النسيان
- إنك قاس.. - أنا؟ يا خبر أسود! وهل فى هذه الدنيا الطويلة العريضة من هو أرق منى قلبا؟ - ولكنه أبى.. أنا أتألم. - أعرف أنه أبوك.. وأعرف أيضا أنه نادر، وأنه منقطع القرين.. أيكفى هذا الثناء أم تريدين الزيادة؟ يكفى؟ حسن.. ولكن ذهوله يضحك الثكلى، فماذا أصنع؟.. ما حيلتى؟
فقالت الفتاة بلهجة مبطنة بالعتاب: «ولكن هل من الضرورى أن تقلده؟ إن هذا هو الذى يسوءني منك».
فقلت: «فكرى يا فتاتى.. قولى لى كيف يمكن أن أقص عليك الحكاية وأصف لك ما حدث بغير ذلك.. إنى لا أريد تقليده، ولكن الصدق فى الرواية والفن فى عرضها يتطلبان ذلك.. بل يجىء منى التقليد عفوا وعلى غير عمد» فاقتنعت أو هى لم تقتنع، ولكنى كنت قبل أن يدور هذا الحوار، قد شرعت أقص عليها حادثة جديدة من حوادثه التى لا آخر لها.. فلما احتجت إلى تقليده فى بعض مواقفها ضحكت، ثم انقلبت تعاتب وتستهجن التقليد وتعيب المحاكاة. وهذا بعض ما يحيرنى من المرأة، فقد كان ضحكها وعتابها فى وقت معا، وكانت تضحك وتشير إلى بيدها منكرة ماترى وتسمع منى.
وقد عرفتها من أبيها، وبفضل ذهوله العجيب. وكانت تخرج معه لتقيه عواقب ما يقع منه. فكأنها وهى ترافقه وتروح وتجىء معه، ذاكرته الذاهبة. واتفق يوما أن نسيها - نعم نسيها - وخرج وحده، واهتدى - لا يدرى أحد كيف؟ - إلى ناد لم أكن أعرف أن مثله موجود فى بلادنا، فإن حياة الأندية طارئة وعهدنا بها حديث جدا. وكنت قد دعيت فى تلك الليلة إلى زيارة هذا النادى، وقضاء بعض الوقت فيه.. وكان الذى دعانى يرجو أن أنضم إليه ويحثنى على ذلك ويزينه لى، وأنا أتأبى وأبين له أن حياة الأندية فى مصر جافة ثقيلة، وأنها قلما تكون إلا حياة مقامرة أو ما أشبه ذلك، فيضحك منى وينفى ذلك ويقول: «تعال انظر بعينك ثم احكم» فذهبت وكان أول من لقينا هذا الشيخ ولم أكن أحتاج إلى من يعرفنى به، فإنه صديق قديم.. فأقبلت عليه وجلست معه فصفق، فلما جاء الخادم نظر إليه مستغربا ثم إلى أنا مستفهما. فقال الخادم، وكان يعرف ذهوله: «هل تريد شيئا يا بك»؟
فقال البك: «أ.. أ.. أريد.. أريد.. ماذا أريد»؟
فكتمت الضحك، وقال الخادم: «لقد دعوتنى يا سيدى فهل أجىء لك بقدح من الويسكى»؟ فنسينى وقال: «أ.. أ.. نعم.. نعم.. أ.. نعم نعم نعم..».
وذهب الخادم وعدنا إلى الحديث الذى لا يكون معه إلا محاورات ولفا من هنا وهاهنا، بسبب هذا الذهول الذى أصيب به. فقال بعد كلمات: «ولكنى أهملك.. إن هذا لا يليق.. اعذرنى.. لقد نسيت أن أدعو الخادم».
وصفق مرة أخرى، فلما جاء الخادم لم أقل شيئا انتظارا لما يكون منه، فقال له: «أ.. يا خليل.. هل طلبت منك شيئا»؟
فقال الخادم: «نعم.. قدحا من الويسكى».
نامعلوم صفحہ