في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
اصناف
وهذا بيت من الشعر، حفظته منذ لا أدري كم من السنين ؟ كنت أردده لنفسي آنا بعد آن، حتى رسخ في الذاكرة، لكنني لست الآن على يقين من دقة إدراكي لأبعاد مغزاه، وتلك هي خاصة أخرى من خصائص الشعر، فهو ليس صياغة تشبه ما يصوغه رجال العلم من رموز عددية أحيانا، ومن حروف الأبجدية أحيانا أخرى، قاصدين بذلك ألا يحمل كل رمز إلا معنى واحدا، يتساوى في إدراكه كل رجال العلم في عالم اليوم والأمس والغد. لا، ليس ذلك هو ما يصنعه شاعر بالألفاظ حين يصوغها؛ إذ تستطيع القول بأن عظمة الشعر يتفاوت قدرها بين مختلف الشعراء، بتفاوت هؤلاء الشعراء في قدرتهم على اختيار اللفظ والصياغة، بحيث يمكن لكل قارئ أن يخرج لنفسه بمضمون، ليس هو بالضرورة المضمون الذي يخرج به قارئ آخر، لأنه إذا كان رجل العلم يتناول موضوعه من ناحية «الكم» فالشاعر يتناول موضوعه من جانب «الكيف». العلم يدرس الطبيعة، حتى لو كان ما يدرسه هو «الإنسان» إذ هو في هذه الحالة ينظر إلى الإنسان من حيث هو جزء كسائر أجزاء الطبيعة، وأما الشعر فموضوعه «الإنسان حتى إذا تناول أي جزء من أجزاء الطبيعة، فهو يتناوله وكأنما هو مثله «إنسان». العلم «يطبعن» الإنسان والشعر «يؤنسن» الطبيعة، فالهدفان مختلفان أشد اختلاف، والوسيلتان أشد اختلافا.
وإنما أردت أن أقول إن هذا البيت من الشعر، الذي حفظته وكثر ما رددته، لست الآن على يقين من أن إدراكي لكل جوانب معناه كان هو هو الإدراك في مراحل حياتي جميعا، فماذا أرى من معناه اليوم؟ إنني أرجح أن يكون هذا البيت في محفوظات الكثرة الغالبة من القراء؛ ما ييسر المشاركة في الحديث، فهو بيت الشعر الذي يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ولنبدأ معا بشيء من تحليل اللفظ في ظاهره، قبل أن نتعرض لما قد ينطوي عليه ذلك اللفظ من أبعاد، فاللفظة المحورية هنا هي «سراة» (بفتح السين) وسراة أي شيء «أعلاه»، فذروة الجبل سراته، وظهر الجواد سراته، وهكذا.
على أن القاموس الوسيط يضيف إلى ذلك، أن سراة الشيء قد يراد بها «وسطه» وقد يراد بها أيضا «معظمه»، وبناء على ذلك، فإذا قلت: «سراة الشعب المصري»، كنت تشير إلى متوسط أفراده، أو إلى معظم أفراده، وهما معنيان - كما ترى - قريبان أحدهما من الآخر، إلا أن سياق البيت الذي نعرضه الآن للتحليل يقضي بأن المعنى المقصود من كلمة «سراة» هنا هو الجانب «الأعلى» من الشيء الذي يكون موضوعا لحديثنا، فإذا قال الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم»؛ فأول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن الشاعر قد قصد بذلك أن يقول إنه لا بد للناس من قيادة، أو ريادة، أو زعامة، أو صفوة، تهديهم سواء السبيل، وإلا ضربت «الفوضى» في حياة الناس بخلطها وخليطها وتخليطها، حتى لتنمحي الحدود الفواصل بين الأشياء والأفكار؛ فلا يدري أحد أيها يكون أيها!
