في سبيل الإصلاح
تأليف
علي الطنطاوي
دار المنارة للنشر والتوزيع
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم اجعل عملي هذا خالصًا لك، اللهم إني أسألك أن تنفع به، وأن تثيبني عليه، وصل اللهم على سيّدنا محمد معلّم الخير وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
1 / 5
مقدمة الطبعة الثالثة
بسم الله أقدم الطبعة الثالثة من كتاب (في سبيل الإصلاح) سائلا الله أن يجعل كل الكتب في سبيل الإصلاح، وفي طاعة الله وابتغاء ثوابه، لي وللناشر وللقراء أن ينفعهم به ويلهمهم دعوة صالحة يدعونها لي بظهر الغيب.
مكة المكرمة: غرة رمضان ١٤١٠
علي الطنطاوي
1 / 6
مقدمة الطبعة الثانية
السطور الأولى من هذه المقدمة كتبت في (مكتبة القدسي) في سوق الحميدية في دمشق، ووضعت في صدر الطبعة الأولى من رسائل (في سبيل الإصلاح) التي صدرت سنة ١٣٤٨هـ، وتتمتها أكتبها الآن في دار صهري -زوج بنتي- الأستاذ زياد الطباع في جدة سنة ١٤٠٧هـ، لأضعها في أول هذه الطبعة من كتابي (في سبيل الِإصلاح). وبينهما مدى واسع في المكان هو بُعد ما بين دمشق وتهامة الحجاز، وبينهما مدى في الزمان مقداره تسع وخمسون سنة.
زمان طويل طويل، تبدل فيه كل شيء يقبل التبديل: غاب العالم الذي عرف صباي وتبدلت معالمه ومضى أكثر أهله، الناس الذين كانوا هم ناسي، وكانوا أهلي وصحبتي، لم يبق في كل ألف منهم بضعة آحاد يعدون على الأصابع. فلا البلد اليوم هو البلد، ولا أهله هم الأهل، ولا العادات والأوضاع هي العادات والأوضاع، حتى لو أنَّ الله بعث جدي الشيخ أحمد الذي مات سنة ١٣٣٢هـ، لما عرف من دمشق إلا جامع التوبة والجامع الأموي وجبل قاسيون، حتى الجبل الذي خلَّفه عاريًا أجرد، لن يميزه اليوم وقد لَبِس الشوارع والبيوت فسترت شعابه وغطت ترابه، بل لن يعرف في هذا الشيخ الذي جاوز الثمانين حفيده الذي تركه ولم يتعد الخمس السنين (١) ولوطنه بعث ووصف ما رآه وما أحسَّ به في كتاب، لجاء أطرف من (حديث عيسى بن هشام)، وقصة (حاجي بابا في انكلترا) التي نشر الزيات ترجمتها في مجلة (الرواية) من قديم.
_________
(١) كذا يقال وأفصح منه أن نقول: خمس السنين.
1 / 7
لأن هذا التبدل الذي تمَّ في ثلاثة أرباع القرن التي عشتها لا يقع مثله في ثلاثة قرون.
والمجتمعات (تتطور) دائمًا، ولكن (تطورها) إن أسرع يمشي مشية الخيل التي بالغ الشاعر مبالغة جاوزت حد المعقول حين وصفها فقال:
وأجل علم البرق عنها أنها ... مرت بجانحتيه وهي ظنون
فصارت هذه المبالغة حقيقة، وغير المعقول معقولًا واقعًا، وصرنا ونحن في مكة نسمع الخطيب يخطب في أميركا قبل أن يسمعه من هو قاعد أمامه في النادي، لا مجازًا بل حقيقة لأن الصوت يصل إلى من في النادي من طريق الهواء، ويبلغنا بالموجات الكهرطيسية (أي الكهربائية المغناطيسية)، ولو صرخ النذير من فوق الجبل يحذرنا طيارة معادية قادمة علينا لوصلت الطيارة قبل أن نسمع الصوت، لأنَّ من الطيارات ما هو أسرع من الصوت، وإذا كان الشاعر قد مدح بطلًا بأنه (ينظم فارسين بطعنة) أو أنه يقتل من الأعداء مئة في غارة، فلقد رأينا غارة من المتمدنين أهل الحضارة، تقتل مئة ألف في هيروشيما في لحظة واحدة، جلهم من غير المحاربين وإنما هم من الأطفال والنساء والشيوخ العاجزين.
