وقفت أحدق فى هذا الوجه الذى أضاءته لى النار المضطربة الخفاقة اللمعان، وخيل إلى وأنا أنظر أنى لم أر قط أجمل ولا أبرع من هذا الحسن، وراعنى على الخصوص ما على الوجه من آيات السرور الباطن .. فألفيتنى أتساءل: ماذا ترى يسرها وهى قاعدة وحدها تتدفأ؟ ومن أين جاءت ياترى هذه السعادة التى تومض بها عيناها وتشى بها هاتان الشفتان الصامتتان؟ وأحسست أن أنفاسى أسرعت وأن الدموع تجول فى عينى، فقد كانت الفتاة جميلة وكانت الروعة قد غمرت صدرى، بل ملأ قلبى الخوف كأنما أشهد الحياة نفسها لا إنسانا فانيا مثلى. وارتفع لسان النار فجأة وخفق ضوءها على محياها المبتسم، فخيل إلى أن الدم يجرى كالمجنون تحت جلدها الرقيق. وكانت هى ساكنة لا تتحرك، ولا تزايلها ابتسامتها الهادئة المرتسمة على عينيها الضيقتين المائلتين وفمها المطبق الشفتين. نعم.. كانت الحياة نفسها تنظر إلى من عينيها.. وبعينيها.
رأيتها بعد ذلك مرة أو مرتين فى نحو عام، وعلمت من صديقى - خالها - أنها يتيمة وأنها تقيم مع عمها وتزور خالها أحيانا، وأكثر ما تكون الزيارة فى الصباح حين أكون أنا فى المدرسة.. ولكنها لا تبقى معه إلا ساعة أو بعض ساعة. وقد حاولت أن أكلمها، ولكنى كنت أستحيى أن أطيل الوقوف معها أو الجلوس إليها، وكانت هى تحدق فى وجهى ولا تطرف حين تكلمنى، ولا أذكر ما كانت تقول وإنما أذكر كيف كانت لهجتها هادئة وحالها بادى الوثاقة.. كما ينبغى أن تكون الحياة.
وكنت أسألها أحيانا - وأنا لا أجد كلاما أقوله لها غير ذلك: «هل تلعبين الحبل»؟ ولا أصغى إلى جوابها، بل أروح أفكر فى جمالها وأعجب له.. وأسأل نفسى مستغربا ماذا وراء هذه العين يا ترى؟.. لماذا أراها سعيدة دائما بلا سبب أعرفه؟ وأشتهى أن أسألها عن ذلك، ولكنى آنس من نفسى جبنا فأسكت.
ومضت الأيام وتعاقبت السنون وكبرت وعرفت الأدب والقراءة، فصار كل ما أقرأه عن الحب فى شعر الشعراء وفى وصف الروائيين، يدور حول ذكرياتى القليلة منها، وابتسامتها الساكنة ووجهها الجميل وسعادتها الهادئة. وكان زملائى فى المدارس يذكرون مغامراتهم ويتحدثون بها ويباهون، وكنت أسمع وأسكت وأتعزى بأن هذا الذى يلهجون به ليس من الحب فى قليل أو كثر، وأقول لنفسى إنى أعرف ما لا يعرفون، وأعرف ما أعرف بالتجربة. ومع ذلك لم يخل هذا الصدر من أيامى مما يسمونه المغامرات، ولكنها لم تكن كثيرة أو باعثة على الرضى.. بل كانت على النقيض سببا فى السخط على نفسى واحتقارها، فآليت لأنصرفن عن هذا العبث. وأقبلت على الدرس والتحصيل واشتغلت بالشئون العامة، فصرت أحضر جمعيات الخطابة بل ألفت مع إخوان لى جمعية للخطابة. وعنيت بقراءة الصحف فكنت على صغرى أقرأ كل يوم ثلاث جرائد سياسية، وكنا جميعا من أنصار «مصطفى كامل» وعشاقه فى ذلك الزمان.
