{بسم الله الرحمن الرحيم هل أتى على الإنسن حين من الدهر لم يكن شيا مذكورا} {إنا خلقنا الإنسن من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعا بصيرا} {إنا هدينه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} {إنا أعتدنا للكفرين سلسلا وأغللا وسعيرا} {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} {فوقىهم الله شر ذلك اليوم ولقىهم نضرة وسرورا} {وجزىهم بما صبروا جنة وحريرا} {متكين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} {ودانية عليهم ظللها وذللت قطوفها تذليلا} {ويطاف عليهم بانية من فضة وأكواب كانت قواريرا} {قواريرا من فضة قدروها تقديرا} {ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا} {عينا فيها تسمى سلسبيلا} {ويطوف عليهم ولدن مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا} {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} {عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقىهم ربهم شرابا طهورا} {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} {إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا} {فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا} {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} {ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا} {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} {نحن خلقنهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثلهم تبديلا} {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} {يدخل من يشاء فى رحمته والظلمين أعد لهم عذابا أليما}
في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جدا، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية في نظرنا هو احتمال ضعيف جدا، يمكن عدم اعتباره! والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء.. وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئا مذكورا في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟ }.. تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا }.. ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }.. وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة، بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }.. وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد: { يوفون بالنذر، ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنا نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا }. . ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لا يريدون شكورا من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير! تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد: { فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا. متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا، عينا فيها تسمى سلسبيلا. ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا. وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا. عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا }. فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود، اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة في وجه الإعراض والكفر والتكذيب وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا }.. ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا. نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا. إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا. وما تشآءون إلا أن يشآء الله، إن الله كان عليما حكيما. يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما }.. تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة، على أساس الابتلاء، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليبتلى، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء. وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم، وهو نعيم حسي في جملته، ومعه القبول والتكريم، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية، شديدي التعلق بمتاع الحواس، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم، ويثير تطلعهم ورغبتهم. وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم. وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال. { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }.. هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه: ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئا من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة ، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئا مذكورا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا؟ إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام. وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى: واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء. يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان.. كيف تراه كان؟.. والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال. ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى " الإنسان ".. حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان! وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني. وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل! وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود؛ وتعده لدوره، وتعد له دوره، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكنا وميسورا؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير! وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى، يطلقها هذا النص في الضمير.. ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير. فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا }.. والأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح. وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علميا " الجينات " وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولا ولصفات الجنين العائلية أخيرا. وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر. كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة.. ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى.. خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج، لا عبثا ولا جزافا ولا تسلية، ولكنه خلق ليبتلى ويمتحن ويختبر. والله سبحانه يعلم ما هو؟ وما اختباره؟ وما ثمرة اختباره؟ ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود، وأن تتبعه آثاره المقدرة. ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه. ومن ثم جعله سميعا بصيرا. أي زوده بوسائل الإدراك، ليستطيع التلقي والاستجابة. وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار. ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار.. وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها، وهي خلقته من نطفة أمشاج.. كانت وراءها حكمة. وكان وراءها قصد. ولم تكن فلتة.. كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره. ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة، والمعرفة والاختبار.. وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة.. بمقدار! ثم زوده إلى جانب المعرفة، بالقدرة على اختيار الطريق، وبين له الطريق الواصل. ثم تركه ليختاره، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله: { إنا هديناه السبيل: إما شاكرا وإما كفورا }.. وعبر عن الهدى بالشكر. لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئا مذكورا، فأراد ربه له أن يكون شيئا مذكورا. ووهب له السمع والبصر. وزوده بالقدرة على المعرفة. ثم هداه السبيل. وتركه يختار.. الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة. فإذا لم يشكر فهو الكفور.. بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران. ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث. ويدرك أنه مخلوق لغاية. وأنه مشدود إلى محور. وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها. وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء. فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض، لا في فترة لعب ولهو وإهمال! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده، ومن شعوره بحقيقة وجوده، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام. ومن ثم يأخذ في عرض ما ينتظر الإنسان بعد الابتلاء، واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران. فأما ما ينتظر الكافرين، فيجمله إجمالا، لأن ظل السورة هو ظل الرخاء الظاهر في الصورة والإيقاع. وظل الهتاف المغري بالنعيم المريح. فأما العذاب فيشير إليه في إجمال: { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا }.. سلاسل للأقدام، وأغلالا للأيدي، ونارا تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين! ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم: { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }.. وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيرا، في كثرة ووفرة.. وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حينا وبالزنجبيل حينا زيادة في التلذذ بها، فها هم أولاء يعلمون أن في الجنة شرابا طهورا ممزوجا بالكافور، على وفر وسعة. فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعا للذة المتاع هناك. فهي أوصاف للتقريب. يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب. والتعبير يسميهم في الآية الأولى { الأبرار } ويسميهم في الآية الثانية { عباد الله }.. إيناسا وتكريما وإعلانا للفضل تارة، وللقرب من الله تارة، في معرض النعيم والتكريم. ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع: { يوفون بالنذر، ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا }.. وهي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة، مع رحمة ندية بعباده الضعاف، وإيثار على النفس، وتحرج وخشية لله، ورغبة في رضاه، وإشفاق من عذابه تبعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل. { يوفون بالنذر } فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات، وما التزموا من الواجبات. فهم يأخذون الأمر جدا خالصا لا يحاولون التفلت من تبعاته، ولا التفصي من أعبائه، ولا التخلي عنه بعد اعتزامه. وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر. فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة { النذر }. { ويخافون يوما كان شره مستطيرا }.. فهم يدركون صفة هذا اليوم، الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين. فيخافون أن ينالهم شيء من شره. وهذه سمة الأتقياء، الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف، الخائفين من التقصير والقصور، مهما قدموا من القرب والطاعات. { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا }.. وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلا في إطعام الطعام، مع حبه بسبب الحاجة إليه. فمثل هذه القلوب لا يقال عنها: إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم. إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام، ولكنها تؤثر به المحاويج. وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين؛ وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف؛ وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير. فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة. وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس، ورحمة قلب، وخلوص نية. واتجاه إلى الله بالعمل، يحكيه السياق من حالهم، ومن منطوق قلوبهم. { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا }.. فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوما عبوسا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وهو يقول: " اتق النار ولو بشق تمرة ". وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة! ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين. إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين. ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم. { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا }.. يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه، ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه! ويذكر أنهم تلقوا من الله نضرة وسرورا، لا يوما عبوسا قمطريرا. جزاء وفاقا على خشيتهم وخوفهم، وعلى نداوة قلوبهم ونضرة مشاعرهم. ثم يمضي بعد ذلك في وصف مناعم الجنة التي وجدوها: { وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا }.. جنة يسكنونها وحريرا يلبسونه. { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا }.. فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر، ندي في غير برد. فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير وهو البرد القارس! ولنا أن نقول: إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها. . وكفى! { ودانية عليهم ظلالها. وذللت قطوفها تذليلا }.. وإذا دنت الظلال ودنت القطوف فهي الراحة والاسترواح على أمتع ما يمتد إليه الخيال! فهذه هي الهيئة العامة لهذه الجنة التي جزى الله بها عباده الأبرار الذين رسم لهم تلك الصورة المرهفة اللطيفة الوضيئة في الدنيا.. ثم تأتي تفصيلات المناعم والخدمات.. { ويطاف عليهم بآنية من فضة، وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا. عينا فيها تسمى سلسبيلا }.. فهم في متاعهم. متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق.. يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة، وفي أكواب من فضة كذلك، ولكنها شفة كالقوارير، مما لا تعهده الأرض في آنية الفضة، وهي بأحجام مقدرة تقديرا يحقق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور. وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا، لشدة عذوبتها واستساغتها لدى الشاربين! وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب بالشراب هم غلمان صباح الوجوه، لا يفعل فيهم الزمن، ولا تدركهم السن؛ فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة. وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور: { ويطوف عليهم ولدان مخلدون، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا }.. ثم يجمل السياق خطوط المنظر، ويلقي عليه نظرة كاملة تلخص وقعه في القلب والنظر: { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا }.. نعيما وملكا كبيرا. هو الذي يعيش فيه الأبرار المقربون عباد الله هؤلاء، على وجه الإجمال والعموم! ثم يخصص مظهرا من مظاهر النعيم والملك الكبير؛ كأنه تعليل لهذا الوصف وتفسير: { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا }.. والسندس الحرير الرقيق، والإستبرق الحرير السميك المبطن.. وهم في هذه الزينة وهذا المتاع، يتلقونه كله من { ربهم } فهو عطاء كريم من معط كريم.. وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم! ثم يتلقون عليه الود والتكريم: { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا }.. يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى. وهو يعدل هذه المناعم كلها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها.. وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب، الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير.. وهما طريقان. طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير! وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة، فيساومون عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لعله يكف عنها، أو عما يؤذيهم منها. وبين المساومة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتنة المؤمنين به وإيذائهم، والصد عن سبيل الله، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم. . بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا }.. وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية. حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلا، وأن يتعمقوها تعمقا كاملا، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده. وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة. ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا. فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة. إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة، التي شهدت بها الروايات التاريخية، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى.. كانت المكانة الاجتماعية، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية.. هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة.. ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات؛ ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق. وهذه الأسباب سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح، وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية، وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى، وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل. وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة، التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب؛ وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف. ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلا في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات، وملابسات نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله، في أي أرض وفي أي زمان! لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التكليف من ربه لينذر، وقيل له: يا أيها المدثر. قم فأنذر فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة، وتثير في نفوسهم التشبث بما هم عليه على شعورهم بوهنه وهلهلته وتقودهم إلى العناد الشديد، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم. ومألوف حياتهم، ولذائذهم وشهواتهم.. إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد. وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد. ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والأساليب. كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد. فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم طرقا شتى من الإغراء إلى جانب التهديد والإيذاء ليلتقي بهم في منتصف الطريق؛ ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم؛ ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة. وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل! والنبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه رسول، حفظه الله من الفتنة، وعصمه من الناس.. إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف. والله يعلم منه هذا، فلا يدعه وحده، ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق. وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا }. وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة، وينبوع حقيقتها.. إنها من الله. هو مصدرها الوحيد. وهو الذي نزل بها القرآن. فليس لها مصدر آخر، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع. وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه، ولا يستمد منه، ولا يستعار لهذه العقيدة منه شيء، ولا يخلط بها منه شيء.. ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها. ولن يترك الداعي إليها، وهو كلفه، وهو نزل القرآن عليه. ولكن الباطل يتبجح، والشر ينتفش، والأذى يصيب المؤمنين، والفتنة ترصد لهم؛ والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه! ثم هم يعرضون المصالحة، وقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق.. وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصبية! هنا تجيء اللفتة الثانية: { فاصبر لحكم ربك، ولا تطع منهم آثما أو كفورا }.. إن الأمور مرهونه بقدر الله. وهو يمهل الباطل، ويملي للشر، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص.. كل أولئك لحكمة يعلمها، يجري بها قدره، وينفذ بها حكمه.. { فاصبر لحكم ربك }. . حتى يجيء موعده المرسوم.. اصبر على الأذى والفتنة. واصبر على الباطل يغلب، والشر يتنفج. ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك. اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: { ولا تطع منهم آثما أو كفورا }.. فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير. فهم آثمون كفار. يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان، وباسم شهوة المال، وباسم شهوة الجسد. فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء، حتى يكون أغنى من أغناهم، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات، حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له: " ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي، فإني من أجمل قريش بنات! ".. كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل! { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا }.. فإنه لا لقاء بينك وبينهم؛ ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم، وتصورك للوجود كله عن تصورهم، وحقك عن باطلهم، وإيمانك عن كفرهم، ونورك عن ظلماتهم، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم! اصبر ولو طال الأمد، واشتدت الفتنة وقوي الإغراء، وامتد الطريق.. ولكن الصبر شاق، ولا بد من الزاد والمدد المعين: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا }. هذا هو الزاد. اذكر ربك في الصباح والمساء، واسجد له بالليل وسبحه طويلا.. إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن، وكلفك الدعوة، هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد.. والاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا.. ليلا طويلا.. فالطريق طويل، والعبء ثقيل. ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير. وهو هناك حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلع وفي أنس، تفيض منه الراحة على التعب والضنى، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة. وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة. فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق! إن الله رحيم، كلف عبده الدعوة، ونزل عليه القرآن، وعرف متاعب العبء، وأشواك الطريق. فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد. وهذا هو المدد الذي يعلم سبحانه أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك.. وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. فهي دعوة واحدة. ملابساتها واحدة. وموقف الباطل منها واحد، وأسباب هذا الموقف واحدة . ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله. فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق. والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله. فهو صاحبها. وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار. فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل. فهما نهجان مختلفان، وطريقان لا يلتقيان. فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم، لحكمة يراها الله.. فالصبر حتى يأتي الله بحكمه. والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ليلا طويلا هي الزاد المضمون لهذا الطريق.. .. إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق.. ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الجاهلية. بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم، ومن تفاهة اهتماماتهم، وصغر تصوراتهم.. يقول: { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا }.. إن هؤلاء، القريبي المطامح والاهتمامات، الصغار المطالب والتصورات.. هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا. ثقيلا بتبعاته. ثقيلا بنتائجه. ثقيلا بوزنه في ميزان الحقيقة.. إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق؛ ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة، من ثراء وسلطان ومتاع، فإنما هي العاجلة، وإنما هو المتاع القليل، وإنما هم الصغار الزهيدون! ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم. فهم يختارون العاجلة، ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير، بعد الحساب العسير! فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون. إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل. يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم. ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم: { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا }.. وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم، بمصدر هذه القوة، بل مصدر وجودهم ابتداء. ثم تطمئن الذين آمنوا وهم في حالة الضعف والقلة إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته. كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا }.. فهم لا يعجزون الله بقوتهم، وهو خلقهم وأعطاهم إياها. وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم.. فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته.. ومن هنا تكون الآية استطرادا في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ وتقريرا لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين.. كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة، المغترين بقوة أسرهم، ليذكروا نعمة الله، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة. وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة. ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم، والقرآن يعرض عليهم، وهذه السورة منه تذكرهم: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا }.. ويعقب على هذه اللفتة بإطلاق المشيئة، ورد كل شيء إليها، ليكون الاتجاه الأخير إليها، والاستسلام الأخير لحكمها؛ وليبرأ الإنسان من قوته إلى قوتها، ومن حوله إلى حولها.. وهو الإسلام في صميمه وحقيقته: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما }.. ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار، المتصرف القهار، فتتعلم كيف تتجه إليه وتستسلم لقدره.. وهذا هو مجال هذه الحقيقة الذي تجري فيه في مثل هذه النصوص. مع تقرير ما شاءه الله لهم من منحهم القدرة على إدراك الحق والباطل، والاتجاه إلى هذا أو ذاك وفق مشيئة الله، العليم بحقيقة القلوب، وما أعان به العباد من هبة الإدراك والمعرفة ، وبيان الطريق، وإرسال الرسل، وتنزيل القرآن.. إلا أن هذا كله ينتهي إلى قدر الله، الذي يلجأ إليه الملتجئ، فيوفقه إلى الذكر والطاعة، فإذا لم يعرف في قلبه حقيقة القدرة المسيطرة، ولم يلجأ إليها لتعينه وتيسره، فلا هدى ولا ذكر، ولا توفيق إلى خير.. ومن ثم فهو: { يدخل من يشاء في رحمته، والظالمين أعد لهم عذابا أليما }.. فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد. ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء، ممن يلتجئون إليه، يطلبون عونه على الطاعة، وتوفيقه إلى الهدى.. { والظالمين أعد لهم عذابا أليما }. وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم! وهذا الختام يلتئم مع المطلع، ويصور نهاية الابتلاء، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج، ووهبه السمع والأبصار، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار..
