدت غلاما وسلمته إلى أحد القرويين يربيه، ثم عادت إلى باريس، وفيها علمت بأن والد الغلام رجع إلى القرية وأخذ على عاتقه تربيته ثم ألحقه بنسبه، وما غنم الوالد أن قضى حزينا نادما على ذنبه. وقبل أن يموت أطلعه على سر مولده، وقال له: إذا وقعت في ضنك شديد فالق أمك زوجة الأميرال دي لامارش، فيحق لها أن تسعفك عند الضيق، أما أنا فلم يبق من ثروتي إلا القليل الذي لا يغنيك عن جوع.
هذا ما ذكره روبر لزوجة الكونت دي موري إلى أن قال لها: أنت ترين أنني كاشفتك بما في نفسي، وما تنبأ أبي منه قد تحقق؛ لأنني أضعت ما أورثني إياه من مال قليل، وحاولت كسب رزقي بوسائل عديدة فلم أفلح، وكدت ألجأ إلى الانتحار، لكنني ذكرت ما أوصاني به أبي، فكتبت إلى والدتي الرسالة التي وقعت في يدك بعد أن كدت أنسى أن لي أما ...
قالت: كدت تنسى أن لك أما! ومع ذلك فقد لبثت أعواما دون أن تحاول التعرف بها، ولو كنت في مكانك لسعيت إليها سعي المجد حتى أراها كل يوم عند مرورها، ولرفعت يدي إلى السماء شاكرا لها أنها منحتني أما مثلها.
قال: فهمت كلامك فأنت تشيرين إلى الحب البنوي، وتعتقدين أن المرء يكفيه أن تكون له والدة! ألا فاعلمي أن هذا الوتر لا يهتز في سريرتي، ولئن نظرنا إلى الحب البنوي واختلافه عندي وعندك فذلك لأن لكل منا أما تختلف عن الأخرى، أما أنت فوالدتك تستحق منك كل انعطاف؛ لأنها في نظرك وعطفها عليك وعنايتها بك وتضحيتها راحتها لأجل هناءك، ملك كريم، أما أنا فوالدتي لا تستحق مني إلا عدم الاكتراث، إن لم أقل الكره والمقت، فصاحت تقول: وهل يوجد في الدنيا من لا يحب أمه؟
قال: لك أن تحبي أمك ما شئت، ولكن هل كنت تحبينها لو لم تعرفيها؟ أو لو لقيت منها الإهمال مثلما لقيت؟ نعم، كان يمكن أن أطرح في الأزقة وأنشأ شريدا طريدا، ولا ذنب لي إلا أنها ولدتني، والمحبة البنوية ليست من الحشائش التي تنبت بفعل الصدفة أو الطبيعة، ولكنها غرسة لا تنمو ولا تكبر إلا إذا لفحتها حرارة المحبة الوالدية.
قالت: ولكنك نسيت أن أمك متزوجة، فما عسى أن تفعل لأجلك؟
نامعلوم صفحہ
أجاب: إنها أعطتني الحياة، فيجب عليها أن ترفق بي لأنني مولودها، ولم أقترف إثما لتنتقم مني! ولكن لا نفع من هذا الجدال، ولا أقنعك كما أنك لا تقنعينني؛ لأن كلا منا على صواب فيما يدعي. إنما أريد أن أعلمك أنني لا صبر لي على ما أنا فيه من عسر وضنك، ولا أمنية لي إلا الرحيل عن هذه الديار التي تعودت أن أبغض ما فيها ومن فيها، ولكنني لا أسافر وأنا صفر اليد، بل أريد أن أتزود شيئا من المال لأسعى في الأرض لعلني أغدو من المفلحين.
قالت: فماذا تطلب؟
قال: ما قدر البائنة التي تناولتها من والدتك حينما زوجتك؟
أجابت: لست أدري تماما، ولكن ربما كانت ثمانمائة ألف فرنك. قال: أما أنا فلا أطلب من أمك إلا عشر ذلك المال، ثم أعفيها من كل طلب في الحال وفي الاستقبال، فارتعدت وقالت: مائة ألف فرنك! من أين لي هذا القدر الجسيم؟ أجاب: لست أطلبه منك ولكن من والدتك.