جدّ جديد في العلم لو خُبِّر به أعلم علماء الطبيعة من مئة وخمسين سنة لجنّ أو لحسب المُخبِر مجنونًا: صرنا نسمع المغنّي يغني لنا، وقد مات واستحال جسدُه إلا رفات.
كان الشعراء يصفون القمر، ويشبهون به الغيد الحسان فوصلنا إلى القمر ووطئناه بنعالنا، وإذا هو كالأرض: صخر ورمل وتراب.
...
وهذه كلها آيات لمن كان له قلب، ومن كان يفكر فيما يرى وما يسمع، آيات وشواهد تقوي الإيمان في القلب المؤمن، أما من كان كالأنعام همُّه الطعام والشراب والزواج فيمر عليها وهو غافل عنها، يقف عند الصنعة وينسى
1 / 8
الصانع، يقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ وينسى قول الله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. ملء كوب من ماء البحر فما الكوب من البحر.
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: علمنا قوانين الله التي وضعها للجاذبية، ولكن هل عرفنا ما الجاذبية؟ ما حقيقتها؟ وعرفنا الكهرباء، وكثيرًا من سنن الله فيها وجعلنا لها علمًا، وألّفنا فيها كتبًا، وفتحنا لها في الجامعة أقسامًا، وأقمنا لهذه الأقسام أساتذةً، ولكن هل عرفنا ما هي حقيقة الكهرباء؟
ودرسنا المخَّ وخلاياه وأقسامه، ولكن هل عرفنا ما علاقة المخ بالفكر؟ لقد نبذنا المقالة الحمقاء التي قالها بعض الماديين في القرن التاسع عشر (هيكل أو استرنر): أن المخ (يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء) منذ قضى (هنري بركسون) وصحبه على هذا المذهب، ولكنا بقينا على جهلنا بعلاقة المخ بالتفكير، وأكثر منه جهلنا بعلاقة القلب بالإيمان والعواطف، وهل المراد بالقلوب (التي في الصدور) هذا العضو الذي لم نعرف عنه إلا أنه مضخة للدم، ولا نتساءل لم تسرع ضرباته عند الغضب، وتبطيء عند الحزن، فيحمر الوجه أو يصفر، وتظهر عليه تلك الأعراض إن لم يكن إلا مضخة تضخُّ الدم؟
أم المراد بالقلب شيء آخر، لم نعرفه بعد، وأننا حين نقول (القلب) نريد به اللب. كما نميز في الفاكهة قشرتها من لبها ولونها وشكلها، اللذين لا يدلان على العناصر التي تتألف منها، ولا على ما أودع من النفع والضر فيها.
إن اختلت خلايا المخ اضطرب التفكير، كما ينقطع تيار الكهرباء إن انقطعت الأسلاك، ويبطل عمل الرائي (التلفزيون) إن نقص شيء من أجزاء الجهاز. ولكن هل الأسلاك والمصابيح هي الكهرباء؟ إنَّ الذي يعرفه الأطباء عن الدماغ كالذي يعرفه (مصلح التلفزيون) عن جهازه، يكمل نقصه، أو يقوم اعوجاجه ولكن ما أثر ذلك فيما يعرض فيه من ندوات ومسلسلات، وما فيها من الخير أو من الشر؟
إن هذه الكشوف العلمية، وهذه المخترعات الحضارية تقوي الإيمان عند
1 / 9
من في قلبه إيمان، كما تشحن الذاخرة (أي البطارية) بالكهرباء إن كان لا يزال فيها بقية من كهرباء.
لقد كان في قريش عقلاء، وكان فيهم أولو فهي، ولكن لما قال لهم رسول الله ﷺ: أنه ذهب إلى القدس ورجع من ليلته لم يستطع أكثرهم أن يصدق، وكاد يتزعزع إيمان بعض من قد آمن، ولو أنت قلت اليوم لأقل الناس علمًا وأكثرهم جهلًا: لقد ذهبت أمس من جدة إلى عمان ورجعت، لما عجب، ولما رأى في ذلك شيئًا يتعجب منه.
إني حين أفكر فيما كانت عليه الدنيا وأنا في صدر حياتي ومطلع صباي، وما هي عليه الآن أحسُّ كأني صعدت إلى رأس المئذنة ووقفت عند الهلال، لا أستند إلى شيء، أنظر من تحتي إلى ما حولي فأحسُّ أنَّ الدنيا تدور بي، حتى أكاد أسقط على رأسي.