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-50]
{بسم الله الرحمن الرحيم والمرسلت عرفا} {فالعصفت عصفا} {والنشرت نشرا} {فالفرقت فرقا} {فالملقيت ذكرا} {عذرا أو نذرا} {إنما توعدون لوقع} {فإذا النجوم طمست} {وإذا السماء فرجت} {وإذا الجبال نسفت} {وإذا الرسل أقتت} {لأى يوم أجلت} {ليوم الفصل} {وما أدرىك ما يوم الفصل} {ويل يومئذ للمكذبين} {ألم نهلك الأولين} {ثم نتبعهم الءاخرين} {كذلك نفعل بالمجرمين} {ويل يومئذ للمكذبين} {ألم نخلقكم من ماء مهين} {فجعلنه فى قرار مكين} {إلى قدر معلوم} {فقدرنا فنعم القدرون} {ويل يومئذ للمكذبين} {ألم نجعل الأرض كفاتا} {أحياء وأموتا} {وجعلنا فيها روسى شمخت وأسقينكم ماء فراتا} {ويل يومئذ للمكذبين} {انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون} {انطلقوا إلى ظل ذى ثلث شعب} {لا ظليل ولا يغنى من اللهب} {إنها ترمى بشرر كالقصر} {كأنه جملت صفر} {ويل يومئذ للمكذبين} {هذا يوم لا ينطقون} {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} {ويل يومئذ للمكذبين} {هذا يوم الفصل جمعنكم والأولين} {فإن كان لكم كيد فكيدون} {ويل يومئذ للمكذبين} {إن المتقين فى ظلل وعيون} {وفوكه مما يشتهون} {كلوا واشربوا هنيا بما كنتم تعملون} {إنا كذلك نجزى المحسنين} {ويل يومئذ للمكذبين} {كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون} {ويل يومئذ للمكذبين} {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} {ويل يومئذ للمكذبين} {فبأى حديث بعده يؤمنون}
هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة! وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: { ويل يومئذ للمكذبين }! ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد. وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " الرحمن " عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " القمر " عقب كل حلقة من حلقات العذاب: فكيف كان عذابي ونذر؟ وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا.. حادا.. وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة. ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: { والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا }.. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام. وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في " سورة الضحى " وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة " والعاديات ".. وغيرها كثير. وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى! والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: { فإذا النجوم طمست. وإذا السمآء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين! }. والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: { ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين! }. . والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: { ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: { ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أحيآء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتا؟ ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: { هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: { إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: { وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: { فبأي حديث بعده يؤمنون؟ }.. وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن والمكية منها بوجه خاص ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالة جديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة. وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع! والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل: { والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا. فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا: عذرا أو نذرا.. إنما توعدون لواقع }.. القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى المؤكدات في مواضع منه شتى. وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا. فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية. وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا.. ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول. والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع. وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب، وقواه المكنونة، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر. وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها. فقال بعضهم: هي الرياح إطلاقا. وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا. وقال بعضهم: إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة.. مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها. وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله. وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر. { والمرسلات عرفا }.. عن أبي هريرة أنها الملائكة. وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات، والسدي والربيع بن أنس، وأبي صالح في رواية (والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أرسالا متوالية، كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها). وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات.. إنها الملائكة. وروي عن ابن مسعود.. المرسلات عرفا. قال: الريح. (والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها) وكذا قال في العاصفات عصفا والناشرات نشرا. وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية. وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفا هل هي الملائكة أو الرياح. وقطع بأن العاصفات هي الرياح. وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء. وعن ابن مسعود: { فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا } يعني الملائكة. وكذا قال: ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف. فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل. وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار. ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا. وفي النازعات غرقا.. وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها. وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا. وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام. وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها، والظلال المباشرة التي تلقيها. وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها.. وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا، وهو يستجوبه عن ذنب، أو عن آية ظاهرة ينكرها، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد: { ويل يومئذ للمكذبين }.. بعد ذلك تجيء الهزة العنيفة بمشاهد الكون المتقلبة في يوم الفصل الذي هو الموعد المضروب للرسل لعرض حصيلة الرسالة في البشرية جميعا: { فإذا النجوم طمست، وإذا السمآء فرجت، وإذا الجبال نسفت، وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. ومآ أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين }.. يوم تطمس النجوم فيذهب نورها، وتفرج السماء أي تشق، وتنسف الجبال فهي هباء.. وقد وردت مشاهد هذا الانقلاب الكوني في سور شتى من القرآن. وكلها توحي بانفراط عقد هذا الكون المنظور، انفراطا مصحوبا بقرقعة ودوي وانفجارات هائلة، لا عهد للناس بها فيما يرونه من الأحداث الصغيرة التي يستهولونها ويروعون بها من أمثال الزلازل والبراكين والصواعق.. وما إليها.. فهذه أشبه شيء حين تقاس بأهوال يوم الفصل بلعب الأطفال التي يفرقعونها في