قالت: وهل تظن أنها أقدر مني على التصرف بمثل هذا القدر فيما لو أعلمتها بطلبك؟ - ليس ذا بطلب، ولكنها صفقة أو مساومة على رحيلي وسكوتي؟ - ولكنك تطلب أمرا مستحيلا، وأنت تدري أن النساء المتزوجات لا يتصرفن بأموالهن إلا بموافقة أزواجهن، بمقتضى شريعتنا. - على زوجة الأميرال دي لامارش أن تجد الوسيلة الصالحة للوصول إلى تسوية عادلة لذلك الدين، فهي منذ ما ولدتني قد أصبحت مديونة لي، أما إذا حاولت التخلص من هذا الدين فإنني أعلن خبره على رءوس الملأ.
فصاحت: كلا! ذلك لا تفعله أبدا، وما كنت لتفشو سر والدة أنت تعرف أنها مثلك ضحية تلك الأنظمة الاجتماعية التي لم يسمح لها بالتطور والتقدم ومواكبة سير العلم والاختراع.
قال وعيناه من هذه الأقوال الفلسفية الآن: وإني أقسم بالله على أنني سأفعل ما ذكرته لك. فبهتت المسكينة رعبا وقالت: لو عرفت وسيلة للحصول على الملايين لدفعتها لك، إذن سأبحث لأجد القدر الذي تطلبه ...
قال: لا يهمني أن تبحثي أنت أو تبحث هي، وشرطي الحصول على المال في كل حال، ويوجد وسيلة هينة إن شئت كتمان خبري عن أمك، هي أن تكلمي زوجك الكونت دي موري، فلا يبخل عليك بكل ما تطلبينه منه، فصاحت: حاشا لله أن أخبر أحدا ولا سيما زوجي، والموت أحب إلي من أن أفضح والدتي المحبوبة.
قال روبر: افعلي ما يروق لك شرطا أن تفلحي ... وإني أمهلك يومين، قالت: ولكن هذا مستحيل. - تدبري، فأنا أنتظرك بعد غد ها هنا في مثل هذه الساعة. - لست أريد أن أجيء مرة ثانية إلى هذه الغرفة التي تلقيت فيها ذلك النبأ الفظيع. - فاختاري مكانا غير هذا المكان. - لست أدري! وإنما أنا أذهب إلى كنيسة سن جرمين كل يوم. - لا بأس، أنتظرك في الكنيسة في مثل هذا الوقت بعد غد. - نعم، ولكن ... - ولكن ماذا؟ - أي شيء يؤكد لي زوال الخطر من نحوك بعد أن أدفع لك المال؟ ألا يمكن أن تعود إلى طلب المال ثانية؟ - لو أقسمت لك لخفت أن لا تصدقيني، ولا يسعني إلا أن أعطيك رسائل والدتك فهي كافية ... فنهضت لورانس وقالت: بعد غد نلتقي في كنيسة سن جرمين في الساعة الرابعة، وانصرفت وهي في أسوأ حال من الاضطراب.
وفي اليوم التالي قصدت إلى حانوت أكبر جوهري في باريس، وهو المسيو سميث المشهور بصدقه، ومن عنده كانت ابتاعت كل جواهرها، فلقيته في الحانوت وأنبأته بأنها تحتاج إلى مائة ألف فرنك دون أن يعلم بها زوجها، وأنها حملت إليه أنفس جواهرها، وطلبت منه أنن يبدلها بجواهر كاذبة حتى لا يرتاب أحد بإبدالها.
نامعلوم صفحہ
فتعجب المسيو سميث من طلبها، وأجابها أن جواهرها تقدر بأزيد من مائة ألف فرنك، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك القدر من المال في الحال، وطلب إليها أن تمهله بضعة أيام بعد أن دفع لها ما عنده من النقود. فلم يسعها إلا إجابته إلى طلبه، وقالت له: والباقي بعد أربعة أيام.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى الموعد المضروب في الكنيسة، فلقيها روبر وقال لها: جئت بالمال؟ أجابت: لا. قال: ومع ذلك فقد وعدتني به، ولعمري إنك أخطأت في إخلاف وعدك لي، ولكن ذلك لا ينفعك، وما لم أفعله منذ يومين سأفعله اليوم، وقبل انقضاء ساعة أكون عند أمك ...
قالت: بحقك لا ترفع صوتك! إنني لم أخلف وعدي إلا مضطرة، وحدثته بما كان من الجوهري، وتوسلت إليه أن يمهلها أربعة أيام، وبعد تردد قال لها: لا بأس، أنتظر ثلاثة أيام أخر، والاجتماع يكون في هذا المكان بعينه، ولكن إذا مضى هذا الموعد فلست أبالي أن أفضحك ووالدتك معا. فابتعدت عنه مسرعة، أما هو فخرج من الكنيسة بعد هنيهة.