إذن فاللفظة الثانية التي تستحق من تحليلنا وقفة، لأهميتها في البيت الذي نعرضه؛ هي كلمة «فوضى»، وإني لأعلم أنها كلمة كثيرة الدوران على ألسنة الناس، لكن ذلك وحده لا يضمن لنا أن يكون معناها واضحا، حتى لأولئك الذين يكثرون استخدامها في أحاديثهم الجارية، فمتى يكون الأمر «فوضى»؟ أظن أن معنى الفوضى يتضح بضوء يلقى عليه من ضده، وضده هو «النظام»، ومرة أخرى نعيد السؤال: ومتى يكون في موقف ما «نظام»؟ أيسر إجابة، وأوضحها، وأدقها، هي أن «النظام» في موقف ما، أو بين مجموعة مفردات، هو قدرتنا على وصفه بكلمة واحدة، أو بعبارة واحدة قليلة الكلمات، في حين أنه لو دبت الفوضى في ذلك الموقف نفسه، أو في مجموعة المفردات ذاتها، لأخذت أجزاؤها مواضع، بحيث يتعذر، أو يستحيل وصفها وصفا صحيحا ودقيقا، اللهم إلا إذا كلفنا ذلك كتابة مجلد ضخم أو ربما عدة مجلدات. ونسوق إليك أمثلة موضحة: خذ حفنة من الحصى، وانثرها على الأرض كما اتفق، ثم حاول أن تصف أوضاع الحصوات بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر، فانظر كم يقتضيك الأمر من قياس للمسافات التي بين الحصاة والحصاة، وقياس الزوايا التي تنحرف بها كل حصاة عن كل حصاة أخرى في المجموعة، لكن اجمع تلك الحصوات مرة أخرى، ثم رصها على الأرض على هيئة «مربع» فعندئذ تكون هذه الكلمة الواحدة، أعني كلمة «مربع» قادرة على وصف مجموعة الحصوات في أوضاعها، فهذه الحالة الثانية، هي حالة «نظام» بينما كانت الحالة الأولى حالة «فوضى».
خذ مثالا ثانيا؛ مجموعة ضخمة من كتب وأوراق، في مكتبة خاصة أو عامة، ما الفرق بينها وهي في «نظام» وبينها وهي «فوضى»؟ الفرق هو أنها في الحالة الأولى قد رتبت وفق قاعدة معينة، كأن توضع كتب الأدب في مكان، وكتب العلوم في مكان، وكتب التاريخ في مكان ثالث، وهلم جرا، ثم يزداد النظام نظاما إذا وضعت قاعدة فرعية لكل مجموعة فرعية، ففي كتب الأدب نفرق بين شعر ونثر، وفي كتب الشعر نفرق بين قديم وحديث، وبين عربي وغير عربي، وهكذا في سائر المجموعات، وأما إذا غاب النظام وقامت الفوضى، فتكوم الكتب كما اتفق، فيتعذر على صاحب المكتبة نفسه أن يخرج لنفسه كتابا بعينه؛ لأنه يكاد لا يعرف لأي كتاب مكانا إلا عن طريق المصادفات، وانظر إلى هاتين الحالتين، باحثا عن الفرق الأساسي بين ما هو «نظام» وما هو «فوضى» تجده - كما أسلفت لك - كامنا في سهولة الوصف بكلمات قليلة، إن لم يكن بكلمة واحدة في حالة النظام، وبصعوبته في حالة الفوضى؛ لأنك مضطر في هذه الحالة أن يجيء وصفك لها، مجموعة قوائم تفصيلية بأسماء الكتب ومواضعها، وحتى هذا يتعذر فعله إذا كانت المكتبة مكومة أكواما على الأرض، وليست مرصوصة في خزائن أو فوق رفوف.
