وأخيرا مات أبوه، ذلك العجوز القديم المحب للقديم، التقي الورع، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، فأحس موسى بأن حملا كبيرا كان على ظهره رفعه الموت، ولكنه كان يحتشم إكراما لأمه ويظهر أمامها بالخضوع، ولكن أمه كانت مريضة، وقد بلغت من الكبر عتيا، فلم تبق بعد أبيه طويلا حتى لحقت به، فخلا الجو لموسى بعد موت أبيه وأمه، لا سيما ولم يكن له إخوة ولا أخوات ولا أقارب ينازعونه الإرث الهائل الذي وصل إليه بموتهما، فجال وصال في ميدان اللهو واللعب ، وأسرف في ماله، وفتح داره للغادات والغواني وغيرهن، وأولم الولائم، وفرط عقد الاحتشام، وعقد لواء الأنس، ولم يدخر وسعا في الجري وراء الملاذ، ولم تفر منه فرصة السرور، ولو كلفه ذلك ما كلفه، وكان أبوه المسكين قبل موته بأيام قلائل يفكر في زواجه بمن تصلح له من الفتيات الكريمات، ولكن مات الرجل ومات أمله ودفن معه في قبره.
وكانت لموسى بك أبي مختار ضياع وعمارات وديار وحوانيت في القاهرة، فأتى على أغلبها بيعا ورهنا.
ويلوح لي أن ظواهر المدنية التي دخلت مصر منذ ثلاثين عاما، بهرت عيون أهلها؛ لأنهم هبوا من نومهم فوجدوا القاهرة في عهد إسماعيل كباريس في عهد لويس السادس عشر، وجدوها زاهية، زاهرة، فيها الملاعب والملاهي، الحرية ضاربة أطنابها، الطرق الفسيحة المضاءة بالأنوار، الحدائق الغناء والقصور الباذخة فيها ما فيها، النيل يرقص ويصفق، وأبو الهول يضحك، لا خوف ... لا وجل ... أمان أمان ... حرية ... حرية ... حرية، رقص، لعب، لهو. اضحكوا يا مصريون، العبوا يا قاهريون، هذا عصر المدنية، فاعبثوا فيه كما تشاءون ...!
فلم يكن موسى بك هو الشاب الوحيد الذي جن بتلك الزخارف، بل كان المسكين سفينة ضالة في بحر السرور، تقذف بها الأمواج وتزفها الرياح كما تشاء، فتكسر قلوعها وتقطع حبالها، وكذلك ضاعت ضياع موسى ودياره وحوانيته وعماراته إلا قليلا، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره، كل ذلك وهو لم يتنبه من غفلته ولم يحسب للفقر والفاقة حسابا، ولكنه سئم تلك الحياة المضيعة، وتاقت نفسه إلى شيء من السكون والراحة بعد الجري وراء الملاذ، فعقد نيته على الزواج، فطرق أبواب الأغنياء يلتمس منهم فتاة تتزوجه معتمدا على شرف عائلته واسم أبيه وجده بعد أن أضاع أغلب ما كان له، فردوه وطردوه بعد أن علم كل الناس أنه سيئ السلوك لا يصلح للحياة العائلية، فلم يشاءوا أن يضحوا ببناتهم لأجله، فعاد المسكين بصفقة المغبون، وليس في يده صنعة يتسلى بها، وليس في داره إلا الخدم، وليس له قريب يحنو عليه، فعدل عن الزواج، ولكنه بعد قليل استأجر امرأة تخدمه، وكأني به قد انتقاها جميلة لتقوم بأغراضه، وأغلب هؤلاء الخادمات نساء فاسدات، وقد خان إحداهن في عفتها شرير، ثم رمى بها في ديجور الحياة، فخرجت ضالة لعل غيره يعثر بها.
وقد قرب موسى تلك الخادمة من فراشه، وما زال يداعبها ويجود عليها بالمال ويعدها بالخير، ويحبب نفسه إليها حتى قضى منها وطرا ... وحملت منه، فلما ظهرت عليها علائم الحمل، حادثته في الأمر، وأشارت عليه بأن يأتي إليها بدواء يهلك الجنين في بطنها، فلم يقبل بذلك، وقال لها: «إني كفيل بتربيته.» وبعد تسعة أشهر وضعت تلك الخادمة طفلا ضعيفا هزيل البدن مملوءا بالأمراض والسقام التي جناها عليه أبوه، وهو يرتع في جحيم الزنا، ويجرع من سم الخمور.
هذا الوليد هو مختار المسكين الذي جنى عليه أبوه وما جنى هو على أحد، ولما جاء ذلك الغلام أحبه أبوه كثيرا وزاد في إكرام أمه، وبعد ذلك بعام حملت المرأة ثانية ووضعت بنتا، ويظهر أن الرجل بامتناعه عن الزنا والخمر وما يتبعهما مدة عامين وباعتكافه في داره بعد أن هذبته الأيام والليالي، قد حسنت صحته واعتدل في حياته، فجاءت البنت أصح وأجمل من الولد الأول الذي كان دائما حليف الأمراض والسقام حتى يئس أبوه من حياته.
وبعد أن وضعت المرأة تلك البنت، عقد الرجل نيته على زواجه بها، وكان ذلك، وأصبحت حليلته بعد أن كانت خادمته وخليلته، ونمت البنت ودرجت، وأما الولد فكان في كل يوم في حاجة إلى الطبيب والعقاقير، وأخيرا وضع يده في يد أخته وانتصب قائما على قدميه، وسار أول خطوة من خطواته، ففرح به أبوه فرحا شديدا وسرت به أمه؛ لأن مختارا كان ذكرا، وهو أكبر الطفلين وحياته ضرورية لبقاء نسل العائلة الكريمة ... ولو علم الرجل وزوجته بماذا كان يخبئ الدهر لذلك الطفل المسكين وأخته لبكيا بكاء مرا بدل أن يفرحا.
وما زال الطفلان ينموان تحت ظل أبيهما، وهو الرجل الساقط الذي لم يرجع عن الذنوب إلا تعبا منها، وأمهما وهي تلك المرأة الساقطة الجاهلة، حتى بلغ الولد العاشرة من عمره، والبنت التاسعة من عمرها، وكان من يرى الطفل لا يظنه إلا ابن خمسة أعوام لنحافته ورقته وخموله، وعند ذلك بعث به أبوه إلى مدرسة الذكور وبأخته إلى مدرسة البنات.
وكان مختار في المدرسة تلميذا متوسطا قادرا على عمله، ولكنه لم يكن قادرا على الجري والقفز والطفر والمسابقة وباقي الألعاب الجسمانية؛ لأن جسمه كان ضعيفا جدا، وكان لا يتمم عمل سنة في سنة، بل كان يحتاج إلى سنتين.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره نال شهادة، فسعى أبوه إلى إلحاقه بوظيفة كتابية صغيرة في إحدى دوائر الحكومة، ثم رد البنت إلى خدرها.
نامعلوم صفحہ