ثم جاءت الحرب العظمى، فشغلنا بأنبائها وبالاختلاف على نتائجها المحتملة وبالخوف على أنفسنا من الجواسيس والاعتقالات التى كنا لا نأمنها ولا نستطيع أن نعرف الطريق إلى اتقائها.. ولكن يوما من أيام تلك الحرب أذكره ولا أنساه. وكان لى صديق داره قريبة من دارى، ولم يكن معه أحد فى بيته وكان السهر محرما بعد الساعة التاسعة، فكنت أقضى عنده السهرة فى الأغلب، ولا سيما فى الصيف، فأرانى يوما مسدسا ورصاصات، فجعلنا نتدرب على إطلاقها ونرمى بها باب الحمام، ولم نكن نخشى أن يسمعنا أحد لأن البيت كان بعيدا عن العمار. ثم افترقنا، واتفق أن زارنى بعد ذلك ونسى عندى مسدسه.. ولا أدرى كيف كان يجترئ على حمله معه؟ فوضعت المسدس فى درج المكتب ونسيته فيه، وتكدست فوقه الأوراق على مر الأيام. فحدث يوما أن جاءنى صديق وثيق الصلة بالسلطة العسكرية، وأخبرنى أن بيتى سيفتش الليلة.. فشكرته، ولم أعر الأمر اكتراثا.. لأنه ليس فى بيتى ما أخشى على نفسى منه. فلما كان العشاء، جاء ضابط إنجليزى ومعه من المصريين ضباط وجنود، فدخلوا المكتب أول ما دخلوا. ورأى الإنجليزى الكتب الكثيرة على رفوفها، فأقبل عليها يتأملها.. فألفاها كلها كتب أدب، فجعل يقلبها وينظر إلى ثم سألنى عن عملى، فقلت: «مدرس» فاطمأن واعتقد مما رأى أنى رجل مأمون الجانب، وأرسل المصريين يفتشون بقية البيت، ووقف هو معى فى غرفة المكتب، ثم دنا من المكتب وجعل يقلب ما عليه من الأوراق المنتشرة بغير احتفال، ثم فتح درجا وألقى عليه نظرة ثم رده وشد الدرج الثانى.. ولم تكن للأدراج مفاتيح، فجمد الدم فى عروقى، فقد تذكرت المسدس فجأة، ولم أستطع من فرط الجزع أن أدعو الله أن ينقذنى. وكان الإعدام عقوبة من يحمل سلاحا كهذا بلا ترخيص - أو هكذا أعلنوا - ولكن الله سلم.. فرد الرجل الدرج وكان زملاؤه قد عادوا مخيا وانصرف وهو يبتسم، ولعله كان يعتقد أن تكليفه تفتيش هذا البيت سخافة مطبقة.
وما كادوا يذهبون حتى أسرعت إلى المسدس، فقذفت به فى بستان مجاور لبيتنا، وتشهدت.. ولم أطق البقاء فى البيت بعد ذلك من فرط الاضطراب، فخرجت أتمشى على غير هدى وإذا بى فى بعض الطريق - طريق حدائق القبة - التقى بفتاتى القديمة. عرفتها على الرغم من طول الزمن.. وعرفتنى هى كذلك ولم تنكرنى، فصحت بها كالأبله: «تفيدة.. أنت..»؟
فابتسمت لى ابتسامتها القديمة الهادئة ولم تزد، فقلت لها: «من أين، وإلى أين»؟ قالت: «إلى البيت» فمشيت معها إليه. وكان شقة فى عمارة عند «المحمدى» فدعتنى إلى الدخول فلم أتردد.. فإنا صديقان قديمان. ولم أر فى بيتها غيرها فلم أستغرب فإنها يتيمة، ولكنى لم أعرف من أين جاءت بهذا الأثاث الحسن وإن كان قليلا وعلى قدر الحاجة، واتفقت معها على يوم نخرج فيه للتنزه فى القناطر أو حديقة الحيوانات، فهزت رأسها أن نعم.. فتركتها ولم أسألها عن حالها وكيف تعيش.
والتقينا فى الموعد المضروب.. وكان النساء يتقنعن فى ذلك الوقت ولا يخرجن إلا فى الندرة القليلة بوجوههن سافرة، فركبنا عربة يجرها جوادان هزيلان، ومضينا إلى حديقة الحيوانات، وجلسنا على دكة منعزلة.. وقضينا أكثر الوقت صامتين، ثم فتحت فمى فحدثتها عن الزمن الماضى وحبي الصبيانى لها، وكيف طال عمر الحب وامتد إلى الحاضر، فلم تزد على أن تبسمت - كعادتها - وقالت: «لا أدرى لماذا أرى الناس يجنون بى».
فأحسست أن لوحا كبيرا من الثلج يوضع على قلبى.. الناس يجنون بها.. الناس ... إذن هناك مجنون، أو مجانين بها غيرى ودار رأسى، وذهبت أسأل نفسى عنها كيف تعيش. ولم يخطر لى هذا من قبل، ولكنه خطر الآن نعم كيف تعيش هذه التى يجن بها الناس؟ وأين وكيف ترى هؤلاء المجانين كلهم؟ لابد أنهم كثر ... فمن أين يجيئون.. إنى أنا صديق صباها، فلا عجب إذا كنت أعرفها.. ولكن غيرى.. غيرى.
وقطع على هذه الخواطر المزعجة سودانى فى ثياب الردنجوت. وكان كهلا، ولكنه يمشى معتدل القامة كالرمح.. فدنا منها وحياها باسمها وسألها عن حالها وعينه تومض، فردت عليه برزانة وسكون ومن غير أن تفارقها ابتسامتها المطبوعة. ولم يطل الوقوف، فمضى عنا وقد عرفت منها أنه ضابط فى الجيش وأنه الآن فيما يسمى الاستيداع، وأن بيته فى العباسية - قرب «المحمدي» فلم أقل شيئا ولكنى قلقت - أو على الأصح زدت قلقا وصرت أناجى نفسى بأن لعل هذه طريقة حياتها.
نامعلوم صفحہ