ثم لم يلبث أن عادت إليه مخاوفه ووساوسه، فرأى الجثة والمصرع، والطعنة النجلاء، والدم المتدفق، وسمع تلك الأصوات التي تهتف به في كل مكان: «يا قاتل أبيه! يا أكبر المجرمين! يا عار البشرية وشنارها!» فجن جنونه، وثار ثائره، وعادت له سيرته الأولى.
ولم يزل هكذا ليله كله، يهدأ حينا ويثور أحيانا، حتى نشر الفجر رايته البيضاء في آفاق السماء، فاستروح رائحة الأنس، وشعر ببرد الراحة، فأوى إلى مضجعه.
كذلك كان شأن قسطنطين دائما، وكذلك كانت أكثر لياليه مذ حدث ذلك الحادث العظيم.
الأزهار
دخلت ميلتزا غرفة قسطنطين صباح ليلة من تلك الليالي الطويلة الليلاء وبيدها باقة من الزهر تريد أن تقدمها إليه، فرأته مضطجعا على كرسيه، مستغرقا في نومه وآثار الدمع ظاهرة بين أهداب عينيه وفي صفحتي خده، فرثت لحاله وجلست تحت قدميه ترقب يقظته رقبى المجوسي طلعة الشمس من مشرقها، فحمل النسيم إلى رأسه نفحات تلك الأزهار فانتعش وتحرك في مكانه وفتح عينيه فرآها، فابتسم وتهلل وقال: ميلتزا! قالت: نعم يا سيدي، نعمت صباحا ونعمت جميع أيامك بكورها وأصائلها. ثم مدت يدها إليه بالباقة وقالت له: قد اقتطفت لك صباح اليوم هذه الأزهار الجميلة التي تحبها أكثر من سواها، لتستروحها فتروح عن نفسك برياها همومها وأحزانها.
فتناول الباقة منها واستنشقها وتنفس تنفسة طويلة، ثم نظر إليها نظرة حلوة عذبة وقال لها: أتعلمين، يا ميلتزا، أنني أستنشق في هذه الأزهار التي تهدينها إلي أنفاسك الأريجة العطرة، وإن الذي ينعشني ويحييني ويرفه عني همومي وآلامي في هذه الباقة إنما هو أريجك لا أريج الأزهار. فارتعدت ميلتزا لأول كلمة حب سمعتها من فمه، وظل قلبها يخفق خفقانا شديدا، وملك الدهش عليها عقلها ولسانها فلم تستطع أن تنطق بحرف واحد، وظلت شاخصة إليه ببصرها، فاستمر في حديثه يقول: لقد كنت أطلب الموت قبل دخولك وأتمناه تمنيا شديدا، حتى رأيتك ورأيت هذا الجمال المتلألئ في عينيك، وشممت أنفاسك العطرة المنبعثة من أوراق أزهارك، فأحببت الحياة من أجلك، وأصبحت أتمنى أن أعيش لأراك وأقضي بقية أيام حياتي بجانبك، فشكرا لك يا صديقتي؛ فأنت النجمة الوحيدة الباقية في سماء حياتي بعدما غربت جميع نجومها وكواكبها، والشعاع المضيء الذي ينبعث إلى أعماق سجني المظلم الحالك فيبدد ظلمته، وينير جوانبها، ويملأ قلبي أملا ورجاء، والواحة المخصبة الخضراء التي ألجأ إليها كلما قطعت مرحلة في صحراء هذه الحياة المحرقة، فأنام تحت نخيلها، وأبترد ببرد مياهها.
