في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
اصناف
أما وقد وردت الإشارة إلى اللغة في سياق الحديث؛ فالكلام عنها في حياتنا الثقافية الراهنة - إذا أردنا أن نتقصى أوضاعها من جميع أطرافها - هو كلام يطول حتى لتضيق صفحاتنا هذه عن استيعابه، فحسبنا بضع إشارات موجزة سريعة؛ فاللغة العربية قد تتطلب حراستها إلى جماعة قد تكون لها من الفضيلة أقصى حدودها، لكن إدراكهم لما تحيا به اللغة إدراك محدود، فقصروا اهتمامهم على مفردات اللغة فهذه الكلمة صحيحة وتلك الكلمة مغلوطة، وفاتهم أن اللغة لغة بمركباتها وأساليبها أكثر جدا مما هي لغة بمفرداتها، فهذه - إذن - واحدة!
والثانية أنه بينما يعلمنا التاريخ أن ازدهار اللغة في جميع الأمم والشعوب من ذوات التاريخ الأدبي قد كان صنيعة أدبائها؛ فالأديب شاعرا أو ناثرا يتميز فيما يتميز به بحس مرهف تجاه اللفظ حتى لتراه يبدع بموهبته لفظا لم يكن قائما فيصبح بفضله لفظا صحيحا إضافة إلى اللغة، أقول إنه بينما كان الأديب - والشاعر بصفة خاصة - هو الوصي المؤتمن على لغته، أصبحنا في هذه الفترة الحاضرة من حياتنا، وإذا بالأديب فينا داعية إلى تحطيم اللغة! موهما الناس بأنه إنما يحطم ما يحطمه منها تجديدا وثورة على الركود، والله يعلم إنما عبثت أصابعه بتلك الجوهرة لجهله بنفائسها.
والعبث هنا أنواع؛ فتارة تقام الضجة حول قضية المفاضلة بين العامية والفصحى وكأنهما ندان في الأدب، وتارة يكون العبث في أقلام تستعين بالله وتكتب فيما تظنه فصحى، وتقرأ فتقرأ ركاكة في اللفظ يصرخ منها الذوق وأغلاطا فواحش تصطك لها الأسنان! ومع ذلك فالأقلام الكاتبة كان يحملها أدباء، وإذن فتلك هي الثانية .
والثالثة هي أنه بينما علماء اللغة في كل أقطار الأرض التي تقدمت العلوم بها وفيها قد أخذوا يصبون على لغاتهم أضواء تحليلية كاشفة من صنوف لم تعهدها علوم اللغة من قبل، وجاءت الملاءمة بين تلك التحليلات اللغوية الجديدة وبين عصرنا العلمي بأجهزته الحاسبة في أن تلك التحليلات قد هيأت اللغة - ولكل لسان لغته - وتحليلاتها لكي تصبح صالحة للدخول في الأجهزة الحاسبة (الكمبيوتر) على صورة جعلت الترجمة من لغة إلى أخرى في تلك الأجهزة ممكنة بدرجة مذهلة من الدقة؛ ففي بضع ثوان تخرج لك عدة صفحات مترجمة من الروسية إلى الإنجليزية مثلا! وذلك بفضل تحليل اللغة المترجمة إلى اللغة المترجم إليها! واستعمالات لغوية أخرى كثيرة باتت في حدود المستطاع بفضل العلوم اللغوية في صورتها الجديدة. ويكفيك في ذلك أن تلم بشيء مما فعله رجل واحد في هذا السبيل هو نوام تشومسكي! فكم من علماء اللغة العربية قد دفعه حبه للغة إلى إضافة علمية كهذه تدخل لغتنا في عصرنا، ولو من بعض الوجوه وإلى حد محدود، وتلك - إذن - هي الثالثة.
وأما الرابعة فهي أن اللغة العربية - ككل اللغات الغنية الأخرى - فيها الطاقة لأن تكتب بها العلوم كأدق ما تكون الكتابة العلمية، وفيها الطاقة كذلك لأن يكتب بها الأدب في كل مستوياته حتى يبلغ ذروة الشعر! والفرق الجوهري بين الحالتين هو أن اللغة في الحالة الأولى تشير إلى موضوعات التفكير إشارة محددة ومباشرة دون أن يكون فيها أقل قدر من الإيحاء، في حين أن اللغة في الحالة الثانية إيحائية إلى آخر حد مستطاع، وليس من أهدافها عندئذ أن تشير إلى الهدف المقصود إشارة مباشرة. والتمرس باللغة واستعمالها الصحيح يعين من يستخدمها على التفرقة بين طريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال تفكير علمي، وطريقة استخدامها عندما يكون المجال مجال الأدب شعرا أو نثرا! لكن المتعقب للغة العربية اليوم لا يخطئ أن يرى الخلط والتخليط والقصور والعجز حتى لتبدو لغتنا الغنية القادرة وكأنها فقدت قدرتها على دقة العلم ونحن في مجال العلم، كما فقدت قدرتها الإيحائية في التعبير الأدبي ومنه في مجال الأدب!
وأما الخامسة؛ فهي أن اللغة خلقت في الأصل إما لكي تشير، وإما لكي تعبر: فهي تشير عندما يكون الموضوع في الخارج، وهي تعبر عندما يكون الموضوع حالة من حالات الباطن، فإذا وجدت جملة لا هي استطاعت أن تشير لقارئها إلى شيء ظاهر، ولا هي استطاعت أن توحي لقارئها بالحالة النفسية المراد إثارتها فيه؛ حق لك أن تسقطها من الحساب، لأنها وإن تكن اصطنعت شكل اللغة؛ فإنها في واقع الأمر ليست من اللغة في شيء. وأترك للقارئ أن يدقق النظر في كثير جدا مما أصبحت تجري به الأقلام ليرى كم فيها محسوب على اللغة بالحق! وكم منها محسوب عليها بالباطل! وسأكتفي بتلك النقاط الخمس فقد ذكرتها على سبيل التمثيل مما تشقى به لغتنا اليوم على أيدينا ولو كان المراد حصرا علميا لأطراف المأساة؛ لمضيت أذكر السادسة والسابعة والثامنة وما شاءت لي الحقيقة من عدد.
نامعلوم صفحہ