الفصل الرابع
وفي ذلك المساء تعشى بعض الأصدقاء في بيت الأميرال دي لامارش، وكانت بينهم الدوقة دي لوقا وأخوها، فلما كانت الساعة الحادية عشرة بعد تناول الشاي، ذهب الضيوف، وكانت الدوقة دي لوقا تقيم في الطبقة الأولى من المنزل، فصعدت إليها وقالت لأخيها: اصعد معي، وكانت عادته أن يلحق بإخوانه من محبي الطرب، فقال لها: يوجد من ينتظرني. قالت: قلت لك اصعد؛ فلي كلام معك!
ومعلوم أن الأخت كانت الآمرة وهو المطيع، فصعد معها، فلما انفردا جعلت تتمشى في المخدع وهو جالس، فقال: الظاهر أن الأمور على غير ما تحبين يا أخية؟ فوقفت أمامه وقالت بغيظ وحنق: قضي الأمر، فما عدت أقيم ها هنا.
أجاب: لم أفهم مرادك.
قالت: إذن فاسمع ما دمت راغبا في معرفة الأسباب. فأنت تدري لماذا انتقلنا من المنزل الأول إلى هنا؟ أجاب: بلا شك؛ لأنني كنت صاحب هذه الفكرة، وكنت أنت عاشقة لحاكم بوندشيري، أي الكونت دي موري.
قالت: بل كنت مفتونة به، ومجنونة، ولا أزال!
قال: إذن فالوقح لا يحفل بهواك! فلم يهن عليها سماع هذا الكلام، وقالت: يا لك من بليد، فإن الكونت دي موري يشعر بمثل كلفي به؛ بل ربما كان أشد عشقا مني.
نامعلوم صفحہ
قال: إذن لم أفهم السبب في عزمك اليوم على الانتقال من هنا وأنت محبة محبوبة، ولم يبق إلا أن تتمتعي بالهناء.
قالت: هيهات! فأنت لا تعرف هؤلاء الأغبياء الذين يدعون شرفاء ونبلاء ! نعم، إن دي موري مفتون بي، وقد أقر لي بهواه منذ أول يوم في ساعة دهش واسترسال، لكنه منذ ذلك اليوم قضى على شفتيه فانطبقتا، وقد يختنق ولا يفتحهما؛ لأنه إذا فتحهما لا بد أن تنطقا بعبارات الهوى والغرام.
قال: لله دره من رجل فاضل إذا صدق ظنك!
قالت: بل كن واثقا بأنه يهواني هوى شغل لبه وقلبه، إلا أن روابط الأنظمة الاجتماعية البالية، وكذلك احترامه لزوجته يبعده عني، وإنني لأبغضها لأنها زوجته، وأرى أنه يحق لها أن تحبه كما أنه يحق له أن يحبها، فكيف العمل؟ فتناول يدها وقال: واحسرتاه عليك يا أخية، فهل تريدين أن أكون لك نصيرا؟
قالت: وما عسى أن تفعل؟
أجاب: لا أقل من أن أزوجك الرجل الذي تحبينه، فحملقت إليه البصر وقالت: ولكن ذلك مستحيل. قال: لماذا؟
أجابت: لأنه متزوج.
قال: ولكن يمكن أن تزول زوجته من طريقك.
قالت: أتقتلها؟ أتقدم على قتلها لأجلي؟
أجاب: على رسلك، فلا تتعجلي، وهل أنا ممن يقتل الناس؟ لا ليس ذلك ما أردته ... ولكن يوجد وسيلة أخرى هي الطلاق.
نامعلوم صفحہ
قالت: الطلاق؟
أجاب: نعم، وأنت تعلمين أن للطلاق شأنا في هذه الديار، وأي شأن، ويزعمون أن نصف ما يسمونه العالم المتمدن راغب في الطلاق للاقتران بالنصف الآخر.
فاضطربت وقالت: صدقت، فلا يسعفني شيء مثل الطلاق، ولكن لا بد له من سبب، وتلك المرأة التي أحتقرها لها سياج منيع من العفاف والصيانة فلا يمكن طلاقها.
