{بسم الله الرحمن الرحيم أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحنه وتعلى عما يشركون} {ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} {خلق السموت والأرض بالحق تعلى عما يشركون} {خلق الإنسن من نطفة فإذا هو خصيم مبين} {والأنعم خلقها لكم فيها دفء ومنفع ومنها تأكلون} {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بلغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم} {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهدىكم أجمعين} {هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعنب ومن كل الثمرت إن فى ذلك لءاية لقوم يتفكرون} {وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرت بأمره إن فى ذلك لءايت لقوم يعقلون} {وما ذرأ لكم فى الأرض مختلفا ألونه إن فى ذلك لءاية لقوم يذكرون} {وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} {وألقى فى الأرض روسى أن تميد بكم وأنهرا وسبلا لعلكم تهتدون} {وعلمت وبالنجم هم يهتدون} {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيا وهم يخلقون} {أموت غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}
هذه السورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس؛ ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة ؛ والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل؛ والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط. وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم عليه السلام ودين محمد صلى الله عليه وسلم وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذبين لهم. وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله.. ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة.. وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها. فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل.. هو السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق. في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير. حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام والرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثر، والعقل ليتدبر. وتحشد الكون كله: سماءه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره، وحيوانه وطيوره. كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت، والحس المطموس. هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار، ومصارع الغابرين؛ تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة. كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح. فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير. . كلها متداخلة.. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون.. ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر، والتوجيهات إليها، والتعقيب بها في مقاطع السورة، وتضرب عليها الأمثال، وتعرض لها النماذج، وأظهرها نموذج إبراهيم شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق. ونبدأ الشوط الأول، وموضوعه هو التوحيد؛ وأدواته هي آيات الله في الخلق، وأياديه في النعمة، وعلمه الشامل في السر والعلانية، والدنيا والآخرة. فلنأخذ في التفصيل: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون. ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده: أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }.. لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء، وزادوا استهتارا؛ وحسبوا أن محمد يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في أنظارهم؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن. هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب، خيرا من خطابها بالعذاب! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور، وحرية الإرادة والتفكير. وجاء مطلع السورة حاسما جازما: { أتى أمر الله }.. يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة؛ وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه { فلا تستعجلوه } فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته، لا يقدمها استعجال. ولا يؤخرها رجاء. فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر. وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر، وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع؛ فامر الله لا بد واقع، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه، ويتحقق به وجوده، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة، في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور. فأما ما هم عليه من شرك بالله الواحد، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى: { سبحانه وتعالى عما يشركون } بكل صوره وأشكاله، الناشئة عن هبوط في التصور والتفكير. أتى أمر الله المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون. الله الذي لا يدع الناس إلى ضلالهم وأوهامهم إنما هو ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم: { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده }. . وهذا أولى نعمه وكبراها. فهو لا ينزل من السماء ماء يحيي الأرض والأجسام وحدها كما سيجيء إنما ينزل الملائكة بالروح من أمره. وللتعبير بالروح ظله ومعناه. فهو حياة ومبعث حياة: حياة في النفوس والضمائر والعقول والمشاعر. وحياة في المجتمع تحفظه من الفساد والتحلل والانهيار. وهو أول ما ينزله الله من السماء للناس، وأول النعم التي يمن الله بها على العباد. تنزل به الملائكة أطهر خلق الله على المختارين من عباده الأنبياء خلاصته وفحواه: { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون. } إنها الوحدانية في الألوهية. روح العقيدة. وحياة النفس. ومفرق الطريق بين الاتجاه المحيي والاتجاه المدمر. فالنفس التي لا توحد المعبود نفس حائرة هالكة تتجاذبها السبل وتخايل لها الأوهام وتمزقها التصورات المتناقضة، وتناوشها الوساوس، فلا تنطلق مجتمعة لهدف من الأهداف! والتعبير بالروح يشمل هذه المعاني كلها ويشير إليها في مطلع السورة المشتملة على شتى النعم، فيصدر بها نعمه جميعا؛ وهي النعمة الكبرى التي لا قيمة لغيرها بدونها؛ ولا تحسن النفس البشرية الانتفاع بنعم الأرض كلها إن لم توهب نعمة العقيدة التي تحييها. ويفرد الإنذار، فيجعله فحوى الوحي والرسالة، لأن معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين والجاحدين لنعمة الله، والمحرمين ما أحله الله، والناقضين لعهد الله، والمرتدين عن الإيمان ومن ثم يكون إظهار الإنذار أليق في هذا السياق. وتكون الدعوة إلى التقوى والحذر والخوف أولى في هذا المقام. ثم يأخذ في عرض الآيات. آيات الخلق الدالة على وحدانية الخالق؛ وآيات النعمة الدالة على وحدانية المنعم؛ يعرضها فوجا فوجا، ومجموعة مجموعة. بادئا بخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان. { خلق السماوات والأرض بالحق، تعالى عما يشركون. خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } { خلق السماوات والأرض بالحق }.. الحق قوام خلقهما، والحق قوام تدبيرهما، والحق عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما. فما شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف. إنما كل شيء قائم على الحق ومتلبس به ومفض له وصائر في النهاية إليه.. { تعالى عما يشركون }.. تعالى عن شركهم، وتعالى عما يشركون به من خلق الله الذي خلق السماوات والأرض، وخلق من فيهما وما فيهما، فليس أحد وليس شيء شريكا له وهو الخالق الواحد بلا شريك. { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير. بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة. فهكذا يصوره التعبير، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير، لتبدو المفارقة كاملة، والنقلة بعيدة، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين: مشهد النطفة المهينة الساذجة، ومشهد الإنسان الخصيم المبين. . وهو إيجاز مقصود في تصوير. وفي هذا المجال الواسع مجال الكون: السماوات والأرض الذي يقف فيه الإنسان، يأخذ السياق في استعراض خلق الله الذي سخره للإنسان، ويبدأ بالأنعام: { والأنعام خلقها، لكم فيها دفء ومنافع، ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، إن ربكم لرؤوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون }.. وفي بيئة كالبيئة التي نزل فيها القرآن أول مرة، وأشباهها كثير؛ وفي كل بيئة زراعية والبيئات الزراعية هي الغالبة حتى اليوم في العالم.. في هذه البيئة تبرز نعمة الأنعام، التي لا حياة بدونها لبني الإنسان. والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز. أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة ولا تؤكل والقرآن إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك: ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها. ومنها تأكلون لحما ولبنا وسمنا، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس. وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح. جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحيحة سمينة. وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركه أهل المدينة. وفي الخيل والبغال والحمير تلبية للضرورة في الركوب. وتلبية لحاسة الجمال في الزينة: { لتركبوها وزينة }. وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب؛ بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات. تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان. { إن ربكم لرؤوف رحيم } يعقب بها على حمل الأثقال إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس توجيها إلى ما في خلق الأنعام من نعمة، وما في هذه النعمة من رحمة. { ويخلق ما لا تعلمون }.. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة.. ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم. فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوا فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها. ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها. وإنما نص القرآني على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة. ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر { ويخلق ما لا تعلمون }.. وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض، يدخل السياق غايات معنوية وسيرا معنويا وطرقا معنوية. فثمة الطريق إلى الله. وهو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية. وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي. فأما الطريق إلى الله فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها: بآياته في الكون وبرسله إلى الناس: { وعلى الله قصد السبيل. ومنها جائر. ولو شاء لهداكم أجمعين }.. والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا يلتوي كأنه يقصد إلى غايته فلا يحيد عنها. والسبيل الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية لا يوصل إليها، أو لا يقف عندها! { ولو شاء لهداكم أجمعين }.. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان مستعدا للهدى والضلال، وأن يدع لإرادته اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. فكان منهم من يسلك السبيل القاصد، ومنهم من يسلك السبيل الجائر. وكلاهما لا يخرج على مشيئه الله، التي قضت بأن تدع للإنسان حرية الاختيار. والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة: { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب، ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }.. والماء ينزل من السماء وفق النواميس التي خلقها الله في هذا الكون، والتي تدبر حركاته، وتنشئ نتائجها وفق إرادة الخالق وتدبيره، بقدر خاص من أقداره ينشئ كل حركة وكل نتيجة. هذا الماء يذكر هنا نعمة من نعم الله { لكم منه شراب } فهي خصوصية الشراب التي تبرز في هذا المجال ثم خصوصية المرعى { ومنه شجر فيه تسيمون } وهي المراعي التي تربون فيها السوائم. ذلك بمناسبة ذكر الأنعام قبلها وتنسيقا للجو العام بين المراعي والأنعام. ثم الزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار.. { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }.. في تدبير الله لهذا الكون، ونواميسه المواتية لحياة البشر، وما كان الإنسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته، موافقة لفطرته، ملبية لحاجاته. وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق الإنسان في هذا الكوكب الأرضي، وأن تكون النسب بين هذا الكوكب وغيره من النجوم والكواكب هي هذه النسب، وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه، ممكنة للإنسان من الحياة، ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه. والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار، وبين النواميس العليا للوجود، ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره. أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء، فلا توقظ تطلعهم، ولا تثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد. والفوج الثالث من أفواج الآيات: { وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }.. ومن مظاهر التدبير في الخلق، وظواهر النعمة على البشر في آن: الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. فكلها مما يلبي حاجة الإنسان في الأرض. وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة لمنفعته. فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري. ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون. كذلك الشمس والقمر. وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها، { والنجوم مسخرات بأمره } للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله.. وكل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين: { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }.. والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان: { وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه. إن في ذلك لآية لقوم يذكرون }.. وما خلق الله في الأرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان. ونظرة إلى هذه الذخائر المخبوءة في الارض، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها. وكلما قيل: إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر غني، من رزق الله المدخر للعباد.. { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } ولا ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت لهم هذه الكنوز. والفوج الخامس من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي، ولكنه يشتمل على صنوف من آلاء الله على الإنسان: { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون }.. ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه. فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام. وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال: { وترى الفلك مواخر فيه } فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها: رؤية الفلك { مواخر } تشق الماء وتفرق العباب.. ومرة اخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلى الجمال في مظاهر الكون، بجانب الضرورة والحاجة، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات. كذلك يوجهنا السياق أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه إلى ابتغاء فضل الله ورزقه، وإلى شكره على ما سخر من طعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج: { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }. والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون }. فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا. يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات. ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض. وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث. وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري، والسبل السوالك. والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال، ففي الجبال في الغالب تكون منافع الأنهار؛ حيث مساقط الأمطار. والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار. وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال. وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي يهتدي بها السالكون في الأرض من جبال ومرتفعات ومنفرجات، وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين في البر والبحر سواء. وعندما ينتهي استعراض آيات الخلق، وآيات النعمة، وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب السياق عليه بما سيق هذا الاستعراض من أجله. فقد ساقه في صدد قضية التعريف بالله سبحانه وتوحيده وتنزيهه عما يشركون: { أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم. والله يعلم ما تسرون وما تعلنون، والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون }.. وهو تعقيب يجيء في أوانه، والنفس متهيئة للإقرار بمضمونه: { أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ }.. فهل هنالك إلا جواب واحد: لا. وكلا: أفيجوز أن يسوي إنسان في حسه وتقديره.. بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيرا ولا صغيرا؟ { أفلا تذكرون } فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر، فيتضح الأمر ويتجلى اليقين. ولقد استعرض ألوانا من النعمة. فهو يعقب عليها: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }.. فضلا على أن تشكروها. وأكثر النعم لا يدريها الإنسان، لأنه يألفها فلا يشعر بها إلا حين يفتقدها.. وهذا تركيب جسده ووظائفه متى يشعر بما فيه من إنعام إلا حين يدركه المرض فيحس بالاختلال؟ إنما يسعه غفران الله للتقصير ورحمته بالإنسان الضعيف { إن الله لغفور رحيم }.. والخالق يعلم ما خلق. يعلم الخافي والظاهر: { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } فكيف يسوونه في حسهم وتقديرهم بتلك الآلهة المدعاة وهم لا يخلقون شيئا ولا يعلمون شيئا، بل إنهم لأموات غير قابلين للحياة على الإطلاق. ومن ثم فهم لا يشعرون: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون. أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون }.. والإشارة هنا إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق لا بد أن يعلم موعد البعث. لأن البعث تكملة للخلق. وعنده يستوفي الأحياء جزاءهم على ما قدموا. فالآلهة التي لا تعلم متى يبعث عبادها هي آلهة لا تستحق التأليه، بل هي سخرية الساخرين. فالخالق يبعث مخاليقه ويعلم متى يبعثهم على التحقيق!