الأعياد، حين تقاس إلى القنابل الذرية والهيدروجينية! وليس هذا سوى مثل للتقريب. وإلا فالهول الذي ينشأ من تفجر هذا الكون وتناثره على هذا النحو أكبر من التصور البشري على الإطلاق! وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون، تعرض السورة أمرا عظيما آخر مؤجلا إلى هذا اليوم.. فهو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة. دعوة الله في الأرض طوال الأجيال.. فالرسل قد أقتت لهذا اليوم وضرب لها الموعد هناك، لتقديم الحساب الختامي عن ذلك الأمر العظيم الذي يرجح السماوات والأرض والجبال. للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية، والقضاء بحكم الله فيها، وإعلان الكلمة الأخيرة التي تنتهي إليها الأجيال والقرون.. وفي التعبير تهويل لهذا الأمر العظيم، يوحي بضخامة حقيقته حتى لتتجاوز مدى الإدراك: { وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟ }.. وظاهر من أسلوب التعبير أنه يتحدث عن أمر هائل جليل. فإذا وصل هذا الإيقاع إلى الحس بروعته وهوله، الذي يرجح هول النجوم المطموسة والسماء المشقوقة والجبال المنسوفة. ألقى بالإيقاع الرعيب، والإنذار المخيف: { ويل يومئذ للمكذبين! }.. وهذا الإنذار من العزيز الجبار، في مواجهة الهول السائد في الكون، والجلال الماثل في مجلس الفصل بمحضر الرسل. وهم يقدمون الحساب الأخير في الموعد المضروب لهم.. هذا الإنذار في هذا الأوان له طعمه وله وزنه وله وقعه المزلزل الرهيب.. ويعود بهم من هذه الجولة في أهوال يوم الفصل، إلى جولة في مصارع الغابرين: الأولين والآخرين.. { ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين! }. هكذا في ضربة واحدة تتكشف مصارع الأولين وهم حشود. وفي ضربة واحدة تتكشف مصارع الآخرين وهم حشود. وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء. وأمامها ينطلق الوعيد ناطقا بسنة الله في الوجود: { كذلك نفعل بالمجرمين }! فهي السنة الماضية التي لا تحيد.. وبينما المجرمون يتوقعون مصرعا كمصارع الأولين والآخرين، يجيء الدعاء بالهلاك، ويجيء الوعيد بالثبور: { ويل يومئذ للمكذبين }.. ومن الجولة في المصارع والأشلاء، إلى جولة في الإنشاء والإحياء، مع التقدير والتدبير، للصغير وللكبير: { ألم نخلقكم من مآء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين }.. وهي رحلة مع النشأة الجنينية طويلة عجيبة، يجملها هنا في لمسات معدودة. ماء مهين. يودع في قرار الرحم المكين. إلى قدر معلوم وأجل مرسوم. وأمام التقدير الواضح في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة يجيء التعقيب الموحي بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل: { فقدرنا فنعم القادرون } وأمام التقدير الذي لا يفلت منه شيء يجيء الوعيد المعهود: { ويل يومئذ للمكذبين }.. ثم جولة في هذه الأرض، وتقدير الله فيها لحياة البشر، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة: { ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أحيآء وأمواتا؟ وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتا؟ ويل يومئذ للمكذبين }.. ألم نجعل الأرض كفاتا تحتضن بنيها أحياء وأمواتا. { وجعلنا فيها رواسي شامخات } ثابتات سامقات، تتجمع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب. أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير، وحكمة وتدبير؟ أفبعد هذا يكذب المكذبون؟: { ويل يومئذ للمكذبين! }.. وعندئذ بعد عرض تلك المشاهد، وامتلاء الحس بالتأثرات التي تسكبها في المشاعر ينتقل السياق فجأة إلى موقف الحساب والجزاء. فنسمع الأمر الرهيب للمجرمين المكذبين، ليأخذوا طريقهم إلى العذاب الذي كانوا به يكذبون، في تأنيب مرير وإيلام عسير: { انطقلوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب. لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين ! }.. اذهبوا طلقاء بعد الارتهان والاحتباس في يوم الفصل الطويل. ولكن إلى أين؟ إنه انطلاق خير منه الارتهان.. { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون }.. فها هو ذا أمامكم حاضر مشهود. { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب }.. إنه ظل لدخان جهنم تمتد ألسنته في ثلاث شعب. ولكنه ظل خير منه الوهج: { لا ظليل ولا يغني من اللهب }.. إنه ظل خانق حار لافح. وتسميته بالظل ليست إلا امتدادا للتهكم، وتمنية بالظل تتكشف عن حر جهنم! انطلقوا. وإنكم لتعرفون إلى أين! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها. فلا حاجة إلى ذكر اسمها.. { إنها ترمي بشرر كالقصر. كأنه جماله صفر }.. فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر. (وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور) فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر؟! وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود: { ويل يومئذ للمكذبين! }. ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم، بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم.. { هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون }.. فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب، والكبت الرعيب، والخشوع المهيب، الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار. فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار: { ويل يومئذ للمكذبين }!.. وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم.. واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامته الرهيبة، لمناسبة في الموقف وظل في السياق. { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار. وقد جمعناكم والأولين أجمعين. فإن كان لكم تدبير فدبروه، وإن كان لكم قدرة على شيء فافعلوه! ولا تدبير ولا قدرة. إنما هو الصمت الكظيم، على التأنيب الأليم.. { ويل يومئذ للمكذبين! }.. فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين ، اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين: { إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين! }.. إن المتقين في ظلال.. ظلال حقيقية في هذه المرة! لا ظل ذي ثلاث لا ظليل ولا يغني من اللهب! وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور: { وفواكه مما يشتهون }.. وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع: { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين } ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم { ويل يومئذ للمكذبين! }.. يقابل هذا النعيم والتكريم! وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق. فإذا نحن في الأرض مرة أخرى. وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين! { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين، وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان، وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان. فبينما كان الخطاب موجها للمتقين في الآخرة، إذا هو موجه للمجرمين في الدنيا. وكأنما ليقال لهم: اشهدوا الفارق بين الموقفين.. وكلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار، لتحرموا وتعذبوا طويلا في تلك الدار.. { ويل يومئذ للمكذبين! }. ثم يتحدث معجبا من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين! }.. مع أنهم يبصرون هذا التبصير، وينذرون هذا النذير.. { فبأي حديث بعده يؤمنون؟ }.. والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال، لا يؤمن بحديث بعده أبدا. إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس، والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس! إن السورة بذاتها، ببنائها التعبيري، وإيقاعها الموسيقي، ومشاهدها العنيفة، ولذعها الحاد.. إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب، ولا يتماسك لها كيان. فسبحان الذي نزل القرآن، وأودعه هذا السلطان!