قال: وما رأيك في برهان على أنها ليست كما تعتقدين؟
قالت: زدني بيانا. - إن الكونتة دي موري تعشق رجلا غير زوجها. - وكيف ذلك؟ وهل من برهان؟ - لولا وجود برهان دامغ لما كاشفتك بهذا الأمر. فمنذ أربعة أيام كنت خارجا من المنزل فأبصرت امرأة تمشي مستعجلة، وعرفت أنها الكونتة دي موري، فقلت في نفسي إلى أين تمضي؟ فتتبعتها حتى دخلت بيتا حقيرا في زقاق ضيق قذر، فلبثت فيه ساعتين، ثم خرجت وعيناها حمراوان، والظاهر أنها بكت كثيرا في أثناء هذه الزيارة.
قالت: تقول إن ذلك كان منذ أربعة أيام؟ أجاب: نعم.
قالت: إذا لم أكن مخطئة فإن الكونتة زعمت في ذلك اليوم أنها متألمة، ولم تجلس إلى مائدة العشاء.
أجاب: نعم، وفي صباح اليوم التالي خرجت من المنزل وفي يدها كيس صغير، فركبت مركبة إلى شارع «لابيه» ودخلت في حانوت الجوهري سميث، وفي اليوم التالي بعد الظهر، أعني في هذا اليوم، قصدت كنيسة سن جرمين، فهل تعرفينها؟ إنها من أجمل الكنائس. قالت: وماذا يعنيني من أمرها؟
أجاب: وأنا لا يعنيني أمرها أبدا، ولكنني رأيت الكونتة قد ذهبت إليها وانزوت في إحدى زواياها مع شاب يحمل رسائل غرامية، يظهر أنها خطيرة جدا، لأن فيها ما يمس أسرة الكونتة، وقد طلب منها ثمنها؛ مائة ألف فرنك.
قالت: وهل دفعت له الكونتة ذلك القدر الكبير من المال؟ ... أجاب: لا، ولكنها كانت قد وعدته ولم تنجز وعدها، فسخط وتوعدها، وظهر لي أنها رعبت من وعيده رعبا شديدا.
نامعلوم صفحہ
قالت: ولكن لا بد أن يكون ذلك الشاب وغدا ذميما.
أجاب: لا شك! ولكن لذلك الوغد الذميم فضل عليك، وقد كانت الكونتة تتوسل أن يمهلها يومين لتعود حاملة إليه ذلك المال ثم انصرفت، فما رأيك في هذه القصة؟ فارتعدت جرجونة وقالت: إذا صح ما تقوله فإني أستبدل تاج الدوقة بتاج الكونتة قبل انقضاء ثلاثة شهور من تاريخ اليوم، وسوف أدعى الكونتة دي موري.
وقد اختصرنا هذه المحادثة التي دامت هزيعا من الليل، ولما فارق الرجل شقيقته عاهدته على أن تجيبه إلى أول طلب يطلبه منها مكافأة له على هذه اليد التي أسداها إليها، وحاولت أن تفهم غرضه، فقال لها: عندي مشروع لم يتم بعد، وسوف أطلعك عليه فتساعدينني كما أساعدك، وبعد ظهر اليوم التالي بعثت تطلب مقابلة الكونت دي موري، فقالت له: إني دعوتك للنظر في حالة لا تلائم منزلتي، فلا بد من افتراقنا. فلم يتمالك برغم وفائه لزوجته من أن يرتجف هوى وصبابة، وخيل له أنه مصاب بالدوار، ولكنه تجلد وقال لها: إن هذا الفراق الذي تكلمينني عنه يورثني شجنا عظيما، وثقي أن زوجتي الكونتة تشاركني في ذلك الشجن.
ونهض يريد الانصراف، فقالت له: لا تكلمني عن الكونتة دي موري، ولا تدعني أفتكر في هذه المرأة التي تكرهني لأنني أحبك ... والتي أكرهها أنا كذلك، ولا أدري لماذا؟ ولكن يسوءني منك سكوتك عند انكساري وذلي، فلماذا لا تريد أن تقر لي بالهوى؟ أولست حرة الفؤاد؟
أجاب: بلى، ولكنني أنا لست بحر الفؤاد، وإقراري لك بالهوى يجب أن يسوءك، كما يعد خيانة مني للتي لا تريدين أن أكلمك عنها!
قالت: إذن لماذا تنم حركاتك وسكناتك عن ذلك الإقرار؟ إني لأشعر به في عينيك إذ تتقدان، ويديك إذ ترتعدان ونفسك إذ يحترق، ولا شيء فيك صامت إلا فمك، على أن شفتيك تكذبان بصمتهما وهو أفصح من كل كلام.
فأجابها: لئن كذبت شفتاي فإنهما تأتمران بأمر نفس لا تخون زوجة بريئة من كل عيب، وفية كل الوفاء.
