قال: «لماذا.. أين الصعوبة؟ ما عليك إلا أن تحضر وتجلس معهم ساعة أو بعض ساعة ثم ننصرف جميعا، وكفى الله المؤمنين القتال».
فأطرق الرجل قليلا ثم قال: «ولكنى لا أريد أن أختصر حياتى.. إنى أستطيع أن أعيش.. دعنى أنظر..».
فعالجه سعيد حتى صرفه عن التفكير فيما تكلفه الحفلة من النفقات للثياب، فقد كان هذا هو الذى يفكر فيه ويستثقله خوفا على عمره.
ولكن المشكل لم يحل مع ذلك، فقد كان ابنه على بك - فقد صار بيكا - عبد القادر التميمى، فى حيرة شديدة من أمره من جراء عناد أبيه، فإنه - أى على بك - رجل ذو مركز ومقام فى المجتمع، وقد زوج ابنته منذ عهد قريب لرجل له مركز ومقام فى المجتمع أيضا، وليس يليق أن يكون أبوه - أى أبو على بك - هذا الرجل الرث الهيئة الزرى اللباس الرقيق الحال الساكن فى غرفة حقيرة فى ربع عتيق أو جديد إذا أمكن أن يكون هناك ربع جديد - وقد استطاع أن يرجئ لقاء بنيه ونسيبه لهذا الأب الذى جاء من حيث لم يكن يحتسب، فقد زعم لهم أن العثور عليه أو الاهتداء إليه أحدث له رجة عصبية يحسن معها اتقاء إزعاجه إلى حين. ولكن الصحف بدأت تكتب وتفيض، ولا سبيل إلى كبح الصحف أو صرفها عن الموضوع.. فما كل يوم يختفى أديب كانت له شهرة واسعة، ثم يظهر بعد أربعين سنة. وقد حرص جميل بك وسعيد أفندى على إخفاء مسكن الرجل، ولكن الصحف لا يسعها أن تصبر على ذلك.. ومن حقها أن تعرف أين يسكن أو يقيم وإلا كانت معذورة إذا هى استرابت فى الأمر كله. أضف إلى ذلك أن حفلة ستقام ويشهدها مئات من الخلق. وقد كانت فكرة الحفلة هى التى أعانت جميل بك على إقناع الصحف بالصبر والانتظار، وجعلت الموضوع شيقا وخليقا أن يجد القراء فيه مثل لذة الأساطير. ولكن هذا لا يمكن أن يدوم ولا مفر آخر الأمر من كشف الحقيقة كلها، فما العمل؟
لهذا لجأ إلى سعيد وجميل بك ورجا منهما أن ينقذاه ويحولا دون الفضيحة التى يجزع منها ولا يعرف له قدرة على احتمالها، فاتفق الثلاثة أن يحملوا الرجل - ظهر يوم الحفلة - بعد أن يلبسوه بذلة إلى بيت ابنه، ومن هناك يذهبون به إلى الحفلة فى المساء. •••
وجاء يوم الاحتفال، فذهب إليه سعيد بعد الظهر ومعه ثياب أراد أن يلبسه إياها.. فأبى واستكبر وغضب أيضا، وقال إنه ليست به حاجة إلى ثياب ولا إلى أحد من الناس، وإنه لا يريد أن يحضر هذه الحفلة أو يرى وجه إنسان، وإنه ما يعيب ثيابه على كل حال؟ أليس قد قابل بها الناس فى مصر وفلسطين والشام والحجاز والأفغان والعراق وإيران.. فاذا كانت لا تكفى هؤلاء المعجبين به والذين يريدون أن يحتفوا ببعثه، فإنه يحسن بسعيد أن يحمل إليهم ما جاء به من الثياب على مشجب، ويقول لهم إن هذا ما يطلبون وهو كل ما يستحقون أن يروا.
ولم يقل هذه الألفاظ بعينها ولا ما يقرب منها، بل فاه بما هو أعنف. وكان صوته متهدجا وكلامه متقطعا، وكانت لحيته الطويلة الكثة تضطرب وأسنانه الباقية تصطك، فلم يجد سعيد بدا من السكوت والكف عن الإلحاح عليه بعد أن وضحت له قلة جدواه، وسأل الله فى سره الستر والسلامة فى هذه الليلة.
وخرجا من الغرفة.. سعيد فى ثيابه الإفرنجية التى يلبسها الأفندية من أمثاله، والأستاذ التميمى فى جلباب فضفاض وجبة قديمة وحذاء أصفر صارت الرقع فيه أكثر من الأصل فكأنه مركوب أبى القاسم، وطربوش مصرى سوى أنه طرى وعليه لغة كانت فى الأصل مزركشة فأصبحت ألوانها حائلة باهتة.
وكان سعيد قد جاء فى مركبة وتركها تنتظر فى الطريق أمام الباب، فأحاط بها غلمان الحارة.. هذا ينط على السلم وذاك يعبث بالغطاء ويطويه وينشره ويكرر ذلك مرات، والسائق يصيح بهم أن يكفوا ويلعن الساعة التى دخل فيها هذه الحارة، ويقرقع بسوطه ليزجرهم ويخيفهم فينفضون متضاحكين ثم يعودون إلى غيهم حتى كاد عقل السائق يطير. فلما ركب الرجلان راح الغلمان يجرون وراء المركبة ويتعلقون بها من خلفها ويصيحون، والسائق يلوح لهم بالسوط ويضرب به ظهر الغطاء حتى خرج إلى الطريق العام.
ولا نطيل.. ولا نحاول أن نصف لقاء الرجل بأحفاده، فقد خاب أمل الأسرة كلها حين رآه أعضاؤها وأخذت عيونهم الفاحصة قدم الثياب ورثاثتها. وكان ابنه أعظمهم خيبة أمل وأشدهم قلقا واضطرابا، ولا سيما حين عرف إصرار أبيه على هذه الثياب الوضيعة المخجلة حتى لقد أشفق عليه سعيد أفندى أن يفلج، فراح يحاور الأستاذ التميمى ويداوره مرة أخرى عسى أن يهديه الله.. ولكن الرجل كان جبلا لا يتزعزع، ولما قال: «أنا كما أنا.. فمن كان يقبلنى على علاتى فأهلا به، وإلا فإنى أرجع إلى غرفتى.. فما طلبت أن أجىء ولا أردت أن يعرف ابنى أو سواه أنى على قيد الحياة»، عندئذ أمسك سعيد أفندى وأقصر.
نامعلوم صفحہ