لقد كان تبدلًا يكبر عن التصديق، ولكن هل كان خيرًا كله؟ الجواب: لا. هل كان شرًا كله؟ الجواب: لا. إن فيه خيرًا من الواجب علينا أن نتمسك به، وفسادًا علينا أن نصلحه، ومن هنا حاولت، وأنا أكتب وأؤلف وأخطب وأحاضر (من ستين سنة) أن أجعل حظًا من عملي هذا في سبيل الله ثم (في سبيل الإصلاح).
فكيف نسلك هذا السبيل؟
إن ما وصلنا إليه فيه الطيب وفيه الخبيث، فكيف نميز الخبيث من الطيب؟
وإن ذلك كله يتبدل ويتغير، فأين الثابت الذي لا يعتريه تغيير ولا تبديل لنتخذه مقياسًا يكون به هذا التميز؟ أين الطيب الذي لا خبيث فيه، والحق الذي لا باطل معه؟
الجواب واضح بين لمن أعمل فيه فكره، وكان فكره مجردًا عن الهوى.
هو أن البشر يخطئون ويصيبون، فلنرجع إلى من لا يخطىء أبدًا، والذي
1 / 10
يقول الحق وهو يهدي السبيل، لندع ما اختلف فيه البشر إلى ما شرعه خالق البشر، وأنزله علينا، ولم يكل حفظه إلينا كما وكل ذلك إلى أهل الكتب من قبلنا، فبدلوا فيها وغيَّروا، بل تولى هو حفظه ﷻ، وتقدست أسماؤه. فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
فالمقياس هو شرع الله، هو الكتاب الذي لم يستطع أعدى عدو لنا، وأعتى ظالم مخاكم أن يثبت (بل لم يجرؤ أن يدعي مجرد دعوى) أنه قد بدَّل أو غيَّر، أو أنه قد صحَّف أو حرَّف، أو أنَّ القرآن الذي هو في المصاحف بين أيدينا غير الذي أنزله الله. الذي بلَّغه جبريل سيد الملائكة محمدًا سيد المرسلين، وإن كان بعض الفرق التي تنتسب زورًا إلى الإسلام تدَّعي كذبًا وجهلًا، مالم يدعه هؤلاء الأعداء من أن المصاحف التي نقرأ فيها كلها قرآن ولكن ليست كل القرآن، وهي دعوى لا أدري أيُّهما أظهر: سخافتها أم وقاحتها.
ولكن الشيطان حين عجز عن تحريف تنزيله، دخل علينا من باب تأويله، حتى صار من الناس من يصرف الكلام عن معناه ويوجهه إلى غير الوجه الذي أراده الله، وحتى أنه كان عندي كتاب اسمه (حجج القرآن) لرجل اسمه الرازي (نسبة إلى مدينة الري قرب طهران الآن) جمع فيه ما احتجت به الطوائف كلها المسلمة والمرتدة عن الإسلام التي تُدعَى في الاصطلاح (الفرق الإسلامية) باعتبار ما كانت في الأصل عليه، هذا الكتاب فيه العجب العجاب، من صرف الآيات عن مدلولها في لسان العرب الذي نزل به القرآن، وعمَّا صحَّ في تفسيرها عن رسول الله الذي هو المبينِّ للقرآن.
ودخل علينا من باب صرفنا عن تدبر آياته، وتفهِّم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه إلى تصريف الصوت في تلاوته بالأنغام، وطرب الناس لسماع الصوت بدل الخشوع عند فهم المعاني وكان معنى كلمة (القرَّاء) حين نقرؤها في حروب الردة مثلًا وذكر من استشهد منهم في معركة -اليمامة- كان معناها الذي يقرأ القرآن متدبرًا واعيًا، عاملًا بما قرأ معلمًا إياه من لا يعلم. فصار معناها البصير بالألحان والمقامات، الخبير بالمحطات والتصرف بالنغمات، وصار
1 / 11
السامعون يتصايحون من الطرب كأنهم يسمعون مغنيًا في ملهى، لا يزيد إيمانهم بتلاوة القرآن، كما خبَّر الله عن أهل الإيمان، وصرنا نفتح به ونختم به الإذاعات والحفلات، ويكون بين تلاوة الافتتاح وتلاوة الختام ما لا يرضي الله من المخالفات والذنوب والآثام.
...
