بعد مبادلة السلام قال نجيب: لا تستغرب يا شيخنا وجود هذه الآنسة معنا، فهي فريدة فريد وهي على ما أعرفها من البنات ذوات القلب والنفس والفكر؛ لذا عسر علي فهم بعض ما حصل لها معه، فأوفدته إليها توطئة لمقابلتها لعلي أقف منها على بعض السبب، والحمد لله فقد تسهل الأمر وسمعت بذكر الشيخ فطلبت التعرف به وسماع حديثه والدرس عليه. ثم قص عليه جميع ما جرى وما قيل. ففكر الشيخ مليا ثم نظر إلى فريدة وقال: يسرني جدا أن أراك هنا وقد تركت ما يروق عادة لبنات جنسك، وجئت إلينا مدفوعة بحب العلم طلبا للمعرفة والحكمة؛ لهذا فإني أرحب بك ترحيبا مزدوجا، ثم مد إليها يده وصافحها.
جلس الجميع ولزموا الصمت هنيهة كأن على رءوسهم الطير؛ حتى افتتح الشيخ الحديث، وقال: إن من ينعم النظر في هذا الكون يرى أن جميع الكائنات تتأثر بعضها من بعض، بلا استثناء من ذلك أي جنس من الأجناس، أو أي صنف من الأصناف، أو أي مملكة من الممالك الثلاث، أو أي عنصر من العناصر، إلا أن التأثير يختلف باختلاف القوى.
لقد سألني فريد بالأمس كيف يتغلب السلبي على الإيجابي أو الإيجابي على السلبي مع بقاء التوازن محفوظا؟ سؤال وجيه، ولكن لو كان هذان العاملان موجودين في القوتين المتنازعتين فقط، ومحصورين فيهما دون غيرهما، وتغلب عامل على آخر صح القول بأن الزيادة في أحدهما والنقصان في الآخر يخل في حفظ التوازن، ولكن حيث إن هذا التغلب لا يتعدى وحدة أو وحدات من مجموع الكائنات بينما العكس يجري على غيرها أيضا إن سلبا أو إيجابا، أو إيجابا أو سلبا، يبقى التوازن دائما محفوظا، لقد قلت لكما والآن أقول لكم: حيث إن أصل جميع الكائنات واحد كما سيأتي بيانه فيما بعد، وكانت كل وحدة من الكائنات، وكل جزء منها مهما كان صغيرا، وكل مظهر من مظاهرها هو قوة قائمة بذاتها تسير على نظام واحد ثابت تضم إليها أو تنضم إلى غيرها حسب ما بها من قوة نسبية أمام المنضمة إليه أو المضموم إليها، فعلى قدر القوى المتنازعة يكون التأثير والتحول، كما أنه على قدر التجانس يكون الانضمام أو الانفصال.
رأى فريد فريدة فجذب أحدهما الآخر إليه، وبما أنه وجد بينهما تجانس، والتجانس يختلف كثرة وقلة، وهو إما أن يكون تجانس المادة كالدم، أو تجانس الروح، وقد وجد بينهما تجانس دم وروح، فقد ائتلفا وما زالا يقويان ببعضهما ويتصارعان مع بعضهما دون أن يشعرا كما يتصارعان مع بقية العوامل والقوى حسب نظام الكون، فيقوى شيء ويضعف آخر، وينضم شيء وينفصل آخر، والتحول جار مجراه؛ إلى أن صدمتهما بأحدهما قوة أقوى فجذبت فريدة إليها، إلا أن الجاذب كان فقط دمويا لا تجانس للروحين فيه البتة سوى تأثير قوة أحدهما، وهو الرجل الذي كان معها؛ لذا لما تقابل الثلاثة وكان الاثنان متجانسين دما وروحا، أخذت فريدة قوة من فريد؛ بها تغلبت على الرجل الآخر وبقيت مع فريد لأن تجانس الدم يتقلب مع المادة، وتجانس الروح دائم؛ لأن العوامل التي تخضع المادة لها لا شأن لها مع الروح، فالروح هي المظهر الثالث من العنصر الفرد الأصيل. نعم، يمكن الضغط على الروح بواسطة المادة طالما هي متصلة بها، إلا أن هذا التأثير تأثير مفتعل يذهب مع زوال السبب، وليس هو بأصيل، فالروح لا تتأثر فعليا إلا بالروح، وعلى هذا، فإن الحب - وما هو إلا تأثير التجانس بين الرجل والمرأة إذا كان تجانس دم فقط - ذهب عندما يتلاقى ويتحد الدمان؛ لأن القوة التي تصدر من هذا الاتحاد المادي إما أن يأخذها أحد الاثنين فيزداد ميل الأول ويقل ميل الثاني، أو أنها تذهب عنهما فتزول بزوالها تلك العاطفة، أما إذا كان تجانس دم وروح تقوى تجانس الروح باتحاد وتلاقي المادة بما تستنفده روح الاثنين من تلك القوة الصادرة من تلاقي واتحاد المادة، فتتمتن تلك العاطفة وتلك الصلة، وتصير فيما بعد صداقة؛ لأن الروح تأخذ من المادة وتتقوى بها، ولكن المادة لا تأخذ من الروح بل تحفظ بها.