[18 - سورة الكهف]
[18.28-46]
{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هوىه وكان أمره فرطا} {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظلمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} {إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} {أولئك لهم جنت عدن تجرى من تحتهم الأنهر يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا} {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعنب وحففنهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا} {كلتا الجنتين ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيا وفجرنا خللهما نهرا} {وكان له ثمر فقال لصحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} {وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا} {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوىك رجلا} {لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا} {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} {فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا} {أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا} {وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول يليتنى لم أشرك بربى أحدا} {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} {هنالك الولية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا} {واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلنه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الريح وكان الله على كل شىء مقتدرا} {المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والبقيت الصلحت خير عند ربك ثوابا وخير أملا}
هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة. إن القيم الحقيقية ليست هي المال، وليست هي الجاه، وليست هي السلطان. كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة.. إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة. والإسلام لا يحرم الطيب منها؛ ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان. فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع، ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها. وليشكره على النعمة بالعمل الصالح، فالباقيات الصالحات خير وأبقى. وهو يبدأ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله؛ وأن يغفل ويهمل الذين يغفلون عن ذكر الله. ثم يضرب للفريقين مثلا رجلين: أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع. والآخرة يعتز بالإيمان الخالص، ويرجو عند ربه ما هو خير. ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها، فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه الرياح. وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقية: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا }.. { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه وكان أمره فرطا. وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فليؤمن. ومن شاء فليكفر }.. يروي أنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش. أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق، فتؤذي السادة من كبراء قريش! ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه. فأنزل الله عز وجل: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. } انزلها تلعن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ. وبعد ذلك { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } فالإسلام لا يتملق أحدا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه. { واصبر نفسك }.. لا تمل ولا تستعجل { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }.. فالله غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة. اصبر نفسك مع هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه. { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا }.. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة { الدنيا } لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه. { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }.. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية. ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله. لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند الله. ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان. { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا }.. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم: { وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }.. بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه امام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه. إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك لله، والله غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين. ثم يعرض ما أعد للكافرين، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة: { إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه. بئس الشراب وساءت مرتفقا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب؛ ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، متكئين فيها على الأرائك. نعم الثواب وحسنت مرتفقا }. { أنا أعتدنا للظالمين نارا }.. أعددناها وأحضرناها.. فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها، ولا تستغرق زمنا لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة: كن. فيكون. إلا أن التعبير هنا بلفظ { أعتدنا } يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال! وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين، فلا سيبل إلى الهرب، ولا أمل في النجاة والإفلات. ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة، أو يكون فيه استرواح! فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا.. أغيثوا بماء كدردي الزين المغلي في قول، وكالصديد الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه { بئس الشراب } الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء. وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير. فما هم هنالك للارتفاق، إنما هم للاشتواء! ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان.. وشتان شتان! وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن. للإقامة. تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم. وهم هنالك للارتفاق حقا { متكئين فيها على الأرائك } وهم رافلون في ألوان من الحرير. من سندس ناعم خفيف ومن إستبرق مخمل كثيف. تزيد عليها أساور من ذهب للزينة والمتاع: { نعم الثواب وحسنت مرتفقا }! ومن شاء فليختر. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين، وجبابهم تفوح منها رائحة العرق أو فلينفر. فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب، التي تضم القلوب الزكية بذكر الله، فليرتفق في سرادق النار، وليهنأ بدردي الزيت أو القيح يغاث به من النار.. ثم تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة، والنفس المعتزة بالله. وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة. ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه. وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه، الذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم. موجبة لحمده وذكره، لا لجحود وكفره. وتبدأ القصة بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة: { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب، وحففناهما بنخل، وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا، وفجرنا خلالهما نهرا. وكان له ثمر }.. فهما جنتان مثمرتان من الكروم، محفوفتان بسياج من النخيل، تتوسطهما الزروع، ويتفجر بينهما نهر.. إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال: { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا }.. ويختار التعبير كلمة { تظلم } في معنى تنقص وتمنع، لتقابل بين الجنتين وصاحبهما الذي ظلم نفسه فبطر ولم يشكر، وازدهى وتكبر. وها هو ذا صاحب الجنتين تمتلئ نفسه بهما، ويزدهيه النظر إليهما، فيحس بالزهو، وينتفش كالديك، ويختال كالطاووس، ويتعالى على صاحبه الفقير: { فقال لصاحبه - وهو يحاوره - أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا }.. ثم يخطو بصاحبه إلى إحدى الجنتين، وملء نفسه البطر، وملء جنبه الغرور؛ وقد نسي الله، ونسي أن يشكره على ما أعطاه؛ وظن أن هذه الجنان المثمرة لن تبيد أبدا، أنكر قيام الساعة أصلا، وهبها قامت فسيجد هنالك الرعاية والإيثار! أليس من أصحاب الجنان في الدنيا فلا بد أن يكون جنابه ملحوظا في الآخرة! { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه. قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة. ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا }! إنه الغرور يخيل لذوي الجاه والسلطان والمتاع والثراء، أن القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى! فما داموا يستطيلون على أهل هذه الأرض فلا بد أن يكون لهم عند السماء مكان ملحوظ! فأما صاحبه الذي لا مال له ولا نفر، ولا جنة عنده ولا ثمر.. فإنه معتز بما هو أبقى وأعلى. معتز بعقيدته وإيمانه. معتز بالله الذي تعنو له الجباه؛ فهو يجبه صاحبه المتبطر المغرور منكرا عليه بطره وكبره، يذكره بمنشئه المهين من ماء وطين، ويوجهه إلى الأدب الواجب في حق المنعم. وينذره عاقبة البطر والكبر. ويرجو عند ربه ما هو خير من الجنة والثمار: { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا؟ لكنا هو الله ربي، ولا أشرك بربي أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك، ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا }.. وهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تبالي المال والنفر، ولا تداري الغنى والبطر، ولا تتلعثم في الحق، ولا تجامل فيه الأصحاب. وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال. وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة، وأن فضل الله عظيم وهو يطمع في فضل الله. وأن نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين. وفجأة ينقلنا السياق من مشهد النماء والازدهار إلى مشهد الدمار والبوار. ومن هيئة البطر، والاستكبار إلى هيئة الندم والاستغفار. فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن: { وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وهي خاوية على عروشها، ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحدا }.. وهو مشهد شاخص كامل: الثمر كله مدمر كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء. والجنة خاوية على عروشها مهشمة محطمة. وصاحبها يقلب كفيه أسفا وحزنا على ماله الضائع وجهده الذاهب. وهو نادم على إشراكه بالله، يعترف الآن بربوبيته ووحدانيته. ومع أنه لم يصرح بكلمة الشرك، إلا أن اعتزازه بقيمة أخرى أرضيه غير قيمة الإيمان كان شركا ينكره الآن، ويندم عليه ويستعيذ منه بعد فوات الأوان. هنا يتفرد الله بالولاية والقدرة: فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره. وثوابه هو خير الثواب، وما يبقى عنده للمرء من خير فهو خير ما يتبقى: { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله، وما كان منتصرا. هنالك الولاية لله الحق، هو خير ثوابا وخير عقبا }.. ويسدل الستار على مشهد الجنة الخاوية على عروشها، وموقف صاحبها يقلب كفيه أسفا وندما وجلال الله يظلل الموقف، حيث تتوارى قدرة الإنسان.. وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها. فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة، لا بقاء لها ولا قرار: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا }.. هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال. فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض. والنبات لا ينمو ولا ينضج، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح. وما بين ثلاث جمل قصار، ينتهي شريط الحياة. ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد. بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء: { كماء أنزلناه من السماء } ف { اختلط به نبات الأرض } ف { أصبح هشيما تذروه الرياح } فما أقصرها حياة! وما أهونها حياة! وبعد أن يلقي مشهد الحياة الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض، والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا، وخير أملا }.. المال والبنون زينة الحياة؛ والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات. ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد. إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة. فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على اساسهما في الحياة. إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات. وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا. عند ما تتعلق بها القلوب، ويناط بها الرجاء، ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء. وهكذا يتناسق التوجيه الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه. مع إيحاء قصة الجنتين. مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا. مع هذا التقرير الأخير للقيم في الحياة وما بعد الحياة.. وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة. وتتساوى كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الوجداني في القرآن.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-35]
{بسم الله الرحمن الرحيم اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون} {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} {لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} {قال ربى يعلم القول فى السماء والأرض وهو السميع العليم} {بل قالوا أضغث أحلم بل افترىه بل هو شاعر فليأتنا باية كما أرسل الأولون} {ما ءامنت قبلهم من قرية أهلكنها أفهم يؤمنون} {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فسلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} {وما جعلنهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خلدين} {ثم صدقنهم الوعد فأنجينهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} {لقد أنزلنا إليكم كتبا فيه ذكركم أفلا تعقلون} {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما ءاخرين} {فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون} {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومسكنكم لعلكم تسلون} {قالوا يويلنا إنا كنا ظلمين} {فما زالت تلك دعوىهم حتى جعلنهم حصيدا خمدين} {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لعبين} {لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذنه من لدنا إن كنا فعلين} {بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} {وله من فى السموت والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبحون اليل والنهار لا يفترون} {أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون} {لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا فسبحن الله رب العرش عما يصفون} {لا يسل عما يفعل وهم يسلون} {أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهنكم هذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون} {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} {ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظلمين} {أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض كانتا رتقا ففتقنهما وجعلنا من الماء كل شىء حى أفلا يؤمنون} {وجعلنا فى الأرض روسى أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون} {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن ءايتها معرضون} {وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون} {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخلدون} {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}