من هنا، ومن الأحاديث الموضوعة التي كشفها العلماء وما زال يرددها بعض الجهلة من الوعاظ والخطباء، وممن يبتدع في الدين مالم يأذن به الله ولا أرشد إليه رسول الله، ومن سوء فهم بعض الفقهاء لكلام الله وسنة رسول الله، ومما دخل علينا من شبه وضلالات على أيدي المنضِّرين المكفّرين الذين يتسمَّون كذبًا بالمبشرين، وأيدي المستشرقين الذين يتكلمون في العربية وفي الدين، وقليل منهم من المخلصين، الذين يؤتون من ضعف العلم بالدين، وفقد مَلَكةِ العربية التي لا تحصل بالتعليم والتلقين، وأكثرهم بين عدو للإسلام يدسُّ ويفتري ويلبّس دسَّه وافتراءه ثوب التحقيق العلمي، كما كان يفعل كجولد زيهير ولامنس وشاخت وأمثالهم وتلاميذهم الذين قرؤوا عليهم، ونشؤوا على أيديهم كـ (فيليب حتي) الذي جعلناه المرجع في التاريخ.
...
إن سبيل الإصلاح بيِّن ظاهر، إن شئنا سلوكه فليتفق الدعاة إليه على منهج واحد، نرتب فيه المقاصد التي ندعو إليها، نقدِّم الأهم منها على المهم، لا ندع الأصول ونتنازع في الفروع، وقد وضَّح الرسول ﷺ هذا المنهج لمعاذ لما بعثه إلى اليمن داعيًا إلى الله، ومبشرًا بالإسلام ومعلمًا ومرشدًا للراغبين فيه فقال له: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، إلى تصحيحٍ العقيدة لأن العقيدة هي الأصل، هي الأساس فإن ارتفع البناء عشرين طبقةً في الهواء بغير أساس لم ينفعه الارتفاع، ومن قام الليل كله وصام الدهر كله، وفي إيمانه شرك، كان كالتلميذ الذي أخذ أسئلة الامتحان وقعد في داره فأجاب عليها كلها، ولكنه سحب أوراقه من المدرسة، ومحي اسمه من سجلاتها.
درسٌ واحد أمره أن يعلمه الناس هو صدق التوحيد، وصحة العقيدة،
1 / 12
فإن هم وعوه واستقرَّ في قلوبهم، انتقل إلى الدرس الثاني وهو الصلاة ثم الزكاة. منهج مرتب، فما بالنا في غفلة عن منهج رسول الله ﷺ، ما بال كل داع يخترع منهجًا غيره يبدأ الطريق من وسطه أو من آخره، ويأخذ المسألة من ذنبها، حتى صارت الدعوة فوضى، والطرق فيها متداخلة ومتقاطعة.
وإذا كان شياطين اليهود قد وضعوا مخططات لإفساد بني الإنسان، تستمر على زعمهم أكثر من مئة عام، فلم لا يجتمع حكماء المسلمين من أهل الإصلاح، فيضعون مخططات للدعوة يدعونها: (مخططات حكماء حراء)، ليقوم لأهل الحق مقام (مخططات حكماء صهيون) لأهل الباطل.
إن الدعاة منا كثر، والمسلمون حاضرون ليستجيبوا لهؤلاء الدعاة، فإن لبثوا على خلافهم وتنازعهم، وتضارب مناهجهم، كان عليهم إثم أنفسهم، وإثم هذه الأمة التي تمشي وراءهم، وتقتدي بهم.
وبعد فهل كنت أنا في عملي كله، في هذه السنين الستين، أعمل لوجه الله وحده، لا أبتغي غير ذلك شيئًا، ولا أخلط به دنيا؟ ألم يكن يسرُّني أن يقول لي الصالحون: أحسنت، ويسؤوني أن يقال: أسأت؟ ألم أكن أفرح إن جاءتني كتاباتي وأحاديثي بالمال الحلال؟.
إني اللآن وأنا في آخر العمر وعلى مقربة من القبر، أسال نفسي، أقول: يا نفس أليس بالواقع؟ فتقول: بلى. فيقول: لما يا نفس خلطت قصدًا صالحًا بقصدٍ شيء؟ فتقول: إنها طبيعتي التي طبعني الله عليها، والتي لا تقوى على التخلص منها إلا النادر من عباد الله المخلصين.