إن كل وحدة من الكائنات مهما صغرت لهي شبه آلة، فالجماد والنبات آلات صامتة، والأحياء آلات عاقلة، ففي الأولى لا يتعدى التأثير المادة، أما في الثانية فالتأثير بينها على المادة والروح تأثير يجريه الحي على الحي بإرادته مدفوعا بغريزته الفطرية أو بآرائه أو بعوائده المكتسبة أو يتقبله مرغما بالنسبة لصلته بالروح والمادة، فعلى هذا فإن التأثير عام بين الكائنات بأجمعها، غير أن الأحياء تعانيه وتشعر به، والبقية تعانيه بلا شعور؛ لأن الأولى كاملة والأخرى ناقصة، فالأرض بحيوانها ونباتها وجمادها تتأثر بعضها ببعض كما أنها تتأثر بالعناصر الأخرى وبالكائنات العلوية، وتؤثر عليها كما تؤثر الشمس والقمر على الأرض كما نرى في المد والجزر في البحار، رأت الحية العصافير فجاءت إليها مدفوعة إما بطبيعتها الفطرية طلبا للغذاء أو بعوائدها المكتسبة ترفها بالمأكل، وحيث إن القوة التي بالحية إن جسمية أو روحية هي أقوى من العصافير، فقد تسلطت عليها وأوقفتها بقوة تأثيرها رغم ما كانت العصافير تراه من الخطر المهلك، فكانت والحالة هذه، قوتها الإيجابية ضعيفة جدا بالنسبة لقوة الحية السلبية، ولكن لما حضرتم وكنتم مع العصافير على الحية انقلبت الآية وتحولت دفة الميزان فنجت العصافير، وهكذا فإن الغلبة دائما للقوة. قال هذا وصمت قليلا، ثم نظر إلى أصحابنا الثلاثة يستطلعهم فكرهم، وحدق بفريدة بنوع خاص ليعلم مبلغ فهمها وما استوعبته من هذا الشرح، ولكنها لم تطل وقت انتظاره بل قالت له: لقد أفهمني الشيخ الآن بما أدلى به ما كان لغاية الآن مبهما علي فهمه؛ أولا من أمور وحوادث شتى، وثانيا مما لقيت أخيرا في حادثي مع فريد. لقد كنت أسمع كثيرا عن مثل هذا، وكنت أقول: إن هذه المسائل خارقة للطبيعة، وبهذا كنت أقنع نفسي، أما الآن فقد أصبحت يمكنني بناء على هذه القاعدة أن أعلل مسائل جمة، ولما كان الشيء بالشيء يذكر أقول: كنت ذات يوم مع إخوتي في نزهة، وإذا بطائر كان كأنه جامد في الهواء انقض بسرعة على الأرض، ثم ارتفع وبمنقاره حية فخفنا وارتعبنا قليلا خوفا من أن يفلتها فتقع علينا، فتعجبت جدا من أن هذا الطائر لم يخف الحية بل انقض عليها واصطادها. فتبسم نجيب وقال: لو كنت معنا يا فريدة قبل اليوم حين شرح لنا شيخنا سنة التبادل والتوازن، لعلمت أكثر من هذا، فحقيقة أن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ؛ فكما أن حيتنا اليوم تقتات بالعصافير، كذلك كان طائرك يقتات بالحية، وحيث إن شيخنا قد أذن بدخولك في مدرستنا، فسنتولى فريد وأنا إفادتك عما سبق وشرح لنا. قال هذا ثم نظر إلى الشيخ وقال: لقد استلفت نظري في كلام فريدة قولها: إنهم خافوا لما رأوا الطائر مرتفعا وبمنقاره الحية، فالخوف كان من الحية طبعا، والخوف يكون عند تغلب القوة المهاجمة على المدافعة، أو على حسب لغتنا الآن السلبي على الإيجابي، فبماذا نعلل تأثيرهم وهم جماعة من الحية، وهي واحدة، وفي حالتها هذه لا قوة فعلية لها مع أنه إذا كان هناك تأثير خوف وجب أن يكون من الطائر صاحب القوة على الحية؟ فأجاب الشيخ وقال: لقد أصبت فيما قلت، ولكم اعلم أن الخوف من الحية في هذه الحالة هو نتيجة، وهم تسلط عليهم عند رؤيتهم للحية، فذكرهم بما كانوا سمعوا وقرءوا عن الحيات فأضعف فيهم القوة، وما أشد تأثير الوهم على الأحياء! ويكون الخوف أيضا من الشيء على قدر توهم الأذية منه، فأذية الطائر للإنسان جزئية، لكن الحية إذا لدغته لربما مات.
