في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
اصناف
ولكن كيف تتم لنا هذه التغذية التي تخرج من ثقافتنا خلقا جديدا، مع محافظته على جوهره؟ إن جواب هذا السؤال يقدم نفسه بما يصنعه علماء الزراعة وهم ينتجون نوعا جديدا من ثمرة معروفة، فهم ينتجون برتقالا من طراز جديد، ولكنه برتقال، وينتجون قطنا أو قمحا أو ما شئت، من نوع جديد ولكنه قطن أو قمح أو ما شئت، وهكذا قل في كثير جدا من أنواع الأحياء وكيف يخرج منها علماؤها طرزا جديدة، أقوى وأغنى بصفاتها مما كانت عليه أسلافها، دون أن يفقد النوع جوهره، فلا يصبح الجواد الكريم قردا ممسوخا، كلا ولا يتحول القرد ليصبح جوادا كريما.
ولا علينا مما يحدث في عالم النبات وعالم الحيوان، ولنعد بحديثنا إلى الإنسان وثقافته، ونسأل مرة أخرى: كيف تتحول ثقافة معينة إلى صورة أقدر وأقوى وأهدى سبيلا، دون أن يمسخ ملمح من جوهرها الأصيل؟ وأبدأ بأن أطمئن القارئ بأن هذا الذي تسعى إلى خلقه، قد تحقق بالفعل في كثيرين من أعلامنا، بحيث نجد الواحد منهم عربيا ومسايرا لعصره من عمق أعماقه، وكل الذي بقي علينا أن نحققه، هو أن يتسع بنا مجال التطبيق، حتى يصبح هذا النموذج الثقافي متمثلا في عامة الجمهور، بدل أن يظل مقصورا على أفراد.
ثم أنتقل بعد هذا التنبيه، لأبين كيف يتم التحول المطلوب على نطاق أوسع ليشمل الجمهور في طريقة تفكيره وفي أسلوب عمله، فأقول: إنها «المعرفة» ثم مزيد من المعرفة، فهي الوسيلة التي لا تسبقها وسيلة أخرى، ليتحقق لأفراد الشعب اكتساب الشخصية الجديدة التي تصمد فيها خصائص الهوية المصرية، العربية، ويضاف إليها بالدمج العضوي، خصائص تقتضيها الحياة الحديثة في عصر العلم ... معرفة ماذا؟ معرفة الإنسان العادي لدقائق الأشياء التي حوله مما يقع في مجال عمله، ومعرفة «الآخرين» ممن يواطنونه، ومن هم خارج حدود الوطن؛ فالعالم تستمد صلاته بالوسائط المستحدثة حتى ليستحيل على إنسان أن ينعزل حتى إذا أراد. وأخيرا معرفة الفرد لنفسه على نحو موضوعي ولو إلى حد محدود. وإذا أردت أن تتبين كم هي قليلة ومهوشة وخاطئة، تلك الحصيلة المعرفية التي يحصلها متوسط الفرد في شعبنا، فاستمع إلى الكثرة الغالبة منهم ، كيف يتحدث المتحدث منهم عن أي موضوع يطلب إليه التحدث فيه، فعندئذ تسمع لعثمة ولجلجلة وكلمات متقطعة، لينتهي الحديث آخر الأمر بمضمون ضحل قلما ينفع أحدا أو يشفع لأحد. وقارن هذا الفقر الشديد في محصول المعرفة عند الفرد العادي - بل ومن هو فوق العادي - قارنه بما تسمعه في إذاعات أجنبية حين يدور حوار بين مذيع وشخص آخر - قد يكون عابر سبيل - لترى كيف ينطق الكلام، وكيف تغزر المعاني التي يحملها هذا الكلام، ويتم كل ذلك بغير لألأة أو لجلجة أو لعثمة إلا قليلا، لماذا؟ لماذا نعلل الفرق بين متحدث هنا ومتحدث هناك، سواء أكان موضوع الحديث متصلا بتخصص المتحدث، أم كان حديثا عابرا في موضوع عام؟ علة هذا الفرق الشاسع الذي لا يدرك مداه إلا من تعمد أن يقارن فتدق ملاحظته، أقول إن علة ذلك الفرق هو أننا هنا لا نعرف، وأنهم هناك يعرفون؛ يعرفون «الأشياء» ويعرفون «الآخرين» ويعرفون «أنفسهم» ومصدر تلك المعرفة عندهم، ملاحظة واعية لما حولهم من جهة، وقراءة لا تنقطع من جهة أخرى. وإذا قلنا «قراءة» فقد قلنا اكتسابا لمشاهدات القادرين على المشاهدة والتحليل والاستدلال، ليضاف ذلك إلى ما قد حصله الفرد من واقع حياته تحصيلا مباشرا.