قالت: ليتني أستطيع أن أكون عند ظنك بي يا سيدي، بل ليتني أستطيع أن أقاسمك هذه الهموم والأحزان التي تعالجها، أو أحتملها عنك جميعها حتى لا أراك بين يدي إلا باسما متطلقا في جميع آنائك وساعاتك. إنني أمتك الوضيعة المسكينة يا سيدي، وليس لفتاة مثلي أن تسألك عن سبب همومك وأحزانك، ولكنني أستطيع أن أضرع إليك أن تسريها عن نفسك، وتهونها عليك، فأنت رجل فاضل شريف، وقد قلت لي قبل اليوم: إن الرجل الفاضل الشريف يعيش من شرفه وفضيلته في سعادة لا يهنأ بمثلها الملوك في قصورهم! قال: ومن أين لك أنني رجل فاضل شريف؟ قالت: لو لم تكن كذلك لما أحببتك! فابتسم قليلا وقال: إذن أنت تحبينني يا ميلتزا! قالت: نعم يا سيدي، أكثر من كل شيء في العالم، ولولا كرامة أمك عليك وجلال ذكراها في قلبك لقلت لك: إنها ما كانت تحبك في حياتها أكثر مما أحبك اليوم!
فأطرق قسطنطين لتلك الذكرى المؤلمة، ومرت بجبينه سحابة سوداء قاتمة، فرفع رأسه وقال لها: حسبك يا ميلتزا، لا تذكريني بأمي، فما أحسبها الآن إلا ناقمة علي في قبرها، تلعنني وتستعدي ربها علي وتسأل الله صباحها ومساءها أن يعاقبني وينتصف لها مني! وا خجلتاه من نفسي يوم ألقاها في تلك الدار، ويجمع الموقف العظيم بيني وبينها! فارتاعت ميلتزا عند سماع هذه الكلمة وذهبت بها الظنون كل مذهب، وظلت تنظر إليه نظرا غريبا حائرا، وقد بدأت تفهم ذلك السر الهائل الذي أعياها أمره زمنا طويلا، وتدرك السبب في حزن قسطنطين هذا الحزن الشديد الذي يقيمه ويقعده ويساور نفسه ويقلقها منذ قتل أبوه حتى اليوم، وكأنه قد ألم بما دار في نفسها وتردد في خاطرها فظل ناظرا إليها بلهف وشوق ينتظر أول كلمة تنطق بها بعد هذا الصمت الطويل انتظار المتهم أول كلمة ينطق بها قاضيه بعد سماع دفاعه، حتى رآها تبتسم وتتهلل وتقول له: هون عليك الأمر يا سيدي، ولا ترتب في نفسك ولا في ضميرك؛ فما أنت بمجرم ولا قاتل، ولكنك رجل شريف، ولولا أنك كذلك لما أحببتك.
فمد يده إليها فتناول يدها وقال لها: أتعدينني يا ميلتزا أن تكتمي في صدرك كل شيء؟ قالت: نعم، أعدك وعدا لا أخيس به، قال: وشيء آخر يا ميلتزا، قالت: وما هو يا سيدي؟ فأدناها منه وضمها ضمة خفيفة إلى نفسه وقال لها: أتقسمين لي على الحب حتى الموت؟ قالت: نعم يا سيدي، أقسم لك، قال: بم تقسمين؟ قالت: بكل ما تسكن به نفسك، قال: ضعي يدك على هذا الخنجر واقسمي به، قالت: أفعل على شرط واحد، قال: وما هو؟ قالت: أن تهديني إياه بعد ذلك، قال: وماذا تصنعين به؟ قالت: أقتل به نفسي يوم يحل بك مكروه! فناولها إياه وهو يقول في نفسه: ربما حل بي عما قريب ذلك المكروه الذي تتوقعين! فوضعت يدها على الخنجر وأقسمت به أن تحافظ على حبه والإخلاص له حتى الموت، فتهلل قسطنطين فرحا وسرورا، ونزعه من خاصرته وعلقه في منطقتها، ثم ضمها إلى صدره ضمة شديدة، وقبلها في ثغرها قبلة كانت عزاءها الوحيد عن كل ما مر بها في حياتها.
حديث
نامعلوم صفحہ