الغريزة الفطرية في الأصل هي واحدة في الإنسان كما في بقية الأحياء، وضعت فيها لأجل حفظ كيانها في المرحلة التي تقطعها في حياتها، فهي الميزان في كل حي لدرجة معلومة بين السلبي والإيجابي، غير أنها في بعض أجناس من الأحياء قد ترقت أكثر منها في الأخرى حسب ما طرأ عليها من التأثيرات والتطورات، كما أنها في الإنسان قد ترقت لدرجة صار يمكن القول عنها: إنها تغيرت معالمها بما حل محلها من ترقي التصور والابتكار، وبما تأثرت به من العادات والأوساط حتى لم تعد البقية الباقية منها تكفي لوحدها لأداء الغرض فوضعوا القوانين والشرائع، وما أحاطوها به من الأوهام لتقوم مقام هذه الغريزة الفطرية لحفظ ميزة الجنس على غيره، وبما أن الغريزة التي بالحيوان هي نفس العقل الذي بالإنسان، وهو من خصائص الروح، وحيث إن هذه هي مشتركة بين الإنسان والحيوان مع حفظ نسبة التفاوت؛ فلهذا كان تأثير الحيوانات ومنها الإنسان بعضها على بعض عظيما كما سبق فذكرت ذلك. لقد قلت لكم الآن: إن كل وحدة من أجزاء هذا الكون هي قوة قائمة بذاتها مهما صغرت أو كبرت، وهي إنما تختلف كبرا أو صغرا بما تقارن به من بقية الوحدات؛ فلهذا فإن تأثيرها يختلف فيما تنضم إليه أو تنفصل عنه أو تصطدم به حسب نسبتها إليه، وفي كل الأحوال لا بد لحصول التأثير فيها ومنها، وهذا التأثير هو سبب اختلاف المظاهر والأشكال وتنوع الأجناس وتعدد الوحدات إلى ما لا نهاية. واعلموا أن الجاذبية ليست سوى مظهر من مظاهر التأثير في المتجانسات إيجابيا أو سلبيا للضم أو للانفصال. فقالت فريدة: إن لي استفهاما آخرا أظن أن له علاقة بالموضوع أرجو من الشيخ إيضاحه، وهو أمر شائع جدا خصوصا بين بنات جنسنا، فالبسيطات الجاهلات تؤمن به والمتعلمات تعده من الخرافات والخزعبلات، ولقد شاهدت جملة حوادث بنفسي أوقعتني في حيرة، ولا بد أن شيخنا يكون قد سمع بمسألة العين وما ينسبون لها من التأثير، وهاكم ما شاهدته بنفسي وما سمعته ممن أثق بهم تمام الثقة:
كنت ذات يوم مع والدتي وأخي الصغير في زيارة عند بعض الأقارب، وكانت هناك امرأة قيل لنا أنها عاقر لم ترزق أولادا، فلما شاهدت أخي قالت لأمي: يا لحسن حظك بهذا الولد، وأحدقت النظر بأخي هنيهة، ولكنها لما خرجت اعترى أخي ألم شديد اضطرنا إلى العودة إلى البيت، ولما كشف عليه وجد في جنبه ألم يشبه العين في الجهة المواجهة لجلوس تلك المرأة، فداويناه عدة أيام كاد فيها أن يقضى عليه حتى شفي وزال الألم. وأذكر أيضا أني كنت مرة مع بعض صديقاتي فجاءتنا إحدى البنات من أقارب صديقتي ونظرت إلي وكنت أرسم بيدي بعض الرسوم على قطعة من