[80 - سورة عبس]
[80.1-42]
{بسم الله الرحمن الرحيم عبس وتولى} {أن جاءه الأعمى} {وما يدريك لعله يزكى} {أو يذكر فتنفعه الذكرى} {أما من استغنى} {فأنت له تصدى} {وما عليك ألا يزكى} {وأما من جاءك يسعى} {وهو يخشى} {فأنت عنه تلهى} {كلا إنها تذكرة} {فمن شاء ذكره} {فى صحف مكرمة} {مرفوعة مطهرة} {بأيدى سفرة} {كرام بررة} {قتل الإنسن ما أكفره} {من أى شىء خلقه} {من نطفة خلقه فقدره} {ثم السبيل يسره} {ثم أماته فأقبره} {ثم إذا شاء أنشره} {كلا لما يقض ما أمره} {فلينظر الإنسن إلى طعامه} {أنا صببنا الماء صبا} {ثم شققنا الأرض شقا} {فأنبتنا فيها حبا} {وعنبا وقضبا} {وزيتونا ونخلا} {وحدائق غلبا} {وفكهة وأبا} {متعا لكم ولأنعمكم} {فإذا جاءت الصاخة} {يوم يفر المرء من أخيه} {وأمه وأبيه} {وصحبته وبنيه} {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} {وجوه يومئذ مسفرة} {ضاحكة مستبشرة} {ووجوه يومئذ عليها غبرة} {ترهقها قترة} {أولئك هم الكفرة الفجرة}
هذه السورة قوية المقاطع، ضخمة الحقائق، عميقة اللمسات، فريدة الصور والظلال والإيحاءات، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء. يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حواث السيرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعبس وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم عتابا شديدا؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها: { عبس وتولى أن جآءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى! وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة، فمن شآء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة }.. ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه، وهو يذكره بمصدر وجوده، وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولي ربه له في موته ونشره؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره: { قتل الإنسان مآ أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شآء أنشره، كلا! لما يقض مآ أمره }.. والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمس الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه. وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له، كتدبيره وتقديره في نشأته: { فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، متاعا لكم ولأنعامكم }.. فأما المقطع الأخير فيتولى عرض { الصاخة } يوم تجيء بهولها، الذي يتجلى في لفظها، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها: { فإذا جآءت الصآخة. يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة }.. إن استعراض مقاطع السورة وآياتها على هذا النحو السريع يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير. فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها. وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى. { عبس وتولى. أن جآءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ أما من استغنى فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة، فمن شآء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة }.. إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيبا على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد. وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض. هذه الحقيقة ليست هي مجرد: كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جدا، وأعظم من هذا جدا. إنها: كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟ والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي: أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا بموضوعات حياتهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات. وهو أمر عظيم جدا، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات. ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس. كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه: إن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها، تجعل الأمر الذي يحتاج منها كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض، بمناسبة هذا الحادث المفرد. . أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله.. وهذا هو الأمر العظيم.. إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل، ليقوموا به القيم كلها، هو إن أكرمكم عند الله أتقاكم هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا.. ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى.. فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال، وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية.. اقتصادية وغير اقتصادية.. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض.. ثم يجيء الإسلام ليقول: إن أكرمكم عند الله أتقاكم فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس، العنيفة الضغط على مشاعرهم، الشديدة الجاذبية إلى الأرض. ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء، المعترف بها وحدها في ميزان السماء! ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسب واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي: وهو أن الميزان ميزان السماء، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده! ويجيء الرجل الأعمى الفقير.. ابن أم مكتوم.. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، ومعهم العباس بن عبد المطلب.. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا. بينما يقف الآخرون خارج مكة، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدهم عصبية له، في بيئة جاهلية قبلية، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار. يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار. . يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله.. ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر صلى الله عليه وسلم . وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد. وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب: { كلا! } وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية. فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية! { عبس وتولى. أن جاءه الأعمى }.. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه، عطفا عليه، ورحمة به، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه! ثم يستدير التعبير بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب. فيبدأ هادئا شيئا ما: { وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ }.. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله.. ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب: { أما من استغنى، فأنت له تصدى؟! وما عليك ألا يزكى؟! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! }. . أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة.. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض! { وما عليك ألا يزكى؟ }.. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تنصر به. وأنت لا تقوم بأمره.. { وأما من جاءك يسعى } طائعا مختارا، { وهو يخشى } ويتوقى { فأنت عنه تلهى! }.. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا.. وهو وصف شديد.. ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر: { كلا! }.. لا يكن ذلك أبدا.. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام. ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها، واستغناءها عن كل أحد. وعن كل سند. وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا: { إنها تذكرة. فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعه مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة }.. فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة.. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها.. هذا هو الميزان. ميزان الله. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة. كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل. وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم.. ثم إن الأمر كما تقدم أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال.. وسائر القيم الأخرى، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنففت لحساب الإيمان والتقوى. هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد. ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها، وفي حياة الجماعة المسلمة. بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى. وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث. وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا. أمر لا يقوى عليه إلا رسول، من أي جانب نظرنا إليه في حينه. نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم غير الرسول أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض.. ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة. لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطرا في قيمته.. أن ينطلق الإنسان حقيقة شعورا وواقعا من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر . ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم - كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين. إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب " التقدمية! " أن جانبا واحدا منها هو الأوضاع الاقتصادية هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان.. ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم.. ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية، ولا في المسلمين أنفسهم.. غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع بإرادة الله، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها، حتى تتأصل جذورها وتمتد فروعها، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة.. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه: " أهلا بمن عاتبني فيه ربي " وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة.. ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة. وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة، جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين. وجعل خالد ابن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين! وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤته، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار، فيهم خالد بن الوليد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعهم.. وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم. وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه، وصاحباه، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين. وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم -ومن أسبق قريش إلى الإسلام. وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما-: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعثا أمر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي. وإن هذا لمن أحب الناس إلي ". ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: " سلمان منا أهل البيت " فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل أفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها.. وجعلة من أهل البيت رأسا! ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح رضي الله عنما ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة " يا بن السوداء ".. غضب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا؛ وألقاها في وجهه أبي ذر عنيفة مخيفة: " يا أبا ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل " ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض! ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة! وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة " فقال: ما عملت في الإسلام عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: " ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب " . وقال عنه: " ملئ عمار رضي الله عنه إيمانا إلى مشاشه " . وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار. وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه ". وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله.. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومهم له ". وجليبيب وهو رجل من الموالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها. وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه.. عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: " هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: نعم. فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟ " فقالوا: لا. قال: " لكني أفقد جليبيبا " فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، ثم قال: " قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه. ثم وضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له، ووضع في قبره ولم يذكر غسلا ". بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقا من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض.. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به للناس رسول! وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأول أبو بكر، وصاحبه الثاني عمر.. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول الله، وأعمق اثنين حبا لرسول الله، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه. حفظ أبو بكر رضي الله عنه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل. فيستحي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: " يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن ".. فيقسم الخليفة: " والله لا تنزل. ووالله لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟ ".. ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر. وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة. وأسامة هو الأمير. فلا بد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول: " إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ".. يالله! إن رأيت أن تعينني فافعل.. إنها آفاق عوال. لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله، على يدي رسول من عند الله! ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة. ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال. لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر. فتورم أنف أبي سفيان، ويقول بانفعال الجاهلية: " لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه! ".. فيقول له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام : " أيها القوم. إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟ ". ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: " يا بني. كان زيد رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك! وكان أسامة رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي ".. يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان مقوما بميزان السماء! ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق فيلببه بردائه.. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده.. وخالد لا يرى في هذا كله بأسا. فإنما هو عمار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر رضي الله عنهما هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني بلالا. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه.. وعنه يقول عمر بن الخطاب.. عن بلال.. سيدنا! وعمر هو الذي قال: " ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته " يقول هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا، ولا طلحة ولا الزبير.. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته! وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرسل عمارا والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة رضي الله عنها فيقول: " إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها ".. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعا. وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: " أنا بلال بن رباح، وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا ".. فلا يدلس عليهم، ولا يخفى من أمر أخيه شيئا، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول.. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق.. ويزوجون أخاه، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه! واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. " وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه. وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة ".. وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها.. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها. وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى.. ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة.. وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث، في المقطع الأول من السورة، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان، الذي يعرض عن الهدى، ويستغني عن الإيمان، ويستعلي على الدعوة إلى ربه.. يعجب من أمره وكفره، وهو لا يذكر مصدر وجوده، وأصل نشأته، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه: { قتل الإنسان ما أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره. ثم إذا شاء أنشره. كلا! لما يقض ما أمره }.. { قتل الإنسان! }.. فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه.. فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره. وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته.. { ما أكفره! }.. ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته. ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه، ولتواضع في دنياه، ولذكر آخرته.. وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض.؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه؟ { من أي شيء خلقه؟ }.. إنه أصل متواضع زهيد، يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته، ومن تقديره وتدبيره: { من نطفة خلقه فقدره }.. من هذا الشيء الذي لا قيمة له؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له.. ولكن خالقه هو الذي قدره. قدره. من تقدير الصنع وإحكامه. وقدره: من منحه قدرا وقيمة فجعله خلقا سويا، وجعله خلقا كريما. وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها. { ثم السبيل يسره }.. فمهد له سبيل الحياة. أو مهد له سبيل الهداية. ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات. سواء لرحلة الحياة، أو للاهتداء فيها. حتى إذا انتهت الرحلة، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي. بلا اختيار ولا فرار: { ثم أماته فأقبره }.. فأمره في نهايته كأمره في بدايته، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء، وأنهى حياته حين شاء، وجعل مثواه جوف الأرض، كرامة له ورعاية، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر. وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره. فكان هذا طرفا من تدبيره له وتقديره. حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر: { ثم إذا شاء أنشره }.. فليس متروكا سدى؛ ولا ذاهبا بلا حساب ولا جزاء. . فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد؟ { كلا! لما يقض ما أمره }.. الإنسان عامة، بأفراده جملة، وبأجياله كافة.. لما يقض ما أمره.. إلى آخر لحظة في حياته. وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما. كلا إنه لمقصر، لم يؤد واجبه. لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى.. ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر. ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء.. هو هكذا في مجموعه. فوق أن الكثرة تعرض وتتولى، وتستغني وتتكبر على الهدى! وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد.. فتلك هي نشأة هذا الإنسان.. فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة؟ وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه؟ { فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا المآء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدآئق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم }.. هذه هي قصة طعامه. مفصلة مرحلة مرحلة. هذه هي فلينظر إليها؛ فهل له من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته.. { فلينظر الإنسان إلى طعامه }.. ألصق شيء به، وأقرب شيء إليه، وألزم شيء له.. لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر. لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب. وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته. وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته: { أنا صببنا الماء صبا }.. وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة. فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان. فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهدا من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد. وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر، أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولا في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صبا! وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر: " إذا كان صحيحا أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12,000 درجة. أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض. فعندئذ كانت كل العناصر حرة. ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن. ولما أخذت الكرة الأرضية، أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجيا، حدثت تركيبات، وتكونت خلية العالم كما نعرفه. وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر، وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية. ولا بد أنه كان هائلا في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء. وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء. وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض. ولكنه لم يستطع الوصول إليها. إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال. وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانيا في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان. وتمشى الجيشان مع التفتت.... الخ؟ ". وهذا الفرض ولو أننا لا نعلق به النص القرآني يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه. تاريخ صب الماء صبا. وقد يصح هذا الفرض، وقد تجد فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض. ويبقى النص القرآني صالحا لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل. ذلك كان أول قصة الطعام: { أنا صببنا الماء صبا }.. ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره، وفي أي تاريخ لحدوثه؛ ولا أنه صبه على الأرض صبا، لتسير قصة الطعام في هذا الطريق! { ثم شققنا الأرض شقا }.. وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء. وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته، وتدبير غير تدبيره. ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها. أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقا بقدرة الخالق وينمو على وجهها، ويمتد في الهواء فوقها.. وهو نحيل نحيل، والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة. ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقا، وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف. وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة؛ ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية. فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصور في هذا النص. وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور. إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق. وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها؛ حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع. وكان هذا أثرا من آثار الماء تاليا في تاريخه لصب الماء صبا. مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص.. وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث، وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه. التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين، وأعمها في طعام الناس والحيوان: { فأنبتنا فيها حبا }.. وهو يشمل جميع الحبوب. ما يأكله الناس في أية صورة من صوره، وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته. { وعنبا وقضبا }.. والعنب معروف. والقضب هو كل ما يؤكل رطبا غضا من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى.. { وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا }.. والزيتون والنخل معروفان لكل عربي، والحدائق جمع حديقة، وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها. و { غلبا } جمع غلباء. أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار. والفاكهة من ثمار الحدائق و { الأب } أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام. وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوما! كما سبق في الحديث عن سورة النازعات! فلا نزيد نحن شيئا! هذه هي قصة الطعام. كلها من إبداع اليد التي أبدعت الإنسان. وليس فيها للإنسان يد يدعيها، في أية مرحلة من مراحلها.. حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض.. إنه لم يبدعها، ولم يبتدعها. والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه. والتربة واحدة بين يديه، ولكن البذور والحبوب منوعه، وكل منها يؤتى أكله في القطع المتجاورات من الأرض. وكلها تسقى بماء واحد، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها.. كل أولئك في خفية عن الإنسان! لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها، ولا يستشار في شأن من شؤونها.. هذه هي القصة التي اخرجتها يد القدرة: { متاعا لكم ولأنعامكم }.. إلى حين. ينتهي فيه هذا المتاع؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة. ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع. أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء: { فإذا جآءت الصآخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه.. وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة }.. فهذه هي خاتمة المتاع. وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل، والتدبير الشامل، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان. وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع. مع الذي جاء يسعى وهو يخشى. والذي استغنى واعرض عن الهدى. ثم هذان هما في ميزان الله. " والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ، يكاد يخرق صماخ الأذن، وهو يشق الهواء شقا، حتى يصل إلى الأذن صاخا ملحا! " " وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه: مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به: { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه }.. أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقا، وتقطع تلك الوشائج تقطيعا. " والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها. ويستبد بها استبدادا. فلكل نفسه وشأنه، ولديه الكفاية من الهم الخاص به، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: { لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه }.. " والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة. فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير: { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }! ذلك حال الخلق جميعا في هول ذلك اليوم.. إذا جاءت الصاخة.. ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك: { وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة }.. فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة، راجية في ربها، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها. فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر . أو هي قد عرفت مصيرها، وتبين لها مكانها، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل.. { ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة. أولئك هم الكفرة الفجرة }.. فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة، ويغشاها سواد الذل والانقباض. وقد عرفت ما قدمت، فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء.. { أولئك هم الكفرة الفجرة }.. الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته.. وفي هذا الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء. ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات. وكأنما الوجوه شاخصة، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته. بذلك يتناسق المطلع والختام.. المطلع يقرر حقيقة الميزان. والختام يقرر نتيجة الميزان. وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام، والمشاهد والمناظر، والإيقاعات والموحيات. وتفي بها كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق..
نامعلوم صفحہ