على ضفاف النيل، تحت ظل النخيل، على مقعد من خشب في مقدمة الجزيرة، هناك كان يجلس شاب في مقتبل العمر حاسر الرأس يلاعب شعره النسيم، يحول عينيه تارة إلى الماء وطورا إلى السماء مبتسما مرة وعابسا مرة أخرى. كان هذا الشاب يرتاد هذا المكان لجمال موقعه وطلبا للراحة بعد عناء الأعمال، ولما كان يوحي إليه هذا الموقع من الأفكار التي كان يلذ له التفكير فيها، لم يكن يرتاح إلى الأخذ بالظواهر فقط رغم حسنها أو قبحها، بل كان يحب التعمق في كل شيء؛ ليصل إلى معرفة أصول ما يشاهد أو يسمع، فإنه كان يطلب الحكمة في أرجاء هذا الكون.
إنما الحكمة بنت الاختبار
تقتنيها النفس بعد الاعتبار
أو بالأحرى كان يبحث عن الحقيقة بنفسه؛ لأنه في أوائل سني تلمذته كان قد سمع هذا البيت؛ فتنبهت له حواسه وأخذ من ذلك الحين في التفكير رغم ما كان يبدو عليه مرارا من دلائل الخفة وعدم الاكتراث؛ لذا تربت في نفسه ملكة البحث رويدا رويدا، إلى أن تملكت منه فأصبحت فيه طبعا لا يهنأ له عيش إلا بالتفكير للوصول إلى الحقيقة أو البحث عنها. لم يكن يقرأ كثيرا؛ لأنه كان كثير الخيلاء، لا يريد أن يتأثر بأفكار الغير، بل كان يريد أن يربي نفسه بنفسه؛ ليكون له رأي خاص عن اقتناع شخصي، إلا أنه كان إذا أثبت له بعد ذلك فساد رأيه ينقاد إلى الصحيح بسرور عظيم وشكر. كان يحب المباحثة والإكثار منها مع كل الناس من مختلف الطبقات والأجناس، الكبير والصغير، العظيم والحقير، نساء ورجالا فتية وفتيات؛ لاعتقاده بأن الروح العظيمة ليست لها طبقة أو أمة مخصوصة بل توجد في عموم الطبقات والأجناس، وكم كان اغتباطه عظيما عندما كان يتغلب رأيه على رأي محدثه، فينقاد هذا مقتنعا إليه خصوصا إذا كان المقتنع من ممتازي الناس ومعروفيهم إن علما أو مركزا أو جاها.
كانت عيشة صاحبنا هذا مزدوجة: حياة الحاضر، وحياة الماضي التي كانت دائما ماثلة بتذكاراتها أمام عينيه؛ لأنه كان يقول: إن الإنسان الحقيقي الذي يمكن أن يدعى بحق إنسانا هو ذاك الذي يعيش بنفسه وبقلبه وبتذكاراته أكثر مما يعيش بجسمه.
ففي عشية ذات اليوم بينما كان شابنا جالسا على مقعده كالمعتاد، إذ شعر بانزعاج خفي أخذ عليه أفكاره، فأخذ يبحث عن السبب في نفسه وحواليه، وفيما هو حائر لا يعرف لهذا من داع، إذ أبصر على بعد خطوات منه شبحا يتحرك من وراء الأشجار قادما إليه، ولما دنا وتبينه إذا به أحد الدراويش رث الثياب، عاري الرأس، ضئيل الجسم، يناهز السبعين من العمر، ذو لحية بيضاء، براق العينين، متأبطا جرابه، متوكئا على عصا طويلة يمشي بتثاقل شديد كمن أعياه السير، ولم يكد يقترب من صاحبنا حتى خفض نظره، وحيا بكل احترام وطلب صدقة؛ فناوله صاحبنا قطعة بقرشين، فأخذها فرحا وأراد أن يقبل يده شكرا وامتنانا. أما صاحبنا فقد سحب يده وتباعد قليلا، فقال له الدرويش: بارك الله فيك يا سيدي، لقد أغنيت عوزي الليلة، وقد أردت أن أقبل يدك علامة الشكر العظيم فلم تشأ؛ لذا فليكافئك الله عني ويجزيك خيرا، وينيلك مرامك. وهم بالسير إلا أن صاحبنا لم يكد هذا الدعاء يصل إلى سمعه حتى شعر بارتياح شديد، وبميل إلى الإكثار من محادثة هذا الشيخ الغريب، فاستوقفه قائلا: يا هذا، أراك تعبا، والمسافة بيننا وبين المدينة قريبة لا تتطلب جد السير، فاجلس هنا قليلا لنتحادث؛ فالمكان جميل والهواء عليل، وخذ هذه قطعة بقرشين أخرى، وهذه سيجارة فدخنها. فأخذ الشيخ القرشين والسيجارة وشكر وجلس.
الفصل الثاني
بدء الحديث
بعد أن استراح شيخنا قليلا؛ بادره الشاب بالسؤال قائلا: من أين أنت يا هذا؟ وما اسمك؟ وإلى أين قاصد؟ فأجاب الشيخ وقال: أما من أين أنا، فإني لا أعرف لي وطنا مخصوصا، أعيش هنا وهنا أطوي الفيافي والقفار وأزور المدن والقرى متنقلا من مكان إلى مكان في أرض الله الواسعة، ليس لي مقصد سوى البحث والتنقيب، أراقب الطبيعة وأستجليها المكنون، لعلي أهتدي إلى سر وجودي وسر الوجود، فادعني إن شئت باحثا. فأكبر الشاب هذا الجواب وتبين له أن هذا الشيخ الذي ظنه أولا أحد الدراويش المتسولين ليس هو بالرجل العادي، بل إن هذا الجسم الحقير المظهر يحوي نفسا كبيرة، وهذا الرأس العاري المعفر بالغبار فيه عقل راجح عظيم، ربما قل وجوده في أعظم الجامعات.
وسر كثيرا بسنوح هذه الفرصة التي أقامها له القدر عفوا لعله يستفيد منه بما يشفي غليله؛ حيث إن غاية هذا الشيخ الباحث هي كما بدا من جوابه نفس الغاية التي يصبو إليها ويسعى وراءها. فقال له: وإلى أية نتيجة وصلت يا صاح؟ لعلك توفقت في أبحاثك ومراقباتك إلى أمر حاسم تهديني إليه؛ لأني وإن اختلفت معك مظهرا وعيشة فغايتي هي نفس الغاية التي سعيت وتسعى أنت إليها، فبالله عليك أفدني وزدني إفادة وإيضاحا. فحدق الشيخ فيه نظره كمن يريد أن يخترق أعماق أفكاره؛ ليرى حقيقة أمره، هل صحيح ما يريد هذا الشاب؟ أو هل سؤاله هذا هو من باب الازدراء؛ حيث إن هذا الأمر قليل من يبحث فيه من الناس، وأقل منه أيضا من يعيره من الأهمية التي يجب أن تكون له؟! وبعد أن صعد بصره فيه مرارا وصوبه، وتحقق منه الجد، أبرقت عيناه سرورا، وبانت على وجهه علامات الارتياح، فأجابه وقال: يا بني، إن البحث عن الحقيقة يجب أن يكون غاية كل عاقل ومفكر، حتى إذا ما وصل إليها أو إلى ما يدانيها، سار معها أو مع ما يكون قد ظهر له منها موفقا أعماله مع سننها؛ حيث إن السعادة الحقيقية والراحة التامة هي فيها ومعها.
نامعلوم صفحہ