قماش، فقالت: ما أجمل هذا الرسم! وما أخف يدك! فيا حبذا لو كنت أستطيع مثل هذا العمل، فشعرت في الحال بألم في يدي أوقفني عن متابعة الرسم ولم يزل ذاك الألم إلا بعد علاج بضع ساعات. وأمثلة هذه الحوادث كثيرة جدا لا بد أن يكون نجيب وفريد يعرفان أيضا منها الشيء الكثير. فقال نجيب: نعم، إني سمعت كثير عن مثل هذا، ولكن أغرب ما سمعته من هذا القبيل حادثتان: الأولى جرت في بيتنا أرويها عن أهلي، والثانية بالقرب من بستان لعمي، فالأولى هي أنه كان أمام بيتنا دالية عنب كبيرة كانت مرفوعة من مدة مديدة على سقالة من خشب متينة الوضع؛ كي تقاوم عواصف الشتاء، ففي ذات يوم وكان الزمن صيفا والدالية عليها من العنب الشيء الكثير، جاءنا بعض الزائرين ومعهم رجل مشهور عنه على حسب اصطلاحهم؛ أنه يصيب بالعين، وكان أهلي لا يعلمون ذلك فرحبوا بهم حسب المعتاد، وبعد تقديم القهوة قطفوا لهم بعض العناقيد من عنب الدالية وكانت كبيرة الحجم جميلة المنظر حلوة الطعم للغاية، فأكلوا هنيئا، ثم نظر ذلك الرجل إلى الدالية وقال حقا: إن هذا العنب لهو في غاية الجودة، وهذه الدالية هي حقيقة فريدة في نوعها هنا، وفي الحال مالت السقالة وتفككت أخشابها بعضها من بعض وسقطت إلى الأرض.
والحادثة الثانية هي أن عمي كان مدعوا مع أهل بيته عند بعض الجيران في بستان لهم، وكان بين الحاضرين رجل مثل الأول، فجرى الحديث عن العين وتأثيرها فتبسم الرجل وقال: إذا أردتم أن أبرهن لكم على ذلك فليتفضل أي منكم ويعين لي أي غصن من أغصان هذه النخلة؛ وأنا بنظرة من هنا أقطعه لكم، وفعلا تم ذلك مرة ومرتين وثلاثا، فكان هذا الرجل ينظر إلى الغصن المعين محدقا به فيسقط الغصن كأنه قطع بسكين حادة؛ حتى دهش الجميع وتولاهم بعض الخوف من عينه وأفعالها، فقال الشيخ: نعم، إن هذه الحوادث لهي مما يستلفت الأنظار، ولكنها الآن يجب أن تكون عندكم بسيطة لا تستوجب الاستغراب بعد الذي شرحته لكم، فإن تينك المرأتين في حادثتي فريدة وهذين الرجلين في حادثتي نجيب، يملكون قوة عظيمة تخرج من عيونهم كالسهم فتؤثر على الهدف المسلطة عليه على نسبة قوتها وقابليتها، وكما أن هذا التأثير جرى في هذه الحوادث على المادة مثل يد فريدة وجسم أخيها وسقالة الدالية وأغصان النخلة، كذلك يجري كثيرا على الأرواح وخصائصها كما كان الحال في حادثتي الحية مع العصافير والطائر مع الحية، وكما في التنويم المغناطيسي وانتقال الأفكار وخلاف ذلك، فقالت فريدة لفورها: نعم هذا صحيح، وأزيد عليه بأن الحيوان يمكن أن يؤثر روحا على الإنسان، كما أن الإنسان يمكنه أن يؤثر روحا على الحيوان.