وربما كان القسم الثالث من أقسام «المعرفة» التي ذكرناها، وأعني معرفة الإنسان لنفسه معرفة موضوعية، لا يكتفي صاحبها بمجرد استبطان ذاته؛ ليرى ماذا يحدث فيها من أفكار ومشاعر ودفعات الغرائز، أقول: ربما كانت معرفة الإنسان لنفسه على هذا النحو الموضوعي، هي المجال الذي تنبت فيه ما أسميناه «بالخصوصية الثقافية» فلكل إنسان - كائنا ما كان موطنه، وكائنا ما كان عصره الذي يعيش فيه - تركيبة من معرفة ومن عقيدة، يتجاوب بها مع مكانه وزمانه ومع من يتعامل معهم من سائر الناس، وتلك التركيبة الخاصة هي التي تحمل خصوصية موقفه، وهي التي تحدد «رؤيته» إلى العالم الخارجي، في ماضيه وفي حاضره وفيما يرجى لمستقبله، فللمصري هذه التركيبة الخاصة به، يضاف إليها جانب يجعلها تركيبة أوسع نطاقا تسلك المصري مع مواطنيه في الوطن العربي الكبير، ثم قد تتسع التركيبة لتشمل ما هو أوسع وهكذا. أريد أن أقول إن الخصوصية الثقافية لشعب ما ليست شيئا جامدا يتساوى فيه يومه مع أمسه وغده، بل هي كيان تتسع فيه الدوائر ما اتسعت آفاق الحياة.
والسؤال الهام في هذا الصدد هو: أصحيح أن الخصوصية الثقافية لشعب معين، قد تتعرض لخطر الانهيار إذا هي انفتحت أبوابها لتنفذ منها عوامل خارجية آتية من ثقافات أخرى؟ يبدو أن مثل هذا الظن هو السائد في مصر وسائر أقطار الأمة العربية اليوم، ولذلك يكثر القول الدال على فزع، عما يسمونه «غزوا» ثقافيا يهدد خصوصية الثقافة العربية، إنه لو صدق هذا الظن لما عرفت الدنيا شيئا اسمه «لقاء الثقافات» وماذا يكون هذا اللقاء بين الثقافات إن لم يكن تأثيرا وتأثرا، يحدث بها التبادل بين تلك الثقافات أخذا وعطاء، وانظر إلى شتى أنواع الفن في عصرنا هذا، لترى كم أخذ الفن في الغرب من شعوب إفريقيا: في التصوير، وفي النحت، وفي الموسيقى والغناء، وانظر إلى أرجاء العالم كله، لترى كيف أن فن العمارة في صورته الحديثة يكتسح المدن والقرى، والأمثلة على ما قد شهده التاريخ من لقاءات بين ثقافات مختلفة، لا تكاد تعد أو تحصى دون أن تمحى بذلك خصوصيات الشعوب، مما يدل على أن تلك الخصوصية يكفي لصمودها أن يصمد فيها خصائص جوهرية قليلة، لا تتسع لتشمل كل أطراف الحياة.
لقد تعاقبت في تاريخ علم الفلك نظرتان - أو نظريتان - عن الأرض وعلاقتها بسائر أجزاء الكون بصفة عامة ومن بقية أجزاء المجموعة الشمسية بصفة خاصة، وكانت النظرة الأولى لبطليموس، وهو من علماء الإسكندرية في عهدها القديم، يقول فيها: إن الأرض ثابتة، وهي في مركز الكون، حولها تدور كل نجومه وكواكبه، وأما الثانية فكانت لكوبرنيق، وهو من علماء الفلك في عصر النهضة الأوروبية، وقد عكس بها الصورة التي تصورها بطليموس، ولا تزال نظرة كوبرنيق هي المأخوذ بها إلى اليوم وخلاصتها؛ أن ليست الأرض إلا كوكبا كسائر الكواكب في المجموعة الشمسية، وكلها على حد سواء يدور حول الشمس. وإنني لأذكر هاتين النظرتين، لا من حيث هما حقيقتان عن الأرض في تاريخ علم الفلك، بل لأنهما تدلان في الوقت نفسه على نموذجين من التفكير البشري، فهنالك أقوام تأخذهم العزة بالأنانية وحب النفس؛ فلا يتصورون أنفسهم إلا كالقطب تدور حوله الرحى، فإن كان في الدنيا أقوام سواهم، فلا بد أن يكونوا دونهم خلقا ومجدا وإنسانية، ولكن هنالك كذلك أقوام ينظرون إلى أنفسهم - لا على نظرة بطليموس، بل على نظرة كوبرنيق - فيرون أنهم مع غيرهم من البشر سواء، ولا يكون فرق بين شعبين إلا بالقدرة وبالعلم اللذين يجعلان من شعب يتحلى بهما معا بين خصائص أوفر مالا، وأشد قوة وسلطانا. وواضح بين هاتين الوقفتين أن أصحاب النظرة الأولى - التي تنطوي على ذاتها، وتنكفئ على ثقافتها الخاصة وتاريخها الخاص - هم الذين يخشون على خصوصيتهم الثقافية أن تأتي إليها عوامل خارجية، فتثقب جدرانها، وتطير مع الهباء هباء. إنها أوهام الضعف والمرض، وتظاهر بالثقة بالنفس، يخفي وراءه شعورا بالعجز والخواء.
