في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
اصناف
وهذا هو ما لجأ إليه مؤلف هذا الكتاب؛ فموضوع حديثه هو «الثقافة العربية» في حاضرها. وأين فيها ما لا بد له أن يتغير إذا أرادت الأمة العربية أن يكون لها نصيبها العادل في مشاركة هذا العصر فيما ينجزه وفيما يعانيه؟
إن عصرنا يتحدانا في كثير من قضاياه، فإما نحن مهيئون للتصدي لما يتحدانا به، وإما هلكنا تحت ضرباته، لأنه يضرب الضعفاء بقبضات من القنابل النووية التي لا تبقي ولا تذر؛ فأول ما نحصن أنفسنا به لنواجه عصرنا، هو أن تسري في عروقنا روح المحافظة على الهوية الوطنية القومية حتى لا تنجرف في تيار غريب يودي بها إلى الفناء، لكنها في الوقت نفسه روح أعدت نفسها لتتغير فيما يجوز لها أن تتغير به وهي صامدة، حتى تجد لنفسها موضعا في زمانها، ومن هنا تبرز لنا مشكلة عصية كثر فيها الكلام جادا ولاهيا، وأعني مشكلة المواءمة بين موروثنا الحضاري والثقافي من جهة، وما تقتضيه الحياة العصرية من تحولات من جهة أخرى؛ وفي هذا الكتاب محاولات للحل، أهمها أن نفرق بين إطار ثابت ومضمون متغير؛ فالإطار هو بمثابة المبدأ أو المبادئ الثابتة، التي منها يتكون جوهر الهوية الوطنية والهوية القومية، وأما المضمون المتغير فهو ظروف التطبيق التي تتشكل بأشكال العصور المتعاقبة، فليست صور الحياة العملية ثابتة على حالة واحدة برغم تغير الحضارات.
وبماذا تغير عصرنا عن سوالفه، إذا لم يكن قد تغير في رؤيته العلمية للكون؟ إنه لم يعد «العلم» علما على صورة ألفها الماضي من فجر تاريخه وإلى أمسه القريب: وأهم وجه للاختلاف هو دور «الأجهزة» في البحث العلمي من ناحية، وإنتاج الآلات بالكثرة الهائلة المتنوعة التي نراها. حتى لقد أصبحت أصابع العصر في آلاته وأجهزته جزءا لا يتجزأ من حياة كل فرد يعيش على الأرض. كائنا ما كان موقعه؟ إن عصرنا قد حاول وهو يحاول ما يزال أن يقرأ الطبيعة قراءة جديدة؛ فهل يجوز لإنسان يبتغي لنفسه مكانا ومكانة أن يقف خارج الصف، لا يمد يدا ولا يفتح عينا، في انتظار ما يتصدق عليه به الآخرون من «العلم» الجديد ونتائجه، ثم يتوقع في الوقت نفسه أن يكون له بين الناس وزن وقيمة؟ فالتحول من الأعصار في صفحات الكتب القديمة، أي الكون وظواهره، لنقرأها في مواجهة مباشرة، هو الخطوة التي لا بد منها، لنتحول - بالتالي - من جمود إلى حركة، من ركود إلى نهضة، من موت إلى حياة. وليست هذه دعوة إلى إحراق تراثنا أو إلقائه في اليم، كلا وألف مرة كلا؛ لكن ذلك التراث هو ماضينا، هو سلفنا، هو جزء من هويتنا، لكننا يجب أن نفرق فيه بين ما يدرس ويصان حفاظا على «التاريخ»، وبين ما يدرس ويصان لأنه لا يبلى بعوامل الزمن، كالأدب شعرا ونثرا، وكفقه الفقهاء وعلم علماء اللغة العربية، وغير ذلك مما تظل مشكلاته واردة مهما تغيرت عليه صور الحياة مع تغير العصور.
وإن مؤلف هذا الكتاب ليزعم بأن الأمة العربية قد غابت عنها مهمة هذا العصر، حين انصرفت باهتمامها عن المشاركة الإيجابية في حياة العلم المعاصر، مكتفية بما يأتيها منه نقلا عن علماء الغرب، وبهذا التقصير وضعت نفسها موضع الضعيف، الذي يتعرض لسيادة الغرب القوي عليه؛ ولقد تفرع عن هذا الموقف المتخاذل بالنسبة إلى المشاركة في دنيا العلم الجديد، نتيجة لا تقل عنه فداحة، وهي أن أفلت «الواقع» من أبصارنا، فقلما يدري دراية العارفين بما يدور حوله من أحداث ومغزاها. ولذلك فما أكثر ما جاءتنا الدواهي مباغتة وكأنها ولدت لساعتها. مع أنها محصلة تطورات طويلة الأمد، كانت تحدث ونحن غرقى في سباتنا وأحلامنا.
إنه إذا خرج القارئ من قراءة هذا الكتاب بشيء من التساؤل عما قد ورد فيه من مشكلات ومعالجتها، كان الكتاب قد حقق للمؤلف رجاءه فيه.
وما توفيقنا إلا بالله.
زكي نجيب محمود
يناير 1988م
رحلة صيف
أما الصيف فهو صيف هذا العام «1986م»، وأما الرحلة فهي تبدأ، وتسير وتنتهي، داخل الرأس، وصاحب الرأس جالس في غرفة الكتب بمنزله، الغرفة مغلقة الزجاج، وخزائن الكتب تدور مع الجدران، وقد أصبحت تبدو أمام صاحبها وكأنها ألسنة خرساء أصابها الخرس عندما حيل بين صاحبها وبينها، فالغرفة صامتة إلا من صوت المروحة الكهربائية في حفيفها الخافت، وكأن ذلك هو أول صيف يقضيه أخونا في القاهرة منذ فترة طويلة، فهو لعدة سنوات خلون - قد تبلغ العشرات - كان يقضي صيفه بعيدا، ويرجع قعوده هذا العام لأسباب بعضها عام وبعضها خاص، إلا أنه لم يشعر في ذلك بضيق، لأنه استبدل بحركة جسده من مكان إلى مكان سكونا هادئا وسكينة، كان في جلسته تلك طوال ساعات النهار، يبدو وكأنه جمد كما يتجمد الماء ثلجا في شتاء بارد، لكنه في دخيلة نفسه لم يكن بكل هذا الجمود البارد، إذ كانت تطوف به الحادثة العابرة، فتشد وراءها شريطا طويلا من صور الماضي. فلو أن صاحبنا أراد أن يفرغ على الورق شرائطه تلك ما كانت تحويه، لملأت له بغرائبها ونفائسها مجلدات، لقد كان أشبه شيء بالتلفاز، يضغط على مفتاح من مفاتيحه، فتنهمر أمامه حياة دافقة بأشخاصها وبأحداثها، فإذا أحس الملل، ضغط على مفتاح آخر لينفتح له عالم آخر، فكان في كل مرة كأنه ارتحل رحلة كتلك الرحلات التي كان يتحرك بها في أصياف أعوامه الماضية، وكثيرا جدا، ما كانت نقطة البدء في رحلاته تلك شيئا يتذكره عندما تقع عينه على ظهور الكتب المرصوصة في خزائنها، فالفكرة الفلانية تقفز إلى ذاكرته إذا ما رأى عنوان الكتاب الفلاني، وما إن تطوف الفكرة المعينة، حتى تتقاطر الذكريات، في تسلسل مرتب حينا، ومضطرب حينا. ولقد قص علي صاحبي إحدى رحلاته تلك، فرأيت في روايته ما ينفع الناس ... قال:
نامعلوم صفحہ