فأقول: فما جوابك عند سؤال ربِّ العالمين: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ فتقول، أجيب: غرَّني يا رب ما وصفت به هنا نفسك، لتذكّرنا به بعفوك، غَرَّني بك أنك الكريم، فإن عاملتني بعدلك خسرت وضعت، لأني ظلمت نفسي وأسرفت عليها، فأنا أخاف عقوبتك، ولكني لا أقنط من مغفرتك، فاغفر لي وارحمني، وارحم من يقرأ هذا الكلام فيقول: آمين.
1 / 13
اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، واغفر لي، فإنَّ الصلاة على رسولك تقبلها لا تردها، وقد قرنتها بطلبِ المغفرة لي فلا تفرق اللهم بينهما.
رب اغفر لي ولوالدي ولذريتي، واغفر اللهم لكل من مات مؤمنًا بك وبملائكتك وكتبك كلها ورسلك جميعًا.
اللهم إنَّ رحمتك لا تضيق بالمسلمين وقد وسعت كل شيء.
علي الطّنطاوي
1 / 14
مقدمة الطبعة الأولى
(في غرة رجب سنة ١٣٤٨) نشرت أول كتاب لي وهو «رسائل في سبيل الإصلاح»، وقد قلت في مقدمته إننا «إن لم نجد في عصرنا من المصلحين، كالذين كانوا في الصدر الأول، فلا أقل من أن نتشبَّه بهم، ونسلك سبيلهم، فنصيح بالناس بقدر ما في حناجرنا من قوة، ندعوهم إلى الإصلاح، وندلّهم على طريقه، وإذا جاءت أصواتنا خافتة فضاعت في جَلَبة المجتمع فلم تُسمع، فإن حسبنا أن فعلنا ما استطعنا.
وهذه الفصول صيحتي، وإنها لضعيفة، بل هي أشبه بالهمس، ولكنها غاية جهدي، ولم أرد أن أدلّ بها على علم عندي فإن كل ما قلته يعرفه القراء، ولكن أردت أن أذكّر بها من نسي، وأُنبِّه من غفل».
واليوم (في غرة رجب ١٣٧٨)، أنشر كتابي هذا «في سبيل الإصلاح»، فلا أجد ما أقدم له به، إلا هذا الكلام الذي قلته قبل ثلاثين سنة كوامل.
هذه هي كلمتي أقدمها (بين يدي الكتاب)، وهذا هو الكتاب أضعه (بين أيدي القراء).
علي الطّنطاوي
1 / 15
أين الأقلام؟
نشرت في مصر سنة ١٩٤٦
نحن اليوم في معركة مع الاستعمار، قد اندلعت نارها، وطار في كل أرض من أرض الإسلام شرارها، فهل رأيت جيشًا في معركة يدع مدافعه فلا يطلقها، وينسى دباباته فلا يسيّرها، ويلقي بنادقه فلا يحملها؟ وهذا ما نفعله نحن حين نهمل أقلامنا فلا نسخرها في هذا النضال، وإن من أمضى أسلحتنا وأنفذها وأبقاها على الزمان وأثبتها للغِيَر، لَهذه الأقلام؛ فما لِهذه الأقلام نائمة لا تفيق، جامدة لا تتحرك؟ وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب، كانه مدفع العيد يتفجر بالبارود الكاذب وسط المعمعة المدلهمّة التي جُنّ فيها الموت؟!
...
إنها معركة الاستعمار: استعمار البلاد بالجيوش، والأسواق بالشركات، والرؤوس بالمذاهب، والقلوب بالشهوات، فجنود العدو تخطر على أرضنا (١)، وشركاته تتحكم في أسواقنا، ومذاهبه الخبيثة تملأ رؤوسنا، وتقليده في إباحته وشهوته وسفوره وحسوره، وتكشفه في نسائه وفي أدبه، يفسد قلوبنا؛ فأين تلك الأقلام تنبه القوم النيام، وتطهر الرؤوس والقلوب، وتحمل نور الحق لتبدد به ظلمة الباطل؟!
أين تلك الأقلام تعرّف هذا الشعب بنفسه، وتتلو عليه أمجاد أمسه، وتذكره أنه لم يخلق ليذل ويخنع، وإنما خلق ليعز ويحكم، وأن الله ما برأه من طينة العبيد، بل سوّاه من جِذْم الصيد الأماجيد، وأنه أثبت من هؤلاء المستعمرين أصلًا في الأرض، وأعلى فرعًا في السماء، وأكرم نفسًا، وأشرف
_________
(١) هذا ما كان.