وخذ مثلا ثالثا وأخيرا، نظام الكون، فكائنات هذا الكون العظيم، رغم لا نهائية عددها؛ قد صيغت في «نظام» بعضها مع بعض، حتى ليذكر المفكرون هذا النظام برهانا بين البراهين على وجود الخالق سبحانه وتعالى، كلما أرادوا على ذلك الوجود برهانا عقليا يؤيدون به صلابة الإيمان، فماذا نعني ب «النظام» في هذه الحالة؟ إننا نعني الشيء نفسه الذي عنيناه في المثالين السابقين، وهو إمكان الوصف بكلمات قليلة، في حين أننا لو افترضنا غياب النظام عن الكون فاختلط حابله بنابله؛ لاستحال استحالة قاطعة أن يوصف، حتى لو خصصت للوصف ملايين المجلدات لرصد أجزائه وجزئياته، أقول: ماذا نعني بالنظام عندما نصف به الكون؟ وأجيب: إن الذي نعنيه هو أن لكل أسرة من الظواهر «قانونا» يستطيع البحث العلمي استخلاصه، وإن هو لم يستطع إلى اليوم، فهو - من الناحية النظرية - مستطيع يوما ما، في مستقبله القريب أو البعيد. وقانون الظاهرة المعينة، كالضوء، أو الكهرباء، إنما هو عبارة قصيرة، لكنها تصدق على ما لا نهاية له من حالات الوجود الفعلي لتلك الظاهرة، وحتى لو كانت للظاهرة الواحدة عدة قوانين، فمن الممكن دائما أن تنسق تلك المجموعة تنسيقا يجمعها تحت «مبدأ» علمي واحد. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فنحن إذ نرى بين أيدينا علوما كثيرة: الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم النبات والحيوان والإنسان، وحين نرى كذلك أن كل علم من تلك العلوم يقام على عدة قوانين لا قانون واحد؛ فإننا نشعر بالقلق العقلي، ونأخذ في محاولات تحليلية، طويلة وعريضة، وعميقة، نستهدف بها البحث عن حقيقة واحدة، تلتقي فيها تلك الأشتات جميعا، وتكون تلك الحقيقة الواحدة - إذا وقعنا عليها - بمنزلة الأم التي أنسلت تلك الفروع جميعا، أو بمنزلة الينبوع الواحد، الذي تتدفق منه المياه كلها، قبل أن تعود فتتفرع فيما بينها فروعا، وفروعا للفروع، فإذا ما تحقق للباحث هدفه هذا، سميت تلك الحقيقة الواحدة الأولية - عادة - باسم «المبدأ الأول»، وسمي العمل الفكري الذي اضطلع به الباحث «فيلسوفا» وسمي البحث نفسه في هذه الحالة باسم «فلسفة»، وتلك هي المهمة الأولى والهامة والمميزة للفلسفة في أي عصر من عصور تاريخها، أعني محاولة جمع ما يبدو أشتاتا من ظواهر تحت مبدأ واحد، يوحده ويفسره في آن معا. وبعبارة أخرى متصلة بما نحن بصدد الحديث عنه وهو «النظام» ومعناه، لكي تتضح لنا بالتالي طبيعة «الفوضى» ومعناها، نقول إن نظام الكون، الذي هو من الأدلة على وجود الله سبحانه؛ إن هو إلا أن وضعت أجزاء الكون وجزئياته، على سنن معلومة من قوانين، وهذه القوانين إن تعددت؛ فهنالك المبدأ الواحد الذي يوحدها جميعا، وهو مبدأ إذا عبرنا عنه بكلمات؛ كانت العبارة قصيرة قليلة الكلمات.
وبعد هذا الذي بسطناه، فلنقرأ بيت الشعر الذي ندير حوله الحديث بقول الشاعر: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جهالهم سادوا.» فأول بادرة عند القارئ - فيما أظن - هي أن يقرأ هذا البيت من منظور سياسي؛ فيكون المعنى هو أن حياة الناس لا تصلح إلا إذا أمسك لهم زمامها حاكم مطلق السلطان، يكون في جماعة الناس ما يكون الرأس من البدن؛ لأنه إذا ترك الأمر للجماهير وحدها، بحيث لا يكون فوقهم من هو أعلى؛ كان محتوما أن تتنافر المصالح بتنافر الأفراد. وقد يقرأ البيت من منظور اجتماعي، تكون فكرة الطبقات الاجتماعية ووجوب تفاوتها قدرا هي الفكرة الغالبة، فيكون المعنى هو أن حياة الطبقات الدنيا من المجتمع لا يصلح حالها إلا إذا تركت السيادة «للعلية» (بكسر العين وسكون اللام) الصفوة أو الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانت أرستقراطية ثراء ومولد أم كانت أرستقراطية علم ومعرفة، لكن مثل هذه الطبقة تختفي في مجتمع تطفو فيه جماهير الشعب على السطح؛ إذ الأرجح في تلك الجماهير أن تسودها جهالة بحقائق الأشياء، وبالتالي فهي أقرب إلى أن تضل سواء السبيل.
نامعلوم صفحہ