هذه السورة، مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية.. موضوع العقيدة.. تعالجه في ميادينه الكبيرة: ميادين التوحيد، والرسالة والبعث. وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها. فالعقيدة جزء من بناء هذا الكون، يسير على نواميسه الكبرى؛ وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلى الجد الذي تدبر به السماوات والأرض، وليست لعبا ولا باطلا، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا، ولم يشب خلقه باطل: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لاعبين }.. ومن ثم يجول بالناس.. بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم.. بين مجالي الكون الكبرى: السماء والأرض. الرواسي والفجاج. الليل والنهار. الشمس والقمر.. موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر، والمالك الذي لا شريك له في الملك، كما انه لا شريك له في الخلق.. { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا }.. ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض، وإلى وحدة مصدر الحياة: { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء: { كل نفس ذائقة الموت }.. وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون: { وإلينا ترجعون }.. والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى. فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }.. وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر: { ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم }.. وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض. فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }.. وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين، وينجي الله الرسل والمؤمنين: { ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين }.. وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا. يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم عليه السلام وعند الإشارة إلى داود وسليمان. ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح، وموسى، وهارون، ولوط، واسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم السلام. وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة. تتجلى. في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعدما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس. كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة؛ وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة. . وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة: { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم... }. إن هذه الرسالة حق وجد. كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة؛ ولا مجال لطلب الآيات الخارقة؛ وآيات الله في الكون وسنن الكون كله. توحي بأنه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد. نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير، الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع.. يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا. فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما. وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها.. ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم عليه السلام في مريم ونظمها هنا. وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك. ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه. أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار. ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع. والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة: الأول: ويبدأ بمطلع قوي الضربات، يهز القلوب هزا، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية: { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون... الخ }. ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين. فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون. قالوا: يويلنآ! إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }.. ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة، والحق والجد في نظام الكون. وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود. وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة. ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه. فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول صلى الله عليه وسلم بالسخرية والاستهزاء، بينما الأمر جد وحق، وكل ما حولهم يوحي باليقطة والاهتمام. وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب.. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة. ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم. ويقرر ان ليس لهم من الله من عاصم. ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها، وتزوي رقعتها وتطويها، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء.. وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيان وظيفته: قل: إنما أنذركم بالوحي وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون. ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة. كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين. أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة: ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت: إيقاعا قويا، وإنذارا صريحا، وتخليه بينهم وبين مصيرهم المحتوم.. والآن نأخذ في دراسة الشوط الأول بالتفصيل.. { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا. هل هذآ إلا بشر مثلكم. أفتأتون السحر وأنتم تبصرون؟ قال: ربي يعلم القول في السمآء والأرض وهو السميع العليم. بل قالوا: أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآية كمآ أرسل الأولون. مآ آمنت قبلهم من قرية أهلكناهآ.. أفهم يؤمنون؟ ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام، وما كانوا خالدين. ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين }.. مطلع قوي يهز الغافلين هزا. والحساب يقترب وهم في غفلة. والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى. والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته. وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم هازلون يلعبون.. { لاهية قلوبهم }.. والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير. إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد؛ وتستهتر في مواقف القداسة. فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم { من ربهم } فيستقبلونه لاعبين، بلا وقار ولا تقديس. والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف. وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة! إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة. والاستهتار غير الاحتمال. فالاحتمال قوة جادة شاعرة. والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء. وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة، ومنهاجا للعمل، وقانونا للتعامل.. باللعب. ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة. وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان. فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن. والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ، لا هدف له ولا قوام! ذلك بينما كان المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها: جاء في ترجمة الآمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه. . ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب ارضا فقال له: إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا في العرب. وقد اردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك. نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }.. وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة، والقلوب الميتة المغلقة الخامدة. التي تكفن ميتتها باللهو؛ وتواري خمودها بالاستهتار؛ ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من مقومات الحياة. { وأسروا النجوى الذين ظلموا }.. وقد كانوا يتناجون فيما بينهم ويتآمرون خفية، يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هل هذا إلا بشر مثلكم؟ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون؟ }. فهم على موت قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من ان تتزلزل بهذا القرآن؛ فكانوا يلجأون في مقاومة تأثيره الطاغي إلى التعلات، يقولون: إن محمدا بشر. فكيف تؤمنون لبشر مثلكم؟ وإن ما جاء به السحر. فيف تجيئون للسحر وتنقادون له وفيكم عيون وأنتم تبصرون؟! عند ذلك وكل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم وأمره إلى ربه، وقد أخبره الله بنجواهم التي أداروها بينهم خفية؛ وأطلعه على كيدهم الذي يتقون به القرآن وأثره! { قال: ربي يعلم القول في السمآء والأرض، وهو السميع العليم }. فما من نجوى في مكان على الأرض إلا وهو مطلع عليها وهو الذي يعلم القول في السماء والأرض.. وما من مؤامرة يحدثونها إلا وهو كاشفها ومطلع رسوله عليها وهو السميع العليم. ولقد حاروا كيف يصفون هذا القرآن وكيف يتقونه. فقالوا: إنه سحر. وقالوا: إنه أحلام مختلطة يراها محمد ويرويها. وقالوا: إنه شعر. وقالوا: إنه افتراه وزعم انه وحي من عند الله: { بل قالوا: أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر }.. ولم يثبتوا على صفة له، ولا على رأي يرونه فيه، لأنهم إنما يتمحلون ويحاولون أن يعللوا أثره المزلزل في نفوسهم بشتى التعلات فلا يستطيعون؛ فينتقلون من ادعاء إلى ادعاء، ومن تعليل إلى تعليل، حائرين غير مستقرين.. ثم يخلصون من الحرج بأن يطلبوا بدل القرآن خارقة من الخوارق التي جاء بها الأولون: { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون }.. ولقد جاءت الخوارق من قبل، فلم يؤمن بها من جاءتهم، فحل بهم الهلاك، وفقا لسنة الله التي لا تتخلف في إهلاك من يكذبون بالخوارق: { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها }. . ذلك أن من يبلغ به العناد ألا يؤمن بالخارقة المادية المحسوسة، لا يبقى له عذر، ولا يرجى له صلاح. فيحق عليه الهلاك. ولقد تكررت الآيات، وتكرر التكذيب بها، وتكرر كذلك إهلاك المكذبين.. فما بال هؤلاء سيؤمنون بالخارقة لو جاءتهم؛ وهم ليسوا سوى بشر كهؤلاء الهالكين! { أفهم يؤمنون }.. { ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام، وما كانوا خالدين }.. فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر، يتلقون الوحي فيدعون به الناس. وما كان الرسل من قبل إلا رجالا ذوي أجساد. وما جعل الله لهم أجسادا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام. فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية، والجسدية من مقتضيات البشرية. وهم بحكم انهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين.. هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل. إن كانوا هم لا يعلمون. لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم. وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس. فالكلمة الحية هي التي تؤثر وتهدي، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة. ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء. ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس. فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون. وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول. لما بينه وبينهم من قطعية في الحس والشعور. وأيما داعية لا يصدق فعله قوله. فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب. مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل. هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل. والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر.. كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة. وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها.. لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص. وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس. وهنالك اعتبار آخر، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته؛ لأنه من جنس غير جنسهم، وطبيعة غير طبيعتهم، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية. وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس. وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله، باختيار الرسل منه، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه. لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت. ومن عواطف وانفعالات. ومن آلام وآمال. ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء.. وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم.. أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة. تلك سنة الله في اختيار الرسل. ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم، وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين: { ثم صدقناهم الوعد، فأنجيناهم ومن نشاء، وأهلكنا المسرفين }.. فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم. وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانا حقيقيا يصدقه العمل؛ فصدقهم وعده، وأهلك، الذين كانوا يسرفون عليهم، ويتجاوزون الحد معهم. هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراف عليه، وتكذيبه، وإيذائه والمؤمنين معه. وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية، يتبعها هلاكهم، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم. إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم، ويقوم حياتهم، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس. وهو مفتوح للعقول تتدبره، وترتفع به في سلم البشرية: { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم. أفلا تعقلون؟ }.. إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل. ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا. فلم يكن لهم قبله ذكر، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به. ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب، وقادوا به البشرية قرونا طويلة، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب. حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية، وانحط فيها ذكرهم، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون! وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد. وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة. فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به. فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب. فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة. . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب. فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته. وهذا أمر له مدلول له في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة! ..ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم، وهو يقول للمشركين، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب: { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم. أفلا تعقلون؟ }. ولقد كانت رحمة بهم أن ينزل الله لهم هذا القرآن. ولا يأتيهم بالخارقة التي يطلبونها. فلا يأخذهم وفق سنته بالقاصمة كالقرى التي كذبت فاستأصلت.. وهنا يعرض مشهدا حيا من القصم والاستئصال: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين. فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون.. قالوا: يويلنآ إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }.. والقصم أشد حركات القطع. وجرسها اللفظي يصور معناها، ويلقي ظل الشدة والعنف والتحطيم والقضاء الحاسم على القرى التي كانت ظالمة. فإذا هي مدمرة محطمة.. { وأنشأنا بعدها قوما آخرين }. وهو عند القصم يوقع الفعل على القرى ليشمل ما فيها ومن فيها. وعند الإنشاء يوقع الفعل على القوم الذين ينشأون ويعيدون إنشاء القرى.. وهذه حقيقة في ذاتها. فالدمار يحل بالديار والديار. والإنشاء يبدأ بالديارين فيعيدون إنشاء الدور.. ولكن عرض هذه الحقيقة في هذه الصورة يضخم عملية القصم والتدمير، وهذا هو الظل المراد إلقاؤه بالتعبير على طريقة التصوير! ثم ننظر فنشهد حركة القوم في تلك القرى وبأس الله يأخذهم، وهم كالفيران في المصيدة يضطربون من هنا إلى هناك قبيل الخمود: { فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون }.. يسارعون بالخروج من القرية ركضا وعدوا، وقد تبين لهم أنهم مأخوذون ببأس الله. كأنما الركض ينجيهم من بأس الله. وكأنما هم أسرع عدوا فلا يلحق بهم حيث يركضون! ولكنها حركة الفأر في المصيدة بلا تفكير ولا شعور. عندئذ يتلقون التهكم المرير: { لا تركضوا، وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون }! لا تركضوا من قريتكم. وعودوا إلى متاعكم الهنيء وعيشكم الرغيد وسكنكم المريح.. عودوا لعلكم تسألون عن ذلك كله فيم انفقتموه؟! وما عاد هنالك مجال لسؤال ولا لجواب. إنما هو التهكم والاستهزاء! عند ذلك يفيقون فيشعرون بأن لا مفر ولا مهرب من بأس الله المحيط. وانه لا ينفعهم ركض، ولا ينقذهم فرار. فيحاولون الاعتراف والتوبة والاستغفار: { قالوا: يا ويلنا! إنا كنا ظالمين }.. ولكن لقد فات الأوان. فليقولوا ما يشاءون. فإنهم لمتركون يقولون حتى يقضى الأمر وتخمد الأنفاس: { فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }. . ويا له من حصيد آدمي، لا حركة فيه ولا حياة؛ وكان منذ لحظة يموج بالحركة، وتضطرب فيه الحياة! هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها، وسننها التي تجري عليها، والتي تأخذ المكذبين بها. يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل، اللذين يقوم بهما الكون كله، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه. فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو، غافلين عما في الأمر من حق وجد. وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب، وعما ينتظر المكذبين المستهزئين.. فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ . إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون }.. لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة، لا لعبا ولا لهوا. ودبره بحكمة، لا جزافا ولا هوى، وبالجد الذي خلق به السماوات والأرض وما بينهما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الفرائض، وشرع التكاليف.. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون، أصيل في تدبيره، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات. ولو أراد الله سبحانه أن يتخذ لهوا لاتخذه من لدنه. لهوا ذاتيا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته الحادثة الفانية. وهو مجرد فرض جدلي: { لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا }.. ولو كما يقول النحاة حرف امتناع لامتناع. تفيد امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط. فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوا فلم يكن هناك لهو. لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه. ولن يكون لأن الله سبحانه لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلا: { إن كنا فاعلين }.. وإن حرف نفي بمعنى ما، والصيغة لنفي إرادة الفعل ابتداء. إنما هو فرض جدلي لتقرير حقيقة مجردة.. هي أن كل ما يتعلق بذات الله سبحانه قديم لا حادث، وباق غير فان. فلو أراد سبحانه أن يتخذ لهوا لما كان هذا اللهو حادثا، ولا كان متعلقا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث.. إنما كان يكون ذاتيا من لدنه سبحانه. فيكون أزليا باقيا، لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية. إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو، إنما يكون هناك جد، ويكون هناك حق؛ فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }.. و { بل } للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو؛ والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس. وهو غلبة الحق وزهوق الباطل. والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة. فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة. تقذف به على الباطل، فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب.. هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن خلقه هذا الكون أصلا، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشيء يطارده الله؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه! ولقد يخيل للناس أحيانا ان واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب. وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء. ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء. والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه.. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة؛ وأدركوا أنه الابتلاء؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفا أو نقصا؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف.. وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء. أما العاقبة فهي مقررة: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } والله يفعل ما يريد. هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء. وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق.. ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: { ولكم الويل مما تصفون }.. ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم. نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله. ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته، لا يفترون ولا يقصرون: { وله من في السماوات والأرض. ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون }.. ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله، ولا يحصيهم إلا الله. والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر. والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن. ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم. وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب. وعلم ذلك عند الله. فإذا نحن قرأنا: { وله من في السماوات والأرض } عرفنا منهم من نعرف، وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن. { ومن عنده } المفهوم القريب أنهم الملائكة. ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم. والمفهوم من التعبير أنهم هم الاقرب إلى الله. فكلمة { عند } بالقياس إلى الله لا تعني مكانا، ولا تحدد وصفا. { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } كما يستكبر هؤلاء المشركون { ولا يستحسرون } أي يقصرون في العبادة. فحياتهم كلها عبادة وتسبيح بالليل والنهار دون انقطاع ولا فتور.. والبشر يملكون أن تكون حياتهم كلها عبادة دون أن ينقطعوا للتسبيح والتعبد كالملائكة. فالإسلام يعد كل حركة وكل نفس عبادة إذا توجه بها صاحبها إلى الله. ولو كانت متاعا ذاتيا بطيبات الحياة! وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد، مالك السماوات والأرض ومن فيهن. يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة. ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد؛ ومن المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب: { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟ لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا. فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }.. والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم. ووصف هؤلاء بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء. فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها. فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض. فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا؟ إنها لا تفعل، ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة. فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله. ذلك منطق الواقع المشهود في الأرض. وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }.. فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا؛ وينسق بين أجزائه جميعا؛ وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم.. هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد. فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات. ولتعددت النواميس تبعا لها فالإرادة مظهر الذات المريدة. والناموس مظهر الإرادة النافذة ولانعدمت الوحدة التي تنسق الجهاز الكوني كله، وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه؛ ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق.. هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع محسوس. وإن الفطرة السليمة التي تتلقى إيقاع الناموس الواحد للوجود كله، لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا الناموس، ووحدة الإرادة التي أوجدته، ووحدة الخالق المدبر لهذا الكون المنظم المنسق، الذي لا فساد في تكوينه، ولا خلل في سيره: { فسبحان الله رب العرش عما يصفون }.. وهم يصفونه بأن له شركاء. تنزه الله المتعالي المسيطر: { رب العرش } والعرش رمز الملك والسيطرة والاستعلاء. تنزه عما يقولون والوجود كله بنظامه وسلامته من الخلل والفساد يكذبهم فيما يقولون. { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }.. ومتى كان المسيطر على الوجود كله يسأل؛ ومن ذا الذي يسأله؛ وهو القاهر فوق عباده، وإرادته طليقة لا يحدها قيد من إرادة أخرى، ولا حتى من الناموس الذي ترتضيه هي وتتخذه حاكما لنظام الوجود؟ والسؤال والحساب إنما يكونان بناء على حدود ترسم ومقياس يوضع. والإرادة الطليقة هي التي تضع الحدود والمقاييس، ولا تتقيد بما تضع للكون من الحدود والمقاييس إلا كما تريد. والخلق مأخوذون بما تضع لهم من تلك الحدود فهم يسألون. وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب: ولماذا صنع الله كذا. وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا: إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع! وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب والواجب في حق المعبود، كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود.. إن الذي يعلم كل شيء، ويدبر كل شيء، ويسيطر على كل شيء، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }.. وإلى جانب الدليل الكوني المستمد من طبيعة الوجود وواقعه يسألهم عن الدليل النقلي الذي يستندون إليه في دعوى الشرك التي لا تعمتد على دليل: { أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي }. فهذا هو القرآن يشتمل على ذكر المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم وهناك ذكر من سبقه من الرسل. وليس فيما جاءوا به ذكر الشركاء. فكل الديانات قائمة على عقيدة التوحيد. فمن أين جاء المشركون بدعوى الشرك التي تنقضها طبيعة الكون، ولا يوجد من الكتب السابقة عليها دليل: { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون }.. { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }.. فالتوحيد هو قاعدة العقيدة منذ أن يبعث الله الرسل للناس. لا تبديل فيها ولا تحويل. توحيد الإله وتوحيد المعبود. فلا انفصال بين الألوهية والربوبية؛ ولا مجال للشرك في الألوهية ولا في العبادة.. قاعدة ثابتة ثبوت النواميس الكونية، متصلة بهذه النواميس وهي واحدة منها. ثم يعرض السياق لدعوى المشركين من العرب أن لله ولدا. وهي إحدى مقولات الجاهلية السخيفة: { وقالوا: اتخذ الرحمن ولدا. سبحانه! بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون. ومن يقل منهم: إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم. كذلك نجزي الظالمين }.. ودعوى البنوة لله سبحانه دعوى اتخذت لها عدة صور في الجاهليات المختلفة. فقد عرفت عند مشركي العرب في صورة بنوة الملائكة لله. وعند مشركي اليهود في صورة بنوة العزيز لله. وعند مشركي النصارى في صورة بنوة المسيح لله.. وكلها من انحرافات الجاهلية في شتى الصور والعصور. والمفهوم أن الذي يعنيه السياق هنا هو دعوى العرب في بنوة الملائكة. وهو يرد عليهم ببيان طبيعة الملائكة. فهم ليسوا بنات لله كما يزعمون { بل عباد مكرمون } عند الله. لا يقترحون عليه شيئا تأدبا وطاعة وإجلالا. إنما يعملون بأمره لا يناقشون. وعلم الله بهم محيط. ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضاه الله ورضي أن يقبل الشفاعة فيه. وهم بطبيعتهم خائفون لله مشفقون من خشيته على قربهم وطهارتهم وطاعتهم التي لا استثناء فيها ولا انحراف عنها. وهم لا يدعون الألوهية قطعا. ولو ادعوها جدلا لكان جزاؤهم جزاء من يدعي الألوهية كائنا من كان، وهو جهنم. فذلك جزاء الظالمين الذين يدعون هذه الدعوى الظالمة لكل حق، ولكل أحد، ولكل شيء في هذا الوجود. وكذلك تبدو دعوى المشركين في صورتها هذه واهية مستنكرة مستبعدة، لا يدعيها أحد. ولو ادعاها لذاق جزاءها الأليم! وكذلك يلمس الوجدان بمشهد الملائكة طائعين لله، مشفقين من خشيته. بينما المشركون يتطاولون ويدعون! وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة؛ والأدلة النقلية النافية للتعدد؛ والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب.. يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة، ويد القدرة تدبره بحكمة، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب: { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. وجعلنا من الماء كل شيء حي؛ أفلا يؤمنون؟ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون؛ وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر. كل في فلك يسبحون }.. إنها جولة في الكون المعروض للأنظار، والقلوب غافلة عن آياته الكبار، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ. وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا، مسألة جديرة بالتأمل، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام. فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر.. كانت سديما. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت.. ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غدا، وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية.. ونحن أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة، تقبل اليوم وترفض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة.. إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية كما بينا من قبل في الظلال . إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده. ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه. وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا: { أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن. ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر. وهو حقيقة مستيقنة! وقصارى ما يقال: إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال! فأما شطر الآية الثاني: { وجعلنا من الماء كل شيء حي } فيقرر كذلك حقيقة خطيرة. يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما. ويمجدون " دارون " لاهتدائه إليها! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول. وهي حقيقة تثير الانتباه حقا. وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى ما يقال هنا كذلك: إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات. ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: { أفلا يؤمنون؟ } وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم؟ ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة: { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم }. . فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى. فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة: وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر.. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن فذلك مجالها الأصيل. ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير: { وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون }.. وذكر الفجاج في الجبال وهي الفجوات بين جواجزها العالية، وتتخذ سبلا وطرقا.. ذكر هذه الفجاج هنا مع الإشارة إلى الاهتداء يصور الحقيقة الواقعة أولا، ثم يشير من طرف خفي إلى شأن آخر في عالم العقيدة. فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان، كما يهتدون في فجاج الجبال! { وجعلنا السماء سقفا محفوظا }.. والسماء كل ما علا. ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف. والقرآن يقرر أن السماء سقف محفوظ. محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق. ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزا للعلو الذي تتنزل منه آيات الله.. { وهم عن آياتها معرضون }.. { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون }. والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة بحياة الإنسان في الأرض. وبالحياة كلها.. والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر. بهذه الدقة التي لا تختل مرة؛ وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة.. جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس، ووحدة الإرادة، ووحدة الخالق المدبر القدير. وفي نهاية الشوط يربط السياق بين نواميس الكون في خلقه وتكوينه وتصريفه؛ ونواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. أفإن مت فهم الخالدون؟ كل نفس ذآئقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون }.. وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعملون عمل أهل الموتى؟ وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟ { كل نفس ذائقة الموت }. هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي ليست لها استثناء. فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق! إنه الموت نهاية كل حي، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض. وإلى الله يرجع الجميع. فأما ما يصيب الإنسان في أثناء الرحلة من خير وشر فهو فتنة له وابتلاء: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة }.. والابتلاء بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته.. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان.. إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر.. إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير. كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم. كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع! كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح؛ ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل اعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح! إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر.. إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " . وهم قليل! فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر. والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان..
نامعلوم صفحہ