1 / 17
عنصرًا، وأنقى جوهرًا، وأنها إذا أفقرت الأيام الغني، وأذلت العزيز، فإن الفلك دوار، والدهر دولاب، فلا يغتر الفقير بالغنى الحادث، ولا يأسَ الغنيّ على اليسار الذاهب، فإن كل شيء يعود إلى أصله، وإن كل حال إلى زوال.
أين الفوهرر الذي نطح النجم كبرياء؟ وأين الدوتشي؟ فاعتبروا يا فهاررة اليوم ... فما أنتم بأمنع من الموت، وما أنتم بأعصى على القدر، وإن لهذا الكون ديانًا جبارًا ما شاركه أحد كبرياءه إلا قصمه ... وما أنتم حتى تشاركوا الجبار كبرياءه؟!
...
وأين تلك الأقلام تفهم الشعب أن المستعمرين ما زهدوه في قرآنه، وصرفوه عن دينه، وشغلوه عن تاريخه، إلا ليسلبوه أحدَّ أسلحته، ويجردوه من أمتن أدراعه، حتى إذا قابلوه أعزل عاريًا، هان عليهم اصطياده، وسهل استعباده، فكان إليهم قياده؛ وأنه آن لنا أن ننتبه لمكرهم بنا، وأن نفيق من غفلتنا، ولا نمشي إلى الهوان بأرجلنا، ونمكن عدونا منا بِملْكنا.
وأين تلك الأقلام تعلن للناس أن هذه القوانين الأجنبية في محاكمنا، أثر من آثار الاستعمار الذي نحاربه، وأن لنا شرعًا هو أفضل من قانونهم، ودينًا هو أحسن من نُظمهم، وأننا نستطيع أن نأخذ القانون المدني والجزائي من ديننا وفقهنا، وأن نحكم في محاكمنا بما أنزل ربنا، وأن من العار علينا أن نفتقر إلى قوانين عدونا. وما قوانينه؟ إن كانت من فكره فلنا أفكار، وإن كانت من تجاربه فلنا تجارب، وإن كانت من دينه ... وأنّى؟ وما في الوجود دين تستمد منه القوانين كلها إلا الإسلام؟
فهل رأيت غنيًا موسرًا، أورثه أبوه صناديق الذهب، ثم يتكاسل عن القيام إليها، ومعالجة قفلها، ثم يذهب فـ (يشحد) ذليلًا الملاليم والقروش من أكف أعدائه ليتبلغ بها؟
هذا مثالنا حين نترك ديننا ونأخذ قوانين المستعمرين!
***
1 / 18
أين تلك الأقلام تقول للناس: إن الإسلام جاء يكسر الأصنام وأنتم رجعتم تعبدون أصنامًا من لحم ودم، تأكل الخبز والحلوى والذهب وورق النقد (البنكنوت)، وتأكل كل شيء وتهضمه معدها، أصنامًا تسمونها زعماء الأحزاب تجدّون وتتعبون ليستريحوا هم، وتَشْقَون. لينعموا، وتنخفضون. ليرتفعوا، وتدفعون إليهم ما كسبتموه بأيديكم الخشنة من العمل، وأنتم تقبّلون أيديهم الناعمة من الكسل، وتمنحونهم كل نعمة، ولا يمنحونكم شيئًا. وإن من بقايا الاستعمار هذه الأحزاب التي لا تتقاتل إلا على أكل لحمكم، وامتصاص دمكم وحكمكم ...
وهذا الأسلوب الأحمق الذي يشترط في معلم المدرسة الابتدائية وكاتب المحكمة الجزئية، شروطًا في نفسه ودرسه، وامتحانًا وتجربة، ولا يشترط في الوزير شرطًا، فكل من أراد الوزارة وسلك سبيلها نالها، ومن نالها يومًا لصقت به (معاليها) إلى آخر أيامه.
ستقولون: وماذا نعمل وهذه سنة المتمدينين في كل بلاد الله؟ نعم هذه سنة المستعمرين، ولكن في بلادهم علماء فلا تلقى وزيرًا جاهلًا، وإن فيها شعبًا يقظًا وصحافة ساهرة وانتخابات صحيحة وإدراكًا شعبيًا، أما الأحزاب، ففي بلد واحد من بلادنا (كمصر مثلًا) أكل مما فيها كلها، وهل في أميركة إلا حزبان: الجمهوريون والديمقراطيون؟ وهل في إنكلترا إلا ثلاثة: الأحرار والعمال والمحافظون؟ فكم حزبًا في مصر يا أيها المصريون؟
فإذا كرهتم الاجتهاد، وأبيتم إلا أن تكونوا مقلدين، فقلدوا في المذهب كله، ودعوا التلفيق!