قالت: كفى، فلا تكلمني عن وفائها ... فصاح: هل تدرين أن في جملتك هذه التي نطقت بها وشاية كاذبة فظيعة؟
أجابت: ليس ما أقوله بوشاية؛ بل هي تهمة صادقة عرفتها من أخي.
قال: لا بد لك الآن من إيضاح ما تعرفينه أو ما تظنين أنك تعرفينه، وقبض على يد جرجونة بعنف وقال لها: تكلمي.
نامعلوم صفحہ
فتخلصت منه وصاحت: كلا، لست أتكلم؛ لأنك ستقتلها إذا أنا تكلمت بما عرفت، فتراجع عنها مرعوبا ساخطا، وصاح: تقولين إنني أقتلها؟ إذن هي تخدعني حقا! كلا، لا أصدق هذه التهمة.
قالت: لا بأس فقد كذبت لأمتحن حبك، ووشيت بامرأة بريئة لأعرف ما تفعله بمجرمة. أردت أن أسبر غور فؤادك لأعلم منزلتي منه إذا قضى الزمان بأن أحتل موضع زوجتك، والآن عرفت ما كنت أروم معرفته، فيمكنك أن تذهب ولن نلتقي بعد اليوم.
فقال الكونت في نفسه: لا تخلو هذه الوشاية من شيء، وللحال عمد إلى وسيلة أخرى، فقال: إنك إن أردت أن تعرفي ماذا يحدث إذا خلا موضع الكونتة من فؤادي، فاسمعي! إني من الرجال الذين لا يحتملون أن يخونوا أو يخانوا، وأنت أدرى الناس بوفائي لزوجتي، ولكن إذا قضي عليها ذات يوم بأن تزل بها القدم فلا يبقى لها في قلبي شيء من الأسف أو التذكر، ولأقطعن الرابطة التي تجمع بيني وبينها! وكانت هذه المحادثة العنيفة دائرة بينهما وهما يقتربان إلى النافذة اتفاقا دون قصد، وهي مشرفة على إيوان المنزل، وقد ضرب الباب ودخل الجوهري سميث، فلم تتردد جرجونة، بل قالت: إن أردت معرفة الحقيقة فعليك بمقابلة هذا الرجل فإنه قادر على إيضاحها لك. فأطل الكونت من النافذة وقال: إنه الجوهري سميث، ورفع الجوهري رأسه فعرف الكونت وحياه من بعد، فأشار إليه أن اصعد فلي كلام معك.
ثم اطبق النافذة واستدعى خادما فأمره بأن يوصل إليه الجوهري، ثم انثنى إلى الدوقة فقال لها، أرجو منك أن توضحي الآن كيف وصل السر الهائل الذي ترفضين أن تبوحي لي به إلى هذا الجوهري؟
فأجابته قائلة: إن المسيو سميث يحمل مائة ألف فرنك إلى زوجتك التي رهنت عنده حليها؛ لتبتاع بثمنها رسائل كتبتها فيما مضى.
فانحنى أمامها وقال لها: إذا كان ما ذكرته لي صدقا فإنك حكمت على الكونتة، وإن كان كذبا فإنك حكمت على أخيك، ولئن سلم شرف الكونتة دي موري من التهمة فاعلمي أنني سأقتل أخاك أنيبال بلميري غدا، والآن أطلب منك أن تدعيني أفعل ولا تخالفيني فيما أقوله لهذا الشاهد توصلا إلى معرفة الحقيقة.
ثم اتجه إلى البهو ففتح الباب ودعا إليه الجوهري، فجلس، فقال له: لا بد أنك تلاحظ انفعالي، وما ذلك إلا لاطلاعي على سر خطير لك دخل فيه ...
قال: وكيف ذلك؟
أجاب: نعم ... لكنني نسيت أن أعرفك بالدوقة دي لوقا. قال: لقد تشرفت بمعرفتها حين زارت حانوتي مرارا، وابتاعت بعض الحلي.
قال: إذن بقي علي أن أقول لك إن الدوقة التي هي صديقة الزوجين وصاحبة سرها في الأعمال الخيرية، أنبأتني الآن أن الكونتة قد أودعتك بعض حليها للحصول على مائة ألف فرنك تعيرها إياها، فظنت الدوقة أنها تحسن صنعا إلى صديقتها إذا أطلعتني على ما كان؛ لأن زوجتي تكتم مبراتها وحسناتها.
نامعلوم صفحہ