ومعرفة الإنسان لنفسه معرفة «موضوعية»، تبين له أين مواضع القوة وأين مواضع القصور، هي التي تخرجه من أوهامه عن حقيقة ذاته، وقد تكون هذه فرصة مناسبة ألاحظ عندها أن المتعقب لما ينشر من نتاج ثقافي - شعرا ونثرا - في أرجاء الوطن العربي اليوم يرى في وضوح، كيف وإلى أي حد بعيد، نخدع أنفسنا عن أنفسنا، حتى لتجيء أفكارنا وأشعارنا أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى الرؤية إلى واقع الأمر من خارجه لكي نراه على حقيقته: علما وجهلا، قوة وضعفا، ويكفيك في ذلك أن تقرأ الشطر الأكبر من شعر شعرائنا المعاصرين لتعلم كم فيه من نظرة تتجه إلى باطن، وكم يتجه إلى خارج بحجة أن الشعر تعبير عن «ذات» الشاعر، وهو قول إن يكن صحيحا في بعض الشعر الجيد إلا أنه لا يصدق على أجود ما أنتجه الإنسان من شعر، فعمالقة الشعر - والأدب كله - هم أولئك الذين عرفوا كيف تنصلوا من ذوات نفوسهم، ليوجهوا بصائرهم نحو حقيقة «الإنسان».
تلك - إذن - هي معرفة الإنسان لحقيقة نفسه ، وهي إحدى معرفات ثلاث ذكرناها فيما أسلفناه، لنقول إن تحديث الثقافة العربية مرهون بتحصيلها، وأما الضربان الآخران، فأحدهما هو معرفة الإنسان - ما وسعت قدرته - لحقائق الأشياء من حوله، خصوصا في المجال الذي تقع فيه حياة الفرد في عمله، وأما الضرب الآخر فهو معرفة الجمهور لما يجري في حياة الآخرين إننا في كل ذلك نجهل أكثر من كثير، ونعلم أقل من قليل وهو نقص مرده إلى التربية الأولى، وإلى التربية الثانية، وإلى التربية الثالثة، ففي الأولى؛ لا يجد الطفل في سنيه الأولى أسرة ترهف حواسه لترى ولتسمع، فمن ذا الذي يعرف أن عين الطفل يجب أن تدرب على رؤية التفصيلات في كل شيء مما حوله، وأن أذنه يجب أن ترهف لتسمع تفصيلات الصوت المسموع؟ وأما التربية الثانية في المدارس فهي أضل سبيلا، لأن القائمين عليها لا يعرفون لأنفسهم مهمة يؤدونها إلا أن يحفظ تلاميذهم مجموعة من ملخصات مبتورة، وكان الله يحب المحسنين، وتركت تربية العين وتربية الأذن وغيرهما من حواس الإدراك، لعبث المصادفات! وأما التربية الثالثة وهي التي مصدرها أجهزة الإعلام، فأصحابها مشغولون عن تربية الأفراد في هذا الاتجاه، بمقطعات من المشاهد والمعلومات، لا يذهب نفعها في حياة الناس إلى أبعد من حركة الظل يظهر خافتا ثم لا يلبث أن يزول.
لقد أتيح لي ذات يوم بعيد، أن أقرأ الكلمات التي ألقاها أعضاء مؤتمر ثقافي دولي، ضم بين أعضائه هؤلاء، نفرا من أعلام الفكر في عدد كبير من أقطار الدنيا وفيهم بعض أعلام العرب، فكان أشد ما استوقف نظري عند المقارنة، أن علماء الغرب وأدباءهم، أقاموا نتائجهم على «تفصيلات» مدروسة، وأما نظراؤهم العرب فكانت كلماتهم أميل إلى التعميمات المجردة الباهتة. وأذكر أني همست لنفسي يومئذ قائلا: إن أولئك «يعلمون» وهؤلاء «لا يعلمون».
إن أوعية رءوسنا هي كالخاوية من معرفة التفصيلات، وذلك بالنسبة إلى المجالات الثلاثة التي ذكرناها، فمتوسط الفرد منا لا يعرف إلا النذر اليسير عن الأشياء التي في محيطه، وعن حقيقة الحياة عند الآخرين، وعن أنفسنا، ولذلك ترى كاتبا يكتب ولا يقول شيئا ، ومتحدثا يتحدث ولا يترك عند سامعه أثرا، فلو عملت قنوات التعليم والإعلام على تعبئة الأوعية الخاوية بما عساه أن يتبلور في «وجهة نظر» تعم أفراد الشعب برغم تفاوت درجاتهم بعد ذلك، فربما ارتفعنا ثقافة، وازدادت خصوصيتنا الثقافية - في الوقت نفسه - حرارة وعمقا.
نامعلوم صفحہ