...
وأين هذه الأقلام، تقول للناس: إن ثكنات قصر النيل في القاهرة، ومطار المزة في دمشق، ومعسكر الربانية في العراق، حصون العدو وقلاع المستعمر ما في ذلك خلاف (١)، ولكن للاستعمار قلاعًا أخرى، إن تكن أخفى
_________
(١) كان ذلك يوم نشر هذا الفصل لسنة (١٩٤٦).
1 / 19
فقد تكون أخطر، وهذه القلاع هي بيوتنا التي انتشر فيها (التحرر) في الشباب والشابات، و(التجدد) في الصلات بينهما، فقلل الزواج وزهد فيه الشبان، وكسد البنات، ونشر الأمراض، وشغل بالهزل عن الجد، وبالسعي للشهوة عن العمل للوطن. ولقد قلت إنها أخطر، لأن ثكنات قصر النيل قتلت عشرين مصريًا في عشرين سنة، وهذه تقتل كل سنة مليونًا من أهل مصر، كان يكون منهم العبقري النابغ، والقائد البارع، والأديب الملهم، والعامل النافع، ويكون منهم حماة الحمى، ودرع الوطن، خسرناهم لانصراف الشبان عن الزواج وزهدهم فيه، ولولا هذا التحرر، وهذا التجدد، ولو عادت بنا الأيام كما كنا من خمسين سنة، إذ لا تلقى شابًا في العشرين إلا متزوجًا، ولا فتاة في الثامنة عشرة إلا ذات بعل، لزادت مصر مليون إنسان في كل سنة، أفرأيتم كيف قتل استعمار البيوت هذا المليون؟
...
أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير لنا أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوروبة فهو خير ورشاد، وكل ما بقي لدينا من الشرق فهو شر وفساد!
وهذا من أقبح ما خلَّفه فينا الاستعمار.
فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، وتقيم لهم الميزان العادل، وتحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون!
...
وبعد، فهذه هي المعركة، وها هم أولاء المسلمون في كل بقاع الأرض يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل. ها هم أولاء يردون بأيديهم وبإيمانهم وبحقهم الجيوش التي لم يستطع ردها هتلر بحديده وناره. لا يرونها أكبر من أن تُغلب، ولا يرون نفوسهم أصغر من أن تَغلب. ها هي ذي المعجزات تظهر كل يوم على أيدي أتباع محمد: في ميدان الإسماعيلية، وفي شوارع الإسكندرية، وفي بلاد الشام، وفي مدن
1 / 20
فلسطين، وفي الهند، وفي جاوة، وفي إيران، فأين تلك الأقلام تدوّن خبرها وتخلد ذكرها؟
أين الشعراء وأين ملاحمهم فيها، وهناك شيء ينطق الجماد بالشعر؟ أين القصصيون وأين ما وضعوا فيها من القصص، وقد جلس الزمان يقص من أفعال هذا الشعب أعجب الأقاصيص؟ أين من في نفوسهم قرائح، أفلا تفيض اليوم بالبينات هذا القرائح؟ أين من بين أصابعهم أقلام، ألا تلتهب اليوم بالحماسة هذه الأقلام؟
أين كتاب العربية وشعراؤها وبلغاؤها؟
يا خجلتاه غدًا من كتاب التاريخ إذا جاؤوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجل الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفًا. لقد شغلته عنها شواغل الأيام، ومباهج الأحلام، وملذات الغرام!
***
1 / 21
إن هذا العلم دين
نشرت في مصر سنة ١٩٤٧
أنا لم أتشرف بالانتساب إلى الأزهر ولا إلى غيره من المعاهد الشرعية، لأني تعلمت في المدارس الأميرية من دار الحضانة إلى كلية الحقوق، ولكني نشأت من صغري بين كتب العربية والدين، وربيت في مجالس العلم والأدب، لأن والدي ﵀ كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يومًا من مراجعات أو مناقشات، ونظر في الكتب ومقارعات بالحجج، ومن عامة يستفتون وطلبة يقرؤون وعلماء يبحثون فلما توفي والدي (١) لزمت عالمًا أزهريًا متفننًا، فكنت أنصرف من المدرسة فأراجع دروسها على عجل، ثم أتعشى (وكان العشاء في تلك الأيام بعد العصر) وأصلي المغرب وأمضي إليه في مسجده، فأقعد مع الطلبة ننتظره حتى يفرغ من صلاته، وكنا نحو الخمسين طالبًا، منا تلميذ المدرسة ومنا التاجر ومنا الموظف ومنا الشاب ومنا الكهل. وما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي إلا العلم وحده لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضًا، وتحصيله عبادة، فكنا نجد في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأه، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه ...