وهاكم حادثة من جملة حوادث سمعتها عن الضباع: كان أحد أصدقائنا مسافرا في ليلة ظلماء شاتية من بلد إلى بلد، وفي الطريق تصدت له ضبع في مكان منفرد، ولما رآها اعتراه خوف شديد أضاع رشده وعقد لسانه وفقد كل قوة للمقاومة أو الهرب، فجمد في مكانه كالتمثال لا يبدي حراكا كأنه أنيم مغناطيسيا، فتقدمت منه وابتدأت تنهشه حيا، وتصادف أن مر من هناك في تلك اللحظة أناس سمعوا أنينه فوجدوه على تلك الحالة فعرفوه وكانت الضبع لما شعرت بقدومهم تركته ولاذت بالفرار فلحقوا بها ورموها بالرصاص فقتلوها، وجاءوا بصاحبنا إلى بيته. فأجاب فريد وقال: لقد كنت سمعت كثيرا عن مثل هذه الأمور، فكنت أنسبها فقط إلى الجبن والذعر أو لا أصدقها، ولكن الآن نرى أنها نتيجة عوامل طبيعية كما بين لنا شيخنا ذلك، حيث شبه جميع وحدات الكون بالآلات الميكانيكية تنبعث منها القوة السلبية والإيجابية، وعلى هذا نرى أنه ظهر لنا سبب كثير من الأسرار.
صمت الجميع هنيهة بعد ذلك محدقين بالأرض لا ينبسون ببنت شفة، ولا يأتون بأقل حركة حتى قطع نجيب ذلك السكوت بقوله مخاطبا الشيخ: لقد قال الكتاب: «هذا هو الناموس أحبب قريبك كنفسك، وأكرم أباك وأمك.» وقد بين الشيخ لنا في كلامه عن التوازن السلبي والإيجابي أصل حكمة الآية الأولى. والآن بناء على قاعدة التأثير هذه التي لها أيضا مساس بتلك الآية بما يتأثر به الجاني من الانفعالات المسببة عن المجني عليه، يتضح لنا أصل حكمة الآية الثانية؛ لأنه ما من أحد يمكنه أن يشعر بتأثير الوالدين من فرح أو حزن، بغض أو حب، غضب أو سلام، مرض أو صحة أكثر من الأولاد؛ لأنهم أكثر صلة وأكثر تجانسا دما وجسما وروحا، وعادة من أي شخص آخر؛ لأن الأولاد هم جزء من الوالدين كما أن الغصن يتأثر من الأصل أكثر من تأثره من الخارج؛ ولذا فقد قال الكتاب أيضا: «إنه يثأر من الآباء بالبنين إلى الجيل الرابع والخامس»؛ أي: إن التأثير يدوم ما دام التجانس؛ لأنه بعد هذا يضعف أو يضمحل بما يطرأ عليه من التغييرات. وهأنذا أروي لكم حادثة من هذا القبيل سمعتها من أحد أصدقائي قال: كان غلام سيئ السيرة مبذرا، يبعثر كل ما يصل إلى يديه من الدراهم في اللهو والملذات، ضاقت في إصلاحه جميع حيل وإرشادات والديه حتى قبض عنه أبوه يده أخيرا، فلم يعد يعطيه غير النذر اليسير جدا، فتضايق الغلام، وعزم على الفتك بأبيه. وسمعت الأم بالأمر فخافت على زوجها من شر ابنها وعلى الابن من سوء المغبة، فأخبرت الأب بذلك، ورجت منه أن يحتاط للأمر ولا يعرض نفسه للخطر؛ لأنها عرفت أن الابن كان عازما على الإقدام على فعلته في تلك الليلة، أما الأب فلم يعر الأمر ما كانت تنتظره من الاهتمام، بل اكتفى بأن سألها إذا كان هذا الولد حقيقة من صلبه أم لا؟ قائلا لها: إن على صدقك يتوقف أمر حياتي، أما الأم - وكانت امرأة طاهرة الذيل - فقد أكدت للأب أنها لم تخنه قط، وأن الولد هو لا شك ولا ريب من صلبه، فاطمأن الأب لهذا التصريح وقبل امرأته وخرج رغم توسلها إليه بالبقاء، ولما رجع بالليل كان الولد كامنا له في إحدى منعطفات الدار المظلمة، فلما شعر بقدوم أبيه هجم عليه والسكين بيده، وهم أن يغمدها في صدره إلا أن الأب، وكان حذرا ومتوقعا مثل هذا الهجوم وهذه المفاجأة، صاح بالغلام وقال له: اضرب يا ولد هذا صدري أمامك، فحين سمع الولد صوت أبيه ارتجفت يداه وخارت قواه وسقطت السكين من يده وانطرح على قدمي أبيه باكيا يقبلهما متوسلا نادما واعدا بإصلاح سيره، وفعلا كان ذلك. وأصبح ذاك الغلام السيئ السيرة المسرف من خيرة الناس سلوكا واقتصادا.
نامعلوم صفحہ