فإذا قضى الشيخ صلاته أقبل علينا فسلم فرددنا ﵇، لا نقوم له لأنه أدبنا بأدب الإسلام، وليس منه هذا القيام، ولكن تثب لمقدمه قلوبنا، وتخشع لمحضره جوارحنا، وتنبض بحبه وإجلاله كل ذرَة فينا، فيقعد ونحن من حوله، فيسمي الله ويحمده ويشرع في درس النحو، فيقرأ المعيد ويشرح هو، ويقيم أحدنا إلى لوح أسود كالذي يكون في المدارس، فيملي عليه الشاهد
_________
(١) في شعبان سنة ١٣٤٣هـ.
1 / 22
ليوضح عليه القاعدة الجديدة ويذكر بالقواعد القديمة، وكان أحب شيء إليه أن نستعيده ونستوضحه ونناقشه، فيعيد ويوضح ويجيب باسم الثغر، طلق المحيا، مشرق الشيبة محبوبًا مهيبًا، فيملك بخلقه قلوبنا، وبعلمه عقولنا، ثم يختم الدرس بحمد الله كما بدأه بحمد الله، ويؤذن المؤذن فنقوم إلى الصلاة، فنرى السكينة قد حفّت المجلس، والرحمة قد نزلت عليه، ونحس بالملائكة قد حضرته، ويؤمنا الشيخ فيقرأ قراءة إخال من روعتها كأن القرآن قد هبط به الوحي آنفًا، ولقد سمعت قراءة أحلى صوتًا، وأصح نغمًا، فما سمعت مثلها أبدًا. فإذا قضيت الصلاة قعدنا نذكر الله بقلوب حاضرة، وألسنة رطبة، وجوارح خاشعة، ثم من شاء منا قبل يد الشيخ (ولا يكاد يسمح بتقبيلها) وانصرف، ومن شاء بقي يستمع إلى حديث الشيخ، وكان حديثها أعذب في آذاننا من همسات الحب، وأشجى من عبقريات الأغاني، ثم ينظر الشيخ فيقول: إن فلانًا لم يحضر وقد بلغني أنه مريض، فعودوه وساعدوه. فنسرع إليه نعوده ونؤنسه ونأتيه بالطبيب وبالدواء. وإن فلانًا في ضيق فأعينوه، فنسد خلته ونفرج ضيقته. وربما استبقى الواحد منا، فانفرد به فنصحه ووعظه أو أنبَّه على زيّ (لا يليق بطالب العلم) اتَّخَذَه، أو محل (لا يحسن به) حَلَّه، أو صاحب (لا يدلّه على الله) صاحَبَه، فيبلغه منا تأنيبه ما لا يبلغه السيف، وندع ما كرهه ولا نعود إليه، ثم ننصرف جميعًا إلى بيوتنا: الكبار إلى زوجاتهم وأولادهم والصغار إلى أمهاتهم وأخواتهم، ننام من أذان العشاء على فرش التوبة والاستغفار، ثم نقوم في بواكر الأسحار، عندما يفيق الديك والمؤذن والنور، فنتوضأ فنطهر بالماء أجسادنا، ونصلي فنطهر بالصلاة أرواحنا، ثم نمضي إلى المسجد فنؤدي الغداة مع الجماعة، ثم نجلس في حلقة الشيخ، لنقرأ عليه الفقه والحديث والتفسير في الصباح، كما قرأنا النحو أولًا والبلاغة ثانيًا في المساء وكما يقرأ عليه غيرنا غير هذا وذاك النهار كله، فلا تلقى في حياة الشيخ إلا العلم والدرس، والمراجعة والبحث، يتخللها وعظُةُ العامةَ (١)، وتوجيهُهُ الناسَ، فهو المرجع في كل شيء: في الانتخابات يسألونه فيأمرهم بأهل الدين والورع
_________
(١) العامة هنا منصوبة على المفعولية للمصدر (وعظه) ومثلها